القواعد الفقهيّة - ج ٣

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٥٢

فإذا قلنا بأنّ المدّعي هو من لو ترك ترك ، فالمنكر هو الذي لو ترك لم يترك.

وكذلك إن قلنا بأنّه عبارة عمّن يكون قوله خلاف الظاهر ، فالمنكر من يكون قوله موافقا للظاهر.

وإن قلنا : إنّ المدّعي هو من يكون مفاد قوله إثبات أمر على خصمه ، فالمنكر هو الذي مفاد قوله نفي ذلك الأمر.

وإن قلنا إنّ المرجع في تعيين المراد من المدّعي والمنكر هو العرف ، فالعرف يرى المنكر من ينفي ما يدّعيه المدّعي.

وإن قلنا : إنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا لأحد الأمرين ، أي الظاهر أو الأصل ، فالمنكر من لا يخالف قوله أحدهما.

وإذا ظهر لك معنى المدّعي والمنكر والبيّنة واليمين ، فلا يبقى إجمال في المراد من هذه القاعدة وفي مضمون الحديث الشريف.

نعم ينبغي التكلم عن أمور‌

الأوّل : فيما إذا شكّ في تشخيص المدّعي عن المنكر لأجل عدم إحراز كون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة أو موافقا لها ـ سواء أكان منشأ الشكّ هو الشكّ في حجّية ما هو مخالف له يقينا ، أو كان الشكّ في مخالفته له مع حجّيته يقينا ـ فهل يمكن التمسك لإثبات ما يدّعيه بالبيّنة أم لا؟

فيه إشكال لا من جهة الشكّ في عموم حجّية البيّنة ـ وذلك لما أثبتنا عموم حجّيتها في جميع الموضوعات ـ بل من جهة أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (١) خصّص ميزانيّة البيّنة في مقام القضاء بالمدّعي ، فإذا شكّ في كونه‌

__________________

(١) تقدم ذكره في ص ٧١.

٨١

مدّعيا يشكّ في تأثير البيّنة في حقّه ، فلا يصحّ ولا يجوز الحكم له مستندا إلى قيام البيّنة على ما يدّعيه ، لعدم إحراز ميزانيتها للحكم لمثل هذا الشخص.

نعم لو طلب منه الخصم أن يحلف فحلف ، وجب الحكم له مع طلبه من الحاكم ، للعلم إجمالا بوجود الميزان ، إمّا البيّنة لو كان هو المدّعي واقعا ، وإمّا الحلف لو كان هو المنكر بحسب الواقع ، والواقع لا يخلو منهما ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

نعم لو انفرد كلّ واحد منهما بأحد الأمرين ـ أي البيّنة والحلف ـ فلا يجوز الحكم له ، لعدم إحراز وجود الميزان في حقّه ، كما أنّه لو اجتمع الاثنان ـ أي الحلف والبيّنة ـ لأيّ واحد من المتخاصمين في المفروض جاز أو وجب الحكم له ، للعلم الإجمالي المذكور بوجود الميزان في حقّه.

ولكن أنت خبير بأنّ الشكّ في كونه مدّعيا إذا كان منشأه الشبهة الحكميّة ـ أي الشكّ في حجّية ما هو قوله مخالف له يقينا ـ فبأصالة عدم حجّية ذلك المشكوك الحجّية يثبت عدم حجّيته ، فيثبت عدم كونه مدّعيا ، فلا يكون وظيفته البيّنة قطعا.

وأمّا إذا كان منشأه الشبهة المصداقيّة ـ أي كانت حجّيته معلومة ، ولكن الشكّ في مخالفة قوله لذلك المعلوم الحجّية ـ فحيث أنّ أصالة عدم المخالفة لا تجري ، لأنّ عدم المخالفة عدم نعتي ليس له حالة سابقة بناء على ما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » (١) فلا يمكن إحراز أنّه ليس بمدّع وإن قلنا بأنّ المدّعي موضوع مركّب من قول يكون مفاده إثبات أمر على طرفه ، ومن مخالفة ذلك القول للحجّة الفعليّة ، فيكون الأمر في هذه الصورة كما ذكرنا من عدم جواز الحكم بالبيّنة فقط ، أو الحلف وحده.

وأمّا توهّم أنّ عموم « فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله » (٢) بضميمة عموم حجّية البيّنة بالنسبة إلى كلّ‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٤٩٧.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٢ ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح ٥ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢١٨

٨٢

موضوع ـ يشمل المقام ـ لأنّه بعد قيام البيّنة يكون ما حكم على طبق البيّنة حكمهم عليهم‌السلام بحسب الظاهر.

ففيه : أنّه بعد الفراغ عن أنّ مطلق الحجّة ليس ميزانا للقضاء ، بل الميزان في باب القضاء هي البيّنة والأيمان ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (١) وقطعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشركة بالتفصيل بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (٢) فالحكم على طبق البيّنة يكون حكمهم عليهم‌السلام إن كان قيامها على ما يدّعيه المدّعي.

وكذلك الحكم على طبق الحلف إن كان صدر الحلف من المنكر ، فلا بدّ من إحراز المدّعي والمنكر ، وإلاّ يكون من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لم يقل به أحد ولا ينبغي أن يقال به.

الثاني : أنّه يعتبر في سماع الدعوى عن المدّعي أمور‌.

وقبل بيان هذه الأمور يجب أن نبيّن أنّ حقيقة الدعوى والمخاصمة لا يتحقّق إلاّ بأن تكون على نحو يوجب إلزام الخصم ـ على تقدير ثبوت ما يدّعيه في الواقع أو بالحجّة ـ بالخروج عن عهدة ما ثبت عليه ، سواء أكان ذلك الأمر الثابت عليه عينا أو دينا أو حقّا.

وبعبارة أخرى : تكون الدعوى ملزمة على الخصم أمرا حتّى يستحقّ المطالبة عنه ، ولذلك قالوا : لو ادّعي أنّه وهبني الشي‌ء الفلاني مع اعترافه بعدم قبضه ، فمثل هذه الدعوى لا تسمع ، لأنّها ليست بملزمة على الخصم شيئا ، لأنّ إنكاره يعدّ رجوعا وإن كان المدّعي صادقا في دعواه.

