القواعد الفقهيّة - ج ٣

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٥٢

نعم ظاهر هذه الآيات وجوب قبول إخبار العادل بموضوع من الموضوعات وإن كان واحدا ، ولكن يمكن أن يقال بتقييد إطلاقها بكونها متعدّدة ، إمّا بالإجماع أو بالأخبار كرواية مسعدة بن صدقة (١) وغيرها.

وخلاصة الكلام : أنّ الفقيه المتتبّع في موارد قبول شهادة الرجلين العادلين ، إذا أمعن النظر فيها ولاحظ وتدبّر يقطع بأنّه لا خصوصية لتلك الموارد ، بل تكون حجّيتها عامّة في جميع الموضوعات إلاّ ما خرج عن تحت ذلك العموم بأدلّة خاصّة.

فما روي الصدوق قدس‌سره في كتاب عرض المجالس عن الصادق عليه‌السلام ، وفيه : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة » (٢) ظاهر في أنّ شهادة العدلين في ارتكاب الذنب مثل رؤيته طريق مثبت لارتكاب الذنب ، ومعلوم أنّه لا خصوصية لارتكاب الذنب من بين سائر الموضوعات.

والانصاف أنّ إنكار حجّية البيّنة العادلة ـ التي نسب إلى القاضي عبد العزيز بن برّاج (٣) في إثبات النجاسة ، وكذا ما هو الظاهر من السيّد في الذريعة (٤) ، والمحقق الأوّل في المعارج (٥) ، والثاني في الجعفريّة (٦) ، وبعض آخر ـ قدس الله أسرارهم ـ من أنّ الاجتهاد لا تثبت بشهادة عدلين لعدم الدليل عليه ـ لا وجه له بعد ما عرفت توافر الأدلّة على عموم حجّيتها.

الخامس : من أدلّة حجّيتها هي سيرة العقلاء من كافة الملل وإن لم يكونوا من‌

__________________

(١) تقدّم في ص ١١ ، رقم (٢).

(٢) « الأمالي » للصدوق ، ص ٩١ ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢٩٢ ، أبواب كتاب الشهادات ، باب ٤١ ، ح ١٣.

(٣) « جواهر الفقه » ص ٩ ، مسألة ٩.

(٤) « الذريعة » ج ٢ ، ص ٨١.

(٥) « معارج الأصول » ص ٢٠١.

(٦) « الجعفريّة » ضمن رسائل المحقق الكركي ، ج ١ ، ص ٨٠.

٢١

أهل الدين ، فجميع الملل والعقلاء يرون شهادة شخصين ـ غير متّهمين ولا معروفين بالكذب ولا مغرضين بالنسبة إلى المشهود عليه ـ طريقا مثبتا ؛ لما قامت عليه في أحكامهم العرفيّة بالنسبة إلى جميع الموضوعات.

والحاصل : أنّ كون شهادة شخصين بالقيود التي عندهم من الأمارات العرفيّة وطريقا مثبتا لأيّ موضوع تعلّقت به من المسلّمات عندهم ، وعليها ـ أي حجّية البيّنة في إثبات جميع الموضوعات التي لها آثار عندهم ـ استقرّت سيرتهم في معاملاتهم ومعاشراتهم وسياساتهم ولم يرد ردع من قبل الشارع ، بل وردت إمضاءات من قبل الشارع على العمل على طبقها ، وهي موارد الأخبار الكثيرة المتقدّمة ، بل يمكن ادّعاء جريان سيرة المتشرّعة بما هم متشرّعة على حجّيتها.

نعم خصّصت هذه القاعدة في موارد ، مثل شهادتهما على الزناء واللواط وأمثالهما ممّا لا يكتفي بشهادة الاثنين ، بل ثبوتهما يحتاج إلى شهادة أربع من العدول ، وكالشهادة على الميّت بكونه مديونا بكذا ، فإنّها ـ أي البيّنة ـ لا تقبل إلاّ مع ضمّ يمين المدّعي إليها ، وكشهادتهما على النفي بناء على عدم قبول بيّنة النفي ، وكبيّنة المنكر المسمّى ببيّنة الداخل بناء على اختصاص هذه الوظيفة بالمدّعي ، وغير ذلك.

فهذه قاعدة شرعيّة قابلة للتخصيص كسائر العمومات الصادرة من الشارع ، فيجب الأخذ بها والعمل على طبقها إلاّ أن يرد دليل وحجّة من قبله على التخصيص. وإذا حصل الشكّ في مخصّصية شي‌ء يؤخذ بأصالة العموم ، كما هو الحال في سائر الموارد.

ثمَّ إنّ هاهنا أمور ينبغي أن يذكر‌

[ الأمر ] الأوّل : في أنّه بعد ما عرفت من عموم حجّية البيّنة في كلّ موضوع ، فاعلم : أنّه لا بدّ وأن يكون له أثر شرعي ، لأنّه إذا لم يكن له أثر شرعي لا معنى للتعبّد‌

٢٢

بقبولها.

ففي كلّ مورد لا يكون عدم شي‌ء ، أو وجوده ، أو بقاؤه محرزا بالوجدان ، والشارع أمر بترتيب الأثر على عدمه كما في مورد أصالة البراءة ، أو على وجوده كما في موارد الأمارات والأصول المثبتة للتكاليف والأحكام أو لما هو موضوع للحكم الشرعيّ ، أو على بقائه وعدم ارتفاعه كما في موارد الاستصحاب لا بدّ وأن يكون لذلك الوجود أو ذلك العدم أو لبقاء ذلك الشي‌ء بعد القطع بحدوثه ـ سواء أكانت تلك الحالة السابقة هو الوجود أو العدم ـ أثر شرعي ، كي يكون أمر الشارع بالتعبّد بلحاظ ترتيب ذلك الأثر ، فلا بد في مورد قيام البيّنة أيضا أن يكون لما قامت عليه أثر شرعي.

