القواعد الفقهيّة - ج ٣

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٥٢

المصلحة والمفسدة في ذلك الفعل الذي نسمّيه بالمسبّب ، لا مؤثرات حقيقيّة.

ولكن هذا التفصيل لا وجه له ، لأنّه على كلا التقديرين يمكن التداخل وعدم التداخل ، لأنّه على تقدير أن تكون مؤثّرات في وجود المصلحة والمفسدة يمكن أن يكتفي ـ مثلا بغسل أو وضوء واحد عند اجتماع أسباب متعدّدة ، كما أنّه بناء على أن تكون معرّفات يمكن أن يكون هذا السبب مثل البول في كلّ وجود له معرّفا لوجود مصلحة في وجود فرد آخر من طبيعة الوضوء ، أو الغسل كذلك بالنسبة إلى أسبابه.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذه الأسباب والشرائط مرجعها إلى قيود الموضوع مثلا السرقة ليست سببا للقطع ، بل السرقة من قيود موضوع وجوب قطع اليد ، لأنّ موضوع وجوب قطع اليد هو الإنسان المقيّد بكونه سارقا ، كما أنّ موضوع وجوب الحجّ هو الإنسان المقيّد بكونه مستطيعا ، ولا شكّ في أنّ الموضوع وقيوده ليس علّة للحكم ولا معرّفا له.

فهذا الكلام ـ أي القول بأنّ الأصل عدم التداخل إن كانت هذه الأسباب والشرائط علل ومؤثّرات حقيقيّة ، والتداخل إن كانت معرّفات ـ لا أساس له ، لأنّها من قيود الموضوعات ، لا علل للأحكام ، ولا معرّفات لها.

الثالث : ربما يتوهّم التنافي بين قولي المشهور ، فهاهنا يقولون بأصالة عدم تداخل الأسباب ، ونتيجة هذا القول هو تعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب ، وأيضا يقولون فيما إذا تعلّق الطلب بفعل ـ أي بطبيعة ـ مرّتين ، كما إذا قال : صم يوما ، ثمَّ قال ، أيضا : صم يوما ، أو قال : أكرم عالما ، ثمَّ قال ، أيضا : أكرم عالما ، وهكذا في سائر المقامات التي يتعلّق الطلب بطبيعة مرّتين أو مرّات بأنّ ما بعد الطلب الأوّل تأكيد له ، مع أنّ الطلب سبب للتكليف ، فإذا تعدّد يجب تعدّد التكليف ولزوم إيجاد المكلّف به متعدّدا بمقدار عدد الطلب.

فقولهم بأنّ ما بعد الطلب الأوّل تأكيد له وكفاية صوم يوم واحد وإكرام عالم‌

٢٢١

واحد وعدم تعدّد التكليف ولا المكلّف به ، مع القول بعدم تداخل الأسباب وأنّ تعدّد السبب موجب لتعدّد المسبّب متنافيان لا يجتمعان.

ولكن التحقيق أنّ هذا التوهّم باطل ، وذلك من جهة أنّ الطلب ـ فيما مثّلنا من المثالين وما هو من هذا القبيل ـ تعلّق بصرف الوجود من طبيعة الصوم والإكرام ، وكذلك بالنسبة إلى متعلّقيهما ـ أي اليوم والعالم ـ فلفظ صم يوما ، وكذلك أكرم عالما ظاهر في طلب صرف الوجود من طبيعة الصوم ، وكذلك في صرف الوجود من اليوم في المثال الأوّل ، وكذلك الأمر في المثال الثاني ـ أي الطلب ـ تعلّق بصرف الوجود من طبيعة الإكرام وصرف الوجود من طبيعة العالم.

وصرف الوجود من كلّ شي‌ء يتحقّق بأوّل وجود منه ، إذ هو نقيض عدمه المطلق ، ولو لم يصدق صرف الوجود للشي‌ء على أوّل وجود من ذلك الشي‌ء ، يلزم اجتماع النقيضين ، إذ المراد من صرف وجود الشي‌ء وجوده المطلق من دون أي تقييد فيه ، وهو نقيض عدمه المطلق ، أي من دون تقييد في ذلك العدم ، ومعلوم أنّ الوجود المطلق والعدم المحمولان على شي‌ء نقيضان لا يجتمعان ، فالوجود الثاني أو الثالث وهكذا ، وكذلك الوجود المعنون بعنوان الآخر للطبيعة ، ليس جميع ذلك مصداقا لمفهوم صرف الوجود ، وهذا مرادهم من قولهم : صرف الشي‌ء لا يتكرّر ولا يتثنّى.

فلو أراد الآمر وجود طبيعة مرّة أخرى ، لا بدّ له أن يقيّد مطلوبه بكلمة « ثانيا » أو « الآخر » ، أو « مرّة أخرى » ، وإلاّ لو تعلّق الطلب بوجود شي‌ء من دون أيّ تقييد في المطلوب يكون متعلّقا بصرف وجود ذلك الشي‌ء ، وحيث أنّ صرف الوجود لا يتكرّر ، فلا بدّ من حمل الطلب الثاني والثالث ـ وهكذا ـ على التأكيد لا التأسيس.

ومثل هذا خارج عن مورد هذا البحث ، لما ذكرنا أنّ مورده فيما إذا كان المسبّب قابلا للتعدد والتكرار ، فعلى فرض تسليم أنّ المفروض من قبيل الأسباب والمسبّبات لا يأتي ذلك البحث هاهنا ، إذ الشكّ في وقوع شي‌ء فرع إمكانه ، وإلاّ فالعاقل الملتفت‌

٢٢٢

لا يشكّ في وقوع اجتماع النقيضين أو وجود سائر الممتنعات.

وحيث كان مفاد الطلب المتعلّق بوجود شي‌ء ـ من دون تقييد المطلوب بأيّ قيد ـ متعلّقا بصرف وجود الشي‌ء ، وصرف وجود الشي‌ء ليس قابلا للتكرّر ، فالبحث عند الشكّ في أنّ الأصل هل تعدّد وجود المطلوب عند تعدّد الطلب ، أو مقتضى الأصل عدم التعدّد باطل لا ينبغي أن يصدر عن عاقل.

