القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

أسواق المسلمين يوجب الظنّ القويّ بأنّه مذكّى. وهذا الظنّ أقوى بكثير عن الظنّ الحاصل عن كونه في يد مسلم خارج السوق ، لأنّ احتمال كونه ممن لا يبالي بالأحكام الشرعيّة ـ أو الاشتباه في إجراء شرائط التذكية ، أو نسيان بعضها ممّا يضرّ بها فيه ـ أكثر ممّا هو يباع في سوق المسلمين علنا.

هذا بالنسبة إلى قيام السيرة على حجّية السوق.

وأمّا بناء على أن يكون مدركها الأخبار فلعلّ الأمر أوضح ، وذلك من جهة أنّ قوله عليه‌السلام : « أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي وأصلّي فيه ، وليس عليكم المسألة » (١) ظاهر في أنّ مراده عليه‌السلام من نفي لزوم السؤال ، نفي السؤال عن كونه مذكّى أو غير مذكّى ، لا نفي السؤال عن أنّ البائع مسلم أو لا.

ومرجع هذا إلى أنّ كونه في السوق كاف في إثبات أنّه مذكّى ، فلا يحتاج إلى السؤال والفحص. وكون المراد منه أنّ السوق كاف في إثبات أنّ اليد يد المسلم ، وأنّها يثبت أنّ اللحم والجلد أو غيرهما من الأجزاء أو مشتقّات حيوان مأكول اللحم من المذكّى ، يكون من قبيل الأكل من القفى.

وأمّا قوله عليه‌السلام في خبر إسماعيل بن عيسى ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (٢) [ عليكم أنتم أن تسئلوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسئلوا عنه ] لا يدلّ على عدم اعتبار السوق بالنسبة إلى كشفه عن أصل التذكية.

__________________

(١) تقدم راجع ص ١٥٨ ، هامش رقم (٢).

(٢) « الفقيه » ج ١ ، ص ٢٥٨ ، ح ٧٩٢ ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّى فيه من الثياب وجميع الأنواع ، ح ٤٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٧١ ، ح ١٥٤٤ ، (١٧) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح ٧٦ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧٢ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٧.

١٦١

بأن يقال : لو كان السوق كاشفا عن ذلك فلم يكن معنى للسؤال إذا رأوا أنّ المشركين يبيعونه ، وأيضا لم يكن معنى لتعليق عدم السؤال على صلاتهم فيه ، وذلك من جهة أنّ كلامه عليه‌السلام ظاهر في أنّ السوق أمارة وحجّة كاشفة عن التذكية فيما كان السوق والبيع والمعاملة مخصوصا بالمسلمين ، فلا يحتاج إلى السؤال.

وأمّا لو كان المشركون أيضا يبيعون ذلك ، بحيث يكون السوق مشتركا ، أو كان البيع مخصوصا بهم ، فعند ذلك يجب عليكم المسألة والفحص ، ولا أثر لكون البائع وحده في ذلك السوق مسلما في عدم وجوب السؤال ، فيمكن أن تعدّ هذه الرواية من جملة أنّ دلالة السوق إذا كان مخصوصا بالمسلمين على التذكية أهمّ من دلالة يد المسلم ، خصوصا إذا كان ذلك المسلم في السوق المخصوص بالكفّار ، بل وفي السوق المشترك أيضا.

وأمّا قوله عليه‌السلام بعد ذلك « وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » فمن جهة أنّ صلاتهم فيه بمنزلة شهادتهم عملا بأنّه مذكّى ، فهو أيضا طريق إلى أنّه صار مذكّى. ويؤيّد ما ذكرناه من أنّ سوق المسلمين بنفسه طريق إلى أنّه مذكّى رواية إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه‌السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام » قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال عليه‌السلام : « إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (١).

وهذه الرواية ظاهرة في أنّ كون الجلد في أرض تكون مخصوصة بالمسلمين ، أو كان أغلب أهلها من المسلمين موجب لثبوت كونه من المذكّى ، ولا موجب لذلك ظاهرا إلاّ أماريّة كونه في تلك الأرض لكونه من المذكّى.

ومعلوم أنّه لو كان بصرف وجوده في أرض الإسلام ، أو ما كان الغالب عليها‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٦٨ ، ح ١٥٣٢ ، (١٧) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح ٦٤ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧٢ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٥.

١٦٢

الإسلام يثبت أنّه من المذكّى ، فبكونه في سوق المسلمين يثبت بطريق أولى ، وذلك من جهة أنّ طريقيّة السوق إلى ذلك أقوى من طريقيّة كونه في أرضهم.

وكذلك رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزها وجبها وبيضها ، وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يقوّم ما فيها ، ثمَّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن ». قيل له : يا أمير المؤمنين لا يدري سفره مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال عليه‌السلام : « هم في سعة حتّى يعلموا » (١).

