النظام التعليمي

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مؤسسة محراب الفكر الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧

الاساس ، فان مجلس ادارة المدرسة يجب ان ينتخب من ابناء المحلة بالتصويت المباشر. وعند اكتمال تشكيل مجلس الادارة ، يقوم عندئذ بكل امور التوجيه والاشراف على الحياة المدرسية والنشاط التعليمي ، ابتداءاً من تعيين المعلمين وانتهاءاً بانتقاء وشراء الكتب التي توضع في مكتبة المدرسة. وتختلف المناهج الدراسية من مدرسة الى اُخرى حسب رأي وقرار مجلس الادارة. ففي المناطق المحافظة ، المتمسكة بالدين ، يمنع مجلس ادارة المدرسة تدريس الثقافة الجنسية ونظرية التطور ، بينما يسمح بتدريس هذه المواد الدراسية في مناطق اخرى ، ويرجع تحديد كل ذلك الى مجلس ادارة المدرسة. وعلى المستوى المالي ، فان المدارس مرتبطة بالادارة المحلية وحكومة الولاية. فتدفع حكومة الولاية نصف مصاريف المدرسة وتدفع الادارة المحلية النصف الآخر ، مع نسبة ضئيلة تدفعها الحكومة الفيدرالية.

واقحام المحلة ومؤسستها المالية والسياسية في ادارة المدرسة ليس وليد صدفة ، بل انه ينبع من صميم الفكرة الرأسمالية. فبدلا من قيام الحكومة الفيدرالية بالصرف المالي على المدارس المنتشرة في مختلف المناطق بشكل عادل ، تقوم المحلة الغنية بدفع نسبة اعلى من الضرائب المخصصة للمدارس المتواجدة ضمن حدودها. وعندها تتمتع المدارس في المناطق الغنية باكمل الخدمات ، ويستفيد الطلبة الاغنياء من النظام التعليمي بافضل وجه. اما المدارس في المناطق الفقيرة فان مجالس اداراتها لا تستطيع النهوض بمهام النظام التعليمي كما يحصل في المناطق الغنية لقلة المخصصات المالية الواردة من ضرائب الفقراء. وبذلك يتضرر الطلبة من العوائل الفقيرة. وهذا ، كما ترى ، ظلم واضح بحق الفقراء من الطلبة الذين يعيشون

٢١

على نفس الارض ويدافعون عن نفس الدولة ويحتمون بنفس النظام.

وكما ان الاقتصاد الرأسمالي يشجع الافراد على المنافسة الاقتصادية باعتبار ان مردودها ينفع الفرد والمجتمع على حد سواء ، كذلك يشجع على المنافسة في النظام التعليمي الرأسمالي. فاستخدام نظام الدرجات يشجع الطلبة على التنافس من اجل الحصول على اعلى المستويات الاكاديمية. حيث يفوز المنتصر في عملية التنافس بجائزته النهائية ، وهي موقع متميز في النظام الاجتماعي ، بينما ينحرف الخاسر تدريجيا عن سير النظام التعليمي ، ليلتحق باقرانه من الخاسرين من افراد الطبقة العاملة الفقيرة !

واذا كانت المنافسة تساعد الطالب على نيل اعلى الدرجات في النظام التعليمي الرأسمالي ، فان التعاون بين الطلبة لحل المسائل المعقدة يعتبر نوعاً من الغش ، لان الطالب ، حسب النظرة الرأسمالية ، يجب ان يتحمل المسؤولية الفردية في التعليم والتحصيل وحل المشاكل وفهم مستعصيات العلوم ، ومسؤولية المدرس تبيين وتوضيح وتحديد الخط الذي ينبغي ان يسير عليه الطالب ، وما وراء ذلك فهو مسؤولية التلميذ الشخصية.