نعم لو صدر الطلب المتعلّق بصرف الوجود ثانيا بعد امتثال الطلب الأوّل ، فيدلّ على لزوم إيجاده ثانيا ، لأنّ ذلك الوجود مصداق صرف الوجود في ذلك الوقت.

وبعبارة أوضح : كلّ طلب تعلّق بصرف الوجود من دون تقييد المطلوب بقيد ، مثل « ثانيا » أو « مكررا » أو « آخر » وأمثال ذلك ، فأوّل وجود من تلك الطبيعة بعد صدور الطلب مصداق صرف الوجود ، وبعده وجود تلك الطبيعة ليس مصداق صرف الوجود.

وأمّا إيجاد تلك الطبيعة قبل صدور الطلب لا يكون مضرّا بمطلوبيّة صرف الوجود بعد صدور الطلب ، فلو صدر من الآمر طلب آخر متعلّق بصرف الوجود قبل إيجاد متعلّق الطلب الأوّل ، لا بدّ وأن يكون تأكيدا ، ولا يمكن أن يكون تأسيسا.

إذا عرفت هذه المقدّمات ، فنقول :

إنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب والمسبّبات ، وذلك أمّا بالنسبة إلى عدم تداخل الأسباب فمن جهة ما ذكرنا أنّ مرجع الأسباب والشرائط إلى قيود الموضوعات.

فإذا قال الآمر : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت في نهار رمضان فأعتق رقبة ، يكون هاهنا موضوعين وحكمين : أحدهما المظاهر يجب عليه عتق رقبة ، والثاني المفطر في نهار رمضان متعمّدا بدون أن يكون له عذر يجب عليه عتق رقبة ، وظاهر هاتين القضيّتين أنّ لكلّ واحد من الموضوعين هذا الحكم ثابت ، سواء اجتمع‌

٢٢٣

مع الموضوع الآخر أم لا ، ففي مورد الاجتماع يكون له طلبان ومطلوبان ، أحدهما مترتّب عليه باعتبار كونه مظاهرا ، والآخر باعتبار كونه مفطرا في نهار شهر رمضان ، وهذا معنى عدم التداخل بالنسبة إلى الأسباب ، أي كلّ واحد من السببين يقتضي حكما غير حكم الآخر.

إن قلت : قد ذكرت أنّ صرف الوجود ليس قابلا للتكرار ، وهاهنا أيضا تعلّق الطلب بصرف الوجود في كلتا القضيتين. وبعبارة أخرى : ما الفرق بين أن يقول : أعتق رقبة ثمَّ يقول ثانيا : أعتق رقبة ، وتقول يكفي في امتثال كلتا القضيتين عتق رقبة واحدة ، وبين أن يقول : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة ، وتقول في هذا الفرض بلزوم عتق رقبتين ؛ لأنّ الأصل عدم تداخل الأسباب؟

قلت : الفرق بين الصورتين هو أنّه في الصورة الأولى ـ أي فيما لا يكون طلب وجود طبيعة مسبوقا بوجود السبب ـ يكون الحكمان على موضوع واحد ، والحكم هو طلب صرف الوجود الذي لا تكرار فيه ، فلا بدّ وان يكون الثاني تأكيدا للأوّل.

وأمّا في الصورة الثانية ـ أي : ما يكون الطلب مسبوقا بذكر السبب ـ يكون الحكم على موضوعين ، فيكون لكلّ موضوع حكمه ، وإن كان هو طلب صرف وجود الطبيعة ، ولكن طلب صرف وجود الطبيعة لموضوع غير طلب صرف وجود الطبيعة لموضوع آخر ، فقهرا يتقيّد المطلوب في الطلب الثاني بقيد ـ مثل « آخر » أو « ثانيا » وأمثال ذلك إذا كانت الطبيعة المطلوبة لها أفراد ، فقوله : إن ظاهرت فأعتق رقبة بعد قوله : إن أفطرت فأعتق رقبة قهرا تتقيّد الرقبة فيه بأخرى مثلا ، فيخرج المطلوب عن كونه صرف الوجود.

وهذا فيما إذا كانت الأسباب المتعدّدة من أسناخ مختلفة في غاية الوضوح ، وأمّا إذا كانت من سنخ واحد ، كما إذا أفطر في يوم واحد متعدّدا بالأكل مثلا أو بالجماع أو بالارتماس ، فظاهر القضيّة الشرطيّة هو الانحلال وأنّ كلّ وجود وفرد من أفراد طبيعة‌

٢٢٤

الشرط موضوع للحكم المنشأ في الجزاء.

فظاهر قوله عليه‌السلام : « إن جامعت أهلك في نهار رمضان فأعتق رقبة » [١] أو قوله :

« من جامع أهله في نهار رمضان فعليه عتق رقبة » (١) هو أنّ كلّ فرد من أفراد الجماع الواقع في نهار رمضان موضوع مستقلّ لوجوب عتق الرقبة.

فلا فرق بين في أنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب بين أن تكون الأسباب من سنخ ونوع واحد ، أو من أنواع مختلفة بعد أن عرفت أن القضيّة الشرطيّة ظاهرة في أنّ كلّ فرد من أفراد ما أخذ شرطا أو سببا موضوع مستقلّ للحكم المذكور في الجزاء ، ولا يجوز قياسها بالحكم المكرّر في القضيّة غير المسبوقة بالشرط والسبب ، لما ذكرنا من أنّ القضيّة المتكفّلة للحكم على موضوع إن لم تكن مسبوقة بشرط ، فإن تكرّرت تلك القضيّة من دون اختلاف في جانب الموضوع ولا في جانب المحمول بأخذ قيد أو وصف في موضوع إحديهما أو محمولها دون الأخرى ، فلا محالة تكون القضيّة الثانية تأكيدا للأولى ، لأنّ الوجود المطلق لطبيعة من دون تقيّده بأيّ قيد لا تكرّر فيه ويصدق بأوّل وجود منها.