فإن كان موضوع الأثر أمرا محسوسا وقامت البيّنة عليه فلا كلام ، وأمّا إن لم يكن من الأمور المحسوسة ـ كالعدالة والاجتهاد وسائر الحالات والملكات النفسانيّة التي لثبوتها أثر شرعي ـ فهل تقبل البيّنة فيها أم لا؟

والتحقيق في هذا المقام هو أنّ أدلّة حجيّة البيّنة ـ سواء كانت هي سيرة العقلاء أو الإجماع أو الاخبار أو الآيات ـ ظاهرة فيما إذا كان أخبارهما عن حسّ ، إذ هو المتفاهم العرفي عن لفظة « الشهادة » و « البيّنة ».

ولكن المشهود به قد يكون من الأمور المحسوسة بنفسه ، كما إذا شهدا بإطلاق ماء أو إضافته أو خمريّة مائع وغير ذلك من الأمور المحسوسة بأحد الحواسّ الخمسة التي لها آثار شرعيّة. وهذا هو الذي لا كلام في حجيّة البيّنة فيها ، بناء على عموم حجيتها في جميع الموضوعات.

وقد لا يكون من الأمور المحسوسة بأحد الحواسّ الخمسة بنفسه ، ولكن له آثار محسوسة بحيث تكون بينها وبين ذلك المشهود به ملازمة عرفيّة ، فالشهادة بمثل هذه الموضوعات أيضا تقبل ، وتكون إحساسها بإحساسها آثارها غير المنفكّة عنها عند العرف.

٢٣

وكذلك إذا كان لها أسباب محسوسة ، مثل الطهارة والنجاسة والزوجيّة والملكيّة ، وغير ذلك من الاعتبارات الشرعيّة أو العرفيّة التي لها أسباب محسوسة ، فالشهادة بمثل هذه الموضوعات أيضا تقبل ، لإمكان عدّها في المحسوسات باعتبار كون أسبابها محسوسة.

ويمكن أن يقال : إنّ الشهادة على هذا المسبّب غير المحسوس شهادة على السبب المحسوس بالالتزام ، فإذا ثبت السبب بها لكونه محسوسا يثبت المسبّب ، للملازمة بينهما. وحيث أنّ البيّنة من الأمارات ولا مانع من إثبات لوازم ما قامت عليه ، وكذلك ملزوماته بها.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ نفس المشهود به إذا كان من المحسوسات فيثبت بالبيّنة ، وكذلك فيما إذا كان له سبب محسوس أو كان له أثر محسوس ، وأمّا فيما عدا ذلك فلا دليل على وجوب قبولها ، لأنّ دليل حجيتها إمّا الأخبار والآيات ، فهي لا تدلّ إلاّ على حجيّة البيّنة إذا كانت شهادتهما وأخبارهما عن مشاهدة وعيان.

وبهذا الاعتبار يطلق على أخبارهما بشي‌ء لفظة « الشهادة » وذلك لأنّ المتفاهم العرفي من كلمة « الشهادة » هو الإخبار عمّا عايناه وعلماه بإحدى الحواس الخمس لا مطلق الإخبار عن علم ، ولذلك لا يقال للإخبار عن رأيه واعتقاده فيما إذا أخبر المجتهد عن رأيه : أنّه شهد بذلك.

وكذلك إخبار أهل الخبرة عن رأيه في موضوع يتعلّق بفنّه ليس من باب الشهادة ، ولذلك لو قلنا بحجيّة قول أهل الخبرة ـ كما هو كذلك ، لقيام سيرة العقلاء عليها ـ لا يعتبر فيه التعدّد ولا العدالة.

وإمّا الإجماع والسيرة ـ أي بناء العقلاء ، أو سيرة المتشرّعة ـ فلأنّ القدر المتيقّن منهما هو فيما إذا كان أخبارهما بأحد الطرق الثلاث ، أي يكون نفس المشهود به من المحسوسات ، أو له آثار محسوسة ، أو يكون له سبب محسوس.

٢٤

الأمر الثاني : في أنّ البيّنة هل هي عبارة عن شهادة رجلين ، وشهادة المرأة خارجة عن البيّنة موضوعا ، أم هي أيضا بيّنة ولكن اعتبر شرعا فيها بدل كلّ واحد من الرجلين امرأتان ، فتكون البيّنة فيما إذا كن شاهدات عبارة عن شهادة أربع امرأة؟

ثمَّ على تقدير كون البيّنة صادقة على شهادتهنّ عرفا ـ غاية الأمر مقيّدة بكون عددهنّ أربع إجماعا ـ فهل يكون مقتضي عموم حجيّة البيّنة حجيّة شهادتهنّ في جميع الموضوعات إلاّ ما خرج بالدليل ـ كثبوت الهلال والطلاق وغيرهما ممّا لا تجوز شهادتهنّ فيها ، لا منفردات ولا منضمات إلى الرجال ، لنصوص وردت في عدم جواز شهادتهنّ فيها ـ أم لا ، بل قبول شهادتهنّ في أي موضوع يحتاج إلى ورود دليل على القبول في ذلك الموضوع ، وإلاّ فمقتضى الأصل عدم القبول ، لا منفردات ولا منضمات ، ولا في باب الدعاوي ومقام المخاصمة ، ولا في غيرها؟

ربما يستشهد لعموم حجيّة شهادتهنّ إلاّ ما خرج بالدليل برواية عبد الكريم بن أبي يعفور ، عن الباقر عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : « تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات ، معروفات بالستر والعفاف ، مطيعات للأزواج ، تاركات للبذاء والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم ». (١)

وفيه : أنّ ظاهر هذه الرواية أنّه عليه‌السلام في مقام بيان شروط قبول شهادة المرأة وأن أي امرأة تقبل شهادتها ، لا في مقام بيان أنّه في أيّ موضوع تقبل ، كي يؤخذ بإطلاقها.

