القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

وتسعين.

وأثر إتيان هذه الصفة الاعتباريّة في عهدة الغاصب أنّه لو رجع المالك إلى الغاصب السابق ، له أن يرجع إلى الغاصب اللاحق ، لأنّه ضامن لضمانه ، فضمان كلّ لاحق في طول ضمان سابقة ، لأنّ ضمان السابق بمنزلة الموضوع لضمان اللاحق.

فلا يمكن أن يكونا في عرض واحد وإن كانا في زمان واحد ، بل لا يمكن أن يكونا في زمان واحد ، لأنّه ما لم يتحقّق الضمان السابق لا تصل النوبة إلى الضمان اللاحق ، فضمان اللاحق متأخّر عن الضمان السابق حتّى زمانا.

وحيث أنّ كلّ واحد من ذوي الأيدي العادية في ذمّته العين ـ إمّا بدون هذه الصفة الاعتباريّة كاليد الأولى ، أو معها كالأيدي المتأخّرة عنها ـ فيجوز للمالك الرجوع إلى كلّ واحد منها بدون أن يكون محذور ضمان المتعدّد للمال الواحد عرضا في البين.

لما عرفت أنّ الضمان وان كان متعدّدا ولكن طوليّ ، وليس ضمانان في عرض واحد ، لما ذكرنا من تأخّر رتبة كلّ ضمان لا حق عن ضمان سابقة.

ولا تتوهّم أنّه يأتي محذور تعدّد الضمان لمال واحد عرضا في هذه الصورة أيضا ، وذلك لأنّ متعلّق الضمان في الضمان الطوليّ في كلّ واحدة من الأيدي غير ما هو متعلّق الضمان في الأيدي الآخر ، لأنّ ضمان اليد الأولى متعلّق بنفس العين ، وضمان الثانية متعلّق بضمان العين في ذمّة اليد الأولى ، وضمان اليد الثالثة متعلّق بما في ذمّة الثانية ، وهكذا في سائر الأيادي اللاحقة بلغت ما بلغت ، فلم يجتمع الضمانان على متعلّق واحد ، وكلّ واحد من الغاصبين يضمن غير ما يضمنه الآخرون ، فلا إشكال في البين.

ولا يخفى أنّ رجوع المالك إلى كلّ واحد من الغاصبين يكون على البدل ، بمعنى أنّه لو رجع إلى أحدهم واستوفى حقّه منه ليس له الرجوع إلى الآخرين ، لأنّه لا يبقى موضوع لرجوعه إلى آخر بعد ذلك ، وهذا مرادنا من قولنا : « على البدل » في الجزء‌

١٠١

الأوّل من هذا الكتاب في شرح تعاقب الأيادي في قاعدة اليد ، وإلاّ كون نفس ضمانهم عرضا على البدل لا يخلو عن إشكال.

لأنّ معنى الضمان على البدل إن كان مرجعه إلى تقييد إطلاق الجعل مثل باب التكاليف والواجب الكفائي أو التخييري ، حيث أنّ إطلاق الأمر مقيّد بعدم إتيان المكلّف الآخر في الواجب الكفائي ، وبعدم إتيان الفرد الآخر في الواجب التخييري ، فيكون معناه ضمان كلّ واحد منهما في ظرف عدم ضمان الآخر.

وحيث أنّهم كلّهم ضامنون ، فتكون نتيجة التقييد عدم ضمان كلّ واحد منهما ، وهو خلاف الدليل ، كما قلنا أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » يدلّ على ضمان جميع ذوي الأيدي بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بل خلاف الضرورة وإن كان مرجعه إلى تعلّق الضمان بطبيعة الغاصب وذو اليد العادية على هذا المال مثلا كما قيل في الوجوب الكفائي بأنّ الأمر بطور طلب صرف الوجود تعلّق بطبيعة المكلف ، فأيّهم امتثل حصل المطلوب ويسقط التكليف عن الباقين ، فهاهنا أيضا إذا كانت طبيعة الغاصب ضامنا لهذا المال ، فإذا أدّاه أحدهم فيحصل المطلوب ويرتفع الضمان.

ففيه أوّلا : أنّ هذا خلاف ظاهر أدلّة الضمان ، لأنّ ظاهرها الانحلال ، وأنّ كلّ فرد من أفراد اليد العادية يضمن ما في يده.

وثانيا : أنّ استقرار الضمان على من وقع التلف في يده لا يلائم مع كون الضمان متعلقا بالطبيعة.

وثالثا : كون الطبيعة ضامنا لا يساعده الاعتبار العرفي والعقلاء.

ثمَّ إنّ نتيجة ما ذكرنا واخترنا في مفاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » أمور :

الأوّل : جواز رجوع المالك إلى أيّ واحد من الغاصبين.

الثاني : أنّه لو رجع إلى أحدهم واستوفى حقّه منه فليس له الرجوع إلى الآخرين‌

١٠٢

لعدم بقاء حقّ له.

الثالث : يجوز رجوع كلّ سابق إلى اللاحق إن لم يكن غارّا له ، وأيضا لم يتلف المغصوب عنده ، وإلاّ فمع أحد هذين أو كلاهما فليس له الرجوع إليه.

الرابع : أنّ جواز رجوع السابق إلى اللاحق لا بدّ وأن يكون بعد أداء ما في ذمّته من المثل أو القيمة ، وذلك من جهة ما قلنا إنّ الضمان طولي ، وإنّ اللاحق ضامن للخسارة والبدل الذي يعطيه السابق ويدفعه إلى المالك. وهذا معنى ضمانه لضمانه.

