القواعد الفقهيّة - ج ٣

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٥٢

وأما إذا كان الاستثناء في الكلام المنفي ، كما إذا قال : ليس لي من هذه العشرة دراهم إلا درهما ، فيكون المقر به هو تمام هذه التسعة الذي غير المستثنى ، فيكون ما أقر به في الصورتين ـ أي النفي والإيجاب ـ فيما إذا كان إخباره بالنفي والإثبات بحق نفسه على الغير ، عكس ما كان إخباره بهما بحق الغير عليه.

الأمر الرابع : في أن أمارية الإقرار واعتباره لإثبات المقر به هل مخصوص بما إذا كان في قبال من يدعي ما أقر به ، أو يكون أمارة مطلقا وإن لم يكن مدع في البين أصلا؟

وبناء على الأول ، فلو أقر بأن هذه الدار التي في يدي وتحت تصرفي لزيد ، أو ليس لي ، ولم يكن من يدعيها ، فلو أنكر بعد ذلك ما أقره وقال : إنها ليست لزيد ، أو قال : إنها ملكي ، فليس من قبيل الإنكار بعد الإقرار ، وتكون يده أمارة الملكية ، فلو وهبها لشخص أو وقفها أو باعها أو غير ذلك من التصرفات التي تنفذ للملاك في أملاكهم ، تكون هذه التصرفات نافذة ، ولا تأثير لإقراره السابق ، لأنه بناء على هذا التقدير يكون إقراره السابق كالعدم.

وأما بناء على الثاني ـ أي بناء على كونه أمارة مطلقا ، سواء أكان مدع في البين أو لم يكن ـ فإنكاره بعد ذلك يكون إنكارا بعد الإقرار ولا يسمع منه ، وتسقط يده عن الاعتبار بإقراره ، فلا يجوز له أي تصرف ناقل للعين أو لمنفعتها.

هذا فيما إذا لم يدع الملكية الجديدة ، وأما إذا ادعاها ، فإذا كان حصولها غير ممكن ـ من جهة اتصال زمان تصرفه بزمان إقراره للغير ، أو بوقفيته ، أو بشي‌ء آخر لا يمكن حصول الملكية معه ـ فالأمر واضح ، لسقوط يده عن الاعتبار بواسطة إقراره ، ولم يحصل سبب جديد لملكيته على الفرض ، فتكون تصرفاته غير نافذة حسب الأدلة والأمارات.

وأما إذا كان حصولها ممكنا ، فهل يده أمارة على الملكية الجديدة فيما لا علم بعدم‌

٦١

حصولها أم لا؟

والمسألة تدور مدار أن استصحاب حال اليد مقدم أو أمارية اليد الفعلي ، وذلك من جهة أنه لا شك في أنه بعد إقراره ـ بناء على نفوذه وإن لم يكن مدع في البين كما هو المفروض ـ تكون يده يد أمانة ، فيشك في أن تلك الحالة ـ أي كونها أمانة ـ باقية أم زالت وتبدلت يده من الأمانية إلى المالكية.

كما إذا كان مستأجرا لدار وكانت يده يد أمانة قطعا ، ثمَّ يدعي انتقالها إليه بناقل شرعي ، فهل مثل هذه اليد أمارة الملكية ، أو استصحاب حالتها السابقة يبطل أماريتها؟ لا يبعد جريان استصحاب حال اليد وعدم كونها أمارة الملكية.

ثمَّ إن الاحتمالين الذين بيناهما بالنسبة إلى أمارية اليد ـ من كونها أمارة مطلقا ، أو في خصوص ما إذا كان مدع في البين ـ كان بحسب مقام الثبوت.

وأما في مقام الإثبات ، فظاهر النبوي المستفيض أو المتواتر ، أي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (١) هو نفوذ الإقرار مطلقا ، كان هناك مدع أو لم يكن ، ولا مخصص ولا مقيد لهذا الإطلاق في البين.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌

فنقول : إن موارد تطبيق هذه القاعدة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الإقرار كثيرة ، ولكن الموارد مختلفة ، فبعضها محل الوفاق ولا خلاف فيها ، لوضوح كونها من مصاديق القاعدة.