والتحقيق في المقام : أمّا في الأوّل ـ أي في شمول مفهوم البيّنة حسب المتفاهم العرفي لشهادة النساء ، وعدم خروجها عن مفهوم البيّنة موضوعا ـ فالظاهر أنّها ليست بخارجة عنها موضوعا ، بل البيّنة عبارة عن شهادة اثنين ، سواء أكانا رجلين‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٤٢ ، ح ٥٩٧ ، باب البيّنات ، ح ١ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٣ ، ح ٣٤ ، باب العدالة المعتبرة في الشهادة ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢٩٤ ، أبواب كتاب الشهادات ، باب ٤١ ، ح ٢٠.

٢٥

أو امرأتين. اللهمّ إلاّ أن يدّعي انصرافها إلى الرجلين.

وعلى كلّ تقدير لا شكّ في ورود الدليل على قبول شهادتهنّ منفردات في بعض الموارد ، ومنضمات إلى الرجال في موارد أخر.

والفرق بين الصورتين أنّه بناء على عدم شمول مفهوم البيّنة لشهادتهنّ وضعا أو انصرافا ، ففيما إذا لم يوجد دليل خاصّ على القبول في مورد فمقتضى الأصل عدم القبول. وأما بناء على الشمول ، فلو كان عموم أو إطلاق بالنسبة إلى حجيّة البينة في كل موضوع ـ كما ادعينا وجوده ـ فمقتضى ذلك العموم أو ذلك الإطلاق هو قبول شهادتهن ، إلا أن يأتي دليل في ذلك الموارد على عدم القبول.

وقد تعرض الفقهاء في كتاب الشهادات لموارد القبول وعدمه منفردات ومنضمات الى الرجال ، والروايات الواردة في باب شهادة النساء مختلفة جدا ، فمفاد بعضها جواز شهادتهن فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا اليه ويشهدوا عليه. (١) وظاهر هذا القسم من الروايات انحصار القبول فيما ذكر ، وعدم قبولها فيما يستطيع الرجال ان ينظروا إليه. ومفاد بعضها جواز شهادتهن في النكاح منضمات إلى الرجال ، وعدم قبولها في الطلاق. (٢) ومفاد بعضها عدم قبولها في الطلاق والهلال ، معللا بضعف رؤيتهن ومحاباتهن (٣) ، إلى غير ذلك من الاختلافات بينها.

وتفصيل هذه المسألة في كتاب الشهادات ، وليس هاهنا مقام بحثها ، والغرض هاهنا بيان حكم مورد الشك ، وعدم وجود دليل لا على القبول ولا على عدم القبول.

وقد ذكرنا الفرق بين عدم شمول إطلاقات أدلة حجية البينة لشهادتهن ، وشمولها لها ففي الصورة الأولى مقتضى الأصل عدم القبول ، وفي الثانية قبولها وجوازها في‌

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢٥٨ ، أبواب كتاب الشهادات ، باب ٢٤ ، ح ٤ ، ٥ ، ٧ و ٩.

(٢) « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢٥٨ ، أبواب كتاب الشهادات ، باب ٢٤ ، ح ٤ ، ٥ ، ٧ و ١١.

(٣) « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢٥٨ ، أبواب كتاب الشهادات ، باب ٢٤ ، ح ٨ ، ١٠ و ١١.

٢٦

مورد الشك ، لعدم دليل لا على القبول ولا على عدمه.

الأمر الثالث : في أنه بعد ما عرفت حجية البينة في جميع الموضوعات التي لها أثر شرعي ، فيجب على كل من علم بقيام البينة ـ واجدة لشروط اعتبارها ـ على موضوع ترتيب أثر ذلك الموضوع عليه ، إن كان الأثر المترتب على ذلك الموضوع مما يكون مربوطا إليه ، سواء أكان غيره أيضا شريكا معه في هذا الأثر ، أم لا.

مثلا إذا شهد شاهدان عدلان عنده : أنك تركت في هذه الصلاة التي صليتها الآن أحد أركانها ، فيثبت بالبينة المعتبرة هذا الموضوع ، أي فقدان صلاته للركن الفلاني.

ولكن ثبوت هذا الموضوع لا أثر له إلا لنفس المصلي إذا كان ما قرأه صلاة نفسه ، فيجب عليه الإعادة أو القضاء إذا قامت عنده البينة ، أو علم بوجودها ، ولا أثر لقيام هذه البينة في حق غيره ، وأما إذا كان غيره شريكا معه في هذا الأثر ، كما إذا قامت البينة المعتبرة على نجاسة هذا المائع مثلا ، فمن اطلع على هذه البينة يجب عليه الاجتناب عن هذا المائع.

وقد يكون أثر ذلك الموضوع مخصوصا بالغير ، كقيام البينة عند زيد على أن عمروا مثلا فات عنه الصلاة الفلانية ، فهذه البينة بالنسبة إلى زيد لا أثر له ، فإن علم عمرو بوجود مثل هذه البينة يجب عليه ترتيب الأثر ، وإلا فلا يجب شي‌ء ، لا على عمرو ولا على زيد.

ثمَّ إنه لا يخفى أن ما ذكرناه مبني على أن يكون العلم بقيام البينة المعتبرة عند شخص على موضوع مثبتا لذلك الموضوع عند العالم بقيام البينة عند ذلك الشخص ، فيجب ترتيب أثر ذلك الموضوع عليه وإن لم يقم عنده البينة ، مثلا لو علم بأن شاهدين عدلين شهدا عند زيد بأنهما رأيا هلال شوال ، فبناء على عموم حجية البينة ، أو حجيتها في خصوص الهلال مثلا يجب على هذا العالم بقيام البينة عند زيد ترتيب أثر شوال أي الإفطار وحرمة الصوم.