وها هنا تنبيهات‌

الأوّل : أنّ المالك لو أبرأ أحد الغاصبين وأسقط ما في ذمّة إحدى الأيدي العادية ، هل يسقط عن الجميع ، أو لا يسقط عن غير ما أسقط ما في ذمّته مطلقا ، أو يفصل بين السابق على ما أسقط واللاحق له وأنّه يسقط عن اللاحق دون السابق ، أو بالعكس؟ وجوه.

والأقوى هو سقوطه عن ذمّة الجميع.

بيان ذلك : أمّا سقوطه عن اللاحق فلما ذكرنا أنّ اللاحق ضامن لضمان السابق ، فإذا سقط ضمان السابق فلا يبقى موضوع لضمان اللاحق ، وذلك واضح جدّا. وأمّا سقوط السابق فلأنّ إبراءه للاحق بمنزلة استيفاء حقّه منه ، وحيث أنّ الحقّ واحد ، فلا يبقى للضمان موضوع بالنسبة إلى السابق أيضا.

ولكن الإنصاف أنّ التفصيل قويّ جدّا بين السابق ببقاء ما في ذمّته دون اللاحق ، لانتفاء موضوع ضمانه وهو ضمان السابق عليه الذي أسقط المالك ضمانه بإبراء ما في ذمّته. وأمّا بقاء ضمان السابق على الذي أبرأ عنه فلعدم وجه لسقوطه مع وجود سببه وهو اليد العادية.

١٠٣

وأمّا ما ذكر شيخنا الأستاذ قدس‌سره من الوجه لسقوطه ـ بأنّ ذمّة السابق مشغولة بما يكون مخرجه من اللاحق ، فإذا أبرأ اللاحق فلا يعقل بقاء الاشتغال السابق ، لأنّه يبقى بلا مخرج (١) ـ فعجيب ، لأنّ بقاءه بلا مخرج ليس محذورا كي يوجب سقوطه ، لأنّ المخرج يكون كيسه ، ولذلك لو غصب مالا ولم تقع يد آخر عليه يكون المخرج كيسه. وكذلك في اليد الأخيرة ليس لاحق كي يرجع إليه ، وكذا من عنده صار التلف عليه أن يعطى الغرامة أو البدل من كيسه.

نعم لو قيل بأنّ معنى الإبراء رفع يد المالك عن ماله ، أو عبارة عن استيفاء المالك حقّه ، فلا يبقى له حقّ كي يضمن أحد ، ولازم ذلك سقوط الضمان عن الجميع ، وعلى أيّ حال التفصيل الذي كان يرجّحه شيخنا الأستاذ قدس‌سره من سقوط السابق دون اللاحق لا وجه له.

الثاني : لو وهب المالك ما في ذمّة أحدهم له ، أو صالحه بلا عوض أو مع العوض ، فهل يكون هذا المتهب أو المتصالح مثل الأجنبي عن سلسلة ذوي الأيدي الذي وهب له ما في ذمّة أحدهم ، ومثل المالك في جواز الرجوع إلى كلّ واحد من ذوي الأيدي إن شاء ، أم لا بل تبرأ ذمّة الجميع ببراءة ذمّة نفسه؟

والفرق بين المسألتين هو أنّه في تمليك الأجنبي عن سلسلة ذوي الأيدي يقوم ذلك الأجنبي مقام ذلك المالك الذي وهب أو صالح بلا عوض أو مع العوض ما في ذمّة أحدهم معه ، لأنّه ينتقل المغصوب من ملكه إلى ذلك الأجنبي ، فيكون الأجنبي مالك المغصوب ، فيجوز له الرجوع إلى أيّ واحد منهم إذا شاء ، لأنّه يده العادية وقعت على ماله وهي موجبة لضمانه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

وأمّا لو كان الموهوب له أو المتصالح هو نفس من في ذمّته مال المغصوب ، وإن كان هو أيضا تمليك ، ولكن نتيجة هذا التمليك هو إسقاط ما في ذمّته وإبراؤه ، فتصير‌

__________________

(١) الأستاذ النائيني « المكاسب والبيع » ج ٢ ، ص ٣٠٠ ، في الفروع المترتبة على الضمان الطولي.

١٠٤

ذمّته فارغة في عالم الاعتبار ، بخلاف ما إذا كان الموهوب له أو المتصالح معه هو الأجنبي ، فإنّه في هذه الصورة لا يكون إسقاط وإبراء في البين ، بل تبقى ذمّته مشغولة لذلك الأجنبي.

غاية الأمر قبل ذلك كان طرف الإضافة هو المالك ، فصار بعد تلك الهبة أو تلك المصالحة هو ذلك الأجنبي ، والذمم في جميع السلسلة باقية على حالها.

وأمّا في الصورة المتقدّمة حيث أنّ نتيجتها الإبراء والإسقاط ، فكان المالك أعدم ماله الذي في ذمّة هذا الشخص في عالم الاعتبار ولم يكن له أموال متعدّدة ، فليس له الرجوع بعد ذلك إلى أحدهم. والموهوب له أيضا لم يبق له مال ، إذ قلنا أنّ نتيجة هبة المالك له ما في ذمّته هو إسقاط ما في ذمّته ، فليس له شي‌ء كي يطالب به أحدهم ، ومرجع ذلك إلى إبراء ذمّة الجميع ، فكأنّ المالك بإبراء ذمّة أحدهم أبرأ ذمّة الجميع ، فالتفصيل بين الذمم السابقة واللاحقة ـ بحصول الإبراء بالنسبة إلى الأولى دون الثانية ـ لا يخلو عن غرابة.

