القواعد الفقهيّة - ج ٣

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٥٢

عرفت أنّ إثبات هذا مشكل جدّا. أو ما يقال من بناء العقلاء على عدم ترتيب الأثر على المعاملة المشتملة على شرط مجهول ، وإثبات هذا أشكل ، وعلى فرض ثبوته لا يمنع عن لزوم العمل بالشرط ، ووجوب الوفاء بالعقد.

نعم حكى في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن بيع السمك في الآجام ، إلى أن قال عليه‌السلام : « هذا كلّه لا يجوز ، لأنّه مجهول غير معروف ، يقلّ ويكثر ، وهو غرر » (١). فعلّل عليه‌السلام عدم جواز بيع المذكورات في الرواية بأنّه مجهول وغرر.

والإنصاف أنّ المستفاد من مجموع الروايات ـ الواردة في باب وجوب العلم بقدر المبيع ، وعدم جواز الكيل بمكيال مجهول ، وفي باب عدم جواز بيع ما في الآجام من القصب والسمك والطير مع الجهالة ـ هو اشتراط صحّة المعاملة بالعلم بالعوضين ومقدارهما وأوصافهما ، وكون الجهل مضرّا ولو كان من قبل الشرط المجهول ، وإن كانت واردة في باب البيع لكن الظاهر عدم اختصاصها به.

[ الشرط ] السابع : أن لا يكون الشرط مستلزما للمحال ، بمعنى أنّ وجود الملتزم به في مقام الامتثال يكون محالا. وذلك كقول الشارط : بعتك بشرط أن تبيعه منّي ، أو يقول بنحو شرط النتيجة : بعتك بشرط أن يكون مبيعا منّي.

وعلّل بطلان هذا الشرط في التذكرة بأنّه مستلزم للدور (٢) ، حتّى اشتهر في لسان المتأخّرين عن العلاّمة هذا الدور بدور العلاّمة قدس‌سره.

وبيان استلزامه للدور هو أنّه تقدّم أنّ الشرط له إطلاقان : أحدهما هو نفس التزام المشروط عليه أو إلزام المشروط له. الثاني هو الملتزم به ، أي ذلك الأمر الذي‌

__________________

(١) « دعائم الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٣ ، ح ٤٢ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٢٣٧ ، أبواب عقد البيع ، باب ١٠ ، ح ١.

(٢) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤٩٠.

٢٨١

ألزمه الشارط بإيجاده أو هو التزم بذلك.

ولزوم الدور بناء على المعنى الثاني واضح ، وذلك لأنّ وجود المشروط متوقّف على وجود الشرط ، فوجود البيع متوقّف على وجود ذلك الأمر الذي التزم به المشروط عليه ، أي البيع الثاني فيما نحن فيه ، فوجود البيع الأوّل متوقّف على وجود البيع الثاني توقّف وجود المشروط على وجود شرطه.

والبيع الثاني أيضا وجوده متوقّف على البيع الأوّل لوجهين :

الأوّل : لأنّه لا بيع إلاّ في ملك ، فما دام لا يملكه بالبيع الأوّل لا يمكن أن يتحقّق منه وبصدر البيع الصحيح ، فوجود البيع الثاني الصحيح أيضا متوقّف على البيع الأوّل ، وهذا هو الدور الصريح.

والظاهر أنّ ما أفاده في جامع المقاصد (١) في وجه الدور من أنّ انتقال الملك موقوف على حصول الشرط ، وحصول الشرط موقوف على انتقال الملك هو عين ما ذكرناه ، وذلك من جهة أنّ انتقال الملك أثر البيع الصحيح ، فمراده من توقّف انتقال الملك أي البيع الصحيح ، أي البيع الأوّل ، ومراده من حصول الشرط أي وجود البيع الثاني.

هذا هو الوجه الأوّل لتوقّف البيع الثاني على البيع الأوّل.

والوجه الثاني : عدم معقوليّة البيع على المالك ، لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، فالبيع الثاني متوقّف على الخروج عن ملك المالك الأوّل ، أي على البيع الأوّل ، وقد عرفت أنّ البيع الأوّل أيضا متوقّف على البيع الثاني توقّف المشروط على شرطه.

وجوابه : عدم توقّف البيع الأوّل على وجود البيع الثاني ، بل متوقّف على الالتزام بالبيع الثاني ، لا على نفس البيع ، ولذا لو التزم ولم يبع لا يبطل البيع الأوّل ، بل يكون‌

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ٤ ، ص ٤١٣ و ٤٣٢.

٢٨٢

تخلّف الشرط موجبا للخيار فقط ، لا بطلان المعاملة.

هذا بناء على أن يكون المراد من الشرط هو الملتزم به.

وأمّا لو كان المراد نفس الالتزام ، فما يمكن أن يقال في وجه الدور هو أنّه بناء على هذا البيع الأوّل متوقّف على الالتزام بالبيع الثاني ، والبيع الثاني حيث عرفت أنّه لا يمكن وجوده وتحقّقه إلاّ بعد البيع الأوّل ، والعاقل لا يمكن أن يلتزم جدّا بأمر محال ، فالتزامه جدّا متوقّف على البيع الأوّل ، وهذا هو الدور.

وفيه : أنّ الالتزام جدّا بأمر محال وإن كان لا يصدر من العاقل ، ولكن فيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ، لأنّه فيما نحن فيه إيجاد الملتزم به في ظرف الالتزام محال لا مطلقا ، والالتزام بأمر يكون وجوده فعلا محال ولكن يمكن أن يوجد بعد حين لا مانع منه.

وهذا أمر دائر بين العقلاء ، بل أغلب التزاماتهم من هذا القبيل ، فإنّه في حال إنشاء الالتزام لا يقدر على الوفاء بما التزم ، فإنّه في نصف الليل مثلا يلتزم بأشياء لا يمكن إيجادها إلاّ في الغد ، أو يلتزم في السفر بأشياء لا يمكن حصولها إلاّ في الحضر.