٢٧

أما لو قلنا بأن قيام البينة المعتبرة عند شخص على موضوع لا يثبت ذلك الموضوع إلا لمن قامت عنده البينة ، وأما بالنسبة إلى غيره فلا يثبت ذلك الموضوع ولو علم بقيام البينة على وجوده عند شخص آخر.

فليس الأمر كما ذكرنا وقلنا من الأقسام الثلاثة ، بأن الأثر إما مخصوص بنفس من قامت عنده البينة ، فيجب عليه ترتيب ذلك الأثر فقط ، ولا ربط لقيامها بالآخرين. وإما غيره شريك معه ، فيجب ترتيب الأثر منه ومن غيره. وإما مخصوص بغيره ، فيجب ترتيب الأثر من ذلك الغير فقط دون نفسه.

والظاهر من أدلة عموم حجية البينة ـ سواء أكانت الأخبار والآيات ، أو كانت هي سيرة المتشرعة وبناء العقلاء ـ أن قيامها عند أي شخص على موضوع ذي أثر شرعا مثبت لذلك الموضوع للجميع ، فكل من كان ثبوت ذلك الموضوع له أثر يجب عليه ترتيب ذلك الأثر ، سواء أكان من له أثر هو من قامت البينة عنده ، أو غيره ، أو كانا شريكين.

ثمَّ أنه بناء على القول الآخر ـ أي اختصاص ثبوت مؤدى البينة بمن قامت عنده ـ فلا يجب التعرض للآخر ، سواء أكان الآخر شريكا معه في أثر ذلك الموضوع الذي قامت عليه البينة ، أو كان الأثر مخصوصا بذلك الغير ، لأن المفروض بناء على هذا القول عدم ثبوت المؤدى له وهو باق على جهله.

ولا يتوهم : أن له التعرض من باب الأمر بالمعروف إذا كان أثر المؤدى هو الوجوب عليه ـ ككون المؤدى مثلا رؤية هلال شهر رمضان ومن باب النهي عن المنكر إذا كان المؤدى هي الحرمة ، وذلك ككون المؤدى رؤية هلال شوال باعتبار حرمة الصوم في ذلك اليوم في الفرض الثاني ، ووجوبه في الفرض الأول ـ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موردهما فيما إذا تنجز التكليف وجوبا في الأول ، وحرمة في الثاني على المكلف وقام عليه البيان ، والمفروض في المقام أن ذلك الغير جاهل و‌

٢٨

لم يصل التكليف إليه ولم ينجز عليه ، لعدم ثبوت مؤدى البينة لغير من قامت عنده البينة على هذا القول.

نعم لو كان ما قام عليه البينة من المحرمات الكبيرة التي يكون وجودها مبغوضا عند الشارع ولو كان صادرا عن غير المكلفين ـ كما إذا كان المرتكب صغيرا أو مجنونا أو جاهلا أو غير ذلك مما يرفع الحرمة ـ فله التعرض والمنع ، ولكن لا بمناط النهي عن المنكر ، بل بمناط حكم العقل بلزوم المنع عن إيجاد ما هو مبغوض وجوده عند الشارع ، وإن كان المرتكب غير مكلف بتركه ولا يعاقب على فعله ، لرفع القلم عنه لصغره أو لجنونه أو لكونه مكرها على فعله ، أو لم يتنجز عليه لجهله وعدم وصول التكليف إليه.

تتميم‌

وهو أنه هل الخبر الواحد الذي مخبره عادل حجة في الموضوعات كما أنه حجة في باب الروايات التي مفادها نقل الأحكام عن الإمام عليه‌السلام أم لا؟

ذهب جماعة إلى الأول ، واستدلوا على حجيته في الموضوعات أيضا بسيرة العقلاء وبنائهم أولا ، وبالأخبار ثانيا.

فنقول : أما وجود السيرة وبناء العقلاء على قبول خبر الثقة وإن كان غير بعيد ، إلا أنه أولا خبر الثقة غير خبر العادل ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، إذ يمكن أن يكون خبر عدل ولا يكون ثقة ، لكثرة الاشتباه ، أو عدم الضبط ، أو غير ذلك.

وأما كونه ثقة وغير عادل فإمكانه من الواضحات ، بل يمكن أن يكون كافرا وثقة في إخباره ، لتحرزه عن الكذب.

وإن ادعى المدعي تحقق السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر العدل الواحد ، فعهدة هذه الدعوى عليه ، إذ العقلاء لا يهتمون بعدالة المخبر ، خصوصا إذا كانوا من غير أهل الدين ، بل ردهم وقبولهم دائر مدار الوثوق بالمخبر وإن كان كافرا ، فضلا‌

٢٩

عن أن يكون فاسقا ، هذا أولا.

وثانيا : على فرض تحقق السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر العدل الواحد ، تكون رواية مسعدة بن صدقة « الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة » (١) رادعة عن هذه السيرة ، كما أنها رادعة عن السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر الثقة أيضا ، من جهة أن ظاهر الرواية حصر غاية الحلية فيها في الاستبانة وقيام البينة ، فلو كان خبر العدل الواحد أو خبر الثقة إذا كان المخبر واحدا حجة ، فلم يكن وجه للحصر في ذينك الأمرين.

إن قلت : إن خبر العدل الواحد إذا كان حجة ، وكذلك خبر الثقة يكون داخلا في الاستبانة تعبدا ، لحكومة أدلة حجية الخبر العدل الواحد ، وكذلك أدلة حجية خبر الثقة على الدليل الذي أخذ الاستبانة غاية للحلية ، كرواية مسعدة ، كما أن استصحاب الحرمة أيضا حاكم ، وذلك لما ذكرنا في الأصول أن الأمارات والأصول التنزيلية لها حكومة على العلم الذي أخذ في الموضوع على وجه الطريقية. (٢)

قلنا : إن هذا الكلام صحيح ، ولكن لازمه أن يكون خبر العدل الواحد ، أو الخبر الثقة الذي يكون مخبره واحدا عدلا للبينة ، فكأنه عليه‌السلام قال : الأشياء كلها على الحلية ، إلا أن تعلم بموضوع الحرمة ، أو يخبر عدل واحد أو عدلان بما هو موضوع الحرمة.