وهذا التركيز على المنافسة في النظام التعليمي الرأسمالي لم يأت اعتباطا ، بل ان رواد الفكرة الرأسمالية يرون ان تعليم الاطفال وتدريبهم على المنافسة في المجال التعليمي سيؤهلهم لاحقاً للمنافسة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي. ولكن هذه المنافسة من اجل الحصول على درجات جيدة تدل على خلل اساسي في النظام التعليمي الرأسمالي ، ذلك ان المدرسة هدفها غرس العلم في اذهان التلاميذ ، وليس الحصول على الدرجات ، لان الدرجات لا تمثل الا رمزاً متعارفاً لكمية فهم الموضوع. ولو كان الاصل من

٢٢

التعليم الحصول على درجات جيدة لانتفت موجبات التحصيل من الاصل ، لان دوافع الحصول على مجرد الدرجات يؤدي بالطلبة الى ارتكاب عملية الغش ، وحفظ المواد الدراسية دون فهم ، وقراءة المواد المحتمل ورودها في الامتحان فقط دون غيرها ، ونسيان المواد الدراسية بعد انتهاء الامتحان ، والبحث عن الجامعات الاقل من ناحية المستوى العلمي ولكنها ايسر من ناحية الحصول على الدرجات ، وتفضيل الدراسة عند استاذ ضعيف من الناحية العلمية ولكنه مبسوط اليد في الدرجات على استاذ عالم متشدد في منح الدرجات. وهذا كله يؤدي الى انخفاض المستوى العلمي للطلبة ، ناهيك عن التأثير النفسي الذي يتركه صراع من هذا النوع على نفسيات الخاسرين في عملية التنافس للحصول على أعلى الدرجات.

وتصبح نتيجة المنافسة المدرسية ، فشلاً كانت او نجاحاً ، جزءاً من الشهادة العلمية للفرد ، وعلى اساسها يُقيّم في المجتمع ، وعلى ضوئها يحدد معاشه وراتبه واسلوب حياته. فاذا كانت درجاته المدرسية المسجلة في الشهادة الجامعية مثلاً عالية ، اصبح مؤهلا للدخول بقوة الى مجال العمل الاجتماعي او البحث العلمي ، حتى لو كانت هذه الدرجات الرمزية لا تمثل فهمه الواقعي للعلم الذي درسه. وبالاجمال ، فان تصنيف الطلبة تحت سقف وجود الذكاء او عدمه استناداً على نسبة الدرجات في الشهادة المدرسية لا يساعد الطلبة بالمرة على التحصيل العلمي الجاد.

ولما كان النظام التعليمي الرأسمالي يشجع الاغنياء على ارسال ابنائهم الى المدارس الخاصة التي لا يدخلها الا الخواص ، فان الكثرة الغالبة من الطلبة تشعر بان المردودات الاجتماعية والاقتصادية المستقبلية سوف

٢٣

تذهب حتما الى القلة من الافراد ، وهذه القلة هي التي ستحوز على قصب السبق ، وستقتطف النصيب الاكبر من الجوائز الاجتماعية ، وبالتحديد : السلطة والثروة والمنزلة الاجتماعية. اما الجد ، والجهد ، والاجتهاد ، والذكاء ، فهي لا تضمن للطلبة الفقراء او من الطبقة المتوسطة مقعدا في الطبقة الرأسمالية. اضف الى ذلك ان الاستسلام لهذا الواقع من قبل الفقراء والطبقة المتوسطة يخلق جوا يساعد الطبقة الرأسمالية على البقاء في مواقعها ، والاحتفاظ بمصالحها الاجتماعية والاقتصادية المتميزة. واهم مساعدة يقدمها النظام التعليمي الرأسمالي للطبقة الرأسمالية العليا هو القاء مسؤولية الفشل الاكاديمي على الطالب وحده وليس على النظام الاجتماعي الذي وضع الغني في موقع متميز منذ نعومة اظفاره ، وهيأ له اسباب النجاح والتفوق دون الطالب الفقير. وهكذا تصبح الفكرة الرأسمالية القائلة ب‍ « ان لكل فرد فرصة متساوية مع بقية الافراد في النظام الاجتماعي » نظرية خادعة ، لا تحمل معها اي معنى تطبيقي في مفهوم العدالة الاجتماعية.

٢٤

المدرسة وانعدام العدالة الاجتماعية

وكما ذكرنا سابقاً ، فان الافراد في المجتمع الرأسمالي لا يملكون فرصاً متساوية للتحصيل ، على خلاف ما يدعيه انصار النظام الرأسمالي ، بل ان الطبقة الاجتماعية التي يولد فيها الفرد تحدد نوعية التعليم الذي سيحصل عليه لاحقاً ، وكما ان الثروة تتراكم بايدي القلة من افراد الطبقة العليا ، كذلك التعليم ، فان درجته الاكاديمية ومستواه الفكري مرتبط بالثروة ، والقوة ، والمنزلة الاجتماعية.