والحاصل : أنّ صحّة الالتزام بأمور لا يمكن وجودها إلاّ في الأزمنة المتأخّرة لا يمكن إنكارها ، فبيع المال على مالكه وإن كان لا يمكن ما دام هذا العنوان يكون منطبقا عليه ومتلبّسا بمبدإ اشتقاقه ، أي ما دام وصف مالكيّته لهذا الشي‌ء ثابت له ، ولكن بيعه عليه باعتبار حال انقضاء المبدإ لا مانع منه ، فلا مانع بأن يلتزم بالبيع على مالك هذا المال حال كونه مالكا له باعتبار حال خروجه عن ملكه ، بمعنى أنّ ظرف التزامه وإن كان في حال كونه مالكا لهذا المال ، ولكن ظرف الملتزم به حال زوال ملكيّته عنه.

والظاهر أنّ عمدة نظر العلاّمة قدس‌سره في هذا الإشكال ـ وأنّه لا يجوز اشتراط أن يبيعه المشتري على البائع في البيع الأوّل لا بنحو شرط الفعل ، ولا بنحو شرط النتيجة ـ هو محاليّة هذا المعنى ، أي البيع على المالك ثانيا ، فيكون البيع عليه متوقّفا على البيع‌

٢٨٣

الأوّل حتّى يخرج عن ملكه ويمكن البيع عليه.

والجواب ما ذكرنا ، فلا نعيد ولا نطول المقام.

والشاهد على أنّه أراد هذا المعنى أنّه قال بجواز اشتراط بيعه على غير المالك لإمكانه ، بأن يكون وكيلا من قبل المالك ، أو بيعه فضولة ثمَّ يمضي المالك ، فوجه توقّف بيع الثاني على الأوّل أنّ البيع على المالك ممتنع ، فلا يمكن الالتزام به ، فبيع الأوّل متوقّف على أمر محال ، فيكون باطلا.

فلا يرد على العلاّمة قدس‌سره ما ذكروه من أنّه لو كان اشتراط البيع ثانيا على البائع باطلا ومستلزما للدور ، فيكون اشتراط البيع على غيره أيضا كذلك ، أي يكون مستلزما للدور ، وكذلك اشتراط عتقه أو وقفه ، بل اشتراط كلّ تصرّف يكون متوقّفا على كونه ملكا للمتصرّف يكون مستلزما للدور ، لأن ذلك التصرّف على الفرض متوقّف على الملك ، وملكه متوقّف على وقوع البيع الأوّل صحيحا ، ووقوع البيع الأوّل صحيحا متوقّف على وقوع البيع الثاني أو عتقه أو وقفه أو هبته أو غيره من التصرّفات المتوقّفة على الملك.

فتخصيص العلاّمة قدس‌سره الإشكال بهذا الفرع ، أي بالبيع على نفس المالك دون غيره يدلّ على أنّ نظره في الإشكال وثبوت الدور على امتناع بيع المال على مالكه ، وتوقّف صحّته على خروجه عن ملكه ، فلا يرد عليه الإيرادات المذكورة في كتبهم والنقوض التي ذكروها ، من صحّة اشتراط البيع على غيره ، أو اشتراط عتقه ، أو وقفه ، أو هبته لغير البائع ، لاشتراك الكلّ في استلزامها للدور.

وأيضا ظهر ممّا ذكرنا أنّ الجواب عن هذا الدور بأنّ البيع الأوّل متوقّف على الالتزام بالبيع الثاني لا على وقوعه ، ليس كما ينبغي ، لأنّ إشكاله هو أنّ الالتزام بأمر محال ـ وهو البيع على المالك ـ لا يمكن إن كان التزاما جدّيا ، فالجواب هو الذي ذكرنا لا ما ذكروه.

٢٨٤

[ الشرط ] الثامن : أن يلتزم به في متن العقد.

أقول : بعد الفراغ عن أنّ الشروط الابتدائيّة ، أي الالتزامات غير المربوطة بعقد ، أو ما وقعت في ضمن عقد جائز لا يجب الوفاء بها اتّفاقا ـ أمّا الأوّل فإمّا لعدم شمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « المؤمنون عند شروطهم » للشروط الابتدائيّة وضعا أو انصرافا ، وإمّا لتخصيصه بالإجماع. وأمّا الثاني فلأنّه بعد ما كنت نفس العقد غير واجب الوفاء ، فالشرط الواقع في ضمنه بطريق أولى.

فاعلم أنّ الشروط على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تكون مذكورة في ضمن العقد اللازم.

وهذا القسم هو القدر المتيقّن من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المؤمنون عند شروطهم ».

الثاني : هي الالتزامات الابتدائيّة ،

والتعهّدات المستقلّة غير المربوطة بعقد المنشأة باللفظ ، ولكن بإنشاء مستقلّ حيث لا عقد في البين أصلا ، أو لا ارتباط بينهما وإن كان.

وهذا القسم هو الذي خارج عن تحت هذه القاعدة تخصّصا أو تخصيصا بالإجماع.

الثالث : هو ما يكون التباني والتوافق عليه خارج العقد ، ووقع العقد مبنيّا عليه من دون ذكرها في متن العقد.

وهذا القسم هو الذي محلّ كلامنا في أنّه هو يجب الوفاء به أم لا ، بل لا بدّ من ذكرها في متن العقد؟

وأمّا القسم الرابع : وهو أن يقع التواطي والتباني عليه قبلا ، ولم يقع العقد مبنيّا عليه ، بل كان حال العقد مغفولا عنه ، فهو في الحقيقة يرجع إلى القسم الثاني من حيث‌

٢٨٥

عدم ارتباطه إلى العقد وعدم كونه مشمولا لهذه القاعدة ، بل حاله أنزل من القسم الثاني ، لعدم إنشائه باللفظ ، بل صرف تبان في خارج العقد.