__________________

(١) تقدم ذكره في ص ٤٧ ، رقم (٢)

٦٢

مثلا لو أقرّ العاقل البالغ اختيارا بأنّ هذه الدار التي تحت تصرّفي وفي يدي ملك زيد ، أو له عليّ كذا مقدار من الدراهم والدنانير ، وكذا مقدار من الحنطة أو الشعير أو سائر الأجناس التي لها ماليّة ، أو أقرّ بحقّ من الحقوق كحقّ الخيار ، أو حقّ التولية والنظارة على وقف ، أو حقّ التحجير ، أو حقّ السبق في مكان للعبادة أو للمعاملة والتكسّب ، ففي جميع هذه الموارد إذا كان إقراره ممّا يكون على نفسه لا له ، يكون نافذا ولا إشكال ولا خلاف فيه.

ولا فرق بين أن يكون المقرّ له حيّا أو ميّتا ، والمقرّ به عينا أو دينا أو حقا.

نعم يشترط في صحّة إقراره ونفوذه أن لا يكون إقراره معلقا على أمر ، لأنّ التعليق ينافي الإقرار ، وذلك من جهة أنّ الإقرار ـ كما رجّحناه ـ عبارة عن الإخبار جزما وبتّا بثبوت شي‌ء عليه ، أي يكون ثبوت ذلك الشي‌ء على نفسه ، سواء أكان ذلك الشي‌ء عينا أو دينا أو حقّا من الحقوق ، أو كان ثبوت ذلك الشي‌ء مستتبعا لثبوت عين أو دين أو حقّ عليه. وثبوت الشي‌ء فعلا مع كونه معلّقا بثبوته على أمر ـ وإن كان محقّق الوجود فيما سيأتي كطلوع الشمس غدا ـ ممّا يتنافيان ، ولذلك يكون الإقرار معلّقا على أمر باطلا وليس بنافذ ، فلو قال : لك عليّ كذا إن قدم زيد من السفر ، يكون باطلا ولا ينفذ ، بل وكذلك لو قال : لك عليّ كذا إن طلعت الشمس غدا ، باطل ولا ينفذ.

والسرّ في ذلك ما ذكرنا من تنافي حقيقة الإقرار مع التعليق ، حتّى وإن كان المعلّق عليه أمرا محقّق الوقوع.

وبعض الموارد الآخر ليس انطباق القاعدة عليها بتلك المثابة من الوضوح ، ولذا وقع فيها الخلاف والإشكال.

فمنها : لو قال بعد ادّعاه المدّعي شيئا من مال أو حقّ عليه : إن شهد لك فلان‌

٦٣

فهو صادق ، فقال جماعة ـ وهم الشيخ (١) على ما حكى عنه ، وابن سعيد (٢) ، والعلامة (٣) قدس‌سرهما على ما في الجواهر (٤) ، بل حكى في الجواهر عن فخر الإسلام أنّه حكى عن والده نسبته إلى الأصحاب (٥) ـ أنّه إقرار ويلزمه ما ادّعاه المدّعي ، وذكروا لكون هذا الكلام إقرارا وأنّه يلزمه ما ادّعاه المدّعي وجوها :

منها : ما ذكره المحقّق في الشرائع : أنّه إذا صدق يلزمه الحقّ وإن لم يشهد. (٦)

بيان ذلك : أنّه أقرّ بصدق الشاهد إذا شهد ، ومعلوم أنّ شهادة ذلك الشاهد لا أثر لها في صدقه ، بل صدقه معلول سبب ثبوت ذلك الشي‌ء على المقرّ ، فصدق الشاهد على تقدير شهادته معناه أنّ ذلك السبب موجود ، فحيث أنّه أقرّ بصدق الشاهد على تقدير شهادته فأقرّ بوجود ذلك السبب على ذلك التقدير ، وحيث أنّ ذلك التقدير أجنبي عن وجود ذلك السبب ، فيكون إقراره بوجود السبب مطلق سواء شهد أو لم يشهد.

وهذا هو المراد من قول المحقّق قدس‌سره « إذا صدق يلزمه الحقّ وإن لم يشهد » أي ليس للشهادة تأثير في صدقه ، أو عدمها في كذبه ، بل مناط صدقه وكذبه وجود سبب الثبوت وعدم وجوده.

ومنها : أنّ ما يدّعيه المدّعي عليه إمّا ثابت عليه في الواقع ، أو ليس بثابت. وعلى الثاني ، فعلى تقدير الشهادة أيضا ليس بصادق ، فصدقه على تقدير الشهادة متوقّف على ثبوت ما يدّعيه المدّعي في الواقع ، فإقراره بصدق الشاهد على تقدير الشهادة‌

__________________

(١) « المبسوط » ج ٣ ، ص ٣٦.

(٢) « الجامع للشرائع » ص ٣٤٠.

(٣) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ٢٧٧.

(٤) « جواهر الكلام » ج ٣٥ ، ص ٩.

