القواعد الفقهيّة - ج ٣

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٥٢

١
٢

٣
٤

فهرس الإجمالي

٢٦ ـ قاعدة عموم حجّية البيّنة............................................... ٧

٢٧ ـ قاعدة إقراء العقلاء ................................................. ٤٣

٢٨ ـ قاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ........................ ٦٩

٢٩ ـ قاعدة كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين ............................ ١٠٩

٣٠ ـ قاعدة العقود تابعة للقصود ........................................ ١٣٣

٣١ ـ قاعدة انحلال العقود .............................................. ١٥٧

٣٢ ـ قاعدة الإلزام .................................................... ١٧٧

٣٣ ـ قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات .................... ٢٠٧

٣٤ ـ قاعدة المؤمنون عند شروطهم ...................................... ٢٤٧

٣٥ ـ قاعدة التسامح في أدلّة السنن ..................................... ٣٢٥

٥
٦

٢٦ ـ قاعدة

عموم حجّية البيّنة

٧
٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخير بريته ، سيّد الأوّلين والآخرين ، محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

قاعدة عموم حجّية البيّنة *

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « حجيّة البيّنة ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في الدليل على اعتبارها‌

فنقول : لا شكّ في أنّ المراد من البيّنة في هذه القاعدة هو شهادة عدلين ، فكلّ دليل نأتي به على اعتبارها لا بدّ وأن يكون مفاده حجّية البيّنة بهذا المعنى ، لا بمعنى آخر.

__________________

(*) « القواعد والفوائد » ج ١ ، ص ٤٠٥ ، « عوائد الأيام » ص ٨٨ و ٢٧٣ ، « عناوين الأصول » عنوان ٨٢ ، « خزائن الأحكام » ش ٤٠ ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج ١ ، ص ٤٦١ ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج ٤ ، ص ٤٦.

٩

فنقول أوّلا : ما هو معنى البيّنة لغة وعرفا؟

ولا شكّ في أنّها صفة مشبّهة من بان ، فإذا كان موصوفها مذكّرا يقال : هو بيّن ، وإذا كان مؤنّثا يقال : هي بيّنة ، فهو كسيّد وسيّدة من سادَ.

وحيث أنّ موصوفها هي الحجّة ، فيقال : إنّها بيّنة ، أي حجّة واضحة لا سترة ولا خفاء فيها ، وهي بهذا المعني تكون مرادفة للبرهان.

وقد استعمل بهذا المعني في خمسة عشر موضعا من القرآن العظيم ، وقد عبر فيه عن المعجزتين اللتين لموسى عليه‌السلام تارة بكلمة « برهان » ( وأخرى ) بلفظة « البيّنة » في قوله تعالى ( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ ) (١) وفي قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه‌السلام ( قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢) إلى قوله تعالى ( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ ) (٣) فمعني هذه الكلمة لغة وعرفا هي الحجّة الواضحة ، والبرهان أي : ما يوجب اليقين.

ولكن الظاهر أنّها في لسان الشرع عبارة عن شهادة عدلين على أمر ، وهذا المعنى ـ بعد حكم الشارع باعتبارها وبعد أن جعلها أمارة وحجّة ـ تكون من مصاديق الحجّة الواضحة بناء على أنّ حجّية الأمارات من باب تتميم الكشف في عالم الاعتبار التشريعي ، فتبادر هذا المعنى في لسان الشرع يرجع إلى انصراف المفهوم الكلّي إلى بعض مصاديقه ، ولذلك لم يحتمل أحد من الفقهاء في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (٤) أو في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و‌

__________________

(١) القصص (٢٨) : ٣٢.

(٢) الأعراف (٧) : ١٠٥.

(٣) الأعراف (٧) : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٤) « عوالي اللئالى » ج ٢ ، ص ٣٤٥ ، ح ١١ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٣٦٨ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٣ ، ح ٤.

١٠

الأيمان » (١) أن يكون مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير هذا المعنى ؛ لأنّ اليد تكون أمارة شرعية إمضائيّة لما عند العقلاء.