وخلاصة الكلام : أنّ القسم الأوّل يقينا مشمول للقاعدة ، والقسم الثاني غير مشمول يقينا.

فعمدة الكلام في القسم الثالث ، وهو الذي سمّوه بشروط التباني بعد الفراغ عن أنّ القسم الرابع يرجع إلى القسم الثاني.

وفيه خلاف ،و القائلون بلزوم الوفاء به ذكروا لذلك وجوها :

الأوّل : هو أنّ التباني قبل العقد على التزام أحد المتعاقدين أو كلاهما على أمر ـ

وإن لم يذكروا في متن العقد ـ حاله حال الشروط الضمنيّة ، كلزوم تسليم كلّ واحد منهما الذي جعله في العقد عوضا إلى الآخر ، وككون الثمن من نقد البلد وأمثالهما.

وذلك من جهة أنّ الشروط الضمنيّة بواسطة تعاهدها عند العرف والعادة صارت مدلولا التزاميّا للعقد وإن لم يذكر في متنه ، بل وإن كان العاقد غافلا عنها غير ملتفت إليها. ومعلوم أنّ دلالة الالتزام معتبرة في باب الإنشاءات كالدلالة المطابقة ، لأنّها أيضا إحدى طرق الإفادة والاستفادة في محاوراتهم.

فكذلك التباني لأجل هذه العلّة بعينها ، لأنّهم إذا تبانوا قبل العقد على التزام أحدهما أو كليهما على أمر ، ثمَّ وقع العقد مبنيّا على ذلك التباني ، يكون ذلك الالتزام أو الالتزامين مدلولا التزاميّا لذلك العقد ، فيكون حاله حال الشروط الضمنيّة ويجب الوفاء به.

وفيه : أنّ المدلول الالتزامي لكلام لا بدّ وأن يكون من اللوازم العقليّة أو العرفيّة لذلك الكلام كي يدلّ ذلك الكلام عليه بالدلالة الالتزاميّة ، كما أنّ قوله : بعتك هذه الدار بألف دينار ، يدلّ بالدلالة المطابقة على مبادلة الدار بألف دينار ويدلّ بالالتزام على تسليم كلّ واحد منهما ما هو كان له إلى الذي انتقل إليه ، وتساوي العوضين من‌

٢٨٦

حيث الماليّة ، وكون الدينار المذكور في العقد من قسم دينار البلد لا دينار مملكة أخرى.

كلّ هذه الثلاثة وما يماثلها من اللوازم العرفيّة لذلك الكلام ، أي لقوله : بعتك هذه الدار بألف دينار ، فيدلّ عليها بالدلالة الالتزاميّة لو كان إخبارا ، كما أنّه لو كان في مقام الإنشاء تكون منشآت بذلك العقد بالدلالة اللفظيّة الوضعيّة التي هي معتبرة في مقام الإنشاءات كاعتبارها في مقام الإخبار.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الأمر الأجنبي عن مدلول العقد ، كالالتزام بخياطة ثوب بائع الدار مثلا في خارج ، والتباني عليه لا يوجب صيرورته لازما عرفيّا لذلك الكلام ـ أي ذلك العقد ـ كي يكون العقد دالاّ عليه بالالتزام ، فقياس أحدهما على الآخر باطل.

وبعبارة أوضح : في الشروط الضمنيّة أيضا يكون إنشاء الشرط باللفظ ، غاية الأمر بالدلالة الالتزاميّة لا المطابقيّة ، وأمّا في باب التباني فليس إنشاء لفظي في البين ، بل ليس مطلق الإنشاء لا لفظيّا ولا غير لفظي ، بل صرف تبان خارجي ، ومثل هذا التباني لا دليل على وجوب الوفاء به.

الثاني : أنّ وقوع العقد مبنيّا على التواطي والتباني السابق عليه يوجب تقييده بما تبانيا وتواطيا عليه، فيجب الوفاء بذلك العقد المقيّد بما تبانيا عليه ، والوفاء بذلك العقد المقيّد لا يمكن إلاّ بالعمل على طبق ذلك التباني الذي هو المراد من الشرط هاهنا ، فيكون الشرط لازم الوفاء.

وفيه : أنّ وقوع العقد مبنيّا على تواطئهما قبله وإن كان يوجب تقييد الثمن أو المثمن في مقام اللبّ والالتزام النفسي ، ولكن بصرف هذا الأمر النفسي لا يكون مشمولا لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، أو لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المؤمنون عند شروطهم » ، بل لا بدّ من شمولهما له من بلوغه إلى مرتبة الإنشاء القولي أو الفعلي على وجه ،

٢٨٧

والمفروض فيما نحن فيه أنّ ما تبانيا عليه لم يقع في حيّز الإنشاء ، بل لا يكون إلاّ أمرا قلبيّا لا أثر له.

وأمّا دعوى انصراف العقد اللفظي ، أو انصراف لفظ الثمن أو المثمن المذكورين فيه إلى ذلك المقيّد ـ بواسطة التباني فتقع تلك الخصوصيّة التي يدّعي أنّ العقد صارت مقيدة بها تحت الإنشاء اللفظي ـ فمما لا وجه له أصلا ، لأنّ التقييد المعنوي من دون دليل عليه لا يوجب انصراف المطلق إلى ذلك الفرد الخاصّ المقيّد بذلك القيد المعنوي.

وأمّا سبق ذكر التباني بالمقاولة قبل العقد لا أثر له في ظهور ألفاظ العقد أو مجموع جملته ، ولذلك ذهب المشهور إلى عدم لزوم الوفاء بشروط التباني ، أي ما تواطيا عليه قبل العقد ، بل عن صاحب الرياض قدس‌سره نقل الإجماع على عدم لزوم الوفاء بها ، وحكاه أيضا عن بعض الأجلّة.