(٥) « إيضاح الفوائد » ج ٣ ، ص ٤٢٣ ـ ٤٢٤.

(٦) « شرائع الإسلام » ج ٣ ، ص ١١٠.

٦٤

يرجع إلى الإقرار بثبوت ما يدّعيه المدّعي ، فيلزمه المال أو الحقّ.

وذلك لأنّ الإقرار باللازم الذي هو الصدق على تقدير الشهادة إقرار بملزومه ، أعني ثبوت ما يدّعيه المدّعي.

ومنها : أنّه يصدق هذه القضية ، أي كلّما لم يكن المال ثابتا أو الحقّ كذلك في ذمّة المقرّ لم يكن الشاهد صادقا على تقدير الشهادة ، فعكس ما نقيضه كلّما كان الشاهد صادقا على تقدير الشهادة كان المال ثابتا في ذمّته يكون صادقا ، وذلك لما تقرّر في المنطق أنّ الأصل إذا كان صادقا كان العكس أيضا صادقا ، والمقدّم في عكس النقيض أي : كلّما كان الشاهد صادقا على تقدير الشهادة ثابت بإقراره ، فيترتّب عليه التالي ، وهو كان المال ثابتا في ذمّته.

ثمَّ انّ هاهنا كلام طويل وإيرادات ذكرها صاحب الجواهر قدس‌سره في كتاب الإقرار (١) ، تركنا ذكرها والبحث عنها ، لأنّ محلّ ذكرها والبحث عنها هو كتاب الإقرار.

ومنها : لو قال : نعم ، بعد قول المدّعي : ألست مديونا لي بكذا؟ وقع الخلاف في أنّه إقرار أم لا ، بعد الفراغ عن أنّه لو قال : بلى ، لا شكّ في أنّه إقرار ، وذلك من جهة أنّ « بلى » حرف جواب وتختصّ بالنفي وتفيد إبطاله.

وإن شئت قلت : إنّ مفادها تصديق المنفي لا النفي ، بخلاف « نعم » فإنّها تصديق للجملة التي قبلها نفيا كانت أم إثباتا ، ولذلك حكي في المغني عن ابي عباس رضي‌الله‌عنه أنّه قال : لو قالوا في جواب قوله تعالى ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (٢) « نعم » كفروا ، وذلك من جهة أنّ « نعم » تصديق لتمام الجملة ، فيصير مفاد نعم ـ العياذ بالله ـ نفي ربوبيّته تعالى لهم ، ولكن قالوا « بلى » وأبطلوا النفي وصدقوا ما بعده ـ أي المنفي ـ أعني‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٣٥ ، ص ٩.

(٢) الأعراف (٧) : ١٧٢.

٦٥

صدقوا ربوبيّته تعالى لهم (١).

ولكن مع ذلك ذهب جماعة إلى أنّه إقرار ، لأنّ « نعم » تستعمل بمعنيين ، أي تصديق النفي تارة ، والمنفي أخرى.

وقد استشهد لهم صاحب الجواهر قدس‌سره (٢) بقول الأنصار في جواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال لهم : « ألستم ترون ذلك »؟ فقالوا : نعم ، في مقام تصديق أنّه لهم.

وبقول الشاعر :

أليس الليل يجمع أم عمرو

وإيّانا فذاك بنا تداني

نعم وأرى الهلال كما تراه

ويعلوها النهار كما علاني

ثمَّ حكى عن المسالك أنّ الحكم بكونه إقرارا قويّ.

ولكن أنت خبير بأنّ صرف استعمال « نعم » مقام « بلى » في بعض الاستعمالات لا يثبت كونه إقرارا ما لم يكن له ظهور عرفي ، وإثبات مثل هذا الظهور بمجرّد استعماله مقام « بلى » في بعض الأحيان لا يخلو من نظر ، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك.

ومعلوم أنّه إذا بلغت النوبة إلى الشكّ ، فالأصل عدم ثبوت الإقرار ، إلاّ أن يكون في مورده إطلاق لفظي يرفع الشكّ. وأمّا لو كان السؤال كلاما مثبتا ـ كما إذا سأل عنه : أنّ لي كذا درهما أو شيئا عليك؟ فأجاب بنعم أو بأجل ـ يكون إقرارا بمضمون ذلك الكلام ، وذلك لأنّ نعم وأجل كلاهما حرف تصديق وجواب ، فإذا أجاب بها أو بإحداهما فقد صدّق السائل فيما أثبته عليه.