__________________

ح ٥١٤ ، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة ، ح ٦ ، وص ٣٠١ ، ح ٨٤٥ ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح ٥٢ ، « الاحتجاج » ص ٣٥٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٩٨ ، أبواب صفات القاضي ، باب ١١ ، ح ١.

(١) تقدّم ذكره في ص ٧٢ ، رقم (٤).

(٢) تقدّم ذكره في ص ٧١ ، رقم (١).

٨٣

وكذلك الأمر في كلّ ما يشترط صحّته بالقبض والإقباض ، كبيع الصرف والسلم ، ففي جميع هذه الموارد وما يشبهها لا تسمع الدعوى ، لأنّه على تقدير ثبوت ما يدّعيه واقعا ، أو في مقام الظاهر بحسب الدليل والحجة ، لا يكون من قبل دعواه إلزام على الخصم ، ولا يستحقّ مطالبة شي‌ء عنه ، فيكون سماع مثل هذه الدعوى ومطالبة البيّنة عن المدّعي لغوا وبلا فائدة.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ جملة من هذه الأمور التي سنذكر اعتبارها في سماع الدعوى مبنيّ على هذا الأساس.

فمنها : كونه واجدا لشرائط التكليف‌ ، مثل البلوغ والعقل ، وقد ادّعى بعضهم عليه الإجماع ، ونفى الخلاف بعض آخر ، فلا تسمع دعوى المجنون ولا الصبيّ وإن كان مراهقا مميّزا وبلغ من العقل والعلم ما بلغ ، لوجوه :

الأوّل : الأدلّة الدالّة على عدم اعتبار كلامه وأنّه مسلوب العبارة ، وللأدلّة الدالّة على رفع القلم عنه وعدم جواز أمره.

وفيه : أنّ المراد من تلك الأدلّة عدم الاعتبار بكلامه ، وعدم جواز أمره في المعاملات مستقلاّ ، وعدم نفوذ تصرّفاته في أمواله فيما إذا لم تكن بإذن الولي ، لما ورد من قبول قوله وترتيب الأثر في بعض المقامات والموارد ، كباب الوصيّة إذا بلغ عشرا ، ولما اخترناه من شرعيّة عباداته.

وأمّا أدلّة رفع القلم ، قلنا في محلّه إنّ المراد قلم الإلزام ، أي الوجوب والحرمة ، وهذا من جهة الإرفاق به.

وأمّا ادّعاء الإجماع ، فممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى ، فلذهاب جماعة إلى سماع دعوى الصبيّ المميّز المراهق في غير الماليّات ، كما إذا ادّعى جناية عليه ، أو أخذ شي‌ء منه قهرا وبالقوّة وله شهود على ذلك.

٨٤

وأمّا الكبرى ، فلأنّ المظنون ـ بل المقطوع ـ أنّ مدرك المتّفقين على فرض وجود الاتّفاق وتحقّقه هو ما ذكرنا من أدلّة رفع القلم وعدم جواز أمره وغير ذلك ممّا تقدّم ، فليس من الإجماع المصطلح.

الثاني : أصالة عدم ترتّب آثار الدعوى ـ من وجوب السماع وقبول البيّنة والإقرار وسقوطها ، أي الدعوى بحلف المنكر وغير ذلك ـ على دعواه.

وفيه : أنّ عموم « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » واف بلزوم ترتيب تلك الآثار.

الثالث : عدم سلطنة الصبي على المطالبة بذلك الشي‌ء الذي يدّعي ثبوته على الطرف ، فلا يمكن أن يكون له السلطنة على إلزام الطرف بأمر الذي من شؤونه السلطنة على مطالبته بذلك الأمر ، وإلاّ يلزم انفكاك اللازم عن الملزوم.

بيانه : أنّ حقيقة الدعوى المسموعة هي أن يكون المدّعي له السلطنة على إلزام خصمه بثبوت أمر ، من عين أو مال أو حقّ عليه ، وإن كان بتوسّط إقامة البيّنة على ذلك الأمر ، ولازم هذه السلطنة هو أن يكون له السلطنة على مطالبة ذلك الأمر ، فإذا جاء الدليل على نفي الأخيرة عن الصبي لصغره وعدم بلوغه إلى مرتبة الكمال ، فلازم نفي اللازم نفي الملزوم بالدلالة الالتزامية. هذا ما أفاده أستاذنا المحقق قدس‌سره في هذا المقام.

وفيه : أنّه لا ملازمة بين سلطنته على إلزام الخصم وإثبات أمر عليه ، وسلطنة نفسه على مطالبة ذلك الأمر ، بل تكون سلطنة المطالبة بذلك الأمر لوليّه ، وذلك كما أنّه لو اشترى الولي شيئا يصير ملكا له ، ومن شؤون الملكيّة سلطنة المالك على ملكه بأنّ له أنحاء التصرّفات المشروعة ، ولكن بالنسبة إلى الصبي ليس له هذه التصرّفات مباشرة ، بل تكون هذه السلطنة لوليّه.

فالإنصاف أنّه لو لم يكن إجماع الكلّ واتّفاقهم في البين ، لكان مقتضى القواعد الأوّلية سماع قوله ، خصوصا في غير الماليات ، كادّعائه جناية عليه إذا كان مراهقا‌ً

٨٥

ذكيّا فطنا عاقلا عالما. وأمّا حديث انصراف الأدلّة ـ مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » ـ عن الصبيّ وإن كان مراهقا ، فدعوى بلا بيّنة ولا برهان.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه على خصمه لنفسه ، أو لموكله ، أو لمن له الولاية عليه بأحد أنحاء الولايات‌. وأمّا لو لم يكن لما يدّعيه تعلّق به أصلا وكان أجنبيّا عنه ، فلا يصدق عليه المدّعي في مقابل المنكر وفي مقام المخاصمة ، وإن كان يطلق عليه المدّعي بالمعنى الأعمّ ، لأنّه بذلك المعنى الأعمّ يصدق على كلّ من ادّعى أمرا حتّى على المنكر ، لأنّه أيضا يدّعي عدم ثبوت حقّ عليه من جانب المدّعي ، وذلك من جهة أنّ المدّعي في مقام المخاصمة يطالب الطرف بأمر يدّعي ثبوته عليه ، فلا يصدق بهذا المعنى على من هو أجنبيّ عن ذلك الأمر ، وليس له أن يطالب الطرف به ، وإن كان بعد ثبوته بالبيّنة.