فابناء الطبقة الرأسمالية يحصلون في مجال التعليم على ميزتين اساسيتين ، الاولى : ان اغلبهم يقضي سنوات اكثر في التحصيل مقارنة باقرانهم من ابناء الطبقة الفقيرة. وثانياً : انهم يحجزون المقاعد الدراسية في الجامعات العريقة ذات المستوى الرفيع امثال جامعة هارفرد واكسفورد وكامبرج وبرنستون وييل وكولومبيا وغيرها من الجامعات الراقية. علماً بان شهادات هذه الجامعات تترجم مستقبلاً الى منافع اقتصادية واجتماعية عظيمة لهؤلاء الافراد.

وعلى عكس ما تدعيه النظرية الرأسمالية ، من ان لكل فرد الحق في التحصيل والتعليم ودخول ارقى الجامعات. فان الذكاء لا يلعب دوراً حاسماً في قبول الطلبة في هذه الجامعات ، بل ان الاجور الدراسية وقابلية الفرد على دفعها هي المقياس. حيث ينصرف الكثير من اذكياء الطبقة المتوسطة والفقيرة الى الدخول في الجامعات المتواضعة او الانخراط في الاعمال التجارية او الاشغال الحرة ، لانهم لا يستطيعون دخول الجامعات العريقة

٢٥

ودفع اثمان مناهجها الباهضة.

ويدعي زعماء الفكرة الرأسمالية المعاصرون بان اغلب الاذكياء ينضوون تحت راية العوائل الرأسمالية ، ابتداءاً من علماء الفيزياء والذرة وانتهاءاً بكتّاب الادب والثقافة. بينما يحتل الافراد من البشرة السوداء اقل الدرجات في مستويات الذكاء ، حسب زعمهم. وهذا الافتراض تدحضه التجارب العلمية التي تثبت ان الذكاء ليس عاملاً وراثيا. ولو كان الذكاء علماً حضورياً لافترضنا امكانية انتقاله بالوراثة ، ولكن الواقع التجريبي يثبت ان ثلاثة ارباع كمية الذكاء عند الانسان ما هي الا علم حصولي يكتسب بالقراءة والاستماع والتحصيل. اما العلم الالهامي الحضوري فهو العلم المستجمع في ذهن الانسان عن طريق غيبي وبطبيعة الحال فان هذا العلم لا يأتي الى افراد الطبقة الرأسمالية دون غيرهم من افراد الطبقات. والفقر ليس جنساً او قومية ، فقد يصيب الابيض والاسود ، واليهودي والنصراني ، والامريكي والآسيوي ، بمعنى ان الاب لو كان فقيراً ، فكيف يعقل ان يترجم هذا الفقر الى جينات وراثية تمثل انعدام الذكاء ، ثم كيف تنتقل هذه الجينات من الاب الى الابن بالوراثة ؟ اليس هذا التحليل من تدبير النظام الرأسمالي حتى يبقى الفقراء في الدرجة السفلى من السلم الثقافي ؟ وعندها لا يحق لهم ان يتسلموا امور السلطة السياسية !!

ولو كان الافتراض الموضوعي ان الذكاء ، هو تعلم المهارات الفنية لكان ذلك اقرب الى المنطق والواقع العملي. لان الافراد متفاوتون في قابلياتهم ، فبعضهم يتفوق في علم اللغات ، وآخرون في الرياضيات ، وآخرون في المنطق ، وآخرون فى الكيمياء ، وهذا لا يمثل علماً حضورياً ،

٢٦

بل استعداداً وقابلية لسرعة هضم المادة العلمية التي انشرح لها عقل ذلك الطالب. ولا يختلف الفقير عن الغني على هذا الصعيد.

ولا يعتبر العامل الطبقي ، العامل الوحيد الذي يحدد دخول الفرد للجامعة ، بل ان لون البشرة يلعب ايضاً دوراً مهماً في التحصيل العلمي. فالافراد من البشرة السوداء يحصلون على اقل المقاعد الدراسية في الجامعات العريقة المذكورة مقارنة باقرانهم من ذوي البشرة البيضاء.