فإذا ادّعى أحد على صاحب اليد فتكليفه بالبيّنة لا يفهم منه إلاّ شهادة عدلين ، وإلاّ لو كان المراد منها مطلق الحجّة ، فلو كان سابقا ملكا للمدّعي فاستصحاب ملكيّته حجّة له بناء على اعتبار الاستصحاب ـ كما هو كذلك ـ فلا يحتاج إلى حجّة أخرى ، ففهمهم شهادة شاهدين من ذلك الكلام دليل على انصراف البيّنة إلى ما هو المتبادر منها في تلك الأذهان وهو شهادة عدلين ، وإلاّ لو كان مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلق الحجّة فالمنكر هو الذي يكون قوله مطابقا للحجّة الفعلية ، فلا يبقي مجال لهذا التفصيل بين المدعي والمنكر ، بل تكون لكلّ واحد منهما الحجة.

فإذا عرفت ما هو المتبادر من لفظة « البينة » في الأحاديث الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام. فنقول :

استدلّوا لحجية البينة بالمعنى المذكور بأمور :

الأوّل : رواية مسعدة بن صدقة « كلّ شي‌ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع ، أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة » (٢).

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٤ ، باب أنّ القضاء بالبينات والأيمان ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٢٩ ، ح ٥٥٢ ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح ٣ ، « معاني الأخبار » ص ٢٧٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٦٩ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٢ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٣١٣ ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ح ٤٠ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٢٢٦ ، ح ٩٨٩ ، باب من الزيادات ، ح ٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٦٠ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٤ ، ح ٤.

١١

وبعد ما عرفت من أنّ المتبادر من لفظة « البينة » في الروايات هو شهادة شاهدين ، فدلالة هذه الرواية على عموم حجّيتها في كلّ موضوع وعدم اختصاصها بباب القضاء واضحة ، إذ الجمع المعرّف باللام يفيد العموم ، مضافا إلى تأكيد كلمة « الأشياء » بكلمة « كلّها ».

فمعني الرواية أنّ جميع الأشياء ، أي الموضوعات الخارجيّة على ذلك ، أي الحلّية إلى أن تعرف بالعلم الوجداني حرمتها أو بالبيّنة ، فجعل عليه‌السلام قيام البيّنة بمنزلة العلم في حصول غاية الحكم بالحلّية في جميع الأشياء ، سواء أكان في باب القضاء أو غيرها.

وأورد على الاستدلال بهذه الرواية على عموم حجّية البيّنة في جميع الموضوعات بايرادات :

الأوّل : عدم اعتبارها ، لأنّ راويها مسعدة عامّي ولم يوثّقوه.

وفيه : أنّ عمل الأصحاب بها يوجب الوثوق بصدورها ، وموضوع الحجّية هو خبر الموثوق الصدور ، لا خبر الثقة.

الثاني : أنّ المراد بقوله عليه‌السلام « حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » العلم والعلمي ، فيحتاج إثبات أنّ البيّنة ـ أعني شهادة عدلين ـ دليل علمي في جميع الموضوعات ، سواء أكان في باب القضاء أو غير القضاء إلى دليل آخر غير هذه الرواية.

وفيه : أنّه وإن تقدّم أنّ لفظة « البيّنة » معناها لغة هي الحجّة الواضحة ولعلّه عرفا أيضا كذلك ، فلو كان المراد في هذه الرواية هذا المعنى فهو كما توهّم ويحتاج إثبات أنّ البيّنة بمعنى شهادة عدلين من الحجّة الواضحة إلى دليل آخر غير هذه الرواية.

ولكن قلنا إنّ هذه الكلمة بواسطة كثرة الاستعمال في شهادة اثنين على موضوع عند العرف صارت منقولا عرفيا ، وإن أنكرت كونها منقولا عرفيا فلا يمكن إنكار أنّها منقول شرعي ، لما قلنا من أنّها في لسان الشارع ظاهرة في شهادة عدلين. مضافا إلى‌

١٢

أنّها لو كان المراد منها مطلق الحجّة الواضحة يلزم أن يكون قسم الشي‌ء قسيما له ، لوضوح أنّ الاستبانة ـ أي العلم ـ قسم من الحجّة الواضحة ، بل أعظم وأجلى مصاديقها.

الثالث : أنّ البيّنة في هذه الرواية جعلت غاية للحلّ ، فكأنّه قال عليه‌السلام : كلّ شي‌ء لك حلال حتّى تعلم حرمته أو تقوم البيّنة على حرمته ، ولا تدلّ إلاّ على حجّية البيّنة لإثبات حكم الحرمة ، لا إثبات الموضوعات كخمريّة مائع ، أو كرية ماء ، أو اجتهاد زيد أو عدالته ، وأمثال ذلك من الموضوعات ، بل لا تدلّ على حجّيتها لإثبات سائر الأحكام الجزئية كنجاسة ذلك الشي‌ء ، أو ملكيّته لفلان ، أو زوجيّة فلانة لفلان وأمثال ذلك ، والمدّعي هو عموم حجّيتها في جميع الموضوعات.