نعم لا بأس بأن يقال بسماع دعوى من له حقّ التصدّي في الحسبيات ، إذا كان ذلك الحقّ الذي يدّعيه راجعا إلى من له حقّ التصدّي في أموره وشؤونه ، وذلك كأموال الغيّب والقصر أو حقوقهم.

فإذا كان لأحد هؤلاء عين أو دين أو حقّ على شخص آخر ، فيكون لمن يجوز له التصدّي في أمورهم أن يدّعي على ذلك الشخص ، ويثبت عليه ذلك الأمر بالبيّنة ، ثمَّ يطالبه بما ثبت عليه حسبة. وأمّا من هو أجنبيّ محض عما يدّعيه ، فليس له أن يدّعي ، وإن ادّعى تكون دعواه لغوا لا يترتّب على قوله أثر من الآثار ، من وجوب إحضار المدّعي عليه ، ووجوب الحلف ، أو الردّ إن لم يكن للمدّعي بيّنة وطلب الحلف من خصمه.

نعم لو أقام بيّنة في المفروض يجب ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه البيّنة ، ولكن من جهة عموم حجّية البيّنة لا من جهة فصل الخصومة.

٨٦

و منها : أن يكون ما يدّعيه ممّا يصحّ تملّكه شرعا‌ ، فلا تسمع دعوى من يدّعي على خصمه كذا مقدار من الخمر ، أو عدد كذا من الخنزير ، ولو كانت الدعوى على كافر ، ولكن هذا فيما إذا كان محطّ الدعوى هي ملكيّة أحدهما ، وأمّا لو كان محطّ الدعوى هو حقّ الاختصاص للانتفاعات المحلّلة المباحة ـ مثلا الخمر الذي في يد كافر أو مسلم يدّعي أنّ له حقّ الاختصاص به لأن يخلّله أو ينتفع به منفعة محلّلة أخرى ـ فلا وجه لعدم سماع مثل هذه الدعوى.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه أمرا ممكنا عقلا وعادة ، وجائزا شرعا‌. فلو ادّعى أنّه سرق هذا منّي قبل أربعين سنة الشي‌ء الفلاني ، وعمره أقلّ من عشرين سنة مثلا ، أو ادّعى أنّه مديون لي بمبلغ فلان واستقرض منّي ، والمبلغ كثير والمدّعي فقير بحيث أنّه غير ممكن عادة إقراض هذا المبلغ الكثير ، أو يدّعي عليه مبلغا من باب الربا أو القمار ممّا لا يجوز شرعا ولا يمكن أن يكون مديونا شرعا من تلك الجهة ، ففي جميع هذه الموارد وما يماثلها لا تسمع الدعوى ، لأنّ حقيقة الدعوى عبارة عن ادّعاء ثبوت أمر ـ من مال أو حقّ ـ على من هو خصمه ، وفي هذه الموارد يكون مثل هذه الدعوى باطلا ، لعدم إمكان ثبوته إمّا عقلا أو عادة أو شرعا.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه معلوما بالنوع والوصف والقدر‌ ، وأمّا لو كان مجهولا من هذه الجهة فلا فائدة ولا ثمرة لمثل هده الدعوى.

فلو ادّعي أنّ لي عليه مالا أو ثوبا أو فرسا فلا تسمع ، وعلّلوا عدم سماع الدعوى بأنّه لو اعترف المدّعي عليه لا يثبت عليه شيئا ، لأنّ المجهول لا يثبت بما هو مجهول ، لا في الخارج ولا في عالم الاعتبار.

وفيه : أنّه لو اعترف المدّعي عليه بذلك المجهول ، أو أقام البيّنة عليه يلزم بالتفسير والتعيين نوعا ووصفا وقدرا ، كما أنّه لو أقرّ ابتداء من دون سبق دعوى بالتفسير ، فإن قبل المقرّ له فهو ، وإلاّ يحلف المقرّ على نفي الزائد ، فليكن الأمر فيما نحن فيه أيضا‌

٨٧

كذلك ، فإن أقرّ المدّعي عليه به يكون الأمر كما ذكرنا ، وإلاّ فيلزم المدّعي بالتفسير ، فإن فسّر يعمل معه ومع المدّعي عليه بقانون القضاء ، ويطبق عليه ضوابط وموازين باب المدّعي والمنكر ، وإن لم يفسّر فإن أنكر المدّعي عليه يحلف إن لم يقم البيّنة على ذلك المجهول وطلب الحلف منه ، وإن أقرّ يلزم بالتفسير ويكون الأمر كما تقدّم في الإقرار الابتدائي.

وعلى كلّ حال لا وجه لعدم سماع هذه الدعوى مع بنائهم على نفوذ الإقرار بالمجهول والوصيّة به.

نعم لو ادّعي ما يكون مجهولا مطلقا ، مردّدا بين ما له قيمة وما ليس له قيمة ـ كما إذا قال : لي عليه شي‌ء ـ يمكن أن يقال بعدم سماع هذه الدعوى.

والفرق بين الصورتين هو أنّه في الصورة الأولى لو أقرّ المدّعي بما ادّعاه يثبت عليه شي‌ء ، وهو القدر المتيقّن ممّا ادعاه ، وفي الصورة الثانية ليس قدر متيقّن ماليّ في البين ، لأنّه من الممكن بل المحتمل أن لا يكون ذلك المردد مالا ، فلا يثبت عليه شي‌ء ولو أقرّ به أو أقيمت البيّنة عليه.