وأمّا ما أورده شيخنا الأستاذ قدس‌سره على هذا الوجه ، بأنّ القول بالانصراف إلى عقد خاصّ ـ أي المقيّد ـ يوجب بطلان العقد عنه تخلّفه أو تعذّره ، مع أنّ بناءهم في باب تخلّف الشروط أو تعذّرها أنّهما يوجبان الخيار لا البطلان. ففيه : أنّ الانصراف بواسطة التباني قبل العقد ليس أمره أعظم من التصريح في اللفظ ، حتّى فيما إذا كان تبانيهما على وجود وصف في أحد العوضين أو في كليهما ، مثلا تبانيهما على كون الجارية المبيعة طبّاخة ، أو العبد المبيع كاتبا ـ على فرض أنّه كان كالتصريح بذلك في مقام الإنشاء ـ لا يوجب تخلّفه أو تعذّره بطلان العقد ، بل بناؤهم على أنّ تخلّف الوصف أو تعذّره لا يوجب إلاّ الخيار.

والسرّ في ذلك أنّ هناك التزامان : أحدهما : هو الالتزام بنفس المبادلة بين العوضين. والثاني : هو التزامه بأن يكون أحد العوضين أو كلاهما كذا وكذا. والالتزام الثاني مربوط بالالتزام الأوّل ، فلو لم يعمل بالالتزام الثاني يكون ذاك موجبا للخيار ، لأنّ الالتزام الأوّل كان مشروطا بالالتزام الثاني ، فلا يجب الوفاء به إلاّ في ظرف‌

٢٨٨

العمل بالالتزام الثاني ، فإذا تخلّف أو تعذّر فلا يجب الوفاء كي يكون لازما ، بل هو مخيّر بين أن يعمل بالتزامه العقدي ـ والمبادلة التي وقعت ـ وأن لا يعمل. وهذا معنى الخيار.

وبعبارة أخرى : وجوب الوفاء الذي هو منشأ اعتبار اللزوم موضوعه العقد المشروط ، أو العوض والمعوّض الموصوف بكذا ، فعند تخلّف الشرط أو الوصف لا يشمله دليل وجوب الوفاء ، فيكون مخيّرا. وهذا هو الخيار ، ولا وجه لبطلان العقد.

الثالث : أنّ التراضي وقع بين العوضين مبنيّا على العمل بالشرط المذكور قبل العقد الذي تواطيا عليه ، فبدون العمل بذلك الشرط يكون أكلا للمال بالباطل ، فيجب العمل على طبق تبانيهما وتواطئهما ، ويلزم الوفاء به لكي لا يكون أكلا للمال بالباطل.

وفيه أوّلا : لو صحّ هذا الكلام فمقتضاه بطلان العقد ؛ لأنّ ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

وثانيا : هو أنّ الرضا المعاملي غير الرضا بمعنى طيب النفس ، ففي بيع المضطرّ ليس طيب النفس مع أنّه صحيح ، فالمراد من قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (١) هو أن لا تكون المبادلة بين العوضين بإكراه أو إجبار ، وفيما نحن فيه لا شكّ أنّه لا إكراه ولا إجبار ، والمبادلة بين المالين وقعت برضاء منهما ، غاية الأمر حيث كان الالتزام بهذه المبادلة مبنيّا على ما تبانيا عليه ، فإذا لم يعمل الطرف بما تبانيا عليه ، فدليل وجوب الوفاء لا يشمله ، لأنّ موضوعه المبادلة المشروط ، فيكون له الخيار ، لا أن يكون أصل المبادلة باطل ، لأنّها وقعت باختيارهما ، والالتزام ـ بأن يقف عند هذه المبادلة ولا يحلّ ما عقد عليه ـ مشروط بوجود هذا الشرط أو هذا الوصف ، فإذا تخلّف أو تعذّر الشرط أو الوصف فلا ملزم له بالوقوف عند هذه المبادلة ، بل له حلّه وفسخه. وهذا معنى الخيار.

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٨.

٢٨٩

وقد عرفت ممّا ذكرنا عدم صحّة ما أفاده شيخنا الأعظم قدس‌سره (١) ـ في آخر هذا الأمر أنّ الشرط من أركان العقد ، بل جزء للثمن أو المثمن ، فلا بدّ من ذكره وإلاّ كان العقد باطلا ـ وأنّ العقد صحيح ، ذكر الشرط أو لم يذكر ، عمل به أو لم يعمل ، تعذّر أو لم يتعذر. نعم في صورة تخلّف الشرط أو تعذّره يرتفع اللزوم ، لأنّ العقد باطل. وهذا هو ما ذهب إليه المشهور ، بل ادّعي عليه الإجماع.

[ الشرط ] التاسع : ربما يقال إنّه من شرائط صحّة الشروط التنجيز. والكلام في اعتبار هذا الشرط في صحّة الشروط تارة : باعتبار نفس الشرط ، وأنّه هل يعتبر في نفس الشرط ـ مع قطع النظر عن العقد ـ التنجيز ، كما أنّه معتبر في نفس العقد ، وأنّ التعليق مبطل ، أم لا؟ وأخرى : باعتبار سارية التعليق إلى العقد ، فيكون العقد باطلا ، فالشرط يبطل بالتبع.

أمّا باعتبار الأوّل ، فتارة المراد من التعليق تعليق الإنشاء ، وأخرى تعليق المنشأ.

أمّا الأوّل ، أي تعليق الإنشاء ، أي كون الجعل والإيجاد معلّقا على أمر ، فهذا غير معقول ، بمعنى تحقّق الإنشاء والإيجاد والجعل معلّقا على أمر غير ممكن ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإنشاء والجعل تكوينيّا أو كان تشريعيّا.