وفيه : أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي من هذه الرواية هو أنّ الحرمة لا تثبت باحتمال ما هو موضوع الحرمة ، بل لا بدّ من العلم بالموضوع وأنّه سرقه أو هي رضيعة ذلك الشخص ، وأمثال ذلك مثل أنّه ميتة أو خمر أو غير ذلك ، أو أن تقوم البيّنة على ذلك الموضوع ، أي يحتاج إثبات الحرمة وارتفاع الحلّية على إثبات ما هو موضوع الحرمة ، والمثبت للموضوعات إمّا العلم أو البيّنة ، فجعل عليه‌السلام البيّنة عدلا للعلم.

وحيث أنّ حجّية العلم ذاتيّة فلا يحتاج إلى جعل تشريعي ، بل لا يمكن ذلك ، ولكن البيّنة ليست كذلك ، فيحتاج حجّيتها وأماريّتها إلى الجعل ، فلمّا حكم الشارع بكونها لإثبات الموضوعات مثل العلم يستكشف أنّها حجّة وأمارة لإثباتها ، فيثبت بها الموضوعات ، فيترتّب عليها جميع أحكامها من الحرمة والنجاسة والطهارة والملكيّة والزوجيّة وغيرها ، فإذا شهدت البيّنة بعدالة شخص فيجوز الصلاة خلفه والطلاق عنده ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام.

وبعبارة أخرى : ظاهر قوله عليه‌السلام « الأشياء كلّها على ذلك » أي على الإباحة حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة ، أي حتّى تقوم أمارة العلمي أو العلم على‌

١٣

ثبوت موضوع الحرمة ، فإذا ثبت بالعلم أو الذي كالعلم في الأماريّة ـ أي البيّنة ـ فيرتفع الحلّية والإباحة.

ثمَّ إنّه بعد هذا الاستظهار من الرواية ـ وأنّها تدلّ على أماريّة البيّنة لإثبات الموضوعات مثل العلم ـ فلا يبقي مجال لأن يقال غاية ما تدلّ الرواية هي حجّية البيّنة لإثبات الحرمة ، لا مطلق الأحكام الجزئية وموضوعاتها ، فالدليل يكون أخصّ من المدّعى ، لأنّ المدّعي حجّيتها لإثبات جميع موضوعات الأحكام ، وضعية كانت أم تكليفيّة ، والتكليفية حرمة كانت أو غيرها ، ومفاد الدليل هو حجّيتها في خصوص إثبات الحرمة ، لا سائر الأحكام ولا الموضوعات مطلقا.

وذلك من جهة أنّ هذه الموضوعات التي يعدّها عليه‌السلام في الرواية ـ من كون المال سرقة ، أو كون المملوك حرّا قهر عليه ، أو خدع فبيع ، أو كون المرأة التي تحته أخته أو رضيعته ـ جعلها فيما إذا كانت مشكوكة موارد لقاعدة الحلّ إلاّ فيما إذا استبان أحد هذه الأمور ، أو قامت عليه البيّنة ، فكما أنّه لو علم بوجود أحد هذه الأمور يترتّب عليه جميع أحكامه لا خصوص الحرمة ، فكذلك في صورة قيام البيّنة.

والمشار إليه لكلمة « على ذلك » في قوله عليه‌السلام : « الأشياء كلّها على ذلك » وإن كان هي الحلّية ، لكن موضوع الحلّية في هذه الجملة وهو « الأشياء » عبارة عنها مع الشكّ في حكمها من ناحية الشكّ في موضوع الحرمة بعد الفراغ عن معلوميّة حكم الموضوعات من ناحية الشبهة الحكميّة.

فيكون المراد من الاستثناء بقوله عليه‌السلام « حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » استبانة الموضوع وأنّه ممّا هو محرّم كالسرقة ، وكون المملوك حرا ، وكون المرأة أخته أو رضيعته وغير ذلك من الموضوعات المحرّمة.