ثمَّ انّ الفقهاء ذكروا فروعا كثيرة في كتاب الإقرار ، وتردّدوا أو تنظروا في انطباق هذه القاعدة على بعضها لم نذكرها ، لأنّ محلّ البحث عنها هو كتاب الإقرار ، والمقصود‌

__________________

(١) « مغني اللبيب » ج ٢ ، ص ٤٥٢.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٣٥ ، ص ٨٤.

٦٦

هاهنا بيان اعتبار هذه القاعدة وشرح مفادها والإشارة إلى موارد تطبيقها بطور الإجمال ، لا تفصيل مسائلها ، وإلاّ كان اللازم ذكر جميع مسائل كتاب الإقرار ، وهو خروج عن وضع الكتاب.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

٦٧
٦٨

٢٨ ـ قاعدة

البيّنة على المدّعي

واليمين على من أنكر‌

٦٩
٧٠

قاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر *

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها

وهو أمران‌

الأوّل : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (٢)‌.

واشتهار هذا الحديث بين طوائف المسلمين يوجب الوثوق والاطمئنان بصدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا ريب في حجّيته واعتباره.

وروى في دعائم الإسلام عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : البيّنة في الأموال على المدّعي واليمين على‌

__________________

(١) « القواعد والفوائد » ج ١ ، ص ٤٠٥ ، « الحق المبين » ص ٤٨ و ٦٥ ، « عناوين الأصول » عنوان ٧٦ ، « خزائن الأحكام » العدد ٣٨ ، « بلغة الفقيه » ج ٣٦ ، ص ٣٧٦ و ٣٨٨ ، « قواعد فقهي » ص ٢١ ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج ٤ ، ص ٣٣٥.

(٢) « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ٣٤٥ ، ح ١١ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٣٦٨ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٣ ، ح ٤.

٧١

المدّعي عليه » الحديث. (١)

عوالي اللئالي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (٢).

وفي كتاب الاستغاثة في كلام له في قصّة فدك مع قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجماع الأمّة :

« البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر » (٣).

محمّد بن يعقوب الكليني قدس‌سره في الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (٤).

وأيضا محمّد بن يعقوب في الكافي بإسناده عن جميل وهشام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعى عليه (٥) ».

وفيما ذكرنا في مدرك هذه القاعدة غنى وكفاية ، وإن كان هناك روايات من طرقنا وطرق مخالفينا تركناها لعدم الاحتياج إليها.

الثاني : الإجماع من جميع علماء الإسلام قاطبة ، ومن جميع الطوائف منهم‌ ، وهذا الإجماع المحقّق من جميع طوائف المسلمين وإن لم يكن من الإجماع المصطلح ـ كما نبّهنا‌

__________________

(١) « دعائم الإسلام » ج ٢ ، ص ٥٢٠ ، ح ١٨٥٩ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٣٦٧ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٣ ، ح ١.

(٢) « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٤٤ ، ح ١٧٢ ، وص ٤٥٣ ، ح ١٨٨ ، وج ٢ ، ص ٢٥٨ ، ح ١٠ ، وص ٣٤٥ ، ح ١١ ، وج ٣ ، ص ٥٢٣ ، ح ٢٢.

(٣) « الاستغاثة » ص ١٦ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٣٦٨ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٣ ، ح ٥.

(٤) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٤ ، باب أنّ القضاء بالبيّنات والأيمان ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٢٩ ، ح ٥٥٢ ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح ٣ ، « معاني الأخبار » ص ٢٧٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٦٩ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٢ ، ح ١.

(٥) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٥ ، باب أنّ البيّنة على المدّعي و. ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٢٩ ، ح ٥٥٣ ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٠ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٣ ، ح ١.

٧٢

عليه مرارا ـ إلاّ أنّه يوجب الوثوق بل القطع بصدور هذا الحديث الشريف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا إشكال في هذه القاعدة من حيث المدرك.

[ الجهة ] الثانية‌

وهي العمدة هو بيان المراد من هذا الحديث ،

وتوضيح ما يفهمه العرف منه

فنقول في مقام شرح مفهوم العرفي لألفاظ هذا الحديث : أمّا « البيّنة » فهي عبارة عن شاهدين ذوي عدل من المؤمنين حسب المتفاهم العرفي ، وقد تكلّمنا في ظهورها عرفا في هذا المعنى في قاعدة حجّية البيّنة ، وهذا لا ينافي كون هذه الكلمة لغة بل وعرفا أيضا بمعنى مطلق الحجّة الواضحة والبرهان ، كما أنّها استعملت في القرآن الكريم في خمسة عشر موضعا بهذا المعنى ، أي الدليل والبرهان والحجة الواضحة.