وبعبارة أخرى : الجعل لا ينفكّ عن المجهول ، والإيجاد عن الوجود ، فبهذا المعنى لا يمكن لا تعليق العقد ولا الشرط ولا غيرهما من الإنشاءات ، والإنشاء في التشريعيّات أيضا أمره دائر بين الوجود والعدم ، فكونه موجودا ومعلّقا غير ممكن.

وأمّا الثاني : ـ أي تعليق المنشأ ـ فهو في التكوينيّات كالإنشاء أيضا غير ممكن ، لأنّ المنشأ التكويني أيضا أمره دائر بين الوجود والعدم ، ولا معنى لأن يكون معلّقا على أمر. وأمّا في الأمور الاعتباريّة والتشريعيّة كالأحكام الشرعيّة مطلقا ، تكليفية كانت أم وضعيّة فالتعليق فيها ممكن ، ففي الجعالة يمكن جعل ملكيّة حمل بعير من‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٢٨٣.

٢٩٠

الطعام لمن جاء بصواع الملك ، كما يشير إليه قوله تعالى ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (١) والمنشأ والمجعول تشريعا حمل بعير معلقا على مجيئه بصواع الملك ، ولا يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشإ ، لأنّ المنشأ وهي الملكيّة لحمل بعير يوجد في عالم الاعتبار والتشريع حال الإنشاء ، ولم يتأخّر منه آن من الآنات.

وهذا المعنى في الأمور التكوينيّة غير ممكن ، لأنّ الأمور التكوينيّة إن وجدت يكون وجودها بتّية ولا يقبل التعليق ، بخلاف الاعتباريّات فإنّ اعتبار أمر معلّقا على وجود أمر آخر لا مانع منه ، فيعتبر وجوب الحجّ على تقدير الاستطاعة ، فيجوز اعتبار نجاسة ماء العنب على تقدير الغليان من قبل أن يخلق الكرم ، فضلا عن كونه قبل وجود الغليان ، وأمّا مسكريّته فلا يمكن إيجادها في الخارج على تقدير الغليان قبل وجود الغليان.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المنشئات في باب العقود والإيقاعات حيث أنّها أمور اعتباريّة فلا مانع من تعليقها عقلا ، ولكن انعقد الإجماع على عدم جواز التعليق في منشآت العقود ، فالشرط أيضا حيث أنّه من هذه الجهة مثل العقود عبارة عن إنشاء الالتزام بأمر على نفسه لطرفه ، والمنشأ بهذا الإنشاء هو نفس الالتزام بذلك الأمر ، فلا مانع من أن يكون ذلك الأمر الذي التزم به معلّقا على أمر آخر ، مثلا لو التزم في ضمن عقد لازم أن يطبخ له ولكن معلّقا على نزول ضيف عليه ، أو التزم بأن يخيط له ثوبا معلّقا على تزويجه ، وهكذا في سائر الموارد لا يلزم منه ـ أي من تعليق الشرط ـ محذور عقلا أصلا.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ تعليق الشرط وعدم تنجيزه ـ بمعنى تعليق ما التزم به ـ لا محذور فيه عقلا أصلا ، مثل تعليق المنشأ في باب العقود ، ولكن الفرق بين الشروط والعقود هو أنّ في باب العقود وإن لم يكن محذور عقلا في تعليق منشآتها إلاّ أنّه ممنوع‌

__________________

(١) يوسف (١٢) : ٧٢.

٢٩١

شرعا ، للإجماع. وأمّا في باب الشروط فلا إجماع ولا محذور شرعا في البين في تعليقها.

وأمّا الثاني ، أي : تعليق الشرط هل يسري إلى العقد كي يكون باطلا فيكون الشرط باطلا بالتبع ، أم لا؟

أقول : إنّ تعليق الأمر الذي التزم به ، كخياطة الثوب مثلا في المثال المذكور لا ربط له بتعليق العقد ، فلو قال : بعتك هذه الدار على أن تخيط ثيابي إن تزوّجت ، يكون بيع الدار منجّزا على كلّ حال ، غاية الأمر إنّ المشروط عليه ملزم بخياطة ثياب البائع على تقدير زواجه. وأمّا إن لم يتزوّج المشتري ، فالدار له ولا شي‌ء عليه. وهذا واضح جدّا. فظهر أنّ تعليق الشرط لا يضرّ بصحّته.

٢٩٢

خاتمة

في بيان أحكام الشروط الصحيحة‌

أقول : الشروط الصحيحة التي هي الآن محلّ الكلام على ثلاثة أقسام :

شرط الصفة ،

وشرط الغاية ،

وشرط الفعل ،

فالأوّل : عبارة : عن اشتراط وجود صفة في المبيع الشخصي ، أو في متعلّق عقد آخر غير البيع. وأمّا اشتراط إيجاد صفة في ما تعلّق العقد به فهو راجع إلى شرط الفعل.

وحكم هذا القسم هو أنّه مع فقد ذلك الوصف يكون الخيار للمشروط له ، فلو باع حيوانا على حامل فلم يكن كذلك ، فيكون الخيار للمشتري ، وذلك من جهة أنّه يلتزم بهذه المعاملة والمبادلة فيما إذا كان المبيع متّصفا بهذه الصفة ، فإذا لم يكن فلا التزام له بالفاقد لهذه الصفة مستقلاّ.

إن قلت : فبناء على هذا تكون المعاملة باطلة ، لا أنّه له الخيار فقط لم قلت من عدم تعهّده والتزامه بالمبادلة مع فاقد الوصف.

قلت : إنّ المعاملة وقعت بين الذاتين ، غاية الأمر أنّ التزامه بهذه المبادلة بين المالين مبنيّ على اتّصاف أحدهما أو كليهما بتلك الصفة ، فالمشروط عليه ملتزم بأن يكون ما التزم بمبادلته مع عوضه المذكور في العقد متّصفا بصفة كذا.