وأمّا إذا كانت القضيّة مسبوقة بشرط أو سبب ، أو قيّد موضوعها بقيد لم يكن في موضوع القضيّة الأخرى فظاهرة في أنّ كلّ واحد من الموضوعين له حكم مستقلّ وجزاء غير الجزاء الآخر ، إلاّ أن لا يكون الجزاء قابلا للتكرار ـ كالقتل في قوله : المرتدّ يقتل ، والزاني المحصن يقتل ، واللائط يقتل ، سواء كانت تلك القضايا بصورة القضيّة الحمليّة ، أو كانت بصورة القضيّة الشرطية ـ أو إلاّ أن يأتي دليل على كفاية الجزاء الواحد لجميع تلك الموضوعات أو تلك الشروط والأسباب ، مثل قوله : إن بلت فتوضّأ ، وإن نمت فتوضّأ.

__________________

(١) لم نجده في بحار الأنوار ووسائل الشيعة ومستدرك الوسائل.

(٢) « مستدرك الوسائل » ج ٧ ، ص ٣٢٦ ، باب ٧ ، ح ٨٣٠٨ وص ٣٢٧ ، ح ٨٣٠٩.

٢٢٥

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ تعدّد السبب والشرط ـ في القضايا الشرطيّة وإن اتّحد الجزاء ، سواء كانت تلك الأسباب والشروط من سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ـ ظاهر في أنّ كلّ فرد من أفراد السبب والشرط له تأثير مستقلّ في الجزاء إذا كان الجزاء قابلا للتكرار ، ولم يكن دليل على أنّ جزاء واحدا يكفي للجميع ، أي لم يكن دليل على تداخل المسبّبات.

ويكون هذا الظهور قرينة على عدم إرادة صرف الوجود من الجزاء في القضيّتين كي لا يكون قابلا للتكرار.

ولا فرق في هذا الأمر بين أن تكون القضيّتان اللتان جزاؤهما واحد بصورة القضيّة الشرطيّة ، أو كانتا بصورة القضيّة الحمليّة مع تقييد موضوع إحدى القضيّتين بقيد أو وصف دون الأخرى ، أو كانت قضيّة واحدة حمليّة ولكن تكرّر وجود أفراد موضوعها ، كما إذا قال : من جامع أهله في نهار رمضان متعمّدا من غير عذر فعليه عتق رقبة ، ثمَّ تكرّر منه الجماع في يوم واحد.

فظهر أنّ مقتضى الأصل ـ أي الأدلّة اللفظيّة ـ عدم تداخل الأسباب.

وأمّا تداخل المسبّبات فأيضا مقتضى الأصل اللفظي عدمه ، فيكون مقتضى الأصل تعدّد المسبّب بتعدّد السبب ، وذلك من جهة أنّه بعد ما عرفت أنّ الأصل عدم تداخل الأسباب وأنّ كلّ سبب يؤثّر في مسبّب مختصّ به غير المسبّب عن السبب الآخر.

وإن شئت قلت : إنّ الموضوع لكلّ واحد من الحكمين في الجزائين في القضيّتين الشرطيّتين غير ما هو الموضوع في الأخرى بواسطة تعدّد السبب أو الشرط ، بل يتعدّد الموضوع بواسطة القيد والوصف وإن كانت القضيّة حمليّة فيكون تعدّد السبب أو الشرط أو تعدّد الموضوع بناء على هذا الأخير قرينة على عدم إرادة صرف الوجود في طرف الجزاء.

٢٢٦

فإذا قال الآمر : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، أو قال بصورة القضيّة الحمليّة : يجب عتق رقبة على المظاهر ، ثمَّ قال : إن أكلت في نهار رمضان فأعتق رقبة ، أو قال بصورة القضيّة الحمليّة : يجب عتق رقبة على الذي أكل في نهار رمضان من غير عذر. يكون الجزاء في القضيّة الثانية سواء كانت بصورة القضيّة الشرطيّة أو كانت بصورة القضيّة الحمليّة مقيّدا بأخرى أو بالثانية أو بأمثالها.

مثلا يكون الجزاء في القضيّة الثانية هكذا : إن أكلت في نهار رمضان من غير عذر فأعتق رقبة ثانية أو أخرى.

إن قلت : إنّ المترتّب على الشرط في القضيّة الشرطيّة هو الحكم المتعلّق بفعل المكلّف لا نفس الفعل ، فالمترتّب على الظهار أو الأكل هو وجوب العتق ، لا نفس العتق الذي هو متعلّق الوجوب ، والوجوب المتعلّق بالعتق ليس قابلا للتكرار وإن كان قابلا للتأكّد.

فغاية ما يمكن أن يكون هو تأكّد وجوب العتق عند تعدّد الأسباب ، وأمّا تعدّد العتق فلا ، فيرجع إلى أنّ تعدّد الأسباب يوجب تأكّد وجوب عتق رقبة واحدة ، وهذا غير ما هو مقصودهم من عدم تداخل المسبّبات ، لأنّ مقصودهم من هذا الكلام هو تعدّد المسبّب بمقدار تعدّد السبب.

قلنا : إنّ تعدّد الحكم إمّا بتعدّد موضوعه ، وإن كان المتعلّق واحدا ، مثل : يا زيد يجب عليك عتق رقبة ، ويا عمرو يجب عليك عتق رقبة ، وإمّا بتعدّد متعلّقة ، وإن كان موضوعه واحدا ، مثل : يا زيد يجب عليك عتق رقبة ، وأيضا : يا زيد يجب عليك إطعام ستّين مسكينا ، وإمّا يكون بتعدّدهما جميعا كما فيما نحن فيه.

فالموضوع في إحدى القضيّتين المظاهر مثلا سواء كانت القضيّة بصورة الشرطيّة أو الحمليّة ، وفي الأخرى الأكل في نهار رمضان من غير عذر أيضا مع عدم الفرق في القضيّة بأيّ صورة كانت. وأمّا المتعلّق في إحداهما نفس عتق الرقبة مثلا من دون قيد ،

٢٢٧

وفي الأخرى مقيّدا بقيد « الأخرى » أو « ثانية » كما ذكرنا مفصّلا.

فلا يحتاج الجواب عن هذا الإشكال إلى ما تكلّفه شيخنا الأستاذ ، بأنّ المعلّق على الشرط هو محصّل جملة الجزاء ومفاد مجموعها ، لا خصوص مفاد الهيئة ـ أي الوجوب ـ بل المترتّب على الشرط طلب إيجاد مادّة المتعلّق (١).