وهذه الرواية يحتمل أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام فيها : « هم في سعة حتّى يعلموا » بيان حكم اللحم الذي مشتبه تذكيته ، ولا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة؟ وأنّه عليه‌السلام بيّن أنّ حكم المشتبه هي الحلّية ، كي يعلموا بأنّه من غير المذكّى الذي هو حرام ، فيكون مفادها أصالة الحلّ في مشتبه المذكّى والميتة ، فيكون كأصالة الطهارة في مشتبه الطهارة والنجاسة ، وأصالة الحلّ في مشتبه الحلّية والحرمة أصلا عمليّا غير تنزيلي.

ولكن ينفي هذا الاحتمال أنّ أصالة عدم التذكية الجارية في المقام يثبت موضوع الحرمة ، فليسوا في سعة حتّى يعلموا ، فلا بدّ من جعل أصل تنزيلي يكون مقدّما على أصالة عدم التذكية عند المعارضة ، أو أمارة تكون حاكمة عليها ، أو رفع اليد عن حرمة غير المذكّى في ظرف الشكّ في التذكية رفعا واقعيّا ، كي يكون حال الشكّ حال الاضطرار.

لا سبيل إلى هذا الأخير ، لاستلزامه للتصويب الباطل ، فلا بدّ من القول بأحد الأوّلين ، أي الأصل المقدّم ، أو الأمارة الحاكمة.

وها هنا الأمارة الحاكمة المحتملة هو كون السفرة المطروحة في أرض الإسلام‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٦ ، ص ٢٩٧ ، باب نوادر ( من كتاب الأطعمة ) ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧٣ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ١١.

١٦٣

طريقا إلى ثبوت تذكيته ، أو أصلا تنزيليّا ، ولا بعد في ذلك ، من جهة غلبة كون اللحم الموجود في مثل هذه السفرة المطروحة في بلاد الإسلام من القسم المذكّى ، ولذلك حكم أمير المؤمنين عليه‌السلام بجواز وحلّية أكل ما فيها من حيث التذكية لكونها مطروحة في بلاد الإسلام ، والتقويم وتغريمهم لما فيها لصاحب السفرة إذا جاء ، لقاعدة احترام الأموال إن كان المالك مسلما ، لقوله عليه‌السلام : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » (١). أو لقاعدة : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » وإن لم يكن المالك مسلما لكن كان في ذمّة الإسلام ، أو كان من المعاهدين مع المسلمين.

ونتيجة ما ذكرنا هو أنّه إذا اشترى من سوق المسلمين ، أو وجد في أراضيهم التي كلّ أهلها مسلمون أو كان للغالب عليها المسلمون ، وكان شاكّا في تذكيته ، فكونه في سوق الإسلام وكذلك كون ذلك اللحم أو الجلد في أراضيهم موجب للحكم بأنّه مذكّى.

وهذا فيما إذا لا يعلم أنّ البائع ليس بمسلم واضح ، سواء أكان معلوم الإسلام أو كان مجهول الحال.

وأمّا إذا علم بأنّه ليس بمسلم ، ولكن يحتمل أنّه تلقّاه من يد مسلم مع فرض أنّ السوق سوق الإسلام ، كما أنّه إذا اشترى جلدا أو لحما من نصراني في بغداد ، ويحتمل أنّه تلقّاه من يد مسلم ، فبناء على كون السوق أمارة في عرض اليد ، فلا بدّ من القول بأنّه في حكم المذكّى.

وبناء على أنّه أمارة على الأمارة ، فمع العلم بأنّه غير مسلم ليس للسوق أثر. اللهمّ إلاّ أن يقال بأحد أمرين : إمّا تقييد أماريّة السوق بعدم كونه في يد غير المسلم ، أو يقال بأنّه كما أنّ سوق المسلمين أمارة على التذكية كذلك يد الكافر أمارة على عدم‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٦٨ ، باب السباب ، ح ٢ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٣٧٧ ، ح ٥٧٨١ ، باب النوادر ( من ألفاظ موجزة للنبي ( ص ) ، ح ١٩ ، « المبسوط » ج ٣ ، ص ٥٩ ، كتاب الغصب ، « مسند أبى يعلى الموصلي » ج ٩ ، ص ٥٥ ، ح ٥١١٩ ، مسند عبد الله بن مسعود ، الديلمي في « الفردوس » ج ٢ ، ص ١٤٣ ، ح ٢٧٢٧.

١٦٤

التذكية ، فتتعارض الأمارتان. وبعد تساقطهما بالمعارضة فالمرجع أصالة عدم التذكية ، وإلاّ فإنكار كون سوق المسلمين في عرض اليد لا مجال له.

[ الجهة ] الرابعة‌

في أنّه هل السوق ـ بعد الفراغ عن اعتباره وحجّيته لإثبات التذكية ـ أمارة أو أصل؟ وعلى تقدير كونه أصلا هل هو أصل تنزيلي ، أو يكون من الأصول غير التنزيلية؟

فنقول : أمّا كونه أصلا غير تنزيلي فمما لا ينبغي أن يحتمل ، لأنّه لو كان أصلا غير تنزيلي لكان أصالة عدم التذكية حاكما عليه ، وكان لا يبقى مورد لجريانه ، كما هو الشأن في كلّ أصل حاكم مع محكومة. هذا أوّلا.