وكذلك الأمر في قيام البيّنة ، أي الموضوعات المشكوكة أنّها من الموضوعات المحلّلة أو من الموضوعات المحرّمة ، فهي حلال إلاّ أن يثبت كونها من الموضوعات‌

١٤

المحرّمة ، وطريق إثباتها أمّا العلم أو البيّنة ، فتدلّ الرواية على أنّ البيّنة مثل العلم طريق مثبت للموضوعات ، فيترتّب عليها أحكامها مطلقا ، حرمة كانت أو غيرها ، وهو المطلوب.

وبناء على ما ذكرنا فلا يبقى مجال لأن يقال : غاية ما تدلّ عليه هذه الرواية هو حجّية البيّنة فيما إذا قامت على الحرمة ، فلا يقتضي حجّيتها على الموضوع فضلا عن عمومها لجميع الموضوعات ، لما عرفت من دلالة هذه الرواية على أنّ البيّنة مثبتة للموضوعات مثل العلم ، فكما أنّ العلم مثبت لجميع الموضوعات فكذلك البيّنة ، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ طريقيّة العلم ذاتيّة وجدانيّة ، وطريقيّة البيّنة جعليّة تعبّديّة وإمضاء لبناء العقلاء على حجّيتها.

فلا يحتاج إلى أن يتكلّف بأنّ قيام البيّنة على الحرمة أعمّ من أن تكون الحرمة مدلولا التزاميّا أو مطابقيّا لما قامت عليه ، فإذا قامت على موضوع محرّم ـ كالسرقة ، أو كون المرأة أختا له أو رضيعته ، أو كونه حرّا فبيع ، وما شابهها ـ فقد قامت على الحرمة التزاما ، ثمَّ بعدم القول بالفصل بين مثل هذه الموضوعات وغيرها ممّا ليس حكمها الحرمة يتمّ المطلوب ، أي عموم حجّيتها على جميع الموضوعات ، والإنصاف أنّ هذا يشبه الأكل من القفا.

الثاني : من أدلّة حجّيتها هو الإجماع. وادّعته جماعة ، وفي الجواهر نفي وجدانه للخلاف في إثبات النجاسة بها ، ولم ينقل الخلاف إلاّ من القاضي بن البرّاج ، وظاهر عبارة الكاتب والشيخ قدس‌سره.

قال في الجواهر : بل لا أجد فيه خلافا إلاّ ما يحكى عن القاضي وعن ظاهر عبارة الكاتب والشيخ ، ولا ريب في ضعفه (١).

ولا ريب في أنّ المتتبّع في كلام الأصحاب يجد تسالمهم على إثبات كلّ موضوع‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٦ ، ص ١٧٢.

١٥

ذي حكم شرعي بها ، فإنّهم يعترفون بثبوت النجاسة والطهارة والقبلة والوقت للصلاة ، وأسباب التحريم في باب النكاح من النسب والرضاع ، وثبوت الوكالات للأشخاص وعزلهم والوصايا إلى غير ذلك من الموضوعات أو الأحكام الجزئية بها ، من غير نكير لأحدهم في إثبات هذه الأمور بها إلاّ الشاذّ الذي لا يعبأ بخلافه ، بل المخالف الشاذّ أيضا لا يخالف إلاّ في بعض الموارد الجزئيّة بجهة أخرى غير إنكار حجّية البيّنة ، بل يدّعي مثلا أنّ ارتفاع الطهارة لا يكون إلاّ بالعلم بالنجاسة ، لأنّ طهارة المشكوك مغيّاة بالعلم بالخلاف والبيّنة ليست بعلم.

وإن كان هذا الكلام باطلا ، لأنّ أدلّة حجّية البيّنة ، بل الاستصحاب ، بل كلّ حجّة شرعيّة على النجاسة كإخبار ذي اليد ، أو خبر العدل الواحد ـ لو قلنا بحجيّته ـ تكون حاكمة على قاعدة الطهارة.

والحاصل : أنّ الفقهاء لا يزال يستدلّون على ثبوت الموضوعات التي لها أحكام بقيام البيّنة عليها ، ولا ينكر على المستدلّ بها أحد منهم إلاّ المناقشات في تحقق البيّنة وفي جهات أخر غير جهة حجّيتها.

نعم هاهنا مطلب آخر ، وهو أنّه تقدّم منّا مرارا في هذا الكتاب أنّ هذه الإجماعات ليست ممّا هو مصطلح الأصولي التي ثبتت هناك حجّيتها ، لاحتمال اعتماد المتّفقين بل الاطمئنان بأنّهم اعتمدوا على بعض هذه المدارك المذكورة أو على كلّها.