ففي المثال المذكور علّق الآمر على الظهار أو على الأكل في نهار رمضان مطلوبيّة إيجاد العتق عن المخاطب بهذا الخطاب ، وذلك من جهة أنّ نفس الوجوب الذي هو مفاد الهيئة معنى حرفي ليس قابلا للتقييد ولا التعليق.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره لا يخلو عن تأمّل ، فظهر ممّا ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة أي الدليل اللفظي فيما إذا تعدّد السبب ـ إذا كانت الأسباب المتعدّدة من أسناخ مختلفة ، أو تكرّر وجوده إذا كانت من سنخ واحد ـ تعدّد المسبب وجودا ، لا صرف تأكّد وجوبه مع وحدته خارجا ، وهذا فيما إذا كان المسبّب قابلا للتعدّد والتكرّر.

وهذا الذي قلنا من أصالة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات لا ينافي إتيان دليل خارجي على التداخل فيهما أو في أحدهما ، فيكون أصلا ثانويا ، وذلك كما في باب الوضوء لو اجتمعت أسباب متعدّدة من البول والغائط والنوم والريح يكفي وضوء واحد.

وكذلك في الغسل بناء على ما ذكروه من كفاية الغسل الواحد مطلقا عن الأسباب المتعدّدة ، أو فيما إذا نوى الجميع بذلك الغسل الواحد ، أو فيما إذا كان ذلك الغسل بقصد غسل الجنابة ، بناء على الأقوال المتعدّدة المختلفة في هذه المسألة.

ولكن كلّ ذلك لقيام الدليل على الاكتفاء بالواحد على خلاف الأصل الأوّلي في‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ١ ، ص ٤٩٥.

٢٢٨

باب تداخل الأسباب والمسبّبات.

ثمَّ إنّه قد يكتفي بإيجاد المسبّب الواحد من جهة كونه مصداقا لعنوانين بينهما عموم من وجه ، مثلا لو نذر أن يطعم عالما وأيضا نذر أن يطعم هاشميا ، فلو أطعم عالما هاشميا وفي بنذريه من جهة كونه مصداقا لكلا العنوانين.

إن قلت : إنّ امتثال الحكمين ـ اي الواجبين ـ منوط بشمول كلا الدليلين لمورد الاجتماع ، ومورده في المثال المفروض حيث أنّ التركيب بين العنوانين فيه اتّحادي لا يمكن أن يشمله العمومان أو الإطلاقان وإن كانا بدليّين ، لامتناع اجتماع المثلين في واحد مثل الضدّين ، فلا بدّ من سقوط كلا الوجوبين أو أحدهما في مورد اجتماع العنوانين واتّحادهما.

قلنا : إنّ الفرق بين الضدّين والمثلين هو أنّ الحكمين الضدّين لا يمكن اتّحادهما وصيرورتهما حكما واحدا مؤكّدا ، بخلاف المثلين ، فإنّهما بعد اجتماعهما ـ سواء أكانا وجوبين أو حرمتين أو استحبابين ـ يتّحدان ويصيران حكما واحدا مؤكّدا ، فامتثالهما جميعا بإتيان مادّة الاجتماع.

ثمَّ إنّ ما حكي عن العلاّمة قدس‌سره من المقدّمات الثلاث دليلا وبرهانا على أن الأصل عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات يرجع إلى ما ذكرنا بل عينه ، غاية الأمر الفرق هو الإجمال والتفصيل.

والمقدّمات الثلاث هذه : الأولى :

أنّ ظاهر القضيّة الشرطية وتعدّد الأسباب هو كون كلّ شرط وسبب مؤثّر مستقلّ في الجزاء ، لا أنّه جزء سبب حتّى يكون المجموع عند اجتماعهما سببا واحدا.

وهذه المقدّمة هي الركن الركين في مسألة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات.

الثانية : أنّ ظاهر كلّ شرط أن يكون أثره غير أثر الشرط الآخر ، لا أن يكون‌

٢٢٩

شيئا واحدا أثر الاثنين.

الثالثة : هو أنّ التعدّد والغيريّة في الأثرين للشرطين يكون بنحو انفصال كلّ واحد من الأثرين عن الآخر ، لا الاندكاك كي يكون بنحو التأكّد والاشتداد ، مثل آثار المصابيح المتعدّدة في الغرفة ، لأنّها وإن كان كلّ واحد منها سبب مستقلّ لمرتبة من الضياء لا أنّه جزء سبب لتلك المرتبة ، وأيضا أثر كلّ واحد من تلك المصابيح غير أثر الآخر ، لكن مجموع آثارها وجد بنحو ضياء واحد مؤكّد شديد ، بمعنى أنّ حدود تلك المراتب اندكّت وذهبت من البين بعد اجتماعهما ، وحصلت مرتبة أكمل وأشدّ. وهذا في الكمّ المنفصل كالأعداد تصويره أوضح ، فلو أنّ أشخاصا متعدّدة كلّ واحد منهم أتى مثلا بعدد من التّفاح أو الرمّان ، فبعد اجتماع تلك المراتب تسقط الحدود ، ويحصل حدّ مرتبة أزيد من العدد ، وهكذا في الكمّ المتصل بل في كلّ ما يقبل الزيادة والنقيصة والشدّة والضعف ، وإن شئت قلت : في كلّ ما يقبل الكمال والنقص.

وإثبات هذه المقدّمات بالاستظهار من الأدلّة اللفظيّة في كمال الوضوح ، وترتّب أصالة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات عليها أوضح ، كما بيّنّا وشرحناه مفصّلا.

نعم استشكل على ترتّب أصالة عدم التداخل على هذه المقدّمات فخر المحقّقين قدس‌سره (١) بأنّ ما ذكر صحيح في العلل والأسباب التكوينيّة ، وأمّا الأسباب والشرائط الشرعيّة فليست من هذا القبيل ، بل هي أمارات ومعرّفات ، وتبعه جمع ممّن تأخّر عنه.

وخلاصة كلامهم : أنّ ما هو المؤثّر ـ في وجوب الكفّارة مثلا أو الوضوء أو الغسل والسبب الحقيقي لهذه الأمور أو سائر المسبّبات الشرعيّة ـ ليست هذه الأسباب المذكورة في لسان الأدلّة ، أو هذه الشرائط المذكورة في أدلّة المسبّبات.