وثانيا : قيام السيرة على اعتباره ليس إلاّ لأجل أنّ المتديّنين ـ بعد ما علموا أنّ الصلاة لا يجوز في غير المذكّى ، ومع ذلك كانوا يشترون المشكوك من أسواقهم ، وكانوا يرتّبون آثار التذكية عليه ـ يرون سوق المسلمين كاشفا وطريقا إلى كونه مذكّى ، فلذلك كانوا يرتّبون آثار التذكية عليه ، لا من جهة صرف التعبّد بالتذكية في ظرف الشكّ.

وأمّا أنه أصل تنزيلي أو أمارة ، فالظاهر أنّها أمارة ، وذلك لما ذكرنا من أنّ قيام السيرة على دخول المتديّنين في الأسواق الإسلاميّة ، وشرائهم المشكوك التذكية ، والمعاملة معه معاملة المذكّى ، مع أنّهم يدرون أنّ الصلاة في غير المذكّى ليست جائزة ـ دليل على أنّهم يرون أسواق المسلمين طريقا وكاشفا عن كونه مذكّى.

وبعبارة أخرى : نحن بيّنّا في محلّه في الفرق بين الأصل والأمارة ، أنّ الأمارية متقوّمة بأمرين :

أحدهما : أن يكون ذلك الشي‌ء الذي جعل أمارة ، فيه جهة كشف عن مؤدّاه ، ولو‌

١٦٥

كان كشفا ناقصا ، وإلاّ فالشي‌ء الذي في حدّ نفسه ليس فيه جهة الكاشفيّة أصلا ، لا يمكن جعله كاشفا في عالم الاعتبار التشريعي ، إذ الكاشفيّة أمر تكويني لا توجد إلاّ بأسبابها التكوينيّة ، وذلك مثل رافعيّة شرب الماء للعطش ، فإنّه أمر تكويني لا يمكن جعله لشي‌ء ليس رافعا للعطش أصلا ، وبالجعل في عالم الاعتبار والتشريع لا ينجعل.

ولذلك قلنا هناك إنّ معنى تتميم الكشف في باب جعل الأمارات ليس أن يضمّ الجاعل مقدارا من الكشف في عالم الاعتبار إلى ذلك المقدار الناقص الذي لذلك الشي‌ء موجود كي يصير المجموع كشفا تامّا ، بل المراد منه أنّ الشارع يرى ذلك المقدار من الكشف الناقص ـ الموجود في ذلك الشي‌ء في حدّ نفسه في عالم الاعتبار التشريعي ـ كشفا تامّا ومثبتا لمؤدّاه وطريقا إليه.

ثانيهما : أن يكون نظر الجاعل في مقام جعل الحجّية للأمارة إلى تلك الجهة من الكشف الموجود فيه في حدّ نفسه ، وإلاّ فبصرف الأمر بالعمل به والتعبّد بمؤدّاه لا يصير ذلك الشي‌ء أمارة ، بل يمكن أن يكون أصلا عمليّا في عالم الجعل التشريعي مع وجود تلك الجهة من الكشف فيه تكوينا ، فأماريّته متوقّفة على أن يكون جعل حجّيته بلحاظ تتميم ذلك الكشف الناقص الموجود فيه تكوينا في عالم التشريع والاعتبار.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في أنّ كون اللحم أو الجلد الذي في سوق المسلمين يباع ، فيه جهة كشف عن أنّه مذكّى ، لأنّهم غالبا لا يقدمون على بيع لحم الميتة أو جلده ، ووقوعه في بعض الأوقات من بعض الأفراد وإن كان لا ينكر ، ولكن هذا المقدار القليل لا يمنع عن حصول الظنّ بكونه من المذكّى ، لغلبة وجود هذا القسم مقابل القسم الآخر.

وأيضا لا شكّ في أنّ سيرة المتديّنين من الصدر الأوّل في دخولهم الأسواق واشترائهم اللحوم والجلود بلحاظ أنّ كونها في أسواق المسلمين تباع ، يكشف عن‌

١٦٦

أنّها مذكّى ، وسيرة المتديّنين لا تحتاج إلى الإمضاء مثل سيرة العقلاء ، وذلك من جهة كون شي‌ء طريقا عند العقلاء يمكن أن يقبل الشارع طريقيّته ويمكن أن يردّها ، فيحتاج إلى الإمضاء ، وإلاّ يبقى على كونه مشكوك الطريقيّة عنده.

وأمّا سيرة المتديّنين بما هم متديّنين ـ مثل الإجماع ـ كاشف ابتداء عملهم هذا عن موافقته لرأي المعصوم عليه‌السلام.

ولا شكّ أنّ السيرة فيما نحن فيه من القسم الثاني ، لأنّ التذكية من الأمور الشرعيّة التي لا شأن للعقلاء بها بما هم عقلاء ، نعم العقلاء بما هم عقلاء ينظرون إلى اللحم بنظر أنّه من الطيّبات أو من الخبائث ، لا أنّه مذكّى أو غير مذكّى.