نعم هذا الاتّفاق والتسالم منهم يؤيّد ما استظهرنا من رواية مسعدة بن صدقة (١) من مفروغيّة حجّية البيّنة ، وأنّها مثل العلم في إثبات موضوعات الأحكام بها.

الثالث : من أدلّة حجّيتها في جميع الموضوعات الروايات :

منها : ما هو المروي في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سليمان ، عن الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) تقدّم في ص ١١ ، رقم (٢).

١٦

في الجبن : « كلّ شي‌ء حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أنّ فيه ميتة » (١).

وظاهر هذا الخبر أنّ ارتفاع الحلّية عن مشكوك الحلّية والحرمة لا يكون إلاّ بقيام شاهدين على تحقّق موضوع الحرمة وثبوته ، وهو في المورد عبارة عن كون الميتة فيه ، أي في الجبن.

فتكون الرواية ظاهرة في أنّ قيام الشاهدين على وجود موضوع الحرمة ـ أي كون الميتة فيه ـ أمارة على وجوده ، ومعلوم أنّه عليه‌السلام بصدد بيان أنّ شهادة شاهدين بمنزلة العلم في إثبات ما قامت عليه ، ولا خصوصيّة للميتة وإنّما ذكرها في الرواية لبيان المورد ، وإلاّ فلا خصوصيّة فيها.

وأمّا الإشكال عليها بضعف السند ، ففيه أنّ اتفاق الأصحاب على حجّية البيّنة في جميع الموضوعات ـ إلاّ الشاذّ منهم ـ يكون جابرا لضعف سندها ، وموجبا للوثوق بصدورها الذي هو موضوع الحجّية ، وقد حرّرنا المسألة من هذه الناحية في كتابنا « منتهي الأصول » (٢) ومن أراد فليراجعها.

ومنها : الأخبار الكثيرة الواردة في ثبوت الهلال بشهادة عدلين ـ أي البيّنة ـ كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول « لا أجيز في رؤية الهلال إلاّ شهادة رجلين عدلين » (٣) وصحيح منصور بن حازم عنه أيضا أنّه عليه‌السلام قال : « صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته ، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه ». (٤) وروايات أخر‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٦ ، ص ٣٣٩ ، باب الجبن ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٩١ ، أبواب الأطعمة المباحة ، باب ٦١ ، ح ٢.

(٢) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٩١ و ٦١٣.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٤ ، ص ١٨٠ ، ح ٤٩٩ ، باب فضل صيام يوم الشك ، ح ٧١ ، « وسائل الشيعة » ج ٧ ، ص ٢٠٨ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، باب ١١ ، ح ٨.

(٤) « تهذيب الأحكام » ج ٤ ، ص ١٥٧ ، ح ٤٣٦ ، باب علامة أوّل شهر رمضان وآخره ، ح ٧ ، « الاستبصار » ج ٢ ، ص ٦٣ ، ح ٢٠٥ ، باب علامة أوّل يوم من شهر رمضان ، ح ٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٢٠٨ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، باب ١١ ، ح ٤.

١٧

كهاتين الصحيحتين وبهذا المضمون تقريبا.

وتقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّه عليه‌السلام بصدد أنّه لا يثبت الهلال إلاّ بالرؤية والعلم ، أو بما هو بمنزلة العلم في إثبات ما قام عليه ، فكأنّه عليه‌السلام جعل أماريّة البيّنة وكونها بمنزلة العلم أمرا مفروغا عنه ومن المسلّمات ، ولذلك قال عليه‌السلام : « إذا شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه » لأنّ شهادتهما بالرؤية بمنزلة علمك بها ، مثبت لها.

وأيضا ظاهر هذه الروايات أنّ الحكم بشهادة عدلين لكونها مثبتة وأمارة ولا دخل في كون متعلّقها رؤية الهلال في أماريّتها ، ولكن مع ذلك كلّه ظهور هذه الروايات في عموم حجّية البيّنة ـ بالنسبة إلى جميع الموضوعات وعدم اختصاصها بإثبات الهلال ـ لا يخلو من تأمّل وإشكال.

فالأحسن أن تجعل هذه الروايات من المؤيّدات لعموم حجّيتها ، وكونها مؤيّدة له لقوّة احتمال عدم كون المتعلّق ـ وهو رؤية الهلال ـ دخيلا في اعتبارها.

ومنها : الأخبار الواردة في باب الدعاوي وأنّها وظيفة المدّعي وتثبت بها دعواه ، كقوله عليه‌السلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (١).