__________________

(١) حكى الشيخ الأعظم نسبته إلى فخر المحقّقين واحتمل تبعيّة النراقي له في العوائد. راجع : « مطالع الأنظار » ص ١٧٥.

٢٣٠

فليست الاستطاعة مثلا لها تأثير حقيقي في وجوب الحجّ ، وكذلك البول أو النوم وغيرهما من أسباب الوضوء ليس لها تأثير حقيقي في وجوب الوضوء ، وكذلك بالنسبة إلى أسباب الغسل والكفّارة وغيرهما ، بل المذكورات كواشف عن السبب الحقيقي ، وتعدّد المسبّب إنّما يكون بتعدّد السبب الحقيقي وما هو المؤثّر تكوينا ، وإلاّ فتعدّد الكواشف لا يوجب تعدّد المنكشف وما هو العلّة حقيقة.

وقد تقدّم الجواب عن هذا الكلام وأنّ الأسباب والشرائط للأحكام الشرعيّة ليست إلاّ قيودا لموضوعات تلك الأحكام وإن كانت بصورة القضيّة الشرطيّة ، فمعنى إن استطعت فحجّ ، أي يجب الحجّ على المستطيع. وكذلك قوله : إن بلت فتوضّأ ، أي يجب الوضوء على من بال أو نام. وكذلك قوله : إن قتلت مؤمنا خطأ فكفّر بكذا ، أي تجب الكفّارة على من قتل مؤمنا خطأ.

فتعدّد الأسباب الشرعيّة في لسان الأدلّة مرجعه إلى تعدّد الموضوع ، ومعلوم أنّ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة العلّة إلى معلوله ، فإذا تعدّد الموضوع فلكلّ موضوع حكمه ، وقهرا يتعدّد الحكم بتعدّد موضوعه ، فلا ربط لمسألة أصالة عدم التداخل بأنّها أيّ الأسباب الشرعيّة معرّفات أو مؤثّرات حقيقية ، لأنّها ليست إلاّ قيودا للموضوعات ، لا معرّفات ولا مؤثّرات في الأحكام الشرعيّة.

فلا يبتني هذا البحث على ما ذكره فخر المحقّقين وتبعه على ذلك محقّق الخوانساري (١) والفاضلان صاحب اللوامع وصاحب المستند النراقيّان (٢) قدس‌سره.

وقد ظهر من مجموع ما ذكرنا ثبوت أنّ مقتضى الأصل الأوّلى ، أي الظهور اللفظي فيما إذا تعدّد السبب ـ سواء كانت الجملة بصورة الجملة الشرطيّة ، كما إذا قال : إن بلت فتوضّأ وإن نمت فتوضّأ ، أو كانت بصورة القضيّة الحمليّة ، كما إذا قال : يجب الوضوء‌

__________________

(١) « مشارق الشموس » ص ٦١ ـ ٦٩.

(٢) انظر : « المستند » ج ٢ ، ص ٣٧١ ، وص ٣٦٧.

٢٣١

على من بال وكذا يجب على من نام ـ هو تعدّد المسبّب وعدم التداخل ، لا في جانب الأسباب ولا في جانب المسبّبات.

نعم ورد الدليل في باب الوضوء (١) وكذا في باب بعض الكفّارات من كفّارة إفطار شهر رمضان (٢) على عدم تعدّد المسبّب تعدّد السبب ، وكفاية وضوء واحد أو كفّارة واحدة إن تعدّدت أسبابهما ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور القضيّة اللفظيّة ، شرطيّة كانت أم حمليّة في تعدّد المسبب بتعدّد أسبابه ، والقول بأنّ المسبّب هو صرف الوجود من طبيعة المسبّب ، فليس قابلا للتكرار ولا للتأكيد ، فيكون خارجا عن موضوع البحث.

لأنّ البحث في هذا الأصل ـ كما تقدّم ـ كان فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ولو بواسطة الإضافة إلى سببه كما قلنا في باب الخيارات ، فإنّها قابلة للإسقاط باعتبار الإضافة إلى أسبابها أو للتأكّد ، فإذا لم يكن قابلا لهما فلا مورد لهذا الأصل اللفظي ، لأنّ الإثبات فرع إمكان الثبوت ، وإلاّ يكون البحث فيه باطلا.

ولكن هذا الوجه لا يأتي في باب الوضوء ، لأنّ الوضوء قابل للتأكّد يقينا ، لقوله عليه‌السلام : « الوضوء على الوضوء نور على نور » (٣) خصوصا إذا كان اسما لذلك الأمر المعنوي ، أي الطهارة الحاصلة للنفس بواسطة تلك الأفعال ، أي الغسلتان والمسحتان الصادرتان عن قصد القربة والإخلاص له تعالى.

ويمكن توجيه كفاية وضوء واحد عن أسباب متعدّدة والنواقص المختلفة بوجه آخر ، وهو أنّ سبب الوضوء في الحقيقة أمر واحد غير قابل للتعدّد ولا للتأكّد ، وهو الحالة النفسانيّة ، ويمكن أن يعبّر عنها بالقذارة النفسانيّة مقابل الطهارة النفسانيّة.

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٢٦٣ ، أبواب الوضوء ، باب ٧.

(٢) « وسائل الشيعة » ج ٧ ، ص ٢٧ ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ، باب ١١.

(٣) « الفقيه » ج ١ ، ص ٤١ ، ح ٨٢ ، باب صفة وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٢٦٥ ، أبواب الوضوء ، باب ٨ ، ح ٨.

٢٣٢

وهذه النواقص محصّلات لتلك الحالة ، وحيث أنّ تلك الحالة ليست قابلة للتعدّد ولا للتأكّد ، فهذه النواقض لو وجدت مترتّبة وواحد بعد الآخر وفي طوله فبأوّل وجود منها تحصل تلك الحالة ، فيكون حصولها بعد وجودها بأوّل ناقض من تلك النواقض من قبيل تحصيل ما هو حاصل الذي هو محال ، فقهرا وجود سائر النواقض بعد وجود الأوّل منها يكون بلا أثر ولغوا من هذه الجهة.