وأمّا الروايات الواردة في هذه القاعدة واعتبارها ، فالظاهر من بعضها أيضا أماريّتها ، كرواية إسحاق بن عمّار ، عن العبد الصالح عليه‌السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام ». قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال عليه‌السلام : « إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (١). وظاهر أنّ التفريق ـ في الأرض المشترك أهلها بين المسلمين وغيرهم بتعليق الحكم بعدم اليأس على غلبة المسلمين من حيث كثرتهم من غيرهم ـ دليل على أنّ نظرهم عليهم‌السلام في هذا الحكم إلى جهة كاشفيّة الأرض التي أهاليها المسلمون عن كونه مذكّى ، فإذا كان المسلمون هم الغالبون على الأرض فيكون احتمال التذكية أقوى.

وكذلك الأمر في رواية إسماعيل بن عيسى ، ففي قوله عليه‌السلام فيها « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (٢) علّق السؤال والفحص عن أنّه مذكّى أو غير مذكّى على بيع المشركين ذلك ، وعدم السؤال والفحص على رؤية أنّهم يصلّون فيه.

__________________

(١) تقدم راجع ص ١٦٢.

(٢) تقدم راجع ص ١٦١ ، هامش رقم (٢).

١٦٧

ولا شكّ في أنّ الأوّل يوجب ضعف احتمال التذكية ، فحكم عليهم بلزوم الفحص والسؤال على ذلك التقدير. والثاني يوجب قوّة احتمال تحقّق التذكية ، لأنّ المسلم بعد أن عرف أنّ الصلاة لا يجوز في غير المذكّى ، فإذا صلّى فيه ، فيكون ظاهره أنّه أحرز أنّه مذكّى ، فلا يبقى مجال ومورد للسؤال ، ولذلك نفي السؤال عنه على هذا التقدير.

ففي هاتين الروايتين حكمه عليه‌السلام بالصلاة فيه ناظر إلى جهة كشفه ، فبناء على الأصل الذي تقدّم يكون السوق أمارة ، لا أصلا بكلا قسميه من التنزيلي وغير التنزيلي.

[ الجهة ] الخامسة

في نسبة هذه القاعدة مع غيرها من الأدلّة في مقام التعارض‌

فنقول : أمّا بالنسبة إلى استصحاب عدم التذكية الجارية في المقام لو لم يكن السوق ، فإن قلنا بأنّه أمارة كما هو كذلك ، فيكون حاكما عليه بلا كلام ، كما هو شأن كلّ أمارة بالنسبة إلى كلّ أصل ، ولو كان من أقوى الأصول التنزيليّة.

وأمّا بناء على أنّه من الأصول وأنّه أصل تنزيلي ـ لما بيّنّا أنّ احتمال أنّه أصل غير تنزيلي واضح البطلان فلا ينبغي المصير إليه ـ فأيضا يكون مقدّما عليه ، وإن كان مقتضى القاعدة التعارض والتساقط ، لأنّ كليهما أصلان تنزيليان ، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

ولكنّه في المقام لا بدّ من ذلك ، أي تقديمه على الاستصحاب ، وإلاّ لا يبقى له مورد أصلا ، فيكون جعله لغوا ، فبدلالة الاقتضاء لا بدّ من تقديم السوق على استصحاب عدم التذكية وإن كان مثله أصلا تنزيليّا وفي رتبته.

وأمّا بالنسبة إلى البيّنة فلو قامت البيّنة العادلة على أنّ هذا اللحم ، أو هذا الجلد من غير المذكّى ، أو هذا الحيوان الميّت مات حتف أنفه ، أو ذبح ولكن لم يكن الذبح‌

١٦٨

واجدا لشرائط التذكية وهكذا ، فبناء على كونه أصلا وإن كان أصلا تنزيليا فتقديم البيّنة عليه واضح ، لأنّ البيّنة أمارة ، وكلّ أمارة تكون لها الحكومة على كلّ أصل عند المعارضة.

وأمّا بناء على كونه أمارة كما هو المختار ، وإن كان مقتضى القاعدة هو التساقط ، كما هو الشأن في باب تعارض الأمارتين إن لم يكن أحدهما أقوى ، ولكن مع ذلك تكون البيّنة مقدّمة عليه لإحدى جهتين.

الأولى : أنّ البيّنة من أقوى الأمارات ، ولذلك جعلها الشارع ميزانا للقضاء على ذي اليد ، مع أنّ اليد أيضا من الأمارات ، فإذا كانت تقدّم على اليد مع أنّها من الأمارات القويّة ، تقدّم على السوق بطريق أولى.

الثانية : أنّ عمدة الوجه في حجّية السوق هي السيرة العمليّة من المتديّنين ، وهذه ليست قطعا فيما قامت البيّنة العادلة على عدم التذكية ، بل ولا فيما أخبر البائع بأنّه غير مذكّى.

هذا ، مضافا إلى أنّه على فرض التعارض النتيجة هو التساقط ، فيكون المرجع استصحاب عدم التذكية ، فنتيجة التساقط وتقديم البيّنة واحدة.