ولا شك ان تصميم النظام التعليمي بهذا الشكل الطبقي ، مرتبط بعوامل اجتماعية عديدة تتضافر كلها لخدمة الطبقة الرأسمالية ، فلابد للطالب الذي يروم التسجيل في دروس احدى الجامعات في النظام الرأسمالي الامريكي النظر الى امور قبل اتخاذه هذا القرار ، منها : اجور الجامعة ، والتشجيع العائلي ، والخلفية الثقافية ، ومشكلة اللغة ، وعملية الالصاق ، ونفسية الاستاذ. وكل هذه العوامل تصب لصالح الطالب الغني دون الطالب الفقير.

فعلى صعيد اجور الجامعة ، فان الطالب الفقير يترك الجامعة لا لأنه لا يستطيع تسديد الاجور الجامعية فحسب ، بل لان عائلته تحتاج الى من يكدح لجلب لقمة العيش. اما الطالب الثري من افراد الطبقة العليا ، فهو في غنى عن التفكير بمشاكل العيش ، بل ان كلّ اهتمامه منصبّ على التحصيل العلمي والتفوق.

وعلى صعيد التشجيع العائلي ، فان العائلة الغنية تتوقع من ابنائها وبناتها الاستمرار في التحصيل العلمي لحد انتهاء المرحلة الجامعية ، مما يحمّل الطالب او الطالبة مسؤولية اكمال الدراسة باي شكل من الاشكال. اما

٢٧

العوائل الفقيرة فانها لا تأمل من ابنائها الدخول في الجامعات ، بل ان اهتمامها الرئيسي منصبّ على البحث عن عمل مناسب لسد حاجات العائلة الاساسية. فيصبح شعور الفقير بمسؤوليته الاجتماعية والعائلية عائقاً في اكمال التحصيل العلمي.

وعلى صعيد الخلفية الثقافية ، فان العوائل الغنية توفر اجواء حب المطالعة لابنائها ، كسعة البيوت وهدوئها واحتوائها غالباً على الكتب. وفي اغلب الاحيان تفرد غرفة خاصة للمطالعة ، وهذا كله يساعد الطالب على صفاء الذهن وحب الاكتساب والتحصيل والابداع في النشاط الثقافي والعلمي. اما مساكن العوائل الفقيرة فهي غالباً ما تكتض بالافراد وتنعدم فيها اجواء المطالعة ، لان هذه العوائل مشغولة بمشاكلها اليومية الملحة. ولذلك ، فان العوائل الفقيرة في النظام الرأسمالي لا تقيم وزناً للعلم او التحصيل العلمي ، لانها تعتقد خطأ ، ان العلم لا يؤدي الى اشباع حاجاتها الاساسية.

وعلى صعيد اللغة ، فان الطبقة الغنية تعلم اهمية اللغة الفصحى في مخاطبة افراد النظام الاجتماعي والسيطرة على النظام السياسي ، حيث تحمّل تلك العوائل ابنائها مسؤولية اتقان اللغة الفصحى اتقاناً تاماً ، فيتعلم افرادها التكلم بلغة نحوية خاصة منذ الصغر. اما العوائل الفقيرة فانها لا تهتم بذلك فيتكلم ابنائها اللغة العامية الدارجة. وهذا الفارق بين من يتكلم الفصحى ومن يتكلم العامية يؤثر على قابلية الطالب في القراءة والفهم والتعامل مع الناس. وطالما كانت اللغة من اهم عوامل الاتصال والتفاهم الانساني ، فان اتقانها من قبل الفرد منذ الطفولة يفتح له طريقاً مشرقاً

٢٨

للمستقبل. اما الاخفاق في ذلك فانه ينتهي بوصم الفرد بمحدودية الفهم وعدم القدرة على التعبير عما يدور في ذهنه ، وبالتالي محدودية التأثير على الافراد ، والقصور في نقل وترجمة المعاناة والآلام التي يعشيها الفقراء في المجتمع.