ولكن هذا منوط بأن لا تكون تلك الحالة ـ أي القذارة النفسيّة ـ قابلة للتأكّد ، وإلاّ فبالثاني والثالث وهكذا تشتدّ. وإن شئت مثّل هذا بأنّ الطهارة المعنويّة والنورانيّة النفسانيّة التي هي إمّا مسبّبة عن الوضوء أو تكون عبارة عن نفس الغسلتين والمسحتين بمنزلة النور المتولّد عن سراج واحد أو عن اسرجة متعدّدة ، والنواقض بمنزلة هبوب ريح يطفأ ذلك السراج أو تلك الأسرجة ، فإذا انطفى ذلك السراج أو تلك الأسرجة بهبوب أوّل ريح ، فلا يبقى مجال لتأثير سائر الهبوبات بعد هبوب الأوّل ، وهذا المعنى مناسب مع إطلاق النواقض عليها فخذ واغتنم ، هذا في باب الوضوء.

وأمّا في باب الكفّارات ، فبالنسبة إلى كفّارة إفطار شهر رمضان لمن ليس له عذر ، فالمشهور قالوا بوجوب كفّارة واحدة في غير الجماع ، وإن تعدّد وجود المفطر ، وإن كانا من سنخين كالأكل والشرب ، مع أنّ الكفّارة التي هي المسبّب قابلة للتكرّر.

فيمكن أن يقال : إنّ السبب الكفارة هو الإفطار في نهار رمضان الصادر عن الصائم ، وهذا المعنى يصدق على أوّل وجود من المفطر ، وبصدوره من المتعمّد إلى الإفطار يبطل الصوم وينعدم ، فالوجود الثاني من المفطر ـ سواء أكان من سنخ الأوّل كالأكل بعد الأكل أو الشرب بعد الشرب ، أو كان من سنخ آخر كالأكل بعد الشرب أو الشرب بعد الأكل ـ لا يصدق عليه أنّه أفطر صومه ، لأنّه بإفطاره الأوّل أبطل صومه وليس بصائم بعد ذلك. ومن الواضح المعلوم أنّ موضوع الكفّارة هو إفطار الصوم ، لا مطلق الأكل والشرب مثلا في نهار رمضان وإن لم يكن صائما.

٢٣٣

ففي الحقيقة هاهنا سبب واحد للكفّارة ، وهو أوّل وجود من المفطرات ، فليس من قبيل تداخل الأسباب أو المسبّبات.

وعلى كلّ حال هذا أصل أوّلى ، ومقتضى أصالة عدم تداخل الأسباب هو تعدّد المسبّب ما لم يأت دليل على خلافه.

وأمّا إتيان دليل على التداخل فلا ينافي هذه القاعدة ، لأنّ هذه القاعدة مفاد ظاهر القضيّة اللفظيّة ، فإذا جاء الدليل على خلافه لا يبقى مجال للأخذ بذلك الظهور ، أو كان المسبّب غير قابل للتكرّر ولا للتأكّد أو كان المسبّب المأتيّ به مصداقا لعنوانين وامتثالا لأمرين ، كما قلنا فيما لو نذر إطعام عالم ونذر أيضا إطعام هاشمي فأطعم عالما هاشميّا فقد أوفي بكلا نذريه وامتثل الأمرين جميعا.

ثمَّ إنّهم بمناسبة البحث عن أصالة عدم تداخل الأسباب في باب الأغسال تكلّموا في مسألة تعدّد حقائق الأغسال واتّحادها ، فذهب المشهور إلى أنّها حقائق مختلفة ، وبعض آخر إلى أنّه حقيقة واحدة ، وهو المحكيّ عن الأردبيلي وتلامذته قدس‌سرهم (١).

ومعنى كونها حقيقة واحدة تارة باعتبار أنفسها ، وأخرى باعتبار اتّحاد أسبابها ، وثالثة باعتبار آثارها.

أمّا الأوّل ، فلا شكّ في أنّ الغسل عبارة من غسل جميع البدن بإجراء الماء عليه مع النيّة ، أي قصد القربة بهذا الفعل ، ولا فرق بين أن يكون إجراء الماء على جميع البدن غسلا ارتماسيّا أو ترتيبيّا.

والعمدة أنّه هل قصد العنوان لازم في هذه الأغسال وبه يتحقّق وبدونه لا يوجد ، مثلا غسل الجنابة أو الجمعة أو مسّ الميّت لا يتحقّق بدون قصد هذه العناوين ، وإن كان بعنوانه الإجمالي مثل ما في الذمّة ممّا يشير إلى ذلك العنوان ، فيكون حال الغسل‌

__________________

(١) « مجمع الفائدة والبرهان » ج ١ ، ص ١٣٠ ، « مدارك الأحكام » ج ١ ، ص ٩٨ و ١٩٤.

٢٣٤

حال الصلوات الرباعيّة مثلا حيث لا يتحقّق إلاّ بقصد عناوينها من الظهر والعصر والعشاء ولو إجمالا وبعنوان ما في الذمّة.

فإن كان الأمر كذلك ، فلا بدّ وأن نقول باختلاف حقيقتها ، إذ قصد العنوان يكون بمنزلة الفصل المنوّع لها ، كما يكون كذلك في باب الصلوات.

وأمّا الثاني : أي وحدتها باعتبار أسبابها ، أي تداخل أسبابها في عالم التأثير ، أي يكون أثر كلّ واحد من تلك الأسباب قذارة معنوية يعبّر عنها بالحدث الأكبر.

ولا فرق في تلك القذارة المعنوية بين أن يكون حصولها من الجنابة ، أو من الحيض ، أو من مسّ الميّت ، أو من غير ذلك ، كما قلنا في الوضوء إنّ موجباتها توجب حدوث ظلمه في النفس ترتفع بواسطة الوضوء ، ولا شكّ في أنّ مقتضى القاعدة اختلافها من هذه الجهة أيضا ، وإلاّ يلزم تأثير المتعدّد في الواحد.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا يلزم لو لم تكن تلك القذارة المعنويّة قابلة للتأكّد ، وإلاّ فكلّ واحد من تلك الأسباب يؤثّر في مرتبة من تلك القذارة فتشتدّ ، ولا يلزم هذا المحذور ، ولكن الذي يلزم هو أنّه في بعض موجبات الغسل لا يمكن الالتزام بمثل هذا الأثر كغسل الجمعة ، فإنّ موجبه يوم الجمعة وهو لا يوجب قذارة معنويّة قطعا ، بل جميع الأغسال الزمانيّة ذلك الزمان الذي يوجبها لا يمكن أن يكون موجبا لوجود ظلمة أو قذارة معنويّة في النفس ، كغسل ليالي شهر رمضان خصوصا ليلة القدر.

