القواعد الفقهيّة - ج ٣

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٥٢

باطل ، وبالنسبة إلى العبد صحيح ولكن عند أبي حنيفة أبطل في الجميع ، فللبائع إلزام ذلك المشتري بالبطلان في الجميع إذا ندم من بيع عبده ، وإن كان صحيحا عند البائع بالنسبة إلى العبد ، وكذلك الأمر بعينه فيما إذا كان بعض الصفقة الواحدة مالا وبعضها ليس بمال ، كما إذا باع خمرا أو خلاّ أو شاة وخنزيرا.

سادسها : لو باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن ، والمشتري كان شافعيّا ، فعندنا هذا البيع جائز ، وعند الشافعيّة باطل ، فإذا ندم البائع من بيعه هذا يجوز له إلزام المشتري بالبطلان بقاعدة الإلزام.

فهذه الموارد التي ذكرناها من موارد الخلاف بين فقهائنا وفقهاء مخالفينا في كتاب البيع موارد قليلة من الموارد الكثيرة فالتي ذكرها الأصحاب ربما يزيد عددها على المئات.

السابع : ذكر الشيخ قدس‌سره في الخلاف : أنّ الراهن إذا شرط أن يكون الرهن عند عدل صحّ هذا الشرط (١). ثمَّ ذكر بعد هذا الفرع فرعا آخر ، وهو : أنّ العدل في مقام أداء دين المرتهن لا يجوز له أن يبيع الرهن إلاّ بثمن مثله حالاّ ، فلا يجوز أن يبيعه نسيئة ولا بأقلّ من ثمن مثله.

ونسب إلى أبي حنيفة (٢) أنّه قال : يجوز له أن يبيعه نسيئة وبأقلّ من ثمن المثل ، حتّى إنّه لو باع ضيعة تساوي مائة ألف دينار بدانق إلى ثلاثين سنة نسيئة جاز ذلك. وبناء على هذه الفتوى الغريبة من أبي حنيفة لو كان الراهن حنفيّا ، فيجوز إلزامه بصحّة هذا البيع بهذه القاعدة ، وإن كان غير صحيح عندنا.

وأيضا نسب الشيخ قدس‌سره إلى أبي حنيفة أنّ الرهن مضمون بأقلّ الأمرين (٣) والظاهر‌

__________________

(١) « الخلاف » ج ٣ ، ص ٢٤٢ ، المسألة : ٤٠ ، وص ٢٤٤ ، المسألة : ٤٤.

(٢) « المبسوط للسرخسى » ج ٢١ ، ص ٨٤ ، « الفتاوى الهنديّة » ج ٥ ، ص ٤٤٣ ، « بدائع الصنائع » ج ٦ ، ص ١٤٩ ، « تبيين الحقائق » ج ٦ ، ص ٨١ ، « المغني لابن قدامة » ج ٤ ، ص ٤٢٦ ، « الشرح الكبير » ج ٤ ، ص ٤٥٢.

(٣) « الخلاف » ج ٣ ، ص ٢٤٥ ، المسألة : ٤٦.

٢٠١

أنّ مراده بالأمرين ، أي الدين وقيمة العين المرهونة ، والصحيح عندنا لا ضمان في الرهن إلاّ مع التعدّي والتفريط ، لأنّه من قسم الأمانة المالكيّة ، وقد بيّنّا عدم الضمان بدون التعدّي والتفريط في الأمانات مطلقا في إحدى قواعد هذا الكتاب ، فلو كان المرتهن حنفيّا وتلف عنده الرهن بدون تعدّ ولا تفريط ، يجوز إلزامه بأخذ أقلّ الأمرين منه بهذه القاعدة ، وإن كان لا يجوز عندنا ولا ضمان.

وأيضا نسب الشيخ قدس‌سره إلى أبي حنيفة أنّ العدل لو باع الرهن لأداء الدين وقبض الثمن ، فلو تلف الثمن بعد القبض يسقط من الدين بمقدار الثمن (١). وبعبارة أخرى : يكون ثمن الرهن في ضمان المرتهن. وهذا وإن كان غير صحيح عندنا ، لأنّ المرتهن ما لم يقبض دينه لا وجه لسقوط دينه ، ولكن المرتهن إن كان حنفيّا يجوز إلزامه بسقوط دينه بهذه القاعدة.