هذا ، مع أنّه يلزم في باب الدعوى أن يكون ملزما على المدّعى عليه شيئا لو أقرّ به ، أو أقيمت البيّنة على ما يدّعيه.

ومنها : ما قيل بأنّ من شرائط قبول دعوى المدّعي أن تكون الدعوى صريحة في استحقاق المدّعي عينا أو مالا أو حقّا على المدّعى عليه‌ ، فلا تسمع دعواه إن قال : إنّ هذا التمر من نخلي ، أو هذا العجل من بقرتي ، أو هذا الغزل من صوفي وأمثال ذلك ؛ لأنّه لا منافاة بين كون المذكورات كما قال وعدم كونها له ، إذ من الممكن انتقالها إليه بناقل شرعي ، فأمثال هذه الدعاوي لا تدلّ على استحقاق المدّعي شيئا ، حتّى ولو أقرّ المدعى عليه بما ادّعاه المدّعي ، أو أقام المدّعي بيّنة على ما ادّعاه.

وأمّا حديث تبعيّة الفرع للأصل في الملكيّة ـ بمعنى أنّه لو أقرّ بأنّ هذا العجل من‌

٨٨

بقرة فلان ، أو هذا التمر من نخلة فلان ، فلازم هذا الإقرار إقراره بأنّ العجل لصاحب البقرة ، والتمر لصاحب النخلة ـ فلا أساس له في مقابل اليد التي هي أمارة الملكيّة.

وأمّا الفرق بين أن يقرّ بأنّ هذا الغزل من قطنك أو هذا الدقيق من حنطتك ، وبين أن يقرّ بأنّ هذا العجل من بقرتك أو هذا الغلام من أمتك بأنّه في الصورة الأولى إقرار بأنّ هذا الغزل لصاحب القطن وأنّ هذا الدقيق لصاحب الحنطة ، بخلاف الصورة الثانية ، فإنّه ليس إقرارا بأنّ العجل لصاحب البقرة والغلام لصاحب الأمة ، وذلك لأنّ الدقيق والغزل عين الحنطة والقطن ، بخلاف العجل فإنّه ليس عين البقرة وكذلك الغلام ليس عين الأمة.

فلا يخلو من تأمّل وإشكال ، وذلك لأنّه وإن كان الدقيق عين الحنطة ، والغزل عين القطن خارجا ، بخلاف العجل والغلام إلاّ أنّ هذا المقدار من الفرق لا يؤثّر في المقام ، إذ المقرّ مأخوذ بظاهر كلامه ، وصرف الاحتمال على خلاف ما هو ظاهر الكلام لا يضرّ بحجّية ظهوره في كونه كاشفا عن مراده ، فلا بدّ وأن ينظر إلى ظاهر هذه الدعاوي ، وهل لها ظهور في استحقاق المدّعي شيئا على المدّعى عليه أم لا؟

فنقول : أمّا الصورة الثانية ، أي ما كان لهما وجودان وملكيّة أحدهما لا يلازم ملكيّة الآخر ، بل يمكن أن يكون الأصل له دون الفرع ، وكذلك العكس ، فقوله هذا الغلام متولّد من جاريتي ، أو هذا العجل من بقرتي ، ظاهر في أنّ الأصل له في حال إنشاء الدعوى ، ولا ظهور لهذا الكلام أنّ الفرع أيضا له ، إلاّ أن ينضم إلى قوله : ولم ينتقل الفرع إلى غيري بناقل شرعي مطلقا وهو لي.

ومنها : ما قيل : إنّ من شرائط سماع دعوى المدّعي أن يكون له خصم في مقابله ، ينازعه ويخاصمه وينكر ما يدّعيه‌ ، وإلاّ لو لم يكن له خصم في البين ويريد إصدار الحكم فعلا ليقطع النزاع المحتمل فيما سيأتي ـ لأنّه لو وقع النزاع فيما بعد ربما لا يتمكّن من إثبات دعواه في ذلك الزمان ، لفقد البيّنة الموجودة عنده الآن في ذلك الوقت ، أو‌

٨٩

لجهة أخرى ـ فلا تسمع.

وأمّا تمسّك القائل بهذا الشرط ولزوم وجود الخصم حين سماع الدعوى بأنّ أدلّة القضاء والحكم وكذلك تعيين الوظيفة لكل واحد من المدّعي والمنكر ، كلّ ذلك في مورد المخاصمة ووقوع النزاع ، ولقطع النزاع والمخاصمة بين الطرفين ، فإن لم يكن نزاع ومخاصمة لا يبقى مورد لسماع دعوى المدّعي والحكم له على طبق بيّنته ، لأنّ هذه الأمور شرعت لدفع المخاصمة وقطع النزاع.

وفيه : أنّه بعد الفراغ عن عموم حجّية البيّنة وجعل المجتهد العادل المتّصف بكذا وكذا حاكما ، وعدم تقييد حكومته بمورد المخاصمة وقطع النزاع وإن كان ذلك حكمة جعله ، فالبيّنة أمارة شرعيّة بالنسبة إلى ما يدّعيه المدّعي ، وكذلك الحكم. فيثبت ما حكم به الحاكم حتّى في الأزمنة المتأخّرة.

نعم لا يجب على الحاكم سماع مثل تلك الدعوى ، والحكم بتلك البيّنة ، لأنّ وجوبها في موارد المخاصمة كما قال.

ومنها : أنّه يشترط في وجوب سماع دعوى المدّعي كون دعواه عن بت وجزم ، فلو كان ادّعاءه بصرف الاحتمال وهما أو شكا بل ولو ظنا لا يقبل ، وحكى في الجواهر عن الكفاية نسبة القول ـ باشتراط وجوب سماع الدعوى بهذا الشرط ـ إلى الشهرة (١) ‌،

وقيل في وجهه وجوه :

الأوّل : عدم صدق المدّعي عرفا على من لم تكن دعواه عن بتّ وجزم ، وذلك لما ذكرنا في تعريف المدّعي بأنّه من يدّعي ثبوت أمر على خصمه ، ومعلوم أنّ ادّعاء الثبوت غير احتمال الثبوت وإن كان الاحتمال ظنيّا.