وذلك من جهة أنّ المنكر ـ كما سنذكر ـ من كان قوله مطابقا للحجّة الفعليّة ككونه ذا اليد ، فلا بدّ وأن يكون المراد من البيّنة التي جعلها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظيفة المدّعي دون المنكر معنى آخر غير مطلق الحجّة ، وليس معنى آخر في البين يحتمل أن يكون هو المراد إلاّ هذه الحجّة الخاصّة ، أعني شهادة عدلين.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات كثيرة في الموارد الخاصّة بمطالبة الشهود من المدّعي والحكم له على طبق شهادتها ، مضافا إلى أنّ أحدا من الفقهاء لم يحتمل غير هذا المعنى لها في هذا الحديث.

وأمّا كلمة « على » فباعتبار أنّ هذه الوظيفة ـ أي كون إقامة البيّنة على ثبوت ما يدّعيه ـ موجّها إليه تكون كلفة عليه.

وأمّا « اليمين » فهو الحلف والقسم ، وهذا واضح معلوم لا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

٧٣

وأمّا « المدّعي » فقيل في تعريفه وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : هو أنّ المدّعي عبارة عمن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة وإن كان موافقا مع الحجّة غير الفعليّة ، أي كان مثلا موافقا مع الأصل ولكن هناك أمارة على خلافه ، فحيث أنّ الأمارة حاكمة على ذلك الأصل ـ لذهاب موضوعه بها تعبّدا ـ كانت الحجّة الفعليّة هي الأمارة دون الأصل ، فيكون مدّعيا بناء على هذا التعريف. مثلا لو ادّعي أنّ هذا اللحم الذي في السوق غير مذكّى ، ويريد بذلك إبطال المعاملة ، فقول هذا الشخص وإن كان مطابقا مع الأصل ـ أي أصالة عدم التذكية ـ ولكن حيث أنّ سوق المسلم ويده كذلك أمارة على التذكية ، فأصالة عدم التذكية محكومة بتلك الأمارة ، فتكون تلك الأمارة هي الحجّة الفعليّة ، فيكون قول ذلك الشخص مخالفا للحجّة الفعليّة ، أعني تلك الأمارة وإن كان موافقا مع الأصل ـ أي أصالة عدم التذكية ـ فيكون مدّعيا.

وكذلك مدّعي الفساد في باب المعاملات يكون مدّعيا ، مع أنّ قوله موافق لأصالة عدم النقل والانتقال ، وذلك لما ذكرنا من أنّ المدار في تشخيص المدّعي هو أن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، وإن كان مطابقا مع أصل محكوم ، أو أمارة كذلك.

وفيما ذكرنا من الفرع ـ أي دعوى الفساد في أبواب المعاملات ـ قوله : مخالف للحجّة الفعليّة ، أي أصالة الصحّة ، وإن كان موافقا لأصالة عدم النقل والانتقال.

وبناء على هذا التعريف للمدّعي ، فقد يختلف في كونه مدّعيا أو منكرا لاختلاف كلامه ، مثلا لو قال في مقام دعوى الطرف دينا عليه ، أو عينا عنده أمانة أو غصبا : ليس لك في ذمّتي أو عندي شي‌ء ، يكون منكرا ، لكون قوله موافقا مع الحجّة الفعليّة ، أي أصالة عدم اشتغال ذمّته له بشي‌ء ، وكذلك في ادّعاء العين ، الأصل عدم كونه عنده.

وأمّا لو قال في الأوّل : أدّيته ، وفي الثاني : رددته ، يكون مدّعيا ، لأنّ قوله يكون‌

٧٤

مخالفا للحجّة الفعليّة ، وهي أصالة عدم أدائه في الأوّل ، وأصالة عدم ردّه في الثاني.

وكذلك الأمر في الدعوى على ذي اليد بما هو تحت يده ، فلو قال : إنّ هذا ليس لك ، أو قال : لنفسي ، يكون منكرا ، لأنّ قوله موافق للحجّة الفعليّة ، أي : كونه ذا اليد. وأمّا لو قال : بأنّك وهبتني ، أو اشتريت منك ، أو ادّعي الانتقال إليه بناقل آخر بعد إقراره بأنّه كان له ، فيكون مدّعيا ، لأنّه أسقط يده عن الاعتبار بإقراره الضمني أو الصريح.

الوجه الثاني : هو أنّ المدّعي من لو ترك دعواه ترك. وبيانه أنّ المدّعي عند العرف عبارة عمّن يدّعي بثبوت دين ، أو عين ، أو حقّ على خصمه. وبعبارة أخرى :

يريد إلزامه بأحد الأمور المذكورة.