فالقول باتّحاد حقيقة الأغسال من هذه الجهة ممّا لا يمكن الالتزام به.

وأمّا الثالث : أي اتّحادها باعتبار آثارها بأن يقال أثر جميعها واحد ، وهو وجود نورانيّة نفسانيّة ، كما قلنا في الوضوء مستدلاّ بقوله عليه‌السلام : « الوضوء نور ، والوضوء نور على نور ».

وفيه أنّ وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثّر فيما إذا لم يكن ذلك الأثر قابلا للاشتداد ، وأمّا إذا كان فيمكن أن يكون كلّ مرتبة من مراتب ذلك الأثر مستندا إلى‌

٢٣٥

غسل من تلك الأغسال ، فعند اجتماع الأغسال المتعدّدة مرتبة من تلك النورانيّة تكون مستندة إلى غسل الجنابة ، وأخرى إلى غسل الجمعة ، وهكذا ، فلا يمكن استكشاف كون الأغسال حقيقة واحدة من وحدة الأثر بهذا المعنى.

فالإنصاف أنّ الحكم باتّحاد الأغسال من حيث حقائقها ، وكون الاختلاف من ناحية إضافتها إلى موجباتها ـ كقولك : غسل الجنابة ، وغسل الجمعة ، وغسل مسّ الميّت ، وغسل ليلة القدر وهكذا ـ ممّا لا دليل عليه ، بل ظاهر قوله عليه‌السلام : « إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد » (١) تعدّد الحقوق ، غاية الأمر أنّ الرواية تدلّ على كفاية الامتثال للجميع بإتيان غسل واحد ، ولا ينافي الاكتفاء بواحد مع تعدّد حقوق المجتمعة واختلاف حقائقها ، كما هو صريح رواية حريز.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ ظاهر تعدّد الأسباب والموجبات للغسل ـ كالجنابة والحيض والاستحاضة في بعض أقسامها ومسّ الميّت ونفس الميّت ، أي كون موت المسلم موجبا للغسل ، وغسل الإحرام والجمعة والزيارة ، والأغسال الزمانيّة على كثرتها ، ورؤية المصلوب إلى غيرها من الأسباب المذكورة في الكتب الفقهيّة ـ هو تعدّد الغسل وأنّها حقائق مختلفة ، ومن آثارها عدم إجزاء واحد منها عن الباقي ، سواء نوى بذلك الواحد سائر الأغسال أو لم ينو ، وسواء كان ذلك الواحد الذي يأتي به غسل الجنابة أو غيرها.

ولكن وردت روايات متعدّدة تدلّ على أنّ إتيان واحد منها يكون مجزيا عن الباقي إذا كان ما في ذمّته متعدّدا ، خصوصا إذا كان بإتيان ذلك الواحد ينوي جميع ما في ذمته ، وخصوصا إذا كان ما يأتي به بعنوان غسل الجنابة وينوي الباقي في ضمنه وتبعا له.

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٤١ ، باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ١٠٧ ، ح ٢٧٠ ، باب الأغسال المفترضات والمسنونات ، ح ١١ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٥٢٥ ، أبواب الجنابة ، باب ٤٣ ، ح ١.

٢٣٦

ومنها : ما ذكرنا من رواية حريز ، عن زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام المرويّ في الكافي والتهذيب ، قال عليه‌السلام : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، فإذا اجتمعت عليك حقوق الله أجزأها عنك غسل واحد » ثمَّ قال : « وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها » (١).

وأيضا عن الكافي بإسناده عن جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما أنّه عليه‌السلام قال : « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم » (٢).

وأيضا في الكافي والتهذيب بإسنادهما عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن المرأة تحيض وهي جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال : « غسل الجنابة والحيض واحد » (٣). وروايات كثيرة مثل ما ذكرنا واردة في هذا الباب.

الجهة الثالثة

في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة‌

فنقول : موارد تطبيقها في الفقه كثيرة :

فمنها : مسألة تداخل الأغسال وكذلك الوضوءات ، ولكن لا أثر لهذه القاعدة فيما‌

__________________

(١) هي نفس الرواية المتقدّمة في ص ٢٣٦.

(٢) « الكافي » ج ٣ ، ص ٤١ ، باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٥٢٦ ، أبواب الجنابة ، باب ٤٣ ، ح ٢.

(٣) « الكافي » ج ٣ ، ص ٨٣ ، باب المرأة ترى الدّم وهي جنب ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٣٩٥ ، ح ١٢٢٣ ، باب الحيض والاستحاضة والنّفاس ، ح ٤٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٥٢٧ ، أبواب الجنابة ، باب ٤٣ ، ح ٩.

٢٣٧

ورد الدليل على التداخل كما في هذين البابين.

ومنها : لو تعدّدت أسباب النزح في باب البئر بأن وقعت فيها نجاسات عديدة ، هل تتداخل ويكفي للجميع نزح واحد غاية الأمر بالأكثر منها ، أم لا تتداخل ، بل يجب لكل واحد من النجاسات النزح الخاصّ به ، فيتعدّد النزح بتعدّد النجاسات الواقعة فيها ، فينزح المقدّر لكلّ واحد منها؟

ومنها : لو تعدّد ورود النجاسات الخبيثة على محلّ فهل تتداخل ، أم يجب الغسلات المتعدّدة ، لكلّ واحد منها الغسل المختصّ بها ، مثلا لو لاقى بدنه أو ثوبه الدم والبول فبناء على التداخل يغسل مرّتين ، أي يأخذ بالأكثر منهما تقديرا وهو البول بناء على وجوب التعدّد فيه ، وبناء على عدم التداخل يجب غسله ثلاث مرّات ، مرّة للدم ومرّتين للبول.

ومنها : لو تعدّد نذره بالنسبة إلى فعل من الأفعال ، وذلك كما نذر مرّتين أن يصوم يوما أو نذر مرّتين أن يزور الحسين عليه‌السلام ، فبناء على التداخل يكفي صوم يوم واحد وزيارة واحدة ، وبناء على عدم التداخل يجب أن يصوم يومين ويزوره عليه‌السلام مرّتين.