وعلى صعيد الالصاق ، فان وصم الطالب واتهامه بمحدودية الفهم سيجعله محدوداً في الواقع الخارجي ، لان للالصاق دور نفسي مهم في فقدان ثقة المرء بنفسه. اما اسبغاء صفة الذكاء عليه فتجعله اكثر شعورا بتطور قابليته الذكائية ، فاذا ما تم ذلك فانه سيستجمع كل قواه الداخلية ليبرهن على انه طالب ذكي ، وفي اغلب الاحيان ينجح في تحقيق ذلك ، ويشق طريقه العلمي بكل توفيق. واستناداً على هذه القاعدة النفسية يوصم النظام الرأسمالي الفقراء بوصمة عدم التدبير ويزعم انهم يملكون استعداداً ضيقاً للفهم ولذلك فانهم لا يتطورون علمياً كما يتطور الاغنياء !! ولا شك ان هذا الوصم من صنع النظام الرأسمالي نفسه حتى يستطيع المحافظة على التركيبة الاجتماعية الطبقية التي خلقها في الاصل. وبهذه الطريقة يزاح الطالب الفقير الذكي من مستقبله العلمي المشرق ليحل محله طالب من الطبقة الرأسمالية لا احد يعلم مستواه الواقعي في الذكاء.

وعلى صعيد نفسية المعلم ، فان المعلمين في المدارس الرأسمالية العامة يميزون في التعامل الدراسي بين طلبة الطبقة الفقيرة من جهة ، وطلبة الطبقة المتوسطة والعليا من جهة اخرى لان هؤلاء المدرسين يعتبرون انفسهم من الطبقة المتوسطة اولا. وثانياً : لان الطلبة من الطبقة المتوسطة والعليا غالباً ما يكونوا على درجة من النظافة وحسن السلوك والمنطق اللبق ، وهو ما

٢٩

يساعد المعلم وهؤلاء التلاميذ على التفاهم والتفاعل الاجتماعي والعلمي. اما الطلبة الفقراء فانهم بعيدون عن كل ذلك لان وضعهم الاجتماعي لا يساعدهم على الارتفاع الى مستوى الطبقة المتوسطة والعليا. وهذا العامل يحرم الطلبة الفقراء من الاستفادة من امكانيات وطاقات المعلم في عملية التحصيل.

وكل هذه العوامل تحرم الطالب الفقير من الاستمرار في التحصيل العلمي واكمال الدراسة الجامعية ، بل تجبره الظروف المعيشية على الانخراط في العمل المهني واليدوي. وتبقى الساحة العلمية مفتوحة على مصراعيها للطلبة الاغنياء من ابناء الطبقة الرأسمالية.

واعظم الظلم في النظام التعليمي الرأسمالي هو محاولة النظام نسبة الذكاء الى ابناء الطبقة الرأسمالية ، وتغطيته بغطاء علمي كاذب وهو ان الذكاء عامل وارثي اولاً ، والزعم بان الفقراء متخلفون من الناحية العلمية لانهم متقاعسون عن التحصيل ، ثانياً. متناسياً ان الذي سبب فشل الفقراء في التحصيل العلمي هو التراكم غير المشروع للثروة عند الاغنياء من الطبقة الرأسمالية ، وحصر التعليم الجامعي ذو المستوى الرفيع بالاثرياء عن طريق رفع اجور الجامعات الخاصة بشكل يستحيل على الفقراء الدخول فيها ، والمشاركة في ادارة النظام الاجتماعي لاحقاً.