الثالث : لو أقرّ أحدهم بالغصبيّة دون الباقين ، وتلف المال المدّعى غصبيّته ، فعلى ذلك المعترف بالغصبيّة أداء المثل أو القيمة ، كلّ واحد في مورده. وأمّا الباقون فليس عليهم شي‌ء إلاّ أن يثبت المدّعي للملكيّة بحجّة شرعيّة أنّ المال له على موازين باب القضاء ، وإلاّ فبصرف ادّعاء الملكيّة مع إنكار ذي اليد ليس له الرجوع إلى الباقين.

هذا بالنسبة إلى رجوع من يدّعي الملكيّة إليهم.

وأمّا رجوع السابق منهم إلى اللاحق ، فإن لم يكن السابق مقرّا بالغصبيّة وانتقل المال إلى اللاحق بناقل شرعي لازم كالهبة اللازمة ، أو المصالحة ، أو الإرث ، أو غير ذلك فليس له الرجوع ، ولو تلف المال عند هذا اللاحق ، لأنّه تلف ماله عنده ولا يضمن لأحد.

وإن كان مقرّا وأدّى المثل أو القيمة كلّ في محلّه ، فإن كان اللاحق أيضا مقرّا بها ،

١٠٥

فيجب على اللاحق تدارك خسارة السابق ، لأنّه كما ذكرنا ضامن لضمانه ، وإن لم يعترف فعلى السابق الإثبات على موازين باب القضاء.

نعم إذا أثبت الغصبيّة فيكون الأمر كما قلنا في تعاقب الأيدي على المغصوب المسلّم المعلوم غصبيّته.

الرابع : لو رجع المال المغصوب من اللاحق إلى سابقة الذي أخذ منه ، بمعنى أنّ السابق استردّ من اللاحق ما أخذه منه ، فتلف في يده ، فلا شكّ في أنّه للمالك الرجوع إليه وإلى اللاحق ، لأنّ ماله وقع تحت يد كلّ واحد منهما بدون إذنه ، فوجد سبب ضمان كلّ واحد منهما. فلا كلام في هذا.

إنّما الكلام في أنّه لو رجع إلى السابق وأخذ منه البدل ، فهل للسابق الرجوع إلى اللاحق بأخذ ما خسره للمالك منه ، أم ليس له ذلك؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك من جهة أنّ المفروض أنّه استردّ المال من اللاحق ، وبهذا انقلب السابق لاحقا ، لأنّه بعد استرداده المال ممّن هو كان لاحقا ، صار لاحقا لذلك اللاحق ، وذلك اللاحق صار سابقا ، وهذا هو معنى الانقلاب ، فصار السابق بعد استرداده المال ضامنا لضمان من كان لاحقا.

ولذلك لو رجع المالك إلى هذا الذي كان لاحقا قبل الاسترداد ، فله أن يرجع إلى من كان سابقا قبل الاسترداد ، لصيرورته لاحقا بعده.

فبناء على ما بيّنّا في مفاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » من جواز رجوع المالك إلى كلّ واحد من الأيدي المتعاقبة ، وجواز رجوع كلّ سابق إلى لاحقه ، يكون الأمر كما ذكرنا. هذا تمام الكلام في هذه القاعدة.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا‌

١٠٦

٣٩ ـ قاعدة

مشروعيّة عبادات الصبيّ‌

١٠٧
١٠٨

قاعدة مشروعيّة عبادات الصبيّ (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المعروفة التي وقع الخلاف فيها بين الفقهاء ، هي قاعدة « مشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في بيان المراد منها ، والأقوال فيها ، وما هو المختار منها‌

أمّا الأوّل : فالمراد منها أنّه هل توجّه إليهم الأوامر والنواهي غير الإلزاميّة ـ بعد الفراغ عن عدم توجّه الإلزام إليهم ، لا أمرا ولا نهيا ـ أم لا؟

ففي الحقيقة النزاع في أنّه هل شرع في حقّهم العبادات ، بحيث يصدق على إتيانهم بتلك العبادات الإطاعة والامتثال للأوامر المولويّة الاستحبابيّة ، أم لا ، إذ لم يشرع في حقّهم تلك العبادات أصلا ، وحالهم حال البهائم والمجانين ، فلو أتوا بها بقصد الإطاعة والامتثال للأوامر المولويّة يكن تشريعا وافتراء محرّما عقلا لا مولويّا؟

وأمّا الثاني : ففيه أقوال :

الأوّل : أنّها مشروعة في حقّهم ، غاية الأمر ليس من طرف المولى إلزام عليهم بالفعل في الواجبات ، ولا بالترك في المحرّمات ، فتكون الواجبات في حقّهم كالمندوبات ،

__________________

(*) « خزائن الأحكام » ش ٢٣ ، « القواعد الفقهيّة » ( فاضل لنكرانى ) ج ١ ، ص ٣٤٤.

١٠٩

والمحرّمات كالمكروهات.