والمنكر في مقابله يردّ دعواه وينكر كونه ملزما بأحد هذه الأمور ، فإنكاره ـ في قبال ادّعاء المدّعي ـ يكون من قبيل القبول في مقابل الإيجاب ، ورتبته متأخّرة عن الدعوى ويكون متفرّعا عليها ، فكونه منكرا متفرّع على وجود مدّع يدّعي شيئا عليه ، فإذا ترك دعواه فلا مدّعي ولا منكر في البين ، وهذا هو المراد من قولهم « لو ترك ترك » ومن تعريفهم المدّعي بتلك الجملة.

وهذا المعنى للمدّعي موافق لما يفهمه العرف من هذه الكلمة ، لأنّ المدّعي عندهم من يريد إلزام خصمه بثبوت أمر عليه ، فهو المتعرّض لطرفه ، فلو ترك التعرّض ولم يطالب خصمه بشي‌ء ، لا يتعرّض الخصم له من ناحية هذه المخاصمة.

نعم يمكن أن يكون للخصم دعوى آخر عليه ، فلا يتركه بل يطالبه ، ولكن من جهة ادّعاء آخر من طرف المنكر.

وأمّا باب التداعي ، ففي الحقيقة هناك دعويان ، في إحديهما يكون هذا مدّع والآخر منكر ، وفي الأخرى بالعكس ، أي يكون المدّعي في الدعوى الأولى منكرا في الأخرى ، والمنكر فيها مدّعيا في هذه الدعوى. وفي كلّ واحدة من الدعويين لو ترك‌

٧٥

المدّعي دعواه ، يترك من ناحية تلك الدعوى ولا يتعرّض له خصمه من ناحية هذه الدعوى ، وإن كان يتعرّض له من ناحية دعوى أخرى مثلا لو كان مال مطروحا على الأرض ووقع عليه التلف ، وكلّ واحد من المتخاصمين لا بدّ له عليه ، ويدّعي أنّه له ، فكلّ واحد منهما ، يدّعي على الآخر إنّك أتلفت مالي ، فلو ترك أحدهما دعواه يترك من ناحية هذه ، ولا يتعرّض له الآخر من ناحية هذه الدعوى ، وإن كان يتعرّض له من ناحية دعوى أخرى.

وكذلك لو كان المال في يدهما معا ، فكلّ واحد منهما بالنسبة إلى نصفه مدّع ، وبالنسبة إلى النصف الآخر منكر ، وذلك من جهة أنّ يد كلّ واحد منهما على الكلّ غير تامّة ، لأنّ معنى التماميّة وعدم النقصان في اليد أن يكون له جميع المتصرّفات المباحة ، ومنع جميع الأغيار ، وحيث أنّه مع الشريك ليس له منعه ، فهذه اليد الناقصة على الكلّ تعتبر يدا تامّة على النصف عند العرف والعقلاء إن كان الشريك واحدا ، وعلى الثلث إنّ كانا اثنين ، وعلى الربع ، إن كان شركائه ثلاثة ، وهكذا.

فإذا كان المال في يد اثنين مثلا ، فتعتبر يد كلّ واحد منهما على المجموع يدا تامّة على النصف عند العرف والعقلاء ، فبالنسبة إلى النصف الذي تحت يد كلّ واحد منهما يكون ذو اليد منكرا ، وبالنسبة إلى النصف الآخر مدّعيا ، فكلّ واحد منهما منكر بالنسبة لما في يده ، ومدّع بالنسبة لما في يد الآخر ، فيدخل في باب التداعي والتحالف ، ولكن كلّ واحد لو ترك المخاصمة بالنسبة لما في يده الآخر يترك من حيث هذه الدعوى ، ولا يتعرّض له الآخر من هذه الجهة ، وإن كان له تعرّض من ناحية النصف الآخر الذي في يده. فلا يرد النقض على هذا التعريف بمسألة التداعي وأن المدّعي فيها لو ترك لا يترك.

الوجه الثالث : هو أنّ المدّعي عبارة عمّن يكون قوله مخالفا للظاهر ، ومقابله المنكر وهو الذي يوافق قوله الظاهر. كما أنّه إذا ادّعى أنّ هذه الدار التي تسكنها هي داري ، أو الزوجة التي تحتك هي زوجتي ، فهذا القول خلاف ظاهر الحال ، فيكون من‌

٧٦

يدّعيه مدّعيا ، ومن تكون الدار تحت يده وينكر كونها للمدّعي منكرا ، وكذلك الأمر في مثال الزوجة.