٣٠

التعليم وتكافؤ الفرص

وقد نضم صوتنا الى صوت المتسائلين عن معنى تكافؤ الفرص التعليمية في المجتمع الرأسمالي. فهل يعني ان افراد المجتمع لهم نفس الحق في الدخول الى الجامعات مثلاً ؟ ام ان افراد اي طبقة اجتماعية اذا توفرت فيهم الشروط سيحصلون على نفس الاحتمال المتوفر لغيرهم في الدخول الى تلك الجامعات ؟ يبدو ان المعنى الثاني هو الاقرب الى الواقع. فلو كان النظام التعليمي الرأسمالي عادلاً ، لانعدم التمييز والتفريق مثلا بين الطالب الاسود الذي توفرت له مستلزمات الدراسة وتفوق على اقرانه من الطلبة البيض ، وبين غيره من الطلبة في الدخول الى ارفع الجامعات من الناحية العلمية. ولكن النظام الرأسمالي لا يتفق مع نظرتنا هذه في تعريف تكافؤ الفرص. بل يفترض ان افراد المجتمع جميعاً لهم نفس الحق في الدخول الى الجامعات ، وهذا التصور تصور وهمي لا يقوم على اساس علمي بالمرة. حيث يمكننا تشبيه هذا التصور بمجموعة من المتسابقين في ساحة لعب واسعة ، متهيأين للانطلاق والتسابق ، ولكن الفرق بينهم وبين السباق السليم ان بعضهم معاق جسديا ، وبعضهم غير مدرب على الجري ، وبعضهم معلول من الناحية الصحية ، وبعضهم جائع ، والبعض الآخر القليل مدرب بكفأة واتقان. وبعد ذلك يطلق الحَكَم الرأسمالي صفارة الانذار ويعلن بدأ السباق ليرى من يصل الى النهاية المحددة ، لاستلام جائزته ، مكافأة لجهده المبذول. وهذا المثال يصور لنا معنى تكافؤ الفرص في النظام التعليمي الرأسمالي بكل دقة. ففي الوقت الذي يهيأ الرأسماليون ابنائهم منذ الطفولة للتحصيل

٣١

العلمي والاكتساب والجد ، ويحصرون الجامعات الخاصة بابنائهم ، ويحرمون الفقراء من كل وسيلة للتفوق العلمي وكسر حاجز الجامعات المحصنة ، يعرض الرأسماليون فكرتهم الرائعة الموسومة ب‍ « تكافؤ الفرص » ويدعون انها من افضل ما جاء به العقل البشري من ناحية العدالة والانسانية والمساواة. لكننا نقول : نعم لو كانت الثروة موزعة بشكل عادل بين افراد المجتمع جميعاً لكانت فكرة تكافؤ الفرص من اروع الافكار التي جاء بها الانسان. ولكن طالما كانت الثروة متراكمة عند القلة الرأسمالية ، وكانت الكثرة مشغولة بسد رمقها واشباع حاجاتها الاساسية ، فكيف تتحقق عندئذ فكرة « تكافؤ الفرص » التي تزعم الرأسمالية نجاحها على ارضها ؟ وكيف يستطيع الجائع الحافي التنافس في نظام تكافؤ الفرص مع المترف الممتلئ ؟ اليس اشباع حاجات الانسان الاساسية بالعدالة والتساوي اولى من الحديث عن تكافؤ الفرص ؟ واذا كانت الحصة العظمى من هذه الفرص تذهب الى افراد الطبقة الرأسمالية فاين التكافؤ في فكرة ( تكافؤ الفرص ) ؟

واذا كانت الفرص متكافئة لكل الافراد ، فماذا يجيب انصار الفكرة الرأسمالية عن سبب فصل المدارس الابتدائية والثانوية في الولايات المتحدة على اساس لون البشرة حتى العقد السادس من القرن العشرين ، بل حتى نهاية القرن العشرين في مراكز المدن الكبيرة ؟ فالطلبة البيض لا يسجلون في المدارس التي تحتل مقاعدها اغلبية سوداء. ويدعم هذا القول دراسة « كولمان » المدعومة من قبل الحكومة الامريكية في الستينات والتي تبين ان المستوى الدراسي والتحصيل العلمي للطلبة السود اقل بكثير من التحصيل

٣٢

العلمي للطلبة البيض ، وتعزي السبب في ذلك الى ان الطبقة الاجتماعية للطالب الفقير هي الاصل في انخفاض مستواه العلمي. وطالما كانت الاغلبية من الافراد السود من الفقراء ، فان المستوى العلمي لابنائهم ادنى من المستوى العلمي لاقرانهم من الطلبة البيض. وقد اثبتت التجارب ان جميع المحاولات التي وضعت لرفع مستوى الطلبة السود علمياً قد فشلت لانها لم تعالج المشكلة الاساسية ، وهي مشكلة توزيع الثروة بالعدالة بين الطبقات الاجتماعية ، بل تناولت تلك المحاولات تقديم حلولاً ثانوية لمشكلات لا تحل الا بالحلول الجذرية.