وإن شئت قلت : إنّ الأحكام التكليفيّة في حقّهم ثلاثة : فالواجبات والمستحبّات مندوبات ، والمحرمات والمكروهات مكروهات ، إذ لا وجوب ولا حرمة في حقّهم. وأمّا المباح فباق على إباحته ، فالتكاليف منحصرة في حقّهم في ثلاث : المستحب ، والمكروه ، والمباح.

الثاني : أنّه لم يتوجّه إليهم خطاب من طرف المولى أصلا ، لا الوجوبي ولا الاستحبابي ولا التحريمي ولا التنزيهي ، والصبيّ المميّز ـ الذي له شعور وإدراك ـ حاله من هذه الجهة حال غير المميّز.

وأمّا الخطابات المتوجّهة إلى الأولياء بأمرهم لهم بالصلاة والصيام قبل أن يصيروا بالغين فللتمرين ، لا أنّ الأولياء أمروا بأن يأمروا بنفس الصلاة مثلا لمصلحة في نفس الصلاة ، بل أمروا أن يأمروا بالصلاة والصيام لأن يتمرّنوا ويتعوّدوا لكي لا يكون إتيانها بعد الوجوب ثقيلا عليهم ، فليس أمر الأولياء بأن يأمروا الصبيان والأطفال بالعبادات داخلا في مسألة أنّ الأمر بالأمر بشي‌ء هل أمر بذلك الشي‌ء أم لا؟ كي يقال إذا كان الأمر بالأمر بالشي‌ء أمر بذلك الشي‌ء ، فتكون العبادات متعلّقا للأمر المولوي ، وبعد الفراغ عن عدم وجوبها على الصبيان لا بدّ وأن تكون تلك الأوامر أوامر ندبيّة ، ففي الحقيقة أمر الشارع للأولياء أن يأمروا صبيانهم بالعبادات تعلّق بعنوان التمرين والتعويد ، أي مرّنوهم وعوّدوهم على الصلاة والصيام.

الثالث : أنّ الشارع أمر الصبيان كالبالغين بهذه العبادات ، لكن أمره بها ليس لمصلحة في أنفسها ، ولذا لو حجّ الصبيّ غير البالغ المستطيع لا يكفي حجّه عن حجّة الإسلام ، وذلك ليس إلاّ لعدم مصلحة في حجّه ، بل أمره لهم بها لمصلحة التمرين فقط ، فكأنّه قال : مرّنوا أنفسكم على الصلاة والصيام أو غيرهما من العبادات. وعوّدوها عليها ، فالمستحبّ عليهم هو عنوان تمرين أنفسهم وتعويدهم على العبادات.

١١٠

وتظهر الثمرة بين هذا القول والقول الأوّل ، أنّه بناء على القول الأوّل يجوز أن ينوب في عمله العبادي عن غيره بأجرة كي يكون أجيرا ، أو بدون أجرة كي يكون تبرّعا ، لأنّ عمله واجد للمصلحة التامّة بدون نقص فيها ، غاية الأمر رفع الشارع الإلزام عنهم لطفا ورحمة عليهم ، ومن باب الرفق بهم والامتنان ، فيكون رفع التكليف الإلزامي عنهم مثل الرفع في باب الحرج ، وعدم جعله التكاليف الحرجيّة على قول ، وهو رفع الإلزام من دون تغيير في ناحية الملاك ، ولذا لو أتى بها وتحمّل الحرج يكون عمله صحيحا ومجزيا عند أرباب هذا القول.

وأمّا بناء على هذا القول فلا يصحّ أن ينوب عن قبل غيره ، لا مع الأجرة ولا بدونها ، إذ عمله يكون عبادة بحسب الشكل فقط ، ولا روح له ، فلا يجوز إجارته لعمل عبادي ، ولا تبرأ ذمّة الميّت بإتيانه ما فات عنه.

وظهر ممّا ذكرنا الفرق بين القول الثاني والأوّل ، وأنّه بناء على القول الثاني لا يصحّ أن ينوب عن غيره بطريق أولى ، إذ بناء على القول الثالث تكون لعمله مصلحة التمرين ، وإن لم يكن في نفس عبادته من صلاته وصومه وحجّه مصلحة وملاك أصلا.

وأمّا بناء على القول الثاني لا خطاب ولا ملاك ، حتّى ملاك التمرين.

وأمّا الفرق بين القول الثاني والثالث ، هو أنّه بناء على القول الثاني مصلحة التمرين في متعلّق أمر الأولياء ، فالشارع أمرهم بتمرين أولادهم ، فالثواب وجزاء التمرين لهم ، لأنّه مستحبّ عليهم ، ولا ربط لا للملاك ولا للخطاب بالصبيان ، لأنّ خطاب الشارع إلى الأولياء ، ولا خطاب إلى الصبيان أنفسهم.

وأمّا بناء على القول الثالث فالخطاب إلى الصبيان ، لكن لا بملاك في عباداتهم ، بل الملاك في تعوّدهم ، وإلاّ فنفس العبادة التي يأتي بها صرف صورة ويكون بشكل العبادة فقط.

١١١

وأمّا الثالث : فالمختار هو القول الأوّل ، وهو المشهور بين الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وسنذكر الدليل عليه في بيان الجهة الثانية ، وذكر مستند القائلين بالمشروعيّة.