الثاني : أنّه لو ادّعى وهما أو شكّا أو ظنّا ، وقلنا بوجوب السماع ، فيجب الحكم‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٤٠ ، ص ١٥٣ ، « كفاية الأحكام » ص ٢٦٦.

٩٠

بنكول المنكر عليه أو مع يمين المدّعي ، وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك. أمّا بناء على وجوب الحكم على المنكر بصرف نكوله وعدم حلفه ، فمن جهة أنّ المدّعي يشكّ في استحقاقه على الفرض ، فلا يجوز له الأخذ بعد الحكم ، فيكون الحكم لغوا ، فيكون السماع لا فائدة فيه بل لا معنى له.

وأمّا بناء على أنّ الحكم بثبوت الحقّ على المنكر بعد عدم البيّنة ونكوله عن الحلف متوقّف على يمين المدّعي ، ففيه مضافا إلى عدم جواز الأخذ عدم جواز حلفه ، لأنه لا حلف إلاّ عن بتّ ، ففي كلا الشقّين يكون الحكم لغوا.

الثالث : أنّه في الدعاوي الصحيحة المنكر ، له الخيار بين أن يحلف أو يردّ إلى المدّعي ، وفي المقام لا يمكن الردّ ، لعدم علم المدّعي بثبوت الحقّ ، فلا يجوز له أن يحلف فلا وجه للردّ. والعمدة فيما ذهب إليه المشهور ـ من اشتراط سماع الدعوى إلى كونها عن بتّ وجزم ـ هو الوجه الأوّل ، أي عدم كونه مدّعيا عرفا إلاّ مع الجزم في دعواه ، وإلاّ فبصرف أن يقول : احتمل أن يكون فلان مديون لي بكذا ـ أو احتمل أن يكون عين مالي الفلاني عنده ـ لا يصدق عند العرف أنّه مدّع وطرفه منكرا ، ويكون مدّعى عليه.

وأمّا الوجه الثاني والثالث فضعفهما واضح ، إذ عدم إمكان ترتّب بعض آثار الدعاوي الصحيحة على الدعوى غير الجزمي لا يوجب عدم سماعها ، وعدم ترتيب الآثار الممكنة.

وأمّا التفاصيل المنقولة في هذه المسألة عن جماعة من الأساطين قدس سرّهم من وجوب السماع في مورد التهمة دون غيره ، أو في صورة الظنّ دون الوهم والشكّ ، أو السماع فيما يعسر الاطّلاع عليه دون غيره ، أو السماع في صورة احتمال صدور الإقرار من الطرف ، أو وجود البيّنة للمدّعي دون غيرها ، فكلّها ممّا لا وجه لها ، وما ذكروها في وجه هذه التفاصيل لا يمكن الركون إليها.

٩١

نعم ذكر صاحب الجواهر قدس‌سره (١) في وجه التفصيل بين مورد التهمة وبين غيره ـ أي فيما إذا اتّهم المدّعي المنكر ـ أخبارا مؤيّدا لما ذهب إليه من الإحالة إلى العرف في وجوب السماع ، بمعنى أنّ العرف هل يرون مثل هذه الدعوى من الدعاوي المقبولة عندهم ، أم لا يعتنون بها؟

وهذه الأخبار هي خبر بكر بن حبيب ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه ، قال عليه‌السلام : « إن اتّهمته فاستحلفه ، وإن لم تتّهمه فليس عليه شي‌ء » (٢).

وأيضا خبره الآخر عنه عليه‌السلام : « لا يضمن القصّار إلاّ ما جنت يده وإن اتّهمته أحلفته » (٣).

وخبر أبي بصير عنه عليه‌السلام أيضا : « لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين ، فيخوف بالبيّنة ويستحلف ، لعلّه يستخرج منه شيئا » (٤).

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأخبار مفادها استحلاف المدّعي ، لا المنكر الذي هو محلّ كلامنا. وإن شئت قلت : يد القصار والحائك والصائغ يد أمانة ، والتلف عندهم لا يوجب الضمان إلاّ إذا اتّهمهم بالإتلاف أو بالتعدّي والتفريط في حفظه فله أن يستحلفهم ، وهذا المعنى أجنبي عن محلّ كلامنا الذي هو عبارة عن إحلاف المنكر مع‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٤٠ ، ص ١٥٤.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٢٢١ ، ح ٩٦٦ ، باب الإجارات ، ح ٤٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٧٥ ، أبواب كتاب الإجارة ، باب ٢٩ ، ح ١٦.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٢٢١ ، ح ٩٦٧ ، باب الإجارات ، ح ٤٩ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٣٣ ، ح ٤٨١ ، باب الصانع يعطى شيئا ليصلحه. ، ح ١٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٧٥ ، أبواب كتاب الإجارة ، باب ٢٩ ، ح ١٧.

(٤) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٢١٨ ، ح ٩٥١ ، أبواب كتاب الإجارات ، ح ٣٣ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٥٧ ، ح ٣٩٢٨ ، باب ضمان من حمل شيئا. ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٧٤ ، أبواب كتاب الإجارات ، باب ٢٩ ، ح ١١.

٩٢

كون الدعوى غير جزميّة وعدم البيّنة لذلك المدّعي.

وأمّا ما اختاره صاحب الجواهر قدس‌سره خلافا للمشهور في هذه المسألة من إحالته إلى العرف وأنّهم إذا رأوها من الدعاوي المقبولة تقبل ويجب سماعها.

ففيه : أنّه بعد ما حكم الشارع بأنّ البيّنة وظيفة المدّعي ، والحلف وظيفة المنكر ، ففي تشخيص المدّعي والمنكر المرجع هو العرف.

وبعد ما عرفنا أنّ المدّعي عند العرف عبارة عمّن يخبر جزما بثبوت أمر له على خصمه وطرفه ، فإن لم يكن إخباره عن بتّ وجزم ، بل قال : احتمل أن يكون لي علىّ فلان كذا ، فلا يكون مشمولا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر ».ففي مثل هذه الصورة قول العرف ـ بأنّها من الدعاوي المقبولة ـ لا أثر له ، ولا يوجب وجود موضوع وظيفة البيّنة واليمين.