وأمّا الشارط فحيث كان التزامه بالمبادلة مشروطا بوجود صفة كذا في متعلّق العقد ، فإن لم يكن فلا التزام له ، لا أنّه لا مبادلة في البين ، فأصل المبادلة بين المالين‌

٢٩٣

متحقّق على كل حال.

نعم لو كان الوصف المفقود عنوان ذلك العوض وصورته النوعيّة ، ولو كان كذلك عند العرف لا ما هو منوّع عقلا ، فأصل المعاملة لا تتحقّق وتكون باطلة ، وذلك لأنّ المبادلة وقعت بين هذا العنوان والعوض الآخر ، فالفاقد لذلك العنوان ليس ما وقع عليه العقد ، فيصدق عليه أنّ ما قصد لم يقع.

مثلا لو قال : بعتك هذا الفرس ، وكان حمارا ، فهذا البيع باطل ، لأنّ ما وقع عليه عقد البيع هو عنوان الفرس ، والحمار مخالف معه في النوع وليس ذلك العنوان حقيقة. وكذلك لو قال : بعتك هذه الجارية الروميّة ، وكانت حبشيّة. واختلاف كونها روميّة وحبشيّة وإن لم يكن اختلافا نوعيّا عقلا ، ولكن عند العرف هما نوعان وحقيقتان ، فيكون البيع باطلا ، لأنّ ما وقع عليه البيع هي الجارية الروميّة ، وما في الخارج حقيقة أخرى.

وليس هذا من قبيل تعارض العنوان مع الإشارة ، كما قالوا في باب صلاة الجماعة : إنّه إذا اقتدى بهذا الحاضر على أنّه زيد فكان عمروا من صحّة الاقتداء إذا كان عمرو عادلا أيضا ، لأنّ المأموم هناك يقصد الاقتداء بهذا الشخص الحاضر ، غاية الأمر أنّه يخطأ في تطبيقه على زيد.

وأمّا فيما نحن فيه فلا يقع البيع على هذا الشخص بعنوان أنّه هذا الشخص الموجود ، بل يكون عنوان المبيع هو كونها جارية روميّة ، أو الفرس مثلا ، فإذا ظهر أنّها حبشيّة أو أنّه حمار ، فتختلف عنوان المبيع وظهر أنّه عنوان آخر ، فما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

وبعبارة أوضح : المبادلة وقعت في موارد تخلّف العنوان بين العنوان المفقود الذي هو المقصود وبين الثمن. وأمّا العنوان الموجود فلم يقع طرفا للمبادلة ، ولذلك لا يصحّ البيع.

٢٩٤

وأمّا إذا كان تخلّف الوصف مع بقاء عنوان المبيع ، فما هو طرف المبادلة موجود. نعم الالتزام بالوقوف والثبوت عند هذه المبادلة كان مشروطا بشرط كذا في مسألة تخلّف الشرط ، وعند وجود صفة كذا في مسألة تخلف الوصف ، فإذا تخلّف الشرط أو الوصف المذكوران في متن العقد ، فالمبادلة وإن حصلت ولكن الالتزام بالوقوف والثبوت عند تلك المبادلة يكون بلا موضوع ، لأنّ موضوعه كانت المبادلة الكذائيّة ولم تحصل على الفرض ، فلا تشمله أدلّة وجوب الوفاء بهذه المبادلة ، فمخيّر بين أن يفي بتلك المبادلة وأن لا يفي. وهذا هو معنى خياره في باب تخلّف الشرط والوصف.

لكن لازم هذا الكلام أنّ معنى الخيار في المقام هو عدم الدليل على اللزوم ، لا أنّه حقّ مجعول من طرف الشارع أو من طرف المتعاقدين.

إن قلت : إنّ ما ذكرت في باب تخلّف الشرط صحيح ، ولكن في باب تخلّف الوصف حيث أنّ المبادلة وقعت بين ذات المقيّد بالوصف ، فعند تخلّف الوصف لا مبادلة في البين ، لأنّ الذات العارية عن القيد غير المقيّدة به.

قلت : إنّ العرف يرى أنّ المبادلة وقعت بين ذات الموصوف ـ أي : هذه العين الخارجيّة ـ مع العوض الآخر ، غاية الأمر أنّه التزم أن تكون متّصفة بصفة كذا. وبعبارة أوضح : إن قال : بعتك هذا العبد الكاتب بكذا ، بادل هذا العبد الشخصي الخارجي بعوض كذا ، سواء أكان كاتبا أو لم يكن ، لأنّ العين الموجودة في الخارج لا تتغيّر عمّا هي عليه بوجود الوصف وعدمه.

نعم من ظاهر العبارة يستفاد أنّه التزم بأن يكون هذا العبد الذي نقله إلى المشتري كاتبا ، والمشتري أيضا يقبل على هذا الأساس ، ولكنّه لا شكّ في أنّه يقبل انتقال هذا العبد الشخصي إليه ، فينحلّ قبوله إلى أمرين : أحدهما انتقال هذا العبد الخارجي إليه بعوض معين ، ثانيهما أنّ قبوله لهذه المبادلة حيث أنّه كان في ظرف اتّصاف المبيع بهذه الصفة المذكورة في متن العقد ، فإذا لم يكن كذلك فهو ليس ملزما‌

٢٩٥

بقبول الفاقد للوصف المذكور ، بل له الخيار في أن يقبل المبادلة الفاقدة لهذه الصفة وأن لا يقبل ، فالخيار هاهنا ليس حقّا مجعولا من قبل الشارع ، بل من باب عدم ملزم له على الوقوف والثبوت عند هذه المعاملة.