الجهة الثانية

في بيان مدرك هذه القاعدة‌

فنقول :

أمّا مشروعيّة عباداته وأنّها شرّعت في حقّهم ـ غاية الأمر أنّها ليس بواجبة عليهم ، بل تكون مأمورة بالأمر الاستحبابي ـ فلوجوه :

الأوّل : شمول الأدلّة العامّة والمطلقات لهم ، فقوله تعالى ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (١) ، وقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (٢) وأمثالهما من العمومات والإطلاقات في أدلّة العبادات تشمل غير البالغين كشمولها للبالغين.

ولا مخصّص للعمومات ولا مقيّد للمطلقات عدا ما يتخيّل من قول علي عليه‌السلام « أما علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة : عن الصبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى يستيقظ » (٣).

وقد يدّعي أيضا انصراف تلك العمومات والإطلاقات إلى البالغين.

وفيهما : أمّا في دعوى الانصراف ، فإنّها لا تخلو عن مجازفة ، إذ لا شكّ في أنّ الشارع لم يتّخذ في مقام تبليغ أحكامه طريقا خاصّا ، بل يبلغ ويفهمهم على طريق‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ٤٣ ، ٨٣ ، ١١٠ ، النساء (٤) : ٧٧ ، يونس (١٠) : ٨٧ ، النور (٢٤) : ٥٦ ،.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٣) « الخصال » ص ٤٠ و ١٧٥ ، باب الثلاثة ، ح ٤٠ و ٢٣٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٣٢ ، أبواب مقدمة العبادات ، باب ٤ ، ح ١١.

١١٢

أهل المحاورة ، ولا شكّ في أنّ أهل المحاورة لا يفرقون في توجيه الخطاب وألفاظ المخاطبة بين البالغين ومن كان عمره أقلّ من عمر البالغ بساعة. بل يخاطبونهم على نسق واحد وبلفظ واحد ، فدعوى أنّ العمومات لا تشمل غير البالغين ، أو تكون منصرفة عنهم مجازفة محضة وبلا دليل ولا برهان.

وأمّا حديث رفع القلم الذي هو عمدة دليل القائلين بعدم شرعيّة عبادات غير البالغين ، فالإنصاف أنّه في مقام الامتنان واللطف والرأفة والرحمة ، فلا يدلّ على أزيد من رفع الإلزام. مثل قاعدة الحرج عند المشهور ، فإنّهم يقولون : ببقاء الملاك وارتفاع الإلزام والوجوب للامتنان ، ولذلك يقولون : لو تحمّل الحرج وأتى به يكون صحيحا ومجزيا.

وأمّا عدم إجزاء حجّ الصبي عن حجّة الإسلام ، فلعلّه لخصوصيّة في حجّة الإسلام لا تحصل تلك الخصوصيّة إلاّ بأن يكون بالغا ، كما أنّه في اشتراط الحرّيّة أيضا كذلك ، فليس من جهة عدم مصلحة وملاك في حجّ غير البالغين كما توهّمه هذا القائل.

ولكن ربما يرد ها هنا إشكال ، وهو أنّه لا شكّ في أنّ مفاد حديث رفع القلم هو رفع الوجوب عن غير البالغين ، فإذا ارتفع الوجوب فلا دليل على استحباب ذلك الفعل ، لأنّ دليله كان مفاده الوجوب وهو ارتفع على الفرض ، فما الذي يدلّ على استحبابه في مقام الإثبات؟ وإن لم يكن دليل على عدم استحبابه أيضا ولكن صرف عدم الدليل على عدم استحبابه لا يكفي في الحكم باستحبابه ، فإثبات الاستحباب لا طريق إليه.

وفيه أوّلا : أنّه ربما يقال بأنّه يمكن إثباته بالاستصحاب ، بأن يقال بأنّ القدر الجامع بين الواجب والمستحب وهو مطلق الطلب وجد ، وبارتفاع الوجوب يشكّ في بقاء الجامع لاحتمال بقائه في ضمن الطلب الاستحبابي.

وفيه : أنّ هذا الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ،

١١٣

وأثبتنا في الأصول عدم جريانه.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه على تقدير جريانه يكون مثبتا ، لأنّ إثبات خصوص فرد باستصحاب الجامع بعد زوال الفرد الذي وجد الجامع في ضمنه يقينا ، واحتمال وجود فرد آخر من أوّل الأمر أو من حين زوال ذلك الفرد المتيقّن الوجود يكون من إثبات اللازم العقلي بالحكم ببقاء الملزوم.

فلا يرد ، لأنّ في المقام لا يحتاج إلى إثبات خصوص الفرد ، أي الطلب الاستحبابي ، لأنّ الأثر مترتّب على نفس بقاء الجامع ، وهو الطلب المشترك بين الاثنين.

ولكن يمكن ها هنا تصوير الاستصحاب بنحو لا يكون من القسم الأوّل أو القسم الثاني من القسم الثالث اللذان أثبتنا عدم جريانها ، بل يكون من القسم الثالث من القسم الثالث من الاستصحاب الكلّي الذي قلنا بجريانه مع وحدة القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة عرفا.

بأن يقال : إنّ الطلب الاستحبابي مرتبة من الطلب منطوية في الطلب الوجوبي ، فإذا ارتفعت تلك المرتبة الأكيدة من الطلب ـ المسمّى بالطلب الوجوبي ـ فيشكّ في بقاء تلك المرتبة الضعيفة التي كانت منطوية في المرتبة الأكيدة ، فيستصحب. وأركان الاستصحاب تامّة من اليقين بوجود تلك المرتبة سابقا والشكّ في بقائه.