وأمّا ما أفاده أستاذنا المحقّق قدس‌سره في كتاب قضائه من سماع الدعوى الاحتمالي إذا قام أمارة على تهمة المدّعى عليه ، إذ العرف يسمعون مثلها ، وبناؤهم متّبع ما لم يردعهم الشارع ولم يثبت ذلك ، بل ثبت خلافه ، لخبري حبيب بن بكر ، وخبر أبي بصير الذين تقدّما.

ففيه : أنّ بناء العرف على سماع الدعوى غير الجزمي في مورد اتّهام المدّعى عليه ليس متّبعا شرعا إن لم ينطبق عليها موازين القضاء ، وقد عرفت عدم انطباقها عليها.

وأمّا إمضاء الشارع لبنائهم بتلك الأخبار ، فقد عرفت أنّها أجنبيّة عن مقامنا ، إذ أنّها تدلّ على استحلاف مدّعي التلف مع اتّهامه ، ولا ربط لها باتّهام المدّعى عليه الذي هو محلّ الكلام.

ومنها : تعيين المدّعى عليه‌ ، فلو قال : أحد هذين ، أو أحد هؤلاء الأشخاص مديون لي بكذا ، لا تسمع ، لأنّه لا أثر لهذه الدعوى لو قامت البيّنة ، أو أقرّا بما ادّعى عليهما بنحو الترديد ، إذ ثبوت الحقّ عليهما بنحو الترديد لا يمنع عن البراءة في حقّ كلّ‌

٩٣

واحد منهما ، لشكّ كلّ واحد منهما في اشتغال ذمّته.

ولا يقاس بما إذا علم أو أقام الدليل المعتبر على كونه مديونا لأحد شخصين أو لأحد الأشخاص ، لأنّه هناك يعلم باشتغال ذمّته ، فيجب عليه بحكم العقل تفريغ ذمّته بالجمع بين المحتملات ، ولكن حيث أنّه ضرر فإمّا أن يقرع أو يقسّم بينهما ثنائيا إن كانا اثنين ، وثلاثيا إن كانوا ثلاثة ، وهكذا بقاعدة العدل والإنصاف التي هي قاعدة معتبرة عند العقلاء.

وأمّا فيما نحن فيه فليس إلاّ الشكّ في اشتغال الذمّة بالنسبة إلى كلّ واحد منهما ، ومعلوم أنّه مجرى البراءة.

وأمّا ما يقال من أنّ إجراءهما يكون ضررا على ذلك الشخص الذي يكون له الحقّ على أحدهما المردّد ، فلا بدّ من أن يقرع بينهما أو يقسّم ، كما قلنا فيما إذا يعلم باشتغال ذمّته لأحدهما.

ففيه : أنّه كلّ واحد منهما يجري البراءة مستقلاّ ، وليست براءته وتكليفه مربوطا بتكليف الآخر وبراءته ، ولا يلزم من إجراء برأيه كلّ واحد منهما العلم بضرر ذلك الشخص.

نعم يحتمل ذلك ، ولكن هذا المعنى ـ أي : احتمال ضرر الغير من إجراء البراءة في الماليّات والحقوق ـ موجود في جميع موارد الشبهة البدويّة ، ولم يحتمل أحد عدم جريان البراءة في الحقوق والماليّات في الشبهات البدويّة لأجل هذا الاحتمال.

والإنصاف أنّ هذه الدعوى مرجعها إلى دعويين احتماليتين ، كلّ واحدة منهما متّجهة إلى أحدهما ، وقد عرفت الحال في الدعوى غير الجزمي ، أي الاحتمالية.

ومنها : أنّه لا يشترط في سماع الدعوى حضور المدّعى عليه‌ ، بل تسمع وإن كان غائبا ، بأن يكون في خارج البلد ، أو كان مسافرا على المشهور وادّعى بعضهم عليه الإجماع ، وتدلّ عليه أخبار :

٩٤

منها : مرسل جميل : « الغائب يقضى عليه إذا أقامت عليه البيّنة ، ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم. قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلاّ بكفلاء » (١).

ومثله خبر محمّد بن مسلم و

زاد : « إذا لم يكن مليّا » (٢)

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهند زوجة أبي سفيان بعد ما ادّعت أنّ أبا سفيان رجل شحيح وأنّه لا يعطيها ما يكفيها وولدها : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » (٣).

ومنها : خبر أبي موسى الأشعري : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حضر عند خصمان فتواعد الموعد فوفى أحدهما ولم يف الآخر ، قضى للذي وفى على الذي لم يف ، اي : مع البيّنة (٤).

ومقتضى الأصل الأولى وإن كان عدم نفوذ الحكم فيما شكّ في نفوذه ، سواء أكان منشأ الشكّ من ناحية المدّعي لفقد ما يحتمل اعتباره فيه وجودا أو عدما ، أو من ناحية المنكر لما ذكر ، أو من ناحية ما يدّعيه المدّعي.

ولكن مقتضى إطلاق قوله عليه‌السلام : « رجل قضى بالحقّ وهو يعلم » (٥) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (٦) هو نفوذ الحكم إذا صدق عليهما عرفا المدّعي والمنكر ، وكان الحكم حقّا ومما أنزل الله ، فالعمدة في نفوذ الحكم هو صدق‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٩٦ ، ح ٨٢٧ ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح ٣٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢١٦ ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب ٢٦ ، ح ١.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ١٩١ ، ح ٤١٣ ، باب الديون وأحكامها ، ح ٣٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢١٦ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٢٦ ، ح ١.

(٣) « صحيح مسلم » ج ٣ ، ص ٥٤٩ ، كتاب الأقضية ، باب ٤ ، ح ٧ ، « سنن ابن ماجه » ج ٢ ، ص ٧٦٩ ، ح ٢٢٩٣ ، « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٤٠٣ ، ح ٥٩.