وفيه : أنّ هذا الظاهر الذي يكون قوله مطابقا معه ، إن كان حجّة معتبرة بالفعل ـ أي : كان أصلا معتبرا ، أو أمارة معتبرة ـ فيرجع إلى الوجه الأوّل ، أي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، من وجوه تعريف المدّعي وإن كان من الظنون غير المعتبرة.

فكونه موافقا معه لا ينافي مع كونه مدّعيا ، كما أنّه لو ادّعى شخص من الصلحاء وأهل الشرف على ذي اليد المتّهم بالسرقات أنّ هذا الذي تحت يده هو لي وملكي وأنّه سرقه منّي.

ولعلّ من يعرف المدّعي بأنّه عبارة عمّن يدّعي أمرا خفيا ، والمنكر من يقابله ـ أي : ينكر ثبوت مثل هذا الأمر الخفيّ ـ مراده من هذا التعريف هو هذا الوجه الثالث : لأنّ الأمر الخفيّ هو ما لا يكون ظاهرا.

ثمَّ إنّ المراد من هذه الكلمة ـ أي : كلمة الظاهر في قوله : إنّ المدّعي هو من يخالف قوله الظاهر ـ هل هو الظهور الشخصي أو الظهور النوعي؟

والحقّ في هذا المقام هو أنّ مرادهم من الظاهر إن كان هي الحجّة المعتبرة ، فالمراد لا محالة يكون هو الظهور النوعي لا الشخصي ، وذلك لأنّ الحجج والأمارات بل مطلق الأدلّة ـ وإن كانت من الأصول حجّيتها باعتبار ظهورها النوعية ، وليست دائرة مدار الظنّ الشخصي.

وأمّا إن كان المراد منه هو الظهور العرفي ـ وإن لم يكن حجّة ـ فقابل لكلا الأمرين ، أي الظهور النوعي والشخصي ، ولكن الظاهر أنّ مرادهم في هذا التعريف هو الظهور العرفي الشخصي.

وعلى كلّ حال هذا التعريف لا يخلو عن الخلل ، لأنّ من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ـ كما إذا ادّعى على ذي اليد بما في يده ـ يكون مدّعيا ولو لم يكن قوله‌

٧٧

مخالفا للظاهر.

اللهمّ إلاّ أنّ يقال : إنّ المراد من الظاهر في التعريف هي الحجّة الفعليّة ، فيرجع إلى الوجه الأوّل من وجوه تعريفه.

الوجه الرابع : هو أنّ المدّعي من يريد إثبات أمر على خصمه ، سواء أكان ذلك الأمر اشتغال ذمّة طرفه وخصمه له ، أو تقريغ ذمّة نفسه عمّا اشتغلت به لخصمه.

فالأوّل كما إذا ادّعى عليه أنّه مديون بكذا ، والثاني كما إذا ادّعي أداء ما كان عليه من دين له؟

وأنت خبير بأنّ هذا التعريف أيضا يرجع إلى بعض المذكورات.

الوجه الخامس : أنّ المرجع في فهم هذه اللفظة هو العرف فهو يعيّن ويشخّص ما هو المراد منها.

وفيه : أنّ هذا الكلام صحيح ولا مناص منه ، لأنّ المرجع في باب مفاهيم الألفاظ هو العرف ، إذ لم يخترع الشارع طريقا خاصا في باب إلقاء الأحكام إلى المكلّفين ، بل طريق الإفادة عنده ما هو الطريق عند العرف في محاوراتهم في مقام الإفادة والاستفادة ، فإذا قال عليه‌السلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (١) فلا بدّ في فهم ألفاظ هذا الحديث من المراجعة إلى العرف ، لأنّ الخطابات الشرعيّة في محاوراته على طريقة العرف ، وعلى طبق محاوراتهم.

ولكن جميع التعاريف السابقة والوجوه المذكورة كانت بنظر من ذكرها وعرف المدّعي بها ما هو المتفاهم العرفي من هذه اللفظة ، لا أنّها من جهة اصطلاح جديد من قبل الشارع وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعمل هذه اللفظة بذلك الاصطلاح.

الوجه السادس : أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا لأحد الأمرين : إمّا الأصل ، أو‌

__________________

(١) تقدم ذكره في ص ٧١ ، رقم (١).

٧٨

الظاهر ، وقد عرفت الحال وكذلك المراد من كليهما.

هذه هي جملة الوجوه التي ذكروها في بيان معنى المدّعي والمراد منه.