وفيه أنّ هذا المبنى ـ من كون الاستحباب مرتبة ضعيفة من الطلب ، منطوية في المرتبة الأكيدة المسمّى بالوجوب ـ غير تامّ.

وثانيا : أنّ مقتضى طبع الطلب الصادر من المولى هو الوجوب بحكم العقل بلزوم إطاعته ، إلاّ أن يأذن هو في الترك ، فالاستحباب ليس مقتضى طبع الطلب ، بل يستفاد من إذنه في الترك ، والإذن في الترك كما يحصل من نفس هذا العنوان إلى التصريح بجواز الترك ، كذلك يحصل بعناوين آخر ، مثل رفع العسر والحرج ، ومثل هذا العنوان ، أي‌

١١٤

رفع قلم الإلزام ، ورفع القلم عن شخص أو طائفة مقابل ما كتب عليه أو عليهم.

فكما لا يفهم من العبارة الأخيرة غير اللزوم والوجوب ، فكذلك لا يفهم من الأولى إلاّ رفع الوجوب والإلزام والإذن في الترك ، فحديث رفع القلم بمنزلة الإذن في ترك الواجبات ، فقهرا يكون مفاد الأوامر الأوّليّة بعد ورود الإذن في الترك بتوسّط حديث الرفع هو الاستحباب. لا أنّ حديث الرفع يرفع الخطاب الوجوبي من رأس ، كي تقول إذا ارتفع الخطاب الوجوبي بحديث رفع القلم عن الصبي فليس هناك آخر يستفاد منه الاستحباب.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذا الإشكال مختصّ بالواجبات ولا تأتي في المستحبّات.

الثاني : العمومات التي دلّت على ترتّب الثواب على من صلّى ، أو صام ، أو حجّ ، أو أعطى زكاة ماله وأمثال تلك المذكورات من العبادات ، وهذه العمومات تشمل غير البالغين كشمولها للبالغين. ودعوى الانصراف إلى البالغين خروج عن ظاهر اللفظ بدون دليل عليه.

ولا شكّ في أنّ ترتّب الثواب على فعل من لوازم استحباب ذلك الفعل ، فهذه العمومات والإطلاقات تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على استحباب تلك الواجبات على غير البالغين بعد القطع بعدم وجوبها عليهم.

الثالث : أنّ العقل مستقل بحسن بعض الواجبات ، كردّ الأمانة ، وحفظ النفس المحترمة ، ولا يفرق في حكم العقل بحسن ذلك الفعل واستحقاق الأجر والثواب عليه بين أن يكون للفاعل من العمر خمسة عشر سنة بالتمام ، أو كان ناقصا مقدار ساعة بل يوم بل شهر ، فكون الصبيّ غير البالغ مستحقّا للأجر والثواب على مثل ذلك الفعل ممّا يستكشف منه استحباب ذلك الفعل ، وبعدم القول بالفصل يثبت الاستحباب في سائر الواجبات أيضا.

مضافا إلى أنّه يثبت بهذا الدليل مشروعيّة عبادات الصبيّ في الجملة ، مقابل‌

١١٥

السلب الكلّي الذي يدّعيه الخصم.

إن قلت : إنّ حديث رفع القلم يخصّص العمومات بغير الصبيّ من العاملين الممتثلين لتلك العبادات ، لأنّه إذا كان مفاد الحديث رفع قلم التكليف مطلقا ، سواء أكان وجوبا أو استحبابا ، فيرفع استحقاق الصبيّ غير البالغ للأجر والثواب من باب نفي اللازم بنفي الملزوم.

فجوابه : أنّ مفاد حديث رفع القلم ليس رفع التكليف مطلقا كما توهّم ، بل مفاده وظاهره رفع خصوص الإلزام والوجوب بالبيان المتقدّم.

الرابع : كمال الاستبعاد أن لا يستحقّ غير البالغ القريب إلى وصوله إلى البلوغ بزمان يسير كيوم مثلا أو أقلّ ، مع إتيانه بالصوم مثلا في نهار طويل من أيّام شهر رمضان وفي حرّ شديد مع كمال الإخلاص ، وهو يتحمّل الأذى قربة إلى الله تعالى ، أو يمشي إلى الحجّ مثل هذا الصبيّ مخلصا لله تعالى راجلا مع كمال المشقّة ، ثمَّ يقال إنّ هذا لا يستحقّ شيئا من الأجر والثواب لأنّه لم يصل إلى حدّ البلوغ.

فالإنصاف أنّ القول بعدم استحقاق مثل هذا الولد في هذا العمر مع أنّه في كمال الشعور والإدراك ـ خصوصا إذا كان من أهل الفضل والتقوى ، بل ربما يتّفق أن يكون من الفقهاء ، كما يقال في حقّ بعض الفقهاء الكبار قدس‌سره إنّه صار فقيها وبلغ إلى درجة الاجتهاد قبل أن يصير بالغا ـ خلاف الإنصاف ، بل خلاف الوجدان ، وكيف يمكن أن يقال مثل هذا ، مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « في كلّ كبد حرى أجر » (١).