(٤) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤ ، ح ٣٢٢١ ، باب أصناف القضاة.

(٥) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤٠٧ ، باب أصناف القضاة ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢١٨ ، ح ٥٣ ، باب من اليه الحكم وأقسام القضاة ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١١ ، أبواب صفات القاضي ، باب ٤ ، ح ٦.

(٦) تقدّم تخريجه في ص ٧١.

٩٥

المدّعي والمنكر على المتخاصمين عرفا ، وأن يكون الحاكم ـ أي المجتهد الجامع للشرائط ـ حكم بحكمهم عليهم‌السلام إلاّ أن يدلّ دليل خاصّ على اعتبار أمر آخر ، من حضور المدّعى عليه في مجلس الحكم وعدم غيابه ، أو السؤال عنه بعد إقامة المدّعي للبيّنة ، وأمثال ذلك.

وفيما نحن فيه ـ أي جواز الحكم على الغائب ـ لا دليل على اعتبار الحضور ، بل ظاهر الأخبار المتقدّمة صحّة الحكم ونفوذه على الغائب. ولا ينافي النفوذ قوله عليه‌السلام في ذيل مرسل جميل ، وخبر محمّد بن مسلم : « ويكون الغائب على حجّته إذا قدم » (١) لأنّ المراد من النفوذ هو لزوم العمل على طبقه ما لم ينهدم بحجّة أخرى ، كما لو أقام بيّنة على أداء دينه أو على انتقاله إليه بناقل شرعي مثلا.

نعم يبقى الكلام في أنّ مفاد هذه الأخبار هل هو جواز الحكم على الغائب مطلقا بصرف غيابه عن مجلس الحكم ، ولو كان في البلد وكان متمكّنا عن الحضور ، امتنع أو لم يمتنع ، أو في خصوص ما إذا امتنع عن الحضور؟ أو في خصوص الغائب الذي لم يتمكّن من الحضور؟ أو في خصوص الغائب عن البلد ، سواء أكان مسافرا بالسفر الشرعي أو لم يكن كذلك؟ أو في خصوص ما إذا كان مسافرا شرعا ، سواء أكان متمكّنا من الحضور أو لم يكن؟ أو في خصوص ما إذا لم يتمكن؟ بمعنى أنّه يكون مسافرا ولا يكون متمكّنا من الحضور ، وفي جميع هذه الشقوق هل جواز الحكم فيما قلنا بجوازه مقيّد بإعلامه وامتناعه عن الحضور أو مطلقا؟ احتمالات بل أقوال.

القدر المتيقّن من جواز الحكم عليه ونفوذه ، هو عدم حضوره بعد إعلامه وتمكّنه من الحضور مع كونه في البلد ، أو كان مسافرا وأعلم لكن كان غير متمكّن من الحضور. وظاهر خبر محمّد بن مسلم ومرسل جميل هو أن يكون الغائب الذي يقضى عليه مسافرا ، لقوله عليه‌السلام : « ويكون الغائب على حجّته إذا قدم » لكنّهما مطلقان من‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٩٥ ، رقم ( ١ و ٢ ).

٩٦

جهات أخر ، أي من حيث التمكّن من الحضور وعدمه ، ومن حيث الإعلام وعدمه ، ومن حيث كونه مسافرا شرعيّا ، أو ولم يكن بالغا مسافرته إلى حدّ المسافة الشرعيّة.

وأمّا في قضيّة هند زوجة أبي سفيان ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خذي ما يكفيك وولدك » فالظاهر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في مقام بيان الحكم الشرعي ، وأنّه يجوز لها الأخذ بقدر كفايتها وكفاية ولدها ، لا في مقام الحكم بين المتخاصمين.

وأمّا خبر أبي موسى الأشعري ، فظاهرها الحكم على الممتنع المتخلّف عن موعده ، لا أن يكون غائبا عن البلد.

وخلاصة الكلام : أنّ مفاد هذه الأخبار جواز الحكم إمّا على المسافر الخارج عن البلد ، أو على الممتنع عن الحضور المتخلّف عن موعده.

وأمّا الاستدلال على جواز الحكم على الغائب بأنّه عدم الجواز مع قيام البيّنة ربما يوجب الضرر الكثير على المدّعي ، فهذا وأمثاله من الاستحسانيّات لا يمكن أن يكون مدركا ولا ملاكا للحكم الشرعي ، لأنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، فالعمدة هي الروايات وقد عرفت حالها ومفادها وأنّه يجوز الحكم على الغائب في موردين ، الممتنع المتمكّن ولو كان في البلد ، والمسافر مطلقا.

نعم يظهر من مرسل جميل وخبر محمّد بن مسلم أنّ المال الذي يؤخذ من الغائب لا يعطى للمدعي إلاّ بكفلاء إذا لم يكن مليّا ، وذلك من جهة أنّه من الممكن أنّه بعد قدومه يثبت بالبيّنة أو بأمارة أخرى عدم اشتغال ذمّته بشي‌ء ، فإذا لم يكن مليّا فربما يضيع ماله.

ثمَّ إنّه قد يستدلّ لعدم جواز الحكم على الغائب مطلقا برواية أبي البختري : « لا يقضي على غائب » (١).

__________________

(١) « قرب الإسناد » ص ٦٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢١٧ ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب ٢٦ ، ح ٤.

٩٧

وفيه : أنّ هذه الرواية بإطلاقها معرض عنها عند الجميع ، مع أنّه من المحتمل جدّا أن يكون المراد من عدم القضاء للغائب ونفيها هو أن يكون القضاء بنحو البتّ ، بحيث لا يكون الغائب على حجّته.

مضافا إلى ما في سنده من الضعف ، لأنّ راويه أبو البختري وهب ابن وهب كان كذّابا ، بل قيل في حقّه إنّه من أكذب البريّة.

والمراد من أنّ الغائب على حجته هو أنّ له إذا قدم أو حضر الاعتراض على الحاكم بعدم كونه أهلا للحكم ، أو جرح شهود الحكم ، أو إقامة بيّنة معارضة لبيّنة المدّعي ، وأمثال ذلك ممّا يوجب عدم تأثير الحكم الصادر حال غيابه.