وجعل العدل الواحد عدلا للعدلين في غاية الركاكة ، خصوصا إذا كانت شهادة العدلين تدريجيا لا دفعة واحدة ، لأنه مع شهادة العدل الأول يثبت الموضوع ، فشهادة الثاني يكون لغوا وبلا أثر ، بل يكون اعتبارها لثبوت المؤدى من قبيل تحصيل الحاصل ، فاعتبار التعدد مع ثبوت المؤدى بواحد متنافيان.

نعم اعتبار التعدد في خبر العدل غير الثقة مع ثبوت المشهود به بخبر الواحد‌

__________________

(١) تقدم تخريجه في ص ١١ ، رقم (٢).

(٢) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٢٢ و ٥٣٨ ـ ٥٣٩.

٣٠

الثقة لا تنافي بينهما ، ولكن اعتبار خبر الواحد الثقة مع إطلاق اعتبار التعدد في خبر العدل ـ أي وإن كانا ثقتين ـ متنافيان.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه مع اعتبار خبر العدل الواحد ، أو خبر الواحد الثقة لا يبقى لاعتبار التعدّد وحجية البينة مجال ، فمن دليل حجية البينة واعتبارها يستكشف عدم اعتبار خبر العدل الواحد ، أو خبر الواحد الثقة ، فتكون رواية مسعدة رادعة للسيرة وبناء العقلاء على فرض تحققها.

هذا ، مضافا إلى خبر عبد الله بن سليمان ، المروي في الكافي والتهذيب ، في الجبن : « كل شي‌ء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة » فجعله عليه‌السلام غاية الحلية مجي‌ء شاهدين يشهدان أن فيه ميتة ، يدل على عدم كفاية مجي‌ء شاهد واحد ولو كان عدلا أو ثقة (١).

وخلاصة الكلام : أن اعتبار التعدد كما في البينة مع عدم اعتبار التعدد كما في خبر العدل الواحد ـ أو خبر الثقة الواحد كما هو ادعاء الطرف ـ مما لا يجتمعان ، إذ هما متناقضان.

اللهم إلا أن يقال بعدم اعتبار خبر العدل الواحد وخبر الثقة الواحد في كون الميتة في الجبن ، وهو لا يخلو ـ مضافا إلى بعده ـ من الغرابة.

وأما الأخبار التي استدلوا بها على حجية الخبر العدل الواحد وخبر الثقة الواحد :

فمنها حسنة حريز ـ أو صحيحته ـ المروية في الكافي ، وفيها بعد ما وبخ الصادق عليه‌السلام ابنه إسماعيل في دفعه دنانير إلى رجل شارب الخمر بضاعة ليعامل بها ويعطي مقدارا من النفع لإسماعيل ، فأتلف النقود ذلك الرجل ، قال عليه‌السلام له : « لم فعلت ذلك ولا أجر لك؟ » فقال إسماعيل : يا أبت إني لم أره يشرب الخمر ، إني سمعت الناس‌

__________________

(١) تقدم تخريجه في ص ١٧ ، رقم (١).

٣١

يقولون ، فقال : « يا بني إن الله عز وجل يقول في كتابه ( يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) يقول : يصدق الله ويصدق المؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم » (٢).

ولا شك في أن قوله عليه‌السلام « إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم » كلمة « المؤمنون » فيه حيث أنها جمع معرف باللام يفيد العموم الاستغراقي ، لأن العام المجموعي ـ بمعنى أنه إذا شهد عندك جميع المؤمنين معا فصدقهم ـ قطعا ليس بمراد ، لأن شهادة جميع المؤمنين الموجودين في الدنيا على موضوع عادة غير ممكن ومحال.

فإذا كان العام استغراقيا ، فتنحل إلى قضايا متعددة حسب عدد أفراد المؤمنين كسائر العمومات ، فيكون مفاد هذه الجملة أن أي واحد من المؤمنين إذا شهد عندك بموضوع ، سواء أكان هو شرب الخمر كما أنه هو المورد ، أو كان غيره فصدقه.

ومعلوم أن معنى التصديق في المقام هو ترتيب أثر المشهود به على شهادته ، وهذا معنى وجوب قبول خبر الثقة والعدل الواحد ، وقد روى بعضهم « إذا شهد عندك المؤمنون فاقبلوا » (٣).

وفيه : أولا : أن أحدا لم يقل بحجية خبر كل مؤمن بل كل مسلم ، لما حكي بعضهم « المسلمون » في هذه الرواية بدل « المؤمنون ».

وثانيا : لم يقل أحد بحجية خبر الثقة أو العدل الواحد في باب الحدود ، بل ينفي تصديق المؤمن الواحد في باب ارتكاب الذنب ما رواه الصدوق في كتاب عرض المجالس ، وفيه : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا ولم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من‌

__________________

(١) التوبة (٩) : ٦١.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٩٩ ، باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الإضاعة ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٣٠ ، أبواب كتاب الوديعة ، باب ٦ ، ح ١.

(٣) تقدم ذكره في ص ١٩ ، رقم (٢).

٣٢

أهل العدالة والستر » (١).

وثالثا : من المقطوع عدم حجيتهما في مقام المخاصمة ومقابل ذي اليد.

ورابعا : يجب تقييدها ـ أي الحجية بكونهما متعددا ـ برواية مسعدة بن صدقة (٢) وخبر عبد الله بن سليمان (٣).