ومنها : لو تعدّد موجبات الكفّارة في نهار شهر رمضان لمن يجب عليه الصوم ، كما إذا أكل أو شرب مرارا ، أو أكل وجامع وارتمس ، فبناء على أصالة عدم التداخل تكون عليه كفّارات متعدّدة بعدد أسبابها ، وبناء على التداخل ليس عليه إلاّ كفارة واحدة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى كفّارات الحجّ وكفّارات الإحرام ، تتعدّد الكفارة بتعدّد أسبابها لو قلنا بأصالة عدم التداخل ، وتكفي كفّارة واحدة لو قلنا بالتداخل.

ومنها : تعدّد الأسباب في باب الحدود بالنسبة إلى الجلد ، فلو قذف متعدّدا ، أو زنى غير محصن متعدّدا ، فبناء على عدم التداخل يجلد مرّات بعدد أسباب الجلد ثمانين أو مائة ، وإن قلنا بالتداخل لا يجلد إلاّ مرّة واحدة.

وخلاصة الكلام : أنّ هذا الأصل كثير الدوران في الفقه ، وله موارد كثيرة ،

٢٣٨

واستيفاء تمامها موجب للتطويل ، ولذلك نكتفي بما ذكرنا ونحيل الباقي على الكتب الفقهيّة المفصّلة.

ونختم الكلام في هذه القاعدة بذكر أمور لا غناء عن ذكرها‌

الأوّل : في أنّه هل هذه القاعدة من القواعد الفقهيّة ، أم من القواعد الأصوليّة ، أم من القواعد العقليّة الكلاميّة‌

ولا ربط لها بالفقه ولا بالأصول أصلا.

أقول : التحقيق أنّ الجهات الثلاث موجودة فيها.

أمّا جهة كونها قاعدة أصوليّة ، فمن جهة أنّ البحث فيها لو كان ناظرا إلى أنّ القضيّة الشرطيّة لو كان فيها الشرط متعدّدا والجزاء متّحدا هل لها ظهور في تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط أم لا؟ فيكون البحث فيها من هذه الجهة كالبحث فيها من حيث دلالتها على انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، أي يكون حال البحث فيها من هذه الجهة حال البحث فيها من حيث أنّها هل لها مفهوم أم لا؟ فتكون بناء على هذا مسألة أصوليّة.

وأمّا كونها عقليّة وكلاميّة ، فمن جهة أنّ البحث فيها لو كان من حيث أنّ الأسباب والشروط المتعدّدة هل يمكن أنّ يؤثّر في واحد بمعنى أنّ المسبّب الواحد أثرا ومعلولا لأسباب وعلل متعدّدة ، أو لا يمكن ، لأنّ تأثير العلل المتعدّدة بما هي متعدّدة في الواحد بما هو واحد غير معقول.

وبعبارة أخرى : كما أنّ صدور المتعدّد بما هو متعدّد عن الواحد بما هو واحد محال ، كذلك صدور الواحد بما هو واحد عن المتعدّد بما هو متعدّد محال ، إلاّ أن يكون المجموع علّة واحدة مركّبة من أجزاء ، وهو خلاف الفرض فيما نحن فيه.

وأمّا كونها فقهيّة ، فباعتبار أنّ البحث فيها عن أنّه هل مقتضى القاعدة الأوليّة هو وجوب إيجاد المسبّبات المتعدّدة ، عند وجود أسباب متعدّدة ، أو كفاية الإتيان‌

٢٣٩

بواحد منها؟ وعلى هذا الأخير ذكرناها في القواعد الفقهيّة.

وخلاصة الكلام : أنّ جهة بحثنا عن هذه القاعدة هو أنّ الموارد التي ذكر الشارع أسباب متعدّدة لحكم من الأحكام ـ وقد ذكرنا جملة كثيرة منها ـ هل يجب في تلك الموارد إيجاد مسبّبات متعدّدة بعدد الأسباب ، أم لا يجب إلاّ إيجاد واحد منها؟ كما أنّهم يذكرون في باب الغسل أنّه إذا تعدّدت الأسباب سواء أكانت من سنخ واحد كما إذا جامع مرارا ، أو من أسناخ متعدّدة كما إذا جامع واحتلم ونظر إلى المصلوب ، هل يكون عليه غسل واحد أم لا بل عليه أغسال متعدّدة بعدد الأسباب التي وجدت.

وهكذا بحثهم في باب الكفّارات وفي باب الحدود لو تعدّد وجوب أسباب الكفّارة ، أو تعدّدت أسباب الحدّ يبحثون في أنّه هل عليه كفّارة واحدة ، وكذلك هل عليه جلد واحد ، أو عليه كفّارات وجلدات متعدّدة بعدد أسبابهما.

الثاني : في أنّه هل هذا البحث ـ في أنّ مقتضى القواعد الأوليّة هو أصالة عدم التداخل وأنّ تعدّد السبب يوجب تعدّد المسبّب ، أم لا ـ مختص بما إذا وجد السبب الثاني والثالث وهكذا قبل الإتيان بالمسبّب عقيب السبب الأوّل ، أم لا بل يأتي هذا البحث ولو أتى بالمسبّب عقيب السبب الأوّل ثمَّ وجد السبب الثاني ، وهكذا في الثالث والرابع وما زاد. مثلا لو شرب في نهار شهر رمضان متعمدا مع أنّه صائم ، وكفر مثلا بإطعام ستّين مسكينا أو تحرير رقبة ، ثمَّ أكل فكفّر ، ثمَّ جامع وهكذا ، فيأتي هذا البحث ، أي بحث تداخل الأسباب أو لا؟

الظاهر أنّه لا يجري البحث في هذه الصورة ، وذلك من جهة أنّ المسبّب الموجود قبل هذا السبب المتأخّر لا يمكن أن يكون من آثاره ، بل لا بدّ وأن يكون من آثار السبب الذي وجد قبله ، وإلاّ يلزم تقدّم المعلول على علّته ، أو ـ بناء على ما حقّقناه من أنّ هذه الأسباب والشروط يرجع إلى قيود الموضوع ـ يلزم تقدّم الحكم على الموضوع ، وهو أيضا محال كالأوّل.

٢٤٠