[ الجهة ] السادسة

في مورد تطبيق هذه القاعدة‌

فنقول : بعد إحراز موضوع هذه ـ أي بعد إحراز أنّه سوق الإسلام ، إمّا لأنّ كلّهم مسلمون ، وإمّا لأنّ الغالب ممّن يكون فيه من أرباب المكاسب هم المسلمون ـ إذا اشترى من مثل هذا السوق أو استعار أو انتقل إليه بسبب آخر من أسباب الانتقال ، وشكّ في أنّه مذكّى أو غير مذكّى فلا يخلو الأمر ، فإمّا يكون الطرف الآخر الذي انتقل منه إليه معلوم أنّه مسلم ، أو معلوم أنّه ليس بمسلم ، أو مشكوك.

١٦٩

فهذه الأمارة تدلّ على أنّه مذكّى في المعلوم أنّه أخذ من يد مسلم ، وكذلك في المأخوذ من يد مشكوك الإسلام إذا كان السوق سوق الإسلام ، وهذا معنى أماريّته عند الشكّ في أنّه مذكّى.

والفرق بين هذين القسمين أنّ القسم الأوّل فيه أمارتان : إحديهما سوق المسلم ، والأخرى يد المسلم ، بناء على ما اخترناه من عرضيّة هاتين الأمارتين. وبناء على القول بأنّه ليس إلاّ أمارة واحدة وهي يد المسلم ، لأنّ السوق بناء على ذلك القول الآخر أمارة على أنّ اليد يد مسلم ، ومع العلم بذلك ـ لا يبقى مجال لأماريّة السوق لذلك.

وأمّا القسم الثاني فأمارة واحدة فقط ، وهو السوق.

وأمّا القسم الثالث فقد بيّنّا أنّه من تعارض البيّنتين على تقدير وعدم حجّية السوق على تقدير.

الحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

١٧٠

٤٢ ـ قاعدة

عدم اشتراط الأحكام

الوضعيّة بالبلوغ‌

١٧١
١٧٢

قاعدة عدم اشتراط الأحكام الوضعيّة بالبلوغ (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « عدم شرطيّة البلوغ في الأحكام الوضعيّة ».

وفيها جهات من الكلام‌

[ الجهة ] الأولى

في مدلولها‌

وهو أمور :

الأوّل : الإجماع ، فإنّه لا خلاف بينهم في أنّ إتلاف الصبي مال الغير كإتلاف البالغين موجب للضمان ، واشتغال ذمّته بمثل ما أتلف إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا. وكذلك الحال في ضمان اليد ، فلو استولى الصبي على مال الغير وغصبه فتلف ذلك المال في يده ـ بل وإن كان التلف في يد غيره ، غاية الأمر استقرار الضمان على من وقع التلف في يده ـ يكون ضامنا وإن لم يكن بإتلافه ، بل كان بتلف سماوي.

وهذا الإجماع محقّق لكلّ من تتبّع في الفقه ، إذ لم ينقل الخلاف من أحد. ولا يمكن أن يكون اعتمادهم في هذا الاتّفاق على عمومات أدلّة الضمان ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ». وما هو المعروف : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » وغيرهما ممّا ذكرناها في قاعدة الإتلاف.

__________________

(*) « عوائد الأيام » ص ٢٦٨ ، « عناوين الأصول » عنوان ٨٤ ، « القواعد الفقهيّة » ج ١ ، ص ٣٣١.

١٧٣

وذلك من جهة وقوع الخلاف بينهم في انصراف الأدلّة العامّة عن الصبي ، ولم يقع خلاف في أصل الضمان ، فهذا إجماع يمكن الاعتماد عليه. ولا يرد عليه ما أوردنا على الإجماعات التي ادّعيت في أغلب القواعد الفقهيّة المذكورة في هذا الكتاب.

الثاني : سيرة المتديّنين ، بل العقلاء قاطبة على أنّ الصبي إذا أتلف مال الغير أو غصبه ، فوقع عليه التلف ـ وإن كان التلف في غير يده ـ فهو له ضامن ، بل ربما يقولون بضمانه إن فوّته على المالك وإن لم يقع يده عليه ولا أتلفه ، كما لو حبس حرّا ففوّت عليه منافعه ، خصوصا إذا كان عاقلا ذا شعور وإدراك وفهم حادّ وكان أقلّ من زمان البلوغ بزمان يسير ، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة بل أمضاها بإطلاقات الأدلّة العامّة ، كما سنتكلّم عنها وعمّا قيل بأنّها رادعة إن شاء الله تعالى.

الثالث : الروايات والأدلّة العامّة الواردة في أبواب الضمانات والنجاسات والطهارات ، وفي باب إحياء أراضي الموات ، وفي أبواب الديات والحيازات ، فإنّه في جميع الأدلّة عامّة أو مطلقة تشمل البالغ والصبيّ على نهج واحد.

فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أحيا أرضا مواتا فهي له » (١) أو قوله : « من حاز شيئا من المباحات ملكه » (٢) أو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (٣) وأمثال ذلك ممّا يدلّ على جنابة الواطى والموطوء وإن لم ينزل ، ولكن بعد غيبوبة الحشفة في أحد المأتيين (٤). أو ما يدلّ على نجاسة بدن الذي لاقى النجس أو المتنجّس مع الرطوبة (٥).