وأمّا القسم الثاني، أي شرط الغاية ، وقد يسمّى بشرط النتيجة ، أي ما هي نتيجة العقود والإيقاعات وما يحصل بها. وذلك كاشتراط كون شي‌ء ملكا لأحد المتعاقدين ، أو اشتراط كون عبد أحدهما حرّا ، أو اشتراط كون زوجه أحدهما مطلّقة ، فإنّ هذه الأمور ـ وما يشبهها ـ له أسباب خاصّة من طرف العرف والعقلاء أمضاها الشارع أو أحدثها ، كما أنّه لا يبعد أن يكون في الطلاق كذلك ، فالكلام في أنّه هل هذه الأمور كما أنّها تحصل بأسبابها الخاصّة المذكورة في أبواب الفقه تحصل بالشرط ، أم لا؟

والتحقيق أنّها ليست على نمط واحد ، بل بعضها لا يحصل إلاّ بأسبابها الخاصّة كالطلاق ، فإنّه لا يحصل بصرف الشرط ، فلو قالت المرأة : زوّجتك نفسي بشرط أن تكون زوجتك التي تكون تحتك مطلّقة ، فلا يحصل الطلاق ، وذلك لأنّ الشارع جعل للطلاق أسبابا خاصّة.

وقد يقال في مطلق الإيقاعات : أنّها كذلك ، أي أنّ لها أسباب خاصّة لا تحصل النتائج بغيرها ، فلو قال : بعتك هذه الدار بكذا بشرط أن يكون عبدك الفلاني حرّا ، لا يحصل العتق ، وعلى كلّ حال تحقيق هذه المسألة وأنّ النتيجة الفلانيّة هل لها سبب خاصّ ، أو يحصل بأيّ سبب كان؟ لا بدّ من المراجعة إلى دليل تلك المعاملة من العقد أو الإيقاع الذي يترتّب عليه تلك النتيجة ، وبعضها يحصل بأيّ سبب كان ، وبعضها يشكّ في أنّه من أيّ واحد من القسمين ، أي : هل له سبب خاصّ لا يحصل بغيره ، أم لا؟

وعمدة الكلام في هذا القسم ، وإلاّ فذانك القسمان حكمهما معلوم ، أي يكون شرط الغاية فيما إذا كانت الغاية لا تحصل إلاّ بأسبابها الخاصة باطل لا أثر له ، وفيما إذا‌

٢٩٦

ليس لها أسباب خاصّة ، بل يحصل بكلّ سبب يكون سببا عند العرف ، أو بكلّ ما يدلّ على التزامه بحصول تلك الغاية ، فيكون الشرط مؤثّرا وصحيحا.

وقد تمسّك شيخنا الأعظم قدس‌سره في هذا القسم لتأثير الشرط وحصول النتيجة بعموم « المؤمنون عند شروطهم » بل بعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، بناء على كون الشرط جزءا للعقد ، ولكن بعد تنقيح الموضوع بأصالة عدم مخالفة هذا الشرط مثلا للكتاب ، كي لا يكون من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة.

وقد عرفت أنّ هذا الأصل من العدم النعتي الذي لا يجري فيه استصحاب العدم لترتيب آثار ذلك العدم ، أي العدم النعتي عليه ، لعدم الحالة السابقة للعدم الذي هو نعت ، والعدم المحمولي ـ أي عدم وجود الشرط المخالف أزلا ـ وإن كان له الحالة السابقة ، إذ كلّ حادث مسبوق بالعدم المحمولي ، إلاّ أنّه لا أثر له ، لأنّ الأثر يترتّب على عدم كون هذا الشرط الموجود المشكوك المخالفة مخالفا ، لا على عدم وجود الشرط المخالف بمفاد ليس التامّة ، وإثبات الأوّل ـ أي عدم كون الشرط الموجود مخالفا ـ بالثاني ـ أي بعدم وجود الشرط المخالف ـ مثبت.

والعجب من شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ مع أنّه هو الذي أسّس تنبيها في تنبيهات الاستصحاب لعدم جريان هذا الأصل أي : أصالة عدم النعتي ـ قال هاهنا بجريان هذا الأصل (١).

ولذلك وجّه شيخنا الأستاذ قدس‌سره كلامه بأنّ مراده أنّ التمسّك بعموم « المؤمنون عند شروطهم » ، وكذلك ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) ليس من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة كي يحتاج إلى الأصل المنقّح للموضوع.

وحاصل ما أفاده في هذا المقام ـ باختصار وتوضيح منّا ـ هو أنّ عدم حصول‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٢٨٣.

(٢) المائدة (٥) : ١.

٢٩٧

هذه الغايات بالشرط إمّا لتصرّف الشارع في ناحية أسبابها ، وإمّا في ناحية نفس المسبّبات.

والمراد من الأوّل أنّه جعل شيئا سببا لحصول هذه الغاية ، ونفي السببيّة عن شي‌ء آخر ، مثل الطلاق حيث جعل كلمة « أنت » أو « هي طالق » مع وجود سائر الشرائط المقرّرة سببا ، ونفي السببيّة عن سائر الألفاظ التي كانت سببا للطلاق عندهم ، كقولهم : ظهرك كظهر أمّي ، وأمثال ذلك.

والمراد بالثاني : هو جعل المسبّب غير قابل الحصول في حال أو بالنسبة إلى شخص ، وذلك كطلاق الحائض في حال الحيض ، أو في طهر المواقعة ، أو بيع المصحف من الكافر ، وأمثال ما ذكر ، وعلى كلّ واحد من التقديرين ليس الشكّ شكّا في مصداق المخالف للكتاب كي يكون الشكّ من الشكّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص ، فلا يجوز التمسّك بعموم العامّ لرفع حكم الشكّ موضوعا.