وأيضا نسب الشيخ قدس‌سره إلى أبي حنيفة أنّ منفعة الرهن لا للراهن ولا للمرتهن ، مثلا لو رهن دارا فليس أن يسكنها الرهن أو يؤجرها ، ولا يجوز أيضا للمرتهن أن يسكنها أو يؤجرها (٢) ؛ وحاصل كلامه : أنّ منفعة الرهن لا يملكه الراهن ولا المرتهن ، وأمّا نماؤه المنفصل فيدخل في الرهن ، فيكون رهنا مثل أصله.

وهذه الفتوى وإن كانت غير صحيحة عندنا ، لأنّ منافع الشي‌ء تابعة لأصله ، وكلّ من كان مالكا للأصل يكون مالكا للمنفعة والنماء ، متّصلة كانت النماء أم منفصلة ، ولكن لو كان الراهن حنفيّا يجوز إلزامه بدخول النماء المنفصل في الرهن ، فلو رهن بقرة مثلا فولدت عجلا ، يكون ذلك العجل أيضا مثل أمّه رهنا.

وهناك فروع كثيرة في كتاب الرهن تكون من موارد قاعدة الإلزام تركنا ذكرها خوفا من التطويل.

__________________

(١) « الخلاف » ج ٣ ، ص ٢٤٥ ، المسألة : ٤٧.

(٢) « الخلاف » ج ٣ ، ص ٢٥١ ، المسألة : ٥٨.

٢٠٢

الثامن : إذا كان هناك اثنان ، أحدهما راكب على دابّة ، والآخر آخذ بلجامها‌ فتنازعا في تلك الدابّة ولم تكن لأحدهما بيّنة على ما يدّعيه من ملكيّة تمام الدابة ، أو أمارة أخرى ، أو دليل آخر ولو كان أصلا عمليّا كالاستصحاب ، فتجعل بينهما نصفين ، عملا بقاعدة العدل والإنصاف ، أو لكون يد كلّ واحد منهما على تلك الدابّة ، حيث أنّها ليست يدا مستقلّة على التمام ، فتكون عند العرف والعقلاء بمنزلة اليد التامّة المستقلّة على النصف إذا كانا اثنين ، وعلى الثلث إن كانوا ثلاثة ، وهكذا بالنسبة إلى عدد الشركاء قلّة وكثرة ، فبكثرة الشركاء ينقص الكسر ، وبقلّتهم يتصاعد حتّى يصل إلى النصف فيما إذا كان الشريك ـ في كونه أيضا ذا اليد ـ واحدا ، أو من جهة التصالح القهري ، هذا ما عندنا.

وباقي الفقهاء من مخالفينا قالوا : يحكم بأنّها للراكب ، فلو كان الراكب منّا يجوز له إلزام آخذ اللجام بذلك إن كان منهم.

التاسع : قال الشيخ قدس‌سره في الخلاف : لو أتلف شخص مال آخر وكان من القيميّات ، كما أنّه لو أتلف شاة له مثلا وكانت قيمتها ثلاث دنانير ، فأقرّ بأنّه أتلفها وصالحه على أقلّ من قيمتها الواقعيّة أو على أكثر منها ، فهذا الصلح باطل ، لأنّه يكون من الرباء المحرّم المبطل للمعاملة (١).

وهذا بناء على جريان حكم الرباء في الصلح مثل البيع ، مع كون ما في الذمّة بعد التلف قيمة التالف لا عينه بوجودها الاعتباري ، كما ربما يكون هذا ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (٢). وهو ما اخترناه.

وأمّا كونه من الرباء فمن جهة أنّه بعد أن أتلف مال الغير وكان من القيميّات‌

__________________

(١) « الخلاف » ج ٢ ، ص ١٧٧.

(٢) « السنن الكبرى » ج ٦ ، ص ٩٠ ، « كنز العمال » ج ١٠ ، ص ٣٦٠ ، ش ٢٩٨١١ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٤ ، ص ٤٣٧ ، باب ٦ ، ح ١٧٢١٦ وج ١٧ ، ص ٨٨ ، باب ١ ، ح ٢٠٨١٩.