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٥٢ ، ح ٦٧٣ ، (١) باب أحكام الأرضين ، ح ٢٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٢٧ ، أبواب إحياء الموات ، باب ١ ، ح ٥ و ٦.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ٢٩١.

(٣) تقدم راجع ص ٥٤.

(٤) « الكافي » ج ٣ ، ص ٤٦ ، باب ما يوجب الغسل على الرجل والمرأة ، ح ١ و ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ١١٨ ، ح ٣١٠ ، (٦) باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ، ح ١ ، « الاستبصار » ج ١ ، ص ١٠٨ ، ح ٣٥٨ ، (٦٤) باب ان التقاء الختانين يوجب الغسل ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٤٦٩ ، أبواب الجنابة ، باب ٦ ، ح ١ ـ ٩.

(٥) « الكافي » ج ٣ ، ص ٦٠ ، باب الكلب يصيب الثوب والجسد وغيره. ، ح ١ ،

١٧٤

والحاصل : أنّ الفقيه المتتبّع إذا نظر في تلك الأدلّة مع كثرتها يتيقّن بشمولها لغير البالغين مثل البالغين ، خصوصا إذا كان غير البالغ واجدا لجميع شرائط التكليف ما عدى مقدار قليل من الزمان كيوم ، بل وإن كان كشهر باقيا إلى أن يصير بالغا بحسب العمر.

ولا شكّ أنّ دعوى انصراف تلك الأدلّة عن مثل هذا الصبي الذي لم يبق إلى بلوغه بحسب العمر إلاّ يوما ، لا يخلو عن مجازفة ، فإذا شمل مثل هذا الفرض يتمّ في سائر الموارد بعدم القول بالفصل ، ولا مخصّص ولا مقيّد في البين لهذه العمومات والإطلاقات بعد الفراغ عن عدم انصرافها إلى خصوص البالغين ، عدا ما يتخيّل من قول عليّ عليه‌السلام : « أما علمت رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى يستيقظ » (١).

وبيانه : أنّ قوله عليه‌السلام : « رفع القلم عن الصبيّ » معناه أنّ الصبيّ ليس عليه جعل من قبل الشارع ، وكذلك الحال في المجنون حتّى يفيق ، والنائم حتّى يستيقظ ، فأهملهم كما أهمل الحيوانات ، ولم يكتب عليهم شيئا ، لا وضعا ولا تكليفا ، فالمنفيّ في هذا الحديث الشريف هو قلم جعل الأحكام مطلقا ، سواء أكانت الأحكام وضعيّة أم تكليفيّة ، فهذا الحديث الشريف تخصّص به الأدلّة العامّة ، أو تقيّد به الإطلاقات الواردة في الأبواب المختلفة.

وفيه أوّلا : أنّ الظاهر من هذه العبارة ـ التي في مقام الامتنان والتسهيل ـ هو رفع المؤاخذة عن هذه الثلاثة ، لعدم التفاهم إلى المصالح والمفاسد ، أمّا المجنون لعدم عقله‌

__________________

٢ ، ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٤٢١ ، ح ١٣٣٣ ، (٢٢) باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ، ح ٦ ، « وكذلك ، ج ١ ، ص ٢٦٠ ، ح ٧٥٦ ، (١٢) باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح ٤٣ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٣٤ ، أبواب النجاسات ، باب ٢٦ ، ح ١ و ٣.

(١) « الخصال » ص ٤٠ و ١٧٥ ، باب الثلاثة ، ح ٤٠ و ٢٣٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٣٢ ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب ٤ ، ح ١١.

١٧٥

قبل أن يفيق ، وأما الصبيّ لقلّة عقله غالبا ، وأمّا النائم لغفلته بواسطة نومه وعدم تنبّهه إلى المضارّ والمنافع.

والمؤاخذة من آثار مخالفة التكاليف الإلزاميّة أي ترك الواجب وفعل الحرام ، فيستكشف من نفي اللازم الذي هو المؤاخذة ، نفي الملزوم ـ أي الوجوب والحرمة ـ فيدلّ على عدم تنجّز التكاليف الإلزاميّة على النائم لغفلته ، وعدم توجيه التكليف الإلزامي إلى الصبيّ والمجنون لقلّة عقله في الأوّل ، وعدمه في الثاني ، ولا يدلّ على نفي الأحكام التكليفيّة غير الإلزاميّة ، فضلا عن نفي الأحكام الوضعيّة.

وهذا المعنى مناسب مع ما اشتهر بينهم من عدم اشتراط البلوغ في الأحكام الوضعيّة ، وأيضا ما اشتهر بينهم من مشروعيّة عبادات الصبيّ.

وثانيا : على فرض تسليم أنّه ليس المراد من رفع القلم خصوص نفي العقاب والمؤاخذة ـ بل المراد نفي قلم الجعل عليه ـ فلا بدّ وأن يكون المراد منه أنّ الأفعال التي تترتّب عليها الآثار لو صدرت عن البالغ العاقل المستيقظ ، لو صدرت عن الصبيّ أو المجنون أو النائم لا تترتّب عليها ، وذلك من جهة فقد البلوغ في الصبيّ ، والعقل في المجنون ، والانتباه في النائم.