وعندما ننتقد فكرة ( تكافؤ الفرص ) الامريكية ، لا نريد ان نحمّل الفكرة اكثر مما تستطيع ان تحمله ، بمعنى ان تكافؤ الفرص في التعليم لا يعني بالمرة المساواة بين الافراد في الوضع العلمي والاجتماعي ، لان الافراد متفاوتون حتما في قابلياتهم الفكرية والعملية. ولكننا نقول ان فكرة ( تكافؤ الفرص ) الرأسمالية الامريكية تعطي الفرصة للاقوى بربح السباق والفوز بالجائزة الاجتماعية المقدمة من قبل النظام الرأسمالي.

وبطبيعة الحال فان المؤسسة التعليمية لا يمكن ان تغير نفسها ما لم يتغير النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، الا ان النظام الرأسمالي صب جهوده السياسية في انشاء نظام مدرسي يخدم اهدافه واغراضه في ترسيخ الفكرة الطبقية وتدريب الطلبة على المنافسة الاقتصادية ، بمعنى خلق شخصياتهم الرأسمالية منذ الطفولة.

٣٣

من اسباب فشل النظام التعليمي الرأسمالي

وتعكس المدارس في النظام الاجتماعي ، الحالة التي يعيشها المجتمع في فترة معينة من تأريخه. فاي تغير في النظام الاخلاقي او السياسي للمجتمع لابد وان يلقي بظلاله على النظام التعليمي ومناهجه المرسومة. ولا شك ان النظرة الحديثة للتعليم تدعو الى تخفيف العبأ الدراسي الملقى على الطالب حتى ينفتح ذهنه لاستيعاب معلومات اقل واعمق وادق. وهذه النظرة بالتأكيد تحتمل الخطأ والصواب ، فبعض المفكرين الرأسماليين يلقون تبعة فشل النظام التعليمي الرأسمالي على هذا القول الذي يدعو الى تخفيف المناهج الدراسية وتسهيل موادها. ولكن الرأي السديد يشير الى ان الطالب اليافع اذا توفرت له مستلزمات التحصيل ومواد الدراسة ، يستطيع تحمل مسؤولية التعلم بشكل كامل ، دون الرجوع الى تسهيل المادة الدراسية. والعامل المهم في كل ذلك هو التأديب والتهذيب وليس تخفيف وتسهيل المنهج العلمي. فاذا شجع التلميذ على حب العلم منذ نعومة اظفاره ، وهذبت غرائزه واخلاقه ، انفتحت ذهنيته لتقبل العلم وهضم المعارف الانسانية. ومع ان عقلية الطفل الرأسمالي متفتحة ، وذهنيته ارض خصبة لانبات العلم ، الا ان النظام التعليمي الامريكي في المرحلة الثانوية يعتبر من اسوأ الانظمة التعليمية في العالم الصناعي ، لماذا ؟ لا يجيب مفكروا النظام الرأسمالي على هذا السؤال بجواب واحد ، بل يعزون فشل النظام التعليمي الى عدة اسباب.

الاول : ان عجز القانون الرأسمالي والنظام الاجتماعي عن تأديب اطفال

٣٤

الحضارة الحديثة ، وبالخصوص اطفال المجتمع الرأسمالي ، نابع من تناقض واضطراب دور البيت والمدرسة ، فيرى بعض علماء الاجتماع ان التأديب ليس من واجبات البيت ، بل هو من واجبات المدرسة. ويرى البعض الآخر ان من واجب المدرسة تقديم العلم للتلاميذ فحسب ، وليس من واجبها القيام مقام الاب او الام في تأديب الطفل ، وهذا الاضطراب في دور البيت والمدرسة تجاه تربية الطفل ، ادى الى ضعف النظام التعليمي الرأسمالي ، لان الطفل لم يلزم في الانصياع للتهذيب البيتي ، ولم يلزم لتحصيل العلم المدرسي.

الثاني : ان التغير المستمر في الوضع الاجتماعي الرأسمالي خصوصا على صعيد الانفصال العائلي والطلاق واجتماع الرجل والمرأة دون عقد زواج ، وكثرة الولادات غير الشرعية ، يؤدي الى عدم استقرار النظام العائلي الذي يعتبر ركيزة اساسية في تقدم الطفل في الميادين العلمية والاجتماعية.