ثمَّ أنّه هل جواز الحكم على الغائب مخصوص بحقوق الناس ، أو يجوز الحكم عليه في حقوق الله أيضا ، كإقامة البيّنة على أنّه شرب الخمر ، أو زنى أو لاط مثلا؟

ذهب المشهور إلى الاختصاص لقاعدة درء الحدود بالشبهات ، فمن الممكن أن يكون للغائب ما يدرأ عنه الحدّ.

نعم لو كانت الدعوى ذات جهتين ـ كالسرقة ـ فهل يجوز مطلقا ، أو لا كذلك ، أو التفصيل والتفكيك بين الجهتين؟ فالجواز بالنسبة إلى جهة حقّ الناس والعدم بالنسبة إلى حقّ الله احتمالات :

والحقّ هو الأخير ، أي التفكيك بين حقّ الناس وحقّ الله في عالم الإثبات ، ففي مثل السرقة لو شهدت البيّنة على أنّه سرق المال الفلاني مع كونه غائبا ، فجواز الحكم عليه بالنسبة إلى غرمه للمال ، وأمّا بالنسبة إلى القطع فلا. أمّا الجواز بالنسبة إلى الغرم فللأدلّة الدالّة على جواز الحكم على الغائب ، وأمّا العدم بالنسبة إلى القطع فلما قلنا من أنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، وإنّ حقّ الله مبنيّ على التخفيف لغنائه تعالى عن استيفائه.

٩٨

ولكن تردّد في هذا التفكيك في الشرائع (١) لأجل كون المحققين معلولين لعلّة واحدة ، وهي قيام البيّنة على السرقة ، فلا يمكن التفكيك بينهما.

وفيه : أنّ كونهما معلولين لعلّة واحدة ممنوع ، فإنّه من الممكن كون الغرم معلولا لقيام البيّنة على السرقة مطلقا ، سواء أكان المشهود عليه حاضرا أو كان غائبا ، وأمّا القطع فمعلول له بشرط حضور المشهود عليه ، فلا يلزم التفكيك بين معلولي علّة واحدة كما توهّم.

هذا مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ الملازمة بينهما في مقام الثبوت وإن كانت ثابتة ولا ينكر ، ولكن في مقام الإثبات لا مانع من التفكيك بينهما ، لأنّه ربما يكون دليل الإثبات وافيا لإثبات إحدى الجهتين دون الجهة الأخرى ، وله نظائر كثيرة في الفقه ، كما أنّه في نفس هذا المورد ، أي السرقة لو أقرّ مرّة يثبت الغرم دون القطع ، لأنّ إثبات السرقة من حيث موضوعيّتها للقطع لا يكون إلاّ بالبيّنة أو الإقرار مرّتين ، ولكن إثباتها من حيث الغرم يكفي فيه الإقرار مرّة واحدة.

الجهة الثالثة

في موارد تخصيص هذه القاعدة‌

وحيث أنّها مركّبة من كلّيتين :

إحديهما جملة « كلّ من هو مدّع في مقام المخاصمة فعليه البيّنة لإثبات دعواه ».

ثانيهما « كلّ منكر وظيفته اليمين » فقد ذكروا لكلّ واحدة من الجملتين مخصّصات.

فللجملة الأولى ذكروا مخصّصات :

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٤ ، ص ٧٣.

٩٩

منها : أنّ الأمين مطلقا ـ سواء أكانت أمانته شرعيّة أو مالكيّة ـ إذا ادّعي التلف لما في يده ، ليس عليه البيّنة ، بل يقبل قوله‌ ، وليس عليه إلاّ اليمين إذا ادّعي عليه الإتلاف ، ويكون مخصّصا لقاعدة « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بالنسبة إلى جملتها الأولى.

وفيه : أنّه قد تقدّم في الجزء الثاني من هذا الكتاب في شرح قاعدة عدم ضمان الأمين (١) نفي ضمان اليد عن الأمين مطلقا ، سواء أكانت الأمانة شرعيّة أو مالكيّة ، لأنّ يده يد المأذون من قبل المالك ، أو من قبل الشارع ، فالتلف في يده لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط ، أو يكون إتلافا من قبل ذي اليد من دون إذن المالك في الإتلاف ، فالموجب لضمان الأمين أحد الأمرين : إمّا إتلافه لما في يده ، أو التعدّي والتفريط منه. والأصل عدمهما ، فلا بدّ للمالك المدّعي لضمانه من إثبات أحد الأمرين ، فيكون المالك مدّعيا للضمان والأمين منكر.

وإن شئت قلت : إنّ المالك يدّعي أحد الأمرين : إمّا التعدّي والتفريط ، وإمّا الإتلاف ، فعليه البيّنة على ذلك. وإن لم يكن له بيّنة فله أن يحلف الأمين المنكر على عدم صدور كلا الأمرين منه على قول ، وعلى القول الآخر لا شي‌ء على الأمين إلاّ أن يقيم المالك البيّنة على صدور أحد الأمرين منه ، فلا تخصيص في هذا المورد لكلتا الجملتين ، بل الحكم في الأمين على طبق كلتاهما.

ومنها : دعوى الودعيّ ردّ الوديعة إلى مالكها مع إنكار المالك‌ ، فالمشهور قائلون بقبول قوله من غير أن تكون عليه البيّنة ، مع أنّهم لا يقولون بذلك في سائر الأمانات المالكيّة ، وإذا ادّعى المستعير ردّ ما استعاره لا يقبل قوله بدون البيّنة ، وكذلك المستأجر لو ادّعى ردّ ما استأجره ، أو المرتهن ادّعى ردّ العين المرهونة ، أو الوكيل لو ادّعى ردّ ما وكلّ في بيعه مثلا ، لا تقبل دعوى جميعهم إلاّ بالبيّنة ، فيكون قبول قول الودعي بدون‌

__________________

(١) « القواعد الفقهية » ج ٢ ، ص ٧.

١٠٠