فبناء على هذا المعنى لا يشمل الحديث الشريف الأفعال التي تترتّب عليها الآثار ، من دون فرق بين الالتفات وعدمه ، وكذلك الاختيار وعدمه. وتكون مثل هذه الأفعال خارجة عن مورد هذا الحديث تخصّصا ، فتكون أبواب الديات والجنايات والجنابة والأحداث مطلقا ، والإتلاف والضمان ـ من ناحية اليد ـ والنجاسة والطهارة خارجة عن مورد هذا الحديث الشريف تخصّصا.

وخلاصة الكلام : أنّه يظهر من هذا الحديث الشريف وذكر الصبيّ في سياق المجنون والنائم ، هو أنّه كما لا قصد في المجنون والنائم تكوينا قصد الصبي في حكم العدم تشريعا ، فكلّ أثر فعل كان مترتّبا على تعمّد ذلك الفعل وقصده ، بحيث لو صدر عنه‌

١٧٦

بلا التفات ليس ذلك الأثر له ، فإذا صدر عن الصبيّ لا يترتّب عليه ذلك الأثر وإن قصده وصدر عنه عمدا.

ويؤيّد هذا المعنى ما رواه في قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري ، عن جعفر عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام ، عن علي عليه‌السلام ، أنّه كان يقول في المجنون المعتوه الذي لا يفيق ، والصبيّ الذي لم يبلغ : « عمدهما خطأ تحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم » (١). فقوله عليه‌السلام : « وقد رفع عنهما القلم » بعد حكمه بأنّ عمده خطأ بمنزلة العلّة لهذا الحكم ، فيكون معنى رفع القلم عنه أنّ الأثر الذي كان يترتّب على الفعل الذي يصدر عن العاقل عن عمد وقصد لو كان بالغا لا يترتّب على مثل ذلك الفعل لو صدر عن الصبيّ غير البالغ ، فيكون قصده كلا قصد ، وعمده كالخطإ.

فالأفعال التي لا فرق في ترتّب الأثر عليها بين أن تكون صادرة عن قصد وعمد ـ مع الالتفات إليها أو عدم الالتفات إليها ـ ليس مشمولة لهذا الحديث الشريف.

وأمّا ما يقال : من أنّ الأحكام الوضعيّة اعتبارات من قبل الشارع ابتداء أو إمضاء من قبله لما اعتبره العرف والعقلاء ، والأمور الاعتباريّة سواء أكانت اعتبارات ابتدائيّة من قبله أو كانت إمضائية ، تكون اعتبارها بلحاظ الآثار المترتّبة عليها ، وإن قلنا بأنّها مستقلّة في الجعل ، وليست منتزعة عن الأحكام التكليفيّة كما هو المختار عندنا ، وإلاّ لو يكن لها أثر يكون اعتبارها لغوا لا يصدر عن عاقل فضلا عن الشارع الحكيم.

ففي الحقيقة اعتبار الأحكام الوضعيّة ـ أي : جعلها في عالم التشريع ـ لأجل ترتّب الأحكام التكليفيّة عليها ، والفرق بين هذا القول المشهور والمذهب المنصور مع ما ذهب إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره هو أنّ الحكم الوضعي عند المشهور ملزوم وموضوع‌

__________________

(١) قرب الإسناد » ص ١٥٥ ، ح ٥٦٩ ، أحاديث قهزقة.

١٧٧

للأحكام التكليفيّة (١) ، وعند الشيخ قدس‌سره من لوازمها ومنتزعة عنها (٢) ، وإلاّ ففي كلا القولين الحكم الوضعي بدون الحكم التكليفي لا يمكن أن يوجد ، إمّا لعدم إمكان وجود الملزوم بدون اللازم كما هو المذهب المشهور المنصور ، أو لعدم إمكان وجود اللازم بدون الملزوم ، كما هو المنسوب إلى الشيخ الأعظم قدس‌سره.

فلو سلّمنا أنّ معنى الحديث الشريف هو رفع خصوص الأحكام التكليفيّة ، لا الأعمّ منها ومن الوضعيّة ، لكن النتيجة في كلتا الصورتين واحدة ، إذ رفع الأحكام التكليفيّة ملازم مع رفع الأحكام الوضعيّة أيضا ، لما قلنا من عدم إمكان وجود اللازم بدون الملزوم ، بناء على أنّها منتزعات عن الأحكام التكليفيّة ، وعدم إمكان وجود الملزوم بدون اللازم ، بناء على المختار من أنّ الأحكام التكليفيّة من لوازم الأحكام الوضعيّة ، لأنّها بمنزلة الموضوع.

فجواز الاستمتاعات من لوازم الزوجية ، لا أنّ الزوجيّة منتزعة عن جواز الاستمتاعات ، وكذلك جواز التصرّفات ونفوذها من لوازم الملكيّة وآثارها ، لا أنّ الملكيّة منتزعة عن جواز التصرّفات.