هذا ، ولكن أنت خبير بأنّ هذا الوجه مع هذا التفصيل المذكور بالخطابة أشبه من كونه دليلا فقهيّا يكون مدركا للفتوى ، وذلك من جهة أنّه لو صدر عمل أشقّ ممّا ذكرنا من أكبر العلماء ، وكان إتيانه بعنوان أنّه من الدين بدون دليل عنده أنّه من‌

__________________

(١) « مسند أبي يعلى الموصلي » ج ٣ ، ص ١٣٧ ، ح ١٥٦٨ ، « المعجم الكبير للطبراني » ج ٢٠ ، ص ٣٢٣ ، ح ٧٦٣ ، « السنن الكبرى للبيهقي » ج ٤ ، ص ١٨٦ ، باب ما ورد في سقي الماء.

١١٦

الدين ، يكون ذلك تشريعا محرّما ولا يستحقّ شيئا من الأجر والثواب ، بل يستحقّ اللؤم والعقاب. ففيما نحن فيه أيضا يقال : حيث أنّه لم يدلّ دليل على أنّ مثل ذلك الصوم أو مثل ذلك الحجّ مشروع ، فلو أتى به بعنوان العبادة وأنّه مشروع يكون تشريعا ، ولا يستحقّ عليه شيئا من الأجر والثواب.

ثمَّ إنّهم ذكروا ها هنا وجوها أخر لمشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ ، تركنا ذكرها لكونها من الاستحسانيّات التي لا يصحّ جعلها مدركا للحكم الفقهي ، وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

وما ذكرنا كان مدرك القول الأوّل القائلون بمشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ كالبالغين ، وأنّ الواجبات أيضا في حقّهم مستحبّات.

وأمّا مدرك القول الثاني ـ أي عدم مشروعيّة عباداتهم أصلا وأنّ الشارع أهملهم كالبهائم والمجانين ـ هو عموم حديث رفع القلم عنهم للواجبات والمستحبّات ، فكما أنّ الوجوب مرفوع عنهم ، كذلك الاستحباب أيضا مرفوع ، لأنّه لا شكّ في أنّ قلم التكليف عامّ يشمل الأحكام الخمسة كلّها ، والنفي وارد على هذا المعنى ، فمعنى رفع القلم عنهم هو أنّ كلّما يكون مندرجا تحت عنوان قلم التكليف فهو مرفوع عنهم ، فرفع القلم مقابل وضع القلم.

فكما أنّ وضع القلم عند البلوغ معناه أنّ الأحكام الخمسة كلّها تكتب في حقّه ، فكذلك معنى رفع القلم عدم كتابة شي‌ء منها عليه ، لا الوجوب ، ولا الاستحباب ، ولا الحرمة ، ولا الكراهة ، حتّى ولا الإباحة بعنوان أنّه حكم شرعي ، فمع رفع القلم عنه وعن أفعاله لا يبقى مجال للقول بمشروعيّة عباداته واستحبابها ، ولذلك ترى أنّ العرف إذا يقولون : إنّ فلانا مرفوع القلم ، أي لا اعتبار بأقواله ولا بأفعاله ، أي حاله حال البهائم.

والإنصاف أنّ الحديث وإن كان ظاهره بحسب المتفاهم العرفي هو هذا المعنى ،

١١٧

ولكن القرائن المقاميّة تدلّ على أنّ المراد منها هو خصوص الأحكام الإلزاميّة ، كالوجوب والحرمة ، لا مطلق الأحكام لكي يشمل الاستحباب والكراهة ، بل الإباحة الشرعيّة ، وذلك لما ذكرنا من أنّه تبارك وتعالى في مقام الرحمة والرأفة بالعباد ، وأنّ الصبيّ غير البالغ غالبا لا يميّز بين الضرر والنفع ، ولا يعتني بأنّ ترك الواجب وفعل الحرام مجلبة للضرر. لقصور عقله ، أو لغلبة شهواته الحيوانيّة.

ولذلك رفع المؤاخذة والعقاب عنه برفع منشئهما ، وهو الحكم الإلزامي ، أي الوجوب والحرمة.

وأمّا الروايات في عدم جواز أمره حتّى يحتلم (١). وأيضا ما ورد من أنّ عمده خطأ فأجنبيّ عن هذا المقام ، لأنّ الطائفة الأولى راجعة إلى عقوده وإيقاعاته ، وسائر معاملاته وإن لم يكن يعقد أو إيقاع ، كمعاملاته المعاطاتيّة. والطائفة الثانية راجعة إلى باب الجنايات ، لأنّها ظاهرة فيما يكون لعمده حكم ولخطائه حكم ، فقال عليه‌السلام في رواية إسحاق بن عمّار : « عمد الصبيان خطأ » (٢) أي حكم المترتّب على ما صدر عنه عمدا هو حكم هذا الفعل لو كان يصدر من البالغ خطا ، ولذلك قال عليه‌السلام بعد هذه الجملة جملة أخرى ، وهي قوله عليه‌السلام : « يحمل على العاقلة ». فالقول بعدم مشروعيّة عبادات غير البالغين لا أساس له ، وإن كان يظهر من جماعة من أعاظم الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

وأمّا مدرك القول الثالث وهو أنّها شرعيّة لا من حيث عناوينها الأصليّة ، أي ليست الصلاة مثلا مشروعة ومستحبّة من حيث أنّها صلاة ، وكذلك في الصوم والحجّ وسائر العبادات الواجبة ليس مشروعيّتها من تلك العناوين أنفسها ، بل من حيث‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٩٧ ، باب حد الغلام والجارية اللذين يجب عليهما الحد تماما ، ح ١ ، « السرائر » ج ٣ ، ص ٥٩٦ ، المستطرفات ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٢٦٨ ، ح ٢٢٧٥٠ ، أبواب عقد البيع ، باب ١٤ ، ح ١.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ١٠ ، ص ٢٣٣ ، ح ٩٢١ ، في باب ضمان النفوس وغيرها ، ح ٥٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٩ ، ص ٣٠٧ ، ح ٣٥٨٣٥ ، أبواب العاقلة ، باب ١١ ، ٣.