٢٠٣

تشتغل ذمّته بقيمة ذلك المال ، فالمصالحة تقع بين قيمة ذلك المال التي على عهدته وبين ما يتصالحان به ، وحيث أن المفروض أنّ القيمة أقلّ منه أو أكثر ، فيكون من الرباء ، فلا يجوز. وقال أبو حنيفة : يجوز ، فلو كان طرف المصالحة حنفيّا وكانت تلك المصالحة على ضرره ، يجوز للآخر الذي يخالفه في المذهب إلزامه بذلك ، بهذه القاعدة.

العاشر : المنافع تضمن بالغصب عندنا ، سواء أكانت المنافع مستوفاة أو غير مستوفاة ، فلو غصب دارا وسكنها أو آجرها ، فكما أنّه ضامن لأصل الدار كذلك ضامن للمنافع التي استوفاه بالسكنى فيها أو بأن آجرها ، بل الحقّ كما قلنا أنّه يضمن المنافع وإن لم يستوفاه. ولتحقيق هذه المسألة مقام آخر.

وقال أبو حنيفة : إنّ الغاصب لا يضمن المنافع أصلا وإن استوفاها ، فضلا عمّا إذا لم يستوفها ، ويقول أيضا : إذا غصب أرضا فزرعها ببذره ، كانت الغلّة له ولا أجرة عليه ، إلاّ أن تنقص الأرض بذلك ، فيكون عليه جبران ما نقص.

وكذلك قال : إن آجر مثلا دارا أو دكّانا غصبهما ، فالأجرة لذلك الغاصب إن أخذها ويملكها دون مالكهما ، هذا ما حكاه الشيخ قدس‌سره عنه في الخلاف (١) ، فبناء على هذا لو كان المغصوب منه حنفيّا يمكن إلزامه بهذه القاعدة ولا يعطى اجرة ملكه أو أملاكه التي استوفاها الغاصب ، وإن كانت لسنين متعدّدة.

الحادي عشر : لا يصحّ ضمان المجهول عندنا ، فإن كان الذي يريد أن يضمن عن شخص لشخص آخر وكان مقدار دين المضمون عنه مجهولا ويحتمل أن يكون واحدا ويحتمل أن يكون ألفا ، فلا يصحّ مثل هذا الضمان وإن كان واجبا ، أي كان الدين محقّقا فعلا.

وبعبارة أخرى : لم يكن من قبيل ضمان ما لم يجب ، بل كان ضمان ما وجب عليه واشتغلت ذمّته به ، وكذا لا يصحّ ضمان ما لم يجب وإن كان المقدار معلوما ، مثلا يقول‌

__________________

(١) « الخلاف » ج ٣ ، ص ٤٠٢ ، المسألة : ١١.

٢٠٤

للبزّاز : أعط هذا مقدار عشرين دينارا بالدين وأنا ضامن ، أو يقول : إن أخذ هذا الرجل منك بالدين عشرين دينارا فأنا ضامن.

وهذا يسمّى بحسب اصطلاح الفقهاء بضمان ما لم يجب ، لأنّه بعد لم يجب عليه شي‌ء ، لأنّه لا دين فعلا في البين كي يكون أداؤه عليه واجبا ، أو يكون فعلا ذمّته مشغولة به ، وعلى كلّ حال لا يصحّ ضمان ما لم يجب وإن كان مقداره معلوم.

وقال أبو حنيفة ومالك : يصحّ مثل هذا الضمان (١) ، فإذا كان الضامن مالكيّا أو حنفيّا وضمن ما لم يجب أو ما ليس بمعلوم ، فيجوز إلزامهما بهذه القاعدة وإن كان غير صحيح عندنا.

الثاني عشر : شركة الأبدان عندنا باطلة ، وهي أن يشترك العاملان أو أكثر ، سواء أكانا متّفقي الصنعة والمهنة كالحدّادين أو النجّارين ، أو مختلفي الصنعة والمهنة كما إذا كان أحدهما نجّارا والآخر خبّازا على أنّ كلّ ما يحصل من كسبهما لهما أو كسبهم لهم ، يكون مشتركا بينهما أو بينهم بالسويّة ، أو بالاختلاف حسب شرطهم.

وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك (٢) ، فإذا كان أحد الشريكين في شركة الأبدان حنفيّا ويكون صحّة هذه الشركة ـ بعد أن عملا مدّة ـ مضرّة له ونافعا للطرف الآخر الذي مذهبه بطلان هذه الشركة ، يجوز لهذا الأخير إلزامه للآخر بصحّة هذه الشركة بهذه القاعدة ، وإن كانت في مذهبه باطلة.

الثالث عشر : لا شفعة عند أكثر فقهائنا في المنقولات‌ وكلّ ما يمكن تحويله بحسب المتعارف من مكان إلى مكان آخر ، كالأثواب والفروش والحبوبات والحيوانات.

__________________

(١) « المجموع » ج ١٤ ، ص ١٩ ، « فتح العزيز » ج ١٠ ، ص ٣٧٠ ، « بداية المجتهد » ج ٢ ، ص ٢٩٤ ، « البحر الزخار » ج ٦ ، ص ٧٦.

(٢) « اللباب » ج ٢ ، ص ٧٥ ـ ٧٦ ، « النتف » ج ١ ، ص ٥٣٥ ، « المبسوط » ج ١١ ، ص ١٥٤ و ٢١٦ ، « المغني لابن قدامة » ج ٥ ، ص ١١١ ، « الشرح الكبير » ج ٥ ، ص ١٨٥ ، « المحلّى » ج ٨ ، ص ١٢٣ ، « بداية المجتهد » ج ٢ ، ص ٢٥٢ ، « سبل السلام » ج ٣ ، ص ٨٩٣ ، « فتح العزيز » ج ١٠ ، ص ٤١٤ ، « البحر الزخار » ج ٥ ، ص ٩٤.

٢٠٥

ومنها : السفن ، وقال مالك : إذا باع سهمه من السفينة المشتركة ، يجوز لشريكه الآخر إلزامه بالأخذ بالشفعة منه بهذه القاعدة ، وإن كان هو لا يقول بها (١).

الرابع عشر : لا تثبت الشفعة بالجوار عندنا ، وقال أبو حنيفة وبعض آخر من الفقهاء : للجار حقّ الأخذ بالشفعة (٢) ، ولكن في طول الشريك لا في عرضه ، بمعنى أنّ الشريك لو ترك ولم يأخذ فالجار أحقّ من غيره ، فإذا كان المشتري حنفيّا ، أو ممّن يقول بحقّ الشفعة للجار من سائر الفقهاء ، فللجار إلزامه بهذه القاعدة إن كان منّا ، وإن لم يكن هذا الحقّ من مذهبنا.

وما ذكرنا في موارد هذه القاعدة قليل من كثير ممّا لم نذكرها ، لأنّ استقصاء جميع موارد الخلاف يحتاج إلى تأليف مجلّدات كبيرة ، خصوصا إذا كان مع أدلّة الطرفين ، وهو الذي يسمّى الآن بالفقه المقارن ، وقد كتب شيخ الطائفة قدس‌سره كتابا في موارد الخلاف سمّاه « الخلاف ».

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

__________________

(١) « بداية المجتهد » ج ٢ ، ص ٢٤٥ ، « بدائع الصنائع » ج ٥ ، ص ١٢ ، « شرح فتح القدير » ج ٧ ، ص ٤٠٥ ، « تبيين الحقائق » ج ٥ ، ص ٢٥٢ ، « فتح العزيز » ج ١١ ، ص ٣٦٤.

(٢) « المبسوط للسرخسي » ج ١٤ ، ص ٩٤ ، « بدائع الصنائع » ج ٥ ، ص ٨ ، « المجموع » ج ١٤ ، ص ٣٠٣ ، « المغني لابن قدامة » ج ٥ ، ص ٤٦١ ، « الشرح الكبير » ج ٥ ، ص ٤٦٦ ، « البحر الزخار » ج ٥ ، ص ٨ ، « نيل الأوطار » ج ٦ ، ص ٨١.