وتقريب الاستدلال بها أنّ حجّيتها في مقابل المدّعي مع كونه صاحب اليد وله أمارة الملكيّة أو غيرها ممّا هو محلّ النزاع ، تدلّ على حجّيتها بطريق أولى فيما إذا لم يكن مدّع وصاحب يد في البين ، لأنّه عليه‌السلام إذا قال إنّها حجّة على ما قامت عليه مع معارضتها بحجّة أخرى من قبل الخصم ، فالظاهر والمتفاهم العرفي من هذه العبارة حجّيتها فيما إذا لم يكن لها معارض بالأولويّة القطعيّة.

__________________

(١) تقدّم في ص ١٠ ، رقم (٤).

١٨

والسرّ في ذلك أنّه عليه‌السلام جعل البيّنة طريقا ومثبتا لما قامت عليه وكاشفا له بحيث لا يبقي مع وجودها للمدّعي اعتبار ليد المنكر في قبالها.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم » (١). وحكي أيضا : « إذا شهد عندكم المؤمنون فاقبلوا » (٢).

وتقريب الاستدلال بهما ، هو أنّ المراد بالشهادة قيام البيّنة على شي‌ء أو أمر فيجب تصديقها أو قبول قولهما.

وفيه : أنّ ظاهرهما على فرض أن يكون المراد من التصديق والقبول ترتيب الأثر على قولهم ولزوم العمل على طبق مقالتهم ، حجّية خبر كلّ مؤمن ومسلم ، سواء أكان عادلا أم لا ، وسواء أكان واحدا أم كان المخبر متعدّدا. وبعبارة أخرى : مفادهما حجّية خبر كلّ فرد من أفراد المسلمين أو المؤمنين الذي معلوم عدمها.

نعم ربما يقال بحجّية خبر كلّ ثقة في الموضوعات أيضا مثل الأحكام ، ولكنّه بهذا العموم لم يقل به أحد.

والحقّ ، أنّ هاتين الروايتين على فرض صحّة سندهما ، مفادهما مفاد قوله تعالى :

( يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٢) فيكون المراد منهما ما قيل في تفسير الآية من القبول الصوري وعدم تكذيبهم والإنكار عليهم ، أو بعض مراتب التصديق النفسي فيما ينفعهم أو غيرهم ولا يكون مضرّا لغيرهم ، لا ترتيب الآثار الواقعيّة على ما أخبروا به وإن كان يضرّ غيرهم.

الرابع : الآيات :

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٩٩ ، باب في حفظ المال وكراهة الإضاعة ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٣٠ ، أبواب كتاب الوديعة ، باب ٦ ، ح ١. وفيهما : « المؤمنون » بدل « المسلمون ».

(٢) لم نجده في وسائل الشيعة وبحار الأنوار ومستدرك الوسائل.

(٣) التوبة (٩) : ٦١.

١٩

منها : قوله تعالى ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (١).

وقوله تعالى ( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٢).

وقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٣).

وقوله تعالى ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٤).

فالآية الأولى وإن كانت في مورد القرض والاستشهاد عليه ، والثانية في مورد الوصية ، والثالثة في مورد جزاء الصيد في حال الإحرام وحكم رجلين عدلين وشهادتهما بالمثليّة للصيد ، ولكن يستظهر منها أنّ الله تبارك وتعالى جعل البيّنة ـ أي شهادة رجلين عدلين ـ طريقا وكاشفا مثل العلم ، ويثبت بها كلّ موضوع قامت عليه ، سواء أكان أحد هذه الثلاثة ـ أي القرض والوصيّة وكون الجزاء مثل الصيد ـ أو غيرها من سائر الموضوعات.

وكذلك الآيات التي تدلّ على وجوب تحمّل الشهادة ووجوب أدائها وحرمة كتمانها ، كقوله تعالى ( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ) (٥) وقوله تعالى ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (٦) وقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (٧) ظاهرة بالدلالة الالتزاميّة في وجوب قبولها ، وإلاّ يكون وجوب تحملها ووجوب أدائها وحرمة كتمانها لغوا وبلا فائدة.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٨٢.

(٢) المائدة (٥) : ١٠٦.

(٣) الطلاق (٦٥) : ٢.

(٤) المائدة (٥) : ٩٥.

(٥) الطلاق (٦٥) : ٢.

(٦) البقرة (٢) : ٢٨٣.

(٧) البقرة (٢) : ٢٨٣.

٢٠