هذا كله ، مضافا إلى أنه ليس المراد من وجوب تصديقهم ترتيب الأثر على ما يخبرون به وإن كان فيه ضرر على الغير ، لما ورد « كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدقه وكذبهم » (٤) أي فيما يضره ولا ينفعهم.

فالمراد من وجوب تصديقهم وكذا من قبول قولهم ـ بناء على صحة الرواية الأخرى ـ هو التحذر عما أخبر به فيما إذا احتمل أن يكون على تقدير صحة ما أخبر عنه ضرر عليه ، كما أنه كذلك كان في مورد صدور الرواية.

والحاصل : أنه يدور الأمر بين هذه التخصيصات الكثيرة التي ربما يكون العموم مستهجنا معها وتقييد واحد ، وهو تقييد وجوب تصديق المؤمن بكونه متعددا ، ولا شك في أن الثاني أولى بل هو المتعين ، وكذلك الحال في مفهوم آية النبإ بناء على ثبوت المفهوم لها وشموله للأخبار عن الموضوعات وعدم كونه مختصا بالأحكام ، فيدور الأمر بين تخصيصه بهذه التخصيصات أو تقييده بالتعدد بالنسبة إلى الموضوعات ، ومعلوم أن الثاني أولى ، بل هو المتعين.

__________________

(١) تقدم تخريجه في ص ٢١ ، رقم (٢).

(٢) تقدم تخريجه في ص ١١ ، رقم (٢).

(٣) تقدم تخريجه في ص ١٧ ، رقم (١).

(٤) « الكافي » ج ٨ ، ص ١٤٧ ، كتاب الروضة ، ح ١٢٥ ، « عقاب الأعمال » ص ٢٩٥ ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ٨ ، ص ٦٠٩ ، أبواب أحكام العشرة ، باب ١٥٧ ، ح ٤.

٣٣

وأما الأخبار الواردة في الموارد الخاصة ، كقول علي عليه‌السلام : « المؤذن مؤتمن » (١) وكقوله عليه‌السلام : « الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة » (٢).

وقوله عليه‌السلام في رواية إسحاق بن عمار قال : سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا؟ فقال لي : « إن حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا وأعط أخي بقية الدنانير ، فمات ولم أشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي : إنه أمرني أن أقول لك انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي ، فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين ، ولم يعلم أخوه أن عندي شيئا ، فقال عليه‌السلام : أرى أن تتصدق منها بعشرة دنانير » (٣).

والرواية ظاهرة في وجوب قبول قول هذا الرجل المسلم الصادق ، حيث أن التصدق على خلاف الإرث ، والروايات الواردة في وجوب الاعلام في بيع الدهن المتنجس (٤) ولو لم يكن إخبار البائع واجب القبول ، كان وجوب الإخبار لغواً.

وما ورد في الاعتماد على إخبار البائع بالكيل أو الوزن (٥) ، وكذلك في إخباره باستبراء الأمة (٦) وغير ذلك من الموارد ، وفي الجميع مضافا إلى المناقشات في دلالتها أنها موارد جزئية لا يظهر منها الدلالة على قاعدة كلية ، وهي حجية كل خبر ثقة أو عدل واحد في أي موضوع من الموضوعات.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٢٨٢ ، ح ١١٢١ ، باب الأذان والإقامة ، ح ٢٣ ، « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ٦١٨ ، أبواب الأذان والإقامة ، باب ٣ ، ح ٢.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٨٧ ، ح ٣٣٨٥ ، باب الوكالة ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢١٣ ، ح ٥٠٣ ، باب الوكالات ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٨٦ ، أبواب كتاب الوكالة ، باب ٢ ، ح ١.

(٣) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٣٥ ، ح ٥٥٦١ ، باب نوادر الوصايا ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٣٧ ، ح ٩٢٣ ، باب الزيادات ، ح ١٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٨٢ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ٩٧ ، ح ١.

(٤) « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٦٦ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٦.

(٥) « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٢٥٥ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب ٥.

(٦) « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٥٠١ ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب ٥.

٣٤

وأما الاستدلال بما حكى بعضهم « المؤمن وحده حجة » فلا يخفى ما فيه من حيث السند والدلالة.

وأما استدلال لقبول خبر الثقة بمضمرة سماعة : سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها ، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال : إن هذه امرأتي وليست لي بينة ، فقال : « إن كان ثقة فلا يقربها ، وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه » (١).

ففيه أولا : معارضتها برواية يونس ، قال : سألته عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان ، فسألها : ألك زوج؟ فقالت : لا ، فتزوجها. ثمَّ إن رجلا أتاه فقال : هي امرأتي ، فأنكرت المرأة ذلك ما يلزم الزوج؟ قال : « هي امرأته إلا أن يقيم البينة » (٢).

ونحوه مكاتبة الحسين بن سعيد (٣).

وأيضا معارضتها بخبر عبد العزيز المهتدي ، سألت الرضا عليه‌السلام قلت له : إن أخي مات فتزوجت امرأته ، فجاء عمي فادعى أنه كان تزوجها سرا ، فسألتها عن ذلك ، فأنكرت أشد الإنكار وقالت : ما كان بيني وبينه شي‌ء قط فقال : « يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها » (٤).

ومعلوم أن المعارض أقوى من مضمرة سماعة ، لكثرة عددها ، وعمل المشهور بها وإعراضهم عنه ، وعدم الفتوى به.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٤٦١ ، ح ١٨٤٥ ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح ٥٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٢٦ ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب ٢٣ ، ح ٢.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٤٦٨ ، ح ١٨٧٤ ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح ٨٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٢٦ ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب ٢٣ ، ح ٣.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٤٧٧ ، ح ١٩١٤ ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح ١٢٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٢٦ ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب ٢٣ ، ذيل ح ٣.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ٥٦٣ ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ح ٢٧ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٧٢ ، ح ٤٦٥٠ ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٢٦ ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب ٢٣ ، ح ١.