بيان ذلك : أنّ الشكّ في مصداق المخصّص ـ بعد الفراغ عن معرفة المخصّص مفهوما ـ إمّا بالظهور العرفي أو النصوصيّة ، ثمَّ يشكّ في أنّه هل هذا الفرد الموجود مصداق لذلك المفهوم المعيّن المعلوم ، أم لا؟ لجهات خارجيّة ، كما إذا علمنا أنّ مطلق مرتكب الذنب ـ صغيرة كانت أم كبيرة ـ فاسق ، ولكن شكّ في أنّه صدر عنه صغيرة ، أم لا؟

وأمّا إذا لم يعلم أنّ مرتكب الصغيرة فاسق شرعا أم لا؟ وارتكب صغيرة قطعا ، فهذا الشكّ ليس شكّا في المصداق ، ويجوز التمسّك بعموم العامّ. وما نحن فيه من هذا القبيل ، ومرجع الشكّ فيما نحن فيه إلى أنّ الشارع هل حكم بسببيّة كذا ، أو بنفي سببيّة كذا لحصول هذه الغاية أم لا؟ وهل حكم بعدم قابلية وجود هذه الغاية في هذه الحال؟ كحصول الطلاق في حال الحيض أو في طهر المواقعة ، فتكون الشبهة حكميّة ، ويجوز التمسّك بعموم « المؤمنون عند شروطهم » ، بل بـ ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ولا يحتاج إلى‌

٢٩٨

أصالة عدم المخالفة ، بل لا تصل النوبة إليها. هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره.

ولكن ظاهر كلام شيخنا الأعظم قدس‌سره هو التمسّك بأصالة عدم المخالفة لا العمومات ابتداء ، بل الرجوع إليها بعد تنقيح موضوع العامّ بأصالة عدم المخالفة ، وهذه عبارته : فإن لم يحصل له ـ أي التمييز بين أنّ هذا الحكم الذي يريد أن يشترط في خلافه ممّا يجوز أن يتغيّر بالاشتراط أو لا ـ بنى على أصالة عدم المخالفة ، فيرجع إلى عموم « المؤمنون عند شروطهم ». انتهى محلّ الحاجة من كلامه ، زيد في علوّ مقامه.

فانظر إلى هذه العبارة ، فإنّه كالصريح في أنّ الشبهة مصداقيّة ، ولكن بواسطة جريان الأصل الموضوعي ـ وهو أصالة عدم مخالفة هذا الشرط المشكوك للكتاب والسنة ـ ينقّح موضوع العام ، فيتمسّك به.

فإن قلنا بعدم صحّة جريان هذا الأصل ـ كما هو المختار ـ لا يبقى مجال للتمسّك بهذا الأصل لإثبات موضوع العامّ ، ويرد الإشكال عليه.

وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره وإن كان صحيحا ومتينا في حدّ نفسه ، ولكن لا يلائم مع عبارة شيخنا الأعظم قدس‌سره وإن كانت عبارته الأخيرة ربما يشعر بما ذكره شيخنا الأستاذ ، حيث يقول : ومرجع هذا الأصل إلى أصالة عدم ثبوت هذا الحكم على وجه لا يقبل تغيّره بالشرط ، انتهى.

فبناء على هذه العبارة الأخيرة تكون الشبهة حكميّة ، فيكون المرجع العمومات وإطلاقات أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، بل بالعقد.

وأمّا القسم الثالث ، أي شرط الفعل‌.

والمراد به أن يتعلّق الشرط بفعل اختياري مقدور للمكلّف ، يكون سائغا ، ويكون فيه غرض معتدّ به عند العقلاء ، ولا يكون مخالفا للكتاب والسنّة ، ولا يكون مخالفا لمقتضى العقد ، وأن لا يكون منافيا لبعض الآثار التي جعلها الشارع للمنشإ بالعقد ، وأن لا يكون مجهولا ، وأن يلتزم به في متن العقد.

٢٩٩

ففيه أمور :

الأوّل : إذا كان الفعل المشروط جامعا لهذه الشروط الثمانية ، فهل يجب على المشروط عليه الوفاء بذلك الشرط ، أم لا؟ بل مخيّر بين أن يأتي بالشرط ويفي بالتزامه ، وبين أن لا يأتي به ولا يستحقّ العقاب على ترك العمل بالشرط ، غاية الأمر أنّه مع عدم العمل به يكون للمشروط له الخيار.

المشهور بين الأصحاب هو الأوّل ، بل ادّعى عليه في التذكرة الإجماع (١) ، وهو الأقوى ، وذلك أوّلا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المؤمنون عند شروطهم » بناء على أن يكون الظرف متعلّقا بأفعال العموم ، فيكون التقدير : المؤمنون يثبتون ويقفون عند شروطهم ، فيكون كناية عن أنّهم يعملون بها ولا يتردّدون في ترتيب الأثر عليها ، فضلا عن عدم الاعتناء وترك العمل بها.

وحيث أنّ الظاهر في القضايا الصادرة عند الشارع ـ وإن كانت بصورة الجملة الخبريّة ـ هو أنّه في مقام بيان الحكم الشرعي ، وغالبا ينشأ طلب وقوع الشي‌ء بصورة الإخبار عن وقوعه في الماضي أو المستقبل ، كقوله في الصلاة مثلا « أعاد » أو « يعيد ».

فيكون معنى قوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » ـ بناء على ذلك التقدير ـ أنّ المؤمنين والمسلمين يجب عليهم الثبوت والوقوف عند شروطهم والتزاماتهم ، أي يجب عليهم العمل على طبق التزاماتهم ، خصوصا بملاحظة استشهاد أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه القضيّة لوجوب الوفاء بما شرط لامرأته في رواية إسحاق بن عمّار التي تقدّم ذكرها (٢) في صدر هذه القاعدة ، وكذلك استشهاد أبي الحسن موسى عليه‌السلام في موثّقة منصور بن‌

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤٩٠.

(٢) تقدّم ذكره في ص ٢٥٠ ، رقم (٢).

٣٠٠