١١٨

القعود وتمرين النفس على إتيانها ، فكان للصلاة مثلا جهتين : جهة الصلاتيّة التي هي عنوان أوّلى لها ، وجهة التمرن بإتيانها كي لا يشقّ عليه بعد البلوغ إتيانها.

فالمدّعى بناء على هذا القول الثالث ليس هو مشروعيّة الصلاة من حيث أنّها صلاة ، بل مشروعيّتها من حيث حصول التمرين والتعوّد على أداء الواجبات بإتيانها ، ففي الحقيقة موضوع الاستحباب ليس هو نفس الصلاة ، بل موضوع الاستحباب هو التمرين الذي يحصل بإتيان الصلاة في كلّ يوم في وقتها ، فهو مركب ـ أي القول الثالث ـ من أمرين :

أحدهما : عدم مشروعيّة العبادات من حيث عناوينها الأصليّة.

وفي هذا الأمر دليلهم دليل القول الثاني ، وجوابهم عين ذلك الجواب.

ثانيهما : استحباب تلك العبادات ومشروعيّتها من حيث حصول التمرين بإتيانها.

ودليلهم في هذا الأمر الأخبار الكثيرة التي مفادها استحباب التمرين والتعوّد. (١)

وفيه : أنّ دليل رفع القلم لو شمل المستحبّات ، فهذا الاستحباب أيضا مرفوع عنهم ، فهذا التفصيل لا وجه له.

نعم الأخبار الكثيرة واردة في أنّه على الوليّ أن يأمره بإتيان الواجبات لمصلحة التمرين (٢) ، فيستحبّ أو يجب على الوليّ الأمر لمصلحة التمرين لا على الصبيّ.

فلا يخلو الأمر عن أحد هذين : وهو أنّ حديث رفع القلم مفاده إمّا رفع جميع‌

__________________

(١) « الخصال » ص ٦٢٦ ، « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٨١ ، ح ١٥٩٠ ، (١٨) باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ، ح ٧ ، « الاستبصار » ج ١ ، ص ٤٠٩ ، ح ١٥٦٣ ، باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ٣ ، ص ١١ ، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، باب ٣ ، ح ١ ـ ٨.

(٢) « الكافي » ج ٣ ، ص ٤٠٩ ، باب صلاة الصبيان ومتى يؤخذون بها ، ح ١ ، « الفقيه » ج ١ ، ص ٢٨١ ، ح ٨٦٣ ، باب الحد الذي يؤخذ فيه الصبيان بالصلاة ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٨١ ، ح ١٥٩٠ ، (١٨) باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ، ح ٧ ، « وسائل الشيعة » ج ٣ ، ص ١١ ، أبواب أعداد الفرائض ، باب ٣ ، ح ١ ـ ٥ ـ ٦ ـ ٧ ـ ٨.

١١٩

الأحكام حتّى المستحبّات ، فلا فرق بين أن يكون موضوع الاستحباب نفس عناوين العبادات ، أو يكون التعوّد والتمرين على إتيان تلك العبادة ، فلا يستحبّ على الصبيّ شي‌ء بأيّ عنوان كان. وأمّا مفاده رفع خصوص الإلزام ووجوب الفعل أو الترك ، فنفس هذه العناوين مستحبّات.

وقد تقدّم التفصيل ، فظهر أنّ القول الثالث لا وجه له.

الجهة الثالثة

في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة ، والفروع المترتّبة عليها‌

فنقول :

الأوّل : الطهارات الثلاث ، فبناء على القول بالمشروعيّة تكون مستحبّة على غير البالغ بعد دخول وقت الصلاة ، لأنّها واجبة على البالغين في ذلك الوقت ، كما أنّه بناء على القول باستحبابها في أنفسها تكون أيضا مستحبّة على غير البالغين. وفي كلتا الصورتين له أن يأتي بها بقصد أمرها الاستحبابي ، غاية الأمر في إحديهما بعد دخول الوقت ، وفي الأخرى وإن كان قبل دخول الوقت.

الثاني : في تجهيز الميّت من الغسل ، والكفن ، والصلاة عليه ، ودفنه بعد الصلاة عليه ، فبناء على المشروعيّة يستحبّ عليه هذه الأمور ، وإن كان على البالغين واجبا كفائيّا ، فيجوز له أن يتصدّى ويرفع موضوع الوجوب عن البالغين. وأمّا بناء على عدم المشروعيّة فليس له أن يجهز الميّت وإن كان أباه أو أمّه.

الثالث : المستحبّات من الأفعال والأذكار الواردة في الطهارات الثلاث قبلها وبعدها وفي حين الاشتغال بها ، فبناء على المشروعيّة يستحبّ كلّ ذلك على الصبيّ غير البالغ أيضا كالبالغين ، وكذلك الحال في مستحبّات تجهيز الميّت.

١٢٠