٣٥

وثانيا : أنه من المحتمل القريب أن يكون النهي عنه من جهة شدة حسن الاحتياط في الفروج ، خصوصا مع قوة الاحتمال إذا كان المدعي ثقة ، ولذا جعل الشارع وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية في باب الفروج مثل وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية من باب الدماء ، لكثرة الاهتمام بهذين البابين.

وخلاصة الكلام : أنه لم نجد دليلا يمكن الركون إليه والاعتماد عليه من نقل أو بناء العقلاء وسيرتهم على حجية خبر العدل الواحد ، أو خبر الثقة الواحد مع إمضاء من قبل الشارع ، بل وجدنا الأدلة على عدم حجية كليهما ، أي خبر الثقة وخبر العدل الواحد ، وقد تقدم ذكر تلك الأدلة.

الجهة الثانية‌

في نسبة هذه القاعدة ، أي قاعدة حجية البينة في جميع الموضوعات مع سائر الأدلة ، من الأصول والأمارات التي تستعمل في الموضوعات.

فنقول : أما بالنسبة إلى الأصول الموضوعية كقاعدة الفراغ كما إذا شك في إتيان العمل تام الأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع ، أو أتى به ناقصا بأن أتى به تاركا لجزء أو شرط أو أتى به مقرونا بمانع ، وكان هذا الشك بعد الفراغ عن العمل ، فمقتضى قاعدة الفراغ عدم الاعتناء بذلك الشك والبناء على أنه أتى به صحيحا وتام الأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع.

فلو قامت بينة شرعية معتبرة على أنه ترك الجزء الفلاني أو الشرط الفلاني أو أتى بالمانع الفلاني أو القاطع الفلاني ، فمقتضى حجية البينة بطلان العمل ، إلا أن يكون هناك دليل آخر على صحة العمل الفاقد لذلك الجزء أو ذلك الشرط أو واجدا لذلك المانع ، كما أنه ورد الدليل بالنسبة إلى الصلاة إن أتى بالناقص نسيانا ، وهي صحيحة « لا تعاد » في غير الأركان ، وكما أنه وردت أدلة خاصة في باب الحج بأن النقص أو‌

٣٦

الزيادة في بعض الأجزاء والشرائط نسيانا لا يضر بصحة العمل ، وإن علم وجدانا بالنقص ، فضلا عن البينة التي هي أمارة تعبدية.

وخلاصة الكلام : أنه إذا وقع التعارض بين قاعدة الفراغ التي مفادها صحة العمل وعدم الاعتناء بالشك والمضي عنه وعدم وجوب الإعادة ، وبين البينة على عدم تماميته وأنه تجب الإعادة ، فيجب العمل على طبق قاعدة حجية البينة والإعادة ، إلا فيما ذكرنا من وجود دليل على عدم وجوب الإعادة وإن علم وجدانا بالخلل بالزيادة أو النقيصة ، وذلك من جهة أن البينة أمارة ، وقاعدة الفراغ على ما هو الصحيح عندنا أصل تنزيلي ، ودليل الأمارة حاكم على دليل الأصل وإن كان تنزيليا ، وقد حققنا المسألة في كتابنا « منتهى الأصول ». (١)

وقد ظهر مما ذكرنا حال تعارض البينة مع سائر الأصول ، كقاعدة التجاوز ، وأصالة الصحة ، وقاعدة الوقت حائل ، وقاعدة الطهارة ، والاستصحاب ، وأصالة عدم التذكية ، وأصالة الحل ، كل ذلك في الشبهات الموضوعية ، والمناط في الجميع واحد ، وهو حكومة الأمارات على الأصول.

إذ موضوع الأصل وإن كان تنزيليا هو الشك ، والأمارة ـ على ما هو التحقيق من أن حجيتها من باب تتميم الكشف ـ يرفع الشك تعبدا ، وهذا هو معنى الحكومة ، فلا يبقى موضوع للأصل حتى يعارض الأمارة.

وأما حالها مع سائر الأمارات : أما مع اليد ، فلا شبهة في تقديمها على اليد ، لأن عمدة تشريع حجيتها في باب المخاصمة لإبطال التمسك باليد ، وبواسطة قيام البينة من طرف المدعي يؤخذ المال من ذي اليد ويعطى للمدعي.

ولو لم تقدم البينة على اليد يبقى القضاء بلا ميزان ، لأن ميزان القضاء هي البينة على المدعي واليمين للمنكر ، وليس اليمين ابتداء للمنكر ، بل ميزانيته في صورة فقد‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٥٣٧.

٣٧

البينة ، وإلا في صورة وجود البينة للمدعي لا ميزانية له ، فإذا لم يقدم البينة على اليد فيبقي القضاء بلا ميزان ، ويقف الحكم.

وأما بالنسبة إلى سوق المسلم ، فأمارية السوق على التذكية أو الحلية أو غير ذلك موقوفة على عدم كون البينة على خلافها.

وخلاصة الكلام : أن تقديم البينة على اليد والسوق من الواضحات والمسلمات.

وأما تعارضها مع الإقرار ، مثل أن أقيمت البينة على أن هذا المال له وهو أقر بأنه لزيد مثلا وكذب البينة ، أو في باب الجنايات فلو شهدت البينة المعتبرة أن هذه الجناية صدرت من فلان ، وهو أقر واعترف بأنه الجاني وفاعل هذه الجناية ، فمقتضى القاعدة وإن كان تساقط الأمارتين بناء على ما هو الصحيح عندنا من كون حجية الأمارات من باب تتميم الكشف ، ولكن الظاهر أن بناء العرف والعقلاء على تقديم الإقرار عليها ، ففي المثال المذكور بعد أن أقر أن هذا المال الذي في يده ليس له ولزيد ، فقيام البينة أنه له لا اثر له.