ولكن الظاهر من لفظة « المدّعي » في مقام الخصومة وفي مقابل المنكر حسب المتفاهم العرفي ـ الذي هو المناط في باب تعيين مراد المتكلم ـ هو أن يكون ما يدّعيه ممّا ليس عليه حجّة فعليّة ، إذ لو كان على ما يدّعيه على خصمه من عين أو دين أو حقّ حجّة فعلية ، فيعمل على طبق تلك الحجّة.

وبعبارة أخرى : المدّعي يريد في مقام المخاصمة أن يثبت ما يدّعيه ، ولذلك يطالب بالبيّنة.

وأمّا إذا كان ثابتا لكونه على طبق الحجّة الفعليّة ، فلا معنى لأن يكون في مقام إثبات ما يدّعيه ، لأنّه يكون من قبيل تحصيل الحاصل ، وأيضا لا معنى لأن يطالب بالبيّنة ، فالذي تحت يده مال ويتصرّف فيه كيف ما يشاء ، فبعد الاعتراف بأنّ اليد أمارة الملكيّة ، فمالكيّة ذي اليد لذلك المال الذي تحت يده ثابتة لا تحتاج إلى دليل الإثبات ، فلا معنى لإطلاق المدّعي عليه.

نعم لو ادّعي شخص آخر ـ الذي ليس له يد على هذا المال ـ أنّه له ، يطالب بالدليل على ما يدّعيه ، ولا بدّ له في إثبات ما يدّعيه أن يأتي بدليل حاكم على اليد ، وهي البيّنة على ما قرّره الشارع ، وإلاّ لو لم يكن أقوى من اليد بالحكومة أو التخصيص يتعارضان ويتساقطان.

وخلاصة الكلام : أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بيان لوظيفة المتخاصمين ، وعبّر عن أحد المتخاصمين بالمدّعي وعن الآخر بالمنكر ، فجعل البيّنة وظيفة المدّعي واليمين وظيفة المنكر.

وحيث أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخترع طريقا خاصّا في محاوراته لتبليغ الأحكام ، بل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتكلّم بما هو طريقة العرف ، فلا بدّ في فهم مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرجوع إلى ما يفهمه العرف‌

٧٩

من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ أن يثبت نقل من المعنى العرفي إلى معنى آخر عند الشارع كي يكون حقيقة شرعيّة ، أو استعمله في ذلك المعنى الآخر مجازا ، وذلك يحتاج إثباته إلى دليل ، وإلاّ فبحسب الطبع الأولى لا بدّ في فهم مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مراجعة العرف.

وقد عرفت أنّ لفظة « المدّعي » حسب المتفاهم العرفي ، هو من يحتاج في إثبات ما يدّعيه إلى مثبت خارجي ، ولا يكون ثابتا في نفسه ، فبناء على هذا يكون الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرناها لمعنى المدّعي ـ أي : من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ـ هو الصحيح في معناه.

ثمَّ إنّ تقييد الحجّة بالفعليّة من جهة أنّها لو لم تكن فعليّة ، بل كانت محكومة بحجّة الخصم وكانت حجّة الخصم هي الفعليّة ، فموافقة قوله لمثل هذه الحجّة المحكومة لا يخرجه عن كونه مدّعيا. مثلا لو ادّعى فساد المعاملة الواقعة بينهما ، فقوله وإن كان موافقا مع أصالة عدم النقل والانتقال ـ الذي قيل بأنّه الأصل في باب المعاملات ـ إلاّ حيث أنّها محكومة بأصالة الصحّة يكون مدّعيا ، لمخالفة قوله للحجّة الفعليّة التي هي أصالة الصحّة ، فيما إذا كان المورد ممّا يجري فيه هذا الأصل.

وبعد ما عرفت من هو المدّعي ، فالمنكر هو مقابل المدّعي ، بمعنى أنّ هذين المفهومين متقابلان ، لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد في مخاصمة واحدة من جهة واحدة في زمان واحد ، وذلك من جهة أنّ مفاد قول المدّعي بثبوت أمر ـ من دين أو عين أو حقّ ـ على خصمه ، ومفاد قول المنكر نفي ذلك الأمر ، فهما متقابلان نفيا وإثباتا ، فبأيّ معنى من المعاني المذكورة فسّرت المدّعي ، يكون معنى المنكر عدم ذلك المعنى.

مثلا بناء على ما اخترنا من أنّ المدّعي من كان قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، فالمنكر عبارة عمّن لا يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر المعاني المذكورة.

٨٠