الثالث : تأثير الاجهزة الاعلامية الحديثة على الاطفال ، حيث يسلب هذا الجهاز الصغير ذو الشاشة المرئية ، اهتمامات الاطفال في القراءة والكتابة والتحصيل مما يسبب انخفاضا في مستوى تفكير الطالب الذي لو توفرت له الفرصة دون وجود مثل هذا الجهاز لأبدع ونبغ في شتى المعارف.

الرابع : ان المناهج الدراسية للمدارس الابتدائية والثانوية مناهج واسعة وشاملة لمواضيع عديدة الا انها لا تمتلك عمقاً كافيا للنهوض بالمستوى التعليمي المأمول. اضف الى ذلك ان مجلس ادارة المدرسة يضيف المواد الدراسية التي يعتقد انها نافعة للطلبة في تلك المحلة. فاذا كانت المحلة مبتلية بمشاكل الخمور والمخدرات فان المجلس يضيف دروسا تتناول تلك

٣٥

المواضيع. واذا كان الوضع الاخلاقي في المحلة متدهوراً من ناحية علاقة الرجل بالمرأة ، فانه يضيف دروساً حول التغشي بين الذكور والاناث ووسائل منع الحمل. وهذه المواضيع المليئة بالاحصاءات تسلب الوقت المخصص للدروس الاساسية الواجب على الطالب تعلمها.

الخامس : ان مستويات المعلمين متدنية علمياً بسبب تدني الاجور التي يتقاضاها هؤلاء ، فلا يفكر الاذكياء والنابغون دخول معاهد اعداد المعلمين لانها لا تدر ربحاً في مجتمع يتنافس فيه الناس على جني اقصى ما يمكن جنيه من الارباح. حيث يوزن الانسان في المجتمع الرأسمالي بالمال ، فان كان غنيا منحه المجتمع تقديراً واجلالا ، وان كان فقيرا شارك المجتمع في احتقاره واهانته. ولما كان المعلم من الطبقة الوسطى ـ السفلى ، افتقد عندها الهالة التي ينبغي ان تحيط به وتجعله محط انظار الطلبة ومحط احترامهم. وهذا الامر في غاية الاهمية في عملية الارسال والاستلام بين الطلبة والاستاذ خلال مراحل التحصيل العلمي ، وافتقادها يعني اختلال عملية التحصيل.

السادس : التنافس على تحصيل اعلى الدرجات بين الطلبة ، وليس تحصيل الفهم كما ذكرنا ذلك سابقاً.

ومع ان هذه الاسباب جديرة بخفض المستوى العلمي لاية مدرسة كانت ، وفي اي مجتمع كان ، الا ان النظام السياسي والتشريعي يغمض عينيه ويدعي ان المشكلة في انخفاض المستوى العلمي للمدارس الرأسمالية يرجع سببه الى قضيتين ، الاولى : المناهج المدرسية ، والثانية : المدرسين. بمعنى ان علاج المشكلة التعليمية تتم عن طريق اصلاح المناهج الدراسية ورفع اجور المدرسين فقط. وهذا التوجه يخدم مصالح النظام الرأسمالي خدمة

٣٦

عظمى لان تحوير المناهج التي يضعها النظام بحيث تصبح اداة لتمجيد النظام الرأسمالي ودرج حسناته وتبين مساوئ الانظمة الاخرى ، ورفع طبقة المدرسين الى مستوى الطبقة الوسطى ـ العليا ، سيساهم في تسخير هؤلاء المعلمين للتسبيح بحمد النظام الرأسمالي وتمجيد عدالته ، وبذلك يصبح النظام التعليمي الذي اريد به اساسا تعليم الجيل الناشىء العلم والادب والاخلاق ، اداة بيد الاغنياء ، ومطرقة بيد الرأسمالية حتى تُكمّ كل الافواه المعارضة التي لا تطلب اكثر من تطبيق العدالة الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي الحديث.

٣٧
٣٨

القسم الثاني

النظام التعليمي في الاسلام

دور العقل في عملية التحصيل * ملحق : حديث الامام موسى بن جعفر في العقل والعلم * نظرية التعليم في الاسلام * « المدرسة » في النظام الاجتماعي * التعليم والعدالة الاجتماعية في الاسلام.

٣٩
٤٠