ولعل السر في ذلك أنهم يرون الإقرار أكشف من البينة ، كما أنه لو علم كذب البينة فلا حجية لها ، لأن التعبد بالأمارة في ظرف الجهل بالمؤدي ، وأما لو علم بوجود المؤدى وثبوته أو علم بعدمه ، فلا معنى ولا مجال للتعبد بوجوده أو عدمه.

والحاصل : أن العقلاء لا يرون كاشفية للبينة في ظرف إقرار المشهود له على خلافها ، كما أنه لا كاشفية لها مع العلم بالخلاف.

ولكن وردت روايات في أنه إذا قامت البينة على أن زيدا مثلا قاتل ، ثمَّ أقر شخص آخر بأنه أنا القاتل ، أن للولي الأخذ بأية واحدة من الأمارتين ، فله قتل أي واحد منهما إذا أراد ، وكل ذلك لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) وقد عملوا بها‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٢٩٠ ، باب النادر ( من كتاب الديات ) ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ١٠ ، ص ١٧٢ ، ح ٦٧٨ ، باب البينات على القتل ، ح ١٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٩ ، ص ١٠٨ ، أبواب دعوى القتل وما يثبت به ، باب ٥ ، ح ١.

٣٨

وأفتوا على طبقها وإن كان مفادها على خلاف مقتضى القواعد والأصول ، لكنّه يجب العمل بها في موردها على كل حال.

وأما تعارض البينة مع مثلها ، فالتكلم فيه في بيان قاعدة « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ».

الجهة الثالثة

في بيان موارد تطبيقها في الفقه‌

فنقول : إن هذه القاعدة سارية وجارية في جميع أبواب الفقه.

ففي كتاب الطهارة مثلا تستعمل في إثبات الطهارة والنجاسة بناء على عموم حجيتها ، وفي موضوعات أحكام النجاسات ، وفي إثبات الملاقاة للنجس وعدم الملاقاة ، وفي إثبات أن هذا الماء كر أو ليس بكر ، وأنه مطلق أو مضاف ، وأنه تغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجس أم لم يتغير ، وأنه توضأ أم لم يتوضأ ، وكذلك هل اغتسل أم لا ، وأنه هل كان على البشرة ومحل غسل الوضوء أو مسحه وكذلك في الغسل مانع وحاجب أم لا ، وأنه تيمم أم لا ، وهل هذا التراب الذي يريد أن يتيمم عليه طاهر أم نجس ، وأنه هل هو مما يصح التيمم عليه أم لا في الشبهة الموضوعية لا الحكمية ، وفي مقدار المساحة التي يجب الفحص عن الماء في الشبهة الموضوعية لا الحكمية ، وفي لون الدم الذي تراه المرأة إذا كانت عاجزة عن الرؤية لعمى أو لجهة أخرى وفي نفوذه في القطنة وعدمه كذلك ، وفي كونه مستديرا على القطنة كي يكون دم العذرة أو لا فيكون استحاضة أو حيضا أو شيئا آخر ، وأنه هل انقطع على العشرة أو تعدى وأنه هل كان أقل من الثلاثة أم لا.

٣٩

كل ذلك فيما إذا لم يكن في قيام البينة محذور شرعي.

وفي كتاب الصلاة تستعمل في معرفة القبلة والأوقات ، وفي لباس المصلي من كونه حريرا أو ذهبا أو غير مأكول ، وفي مكانه من حيث كونه غصبا ، وفي معرفة ما يصح السجود عليه ، وفي ضبط عدد الركعات وتعيينها ، وفي زيادة ركن أو نقيصته وإن كان نسيانا ، وفي حصول المسافة وتعيينها ، وفي مقدار الإقامة أو مضي ثلاثين مترددا ، وفي معرفة حد الترخص ، وفي صلاة الجماعة من حيث عدالة الإمام وصحة قراءته ، والاتصال مع الإمام ، وعدم علو الإمام ، وعدم الحائل بين المأموم والإمام ، كل ذلك في الشبهة الموضوعية ، وغير ذلك من موضوعات الأحكام في كتاب الصلاة.

وفي كتاب الزكاة وصول المال إلى مقدار النصاب في الشبهة الموضوعية ، وفي إثبات الفقر وكونه ابن السبيل ، وأنه من الغارمين ، وأن دينه لم يكن من جهة الصرف في المعصية ولا من جهة الإسراف ، وفي كونه عبدا تحت الشدة ، وفي كونه مسكينا ، وفي إثبات بلوغ المالك وكونه عاقلا وحرا متمكنا من التصرف في ماله تمام التمكن ، وأن تملكه للغلات بواسطة الزراعة وكونه زارعا ، أو انتقل إليه الزرع أو الشجر قبل تعلق الزكاة بهما أي قبل اشتداد الحب في الذرع وقبل بدو الصلاح في الأشجار المثمرة ، أعني النخيل والكروم ، وفي مقدار مئونة تحصيل الغلات ، سواء كانت من قبيل الزرع أو كانت من قبيل أشجار المثمرة ، أي النخيل والكروم.

وفي كتاب الخمس أما بالنسبة إلى ما يتعلق به الخمس ، فمثل المعدن ، أو الغوص ، أو الحلال المختلط بالحرام ، أو أن له الربح ومقدار الربح مستعمل فيها البينة إذا شك فيها من جهة الشبهة الموضوعية لا المفهومية ، لأن المرجع في الشبهة المفهومية هو العرف أو الأدلة الشرعية إن كان تصرف من قبل الشارع فيها ، أي فيما أخذ موضوعا لحكمه ، وكذا في بلوغ النصاب فيما له نصاب منها كالغوص والمعدن.

وأما بالنسبة إلى المستحق فتستعمل في إثبات كونه من بني هاشم ، وأنه لا يملك‌

٤٠