والدليل على ذلك الأدلّة الواردة في الموارد المتفرّقة من الأحكام الوضعيّة ، مثلا : « الناس مسلّطون على أموالهم » (٣) يدلّ على أنّ موضوع السلطنة وجواز التصرّفات هي الملكيّة وكون الشي‌ء مالا له ، وموضوع وجوب الإطاعة والتمكين هي الزوجيّة ، وموضوع عدم جواز الأكل والشرب هو كون المأكول والمشروب نجسا ، وهكذا الأمر في سائر الموارد ، وهذا ينبغي أن يعدّ من الواضحات.

فقد أجيب عنه بوجوه :

الأوّل : أنّ المراد من رفع القلم هو رفع المؤاخذة التي من لوازم مخالفة التكليف‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٦٠١.

(٢) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٦٠٢ ـ ٦٠٣.

(٣) « الخلاف » ج ٣ ، ص ١٧٦ ، في أحكام القرض ، مسألة : ٢٩٠.

١٧٨

الإلزامي بترك الواجب وإتيان الحرام ، وحيث أنّ رفع اللازم مستلزم لرفع الملزوم ، فالمرفوع هي التكاليف الإلزاميّة لا مطلق التكاليف ، فالأحكام الوضعيّة لا تبقى بلا أثر ـ كما توهّم ـ بل يستحبّ عليه إتيان الواجبات وترك المحرّمات ، بناء على شرعيّة عبادات الصبيّ.

الثاني : أنّ أثر الوضع هو وجوب تفريغ ذمّة الصبيّ على الوليّ ، إذ لا مانع من أن يكون فعل الصبيّ موضوعا للحكم التكليفي الإلزامي على شخص آخر ، وها هنا هو الولي ، بل هذا المعنى صريح قوله عليه‌السلام : « عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة » (١) فجناية الصبيّ إن كان عن عمد موضوع لوجوب الدية على العاقلة ، ولذلك لو أتلف الصبيّ مال شخص ، أو تلف بعد وقوع يده عليه ولو كان بتلف سماويّ يجب على الولي أداء مثله من مال ذلك الصبي إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميّا ، وهكذا الحال في باب جناياته ودياته التي اشتغلت ذمّته بها ، بل وكفّاراته التي تعلّقت به ، وسائر الضمانات التي تعلّقت به.

الثالث : وجوب ترتيب الأثر عليه بعد البلوغ ، وهذا كاف في عدم لغويّة ذلك الاعتبار.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الأدلّة الواردة في الأبواب المتفرّقة ـ التي تدلّ على أنّ بعض الأفعال موضوع أو سبب لثبوت حكم وضعي ـ عمومات أو مطلقات تشمل أفعال البالغين وغير البالغين.

فقوله : « من حاز شيئا من المباحات ملكه » (٢) أو قوله عليه‌السلام : « من أحيا أرضا مواتا فهي له » (٣) وكذلك سائر الأدلّة الكثيرة المتفرّقة في الأبواب المختلفة ـ لا اختصاص لها بالبالغين ، وحديث رفع القلم لا يخصّصها.

__________________

(١) تقدم راجع ص ١١٨ ، هامش رقم (٢).

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ٢٩١.

(٣) تقدم راجع ص ١٧٤ ، هامش رقم (٢).

١٧٩

وأمّا الروايات الواردة في أنّ عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة فموافق للعمومات ، لا أنّها مخصّصة لها ، لأنّ مفادها أنّ الصبي إذا صدر عنه فعل عن عمد لا يترتّب عليه أثر العمد ، بل يترتّب عليه أثر الخطأ ، فكلّ فعل إذا صدر عن الصبي وكان لصدوره خطأ أثر يترتّب عليه.

وباب الجنايات والديات والجنابة من هذا القبيل ، فإذا وجدت أسباب هذه الأمور ـ وإن كان صدورها منه خطأ ـ تترتّب عليها تلك الأمور ، فالنتيجة ثبوت الأحكام الوضعيّة لغير البالغ أيضا مثل البالغين. وأمّا الروايات التي مفادها توقّف نفوذ أمره على البلوغ (١) فأجنبيّ عن محلّ كلامنا.

[ الجهة ] الثانية

في بيان المراد من هذه القاعدة‌

فأقول : إنّ الفعل الذي يكون موضوعا لحكم وضعي ـ وقد يسمّى ذلك الفعل سببا لذلك الحكم ، ولكن التحقيق أنّ ذلك الفعل موضوع لذلك الحكم ، وليس سببيّة في البين ، لأنّ سبب الحكم هو الجعل الشرعي ، فالشارع هو السبب الموجد له ، وإنّما موضوع حكمه يكون ذلك الفعل ـ قد يصدر من البالغ وقد يصدر من غير البالغين ، وليس بلوغ الفاعل شرطا لتحقق ذلك الحكم.

مثلا حيازة المباحات ـ كالاحتطاب والاعتشاب ـ موضوع لملكيّة ذلك الحطب وذلك العشب للفاعل ، سواء صدر عن البالغ أو من غيره ، فليس بلوغ من احتطب أو اعتشب شرطا في تحقق ملكيّة ذلك الحطب أو ذلك العشب.

وقد تقدّم الدليل على عدم شرطيّة البلوغ لحصول الحكم الوضعي في الجهة‌

__________________

(١) تقدم راجع ص ١١٨ ، هامش رقم (١).

١٨٠