٢٠٦

٣٣ ـ قاعدة

أصالة عدم تداخل

الأسباب ولا المسبّبات‌

٢٠٧
٢٠٨

قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسببات

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في المراد منها‌

فنقول : أمّا المراد من أصالة عدم تداخل الأسباب هو أنّ كلّ سبب له مسبّب ، أي يتكرّر وجود المسبب بتكرّر وجود السبب ، سواء أكان السبب المكرّر وجوده من سنخ واحد ، أو من أسناخ متعدّدة ، فالأوّل في الأسباب الشرعيّة كما إذا تكرّر منه البول أو الوطي أو الإنزال أو الاحتلام ، والثاني كما إذا بال ونام وخرج منه الريح بالنسبة إلى الوضوء ، فيجب مثلا في المفروض ثلاث وضوءات : واحد للبول ، وواحد للنوم ، وواحد لخروج الريح ، وكذلك واحد للغائط.

فلا فرق في تعدّد المسبّب بتعدّد وجود السبب بين أن تكون الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد ، وبين أن يكون السبب المكرّر من أسناخ متعدّدة.

فلو قلنا بأصالة عدم التداخل ، فكما أنّ السبب المكرّر لو كان من سنخين أو من أسناخ متعدّدة تتعدّد الكفارة بتعدّد السبب ، كذلك يتعدّد المسبّب لو كان من سنخ واحد ، وهذا معنى عدم التداخل.

وأمّا التداخل فمقابل هذا المعنى ، أي عدم تكرّر المسبّب بتكرّر السبب. وأيضا‌

٢٠٩

لا فرق بين أن يكون السبب المكرّر من سنخ واحد أو يكون من أسناخ متعدّدة ، فالتقابل بين التداخل وعدمه تقابل العدم والملكة ، هذا معنى التداخل وعدمه في الأسباب.

وأمّا المراد من التداخل وعدمه في المسبّبات :

أمّا الأوّل : أي التداخل في المسبّبات ، فهو عبارة عن كفاية مسبّب واحد عن أسباب متعدّدة ، مثلا كفاية وضوء واحد عن الأبوال المكرّرة ، أو كفايته عن البول والغائط والنوم. ولا فرق في تداخل المسبّبات أيضا بين أن تكون أسبابها المتعدّدة من سنخ واحد ، أو من أسناخ متعدّدة.

وما ذكرنا في معنى التداخل وعدمه مضافا إلى أنّ المراد منهما عند الفقهاء هو هذا المعني ، ونحن في مقام شرح قاعدة فقهيّة ، فلا بدّ وأن نتكلّم فيها على وفق مرادهم منها موافق لما هو ظاهر لفظ التداخل وعدمه ، إذ التداخل مصدر باب تفاعل من « دخل » فيكون معناه حسب اللغة والمتفاهم العرفي دخول كلّ واحد من الشيئين في الآخر بحيث يتّحدان من حيث المكان والحيّز إذا كانا جسمين ، ومن حيث التأثير إذا كانا سببين ، ومن حيث التأثّر إذا كانا مسبّبين ، وهكذا.

ولذا قالوا : الضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل ، أي تداخل الجسمين بحيث يكون لهما حيّز واحد.

فبناء على هذا المعنى المذكور يكون تداخل الأسباب في عالم السببيّة عبارة عن اتّحاد الأسباب في عالم التأثير ، أي يكون لجميعها تأثير واحد ، كما أنّه لو فرض أنّ جميعها سبب واحد ، ومثل هذا المعني في العلل التامّة التكوينيّة غير ممكن ، بل لا بدّ من أن يرجع إلى كون المجموع سببا واحدا ، وكلّ واحد منها جزء السبب.

وهذا إذا وجد المجموع دفعة واحدة ، وإلاّ لو كان وجودها تدريجيّا وعلى الترتيب ، فإن كان المسبّب قابلا للتكرار فيتكرّر ، وإلاّ يكون السبب الثاني بلا أثر ، لأنّ‌

٢١٠

فرض وجود ذلك الأثر ـ الذي وجد أوّلا ـ ثانيا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.

وهذا القاعدة لا تأتي فيما لا يكون المسبّب قابلا للتكرار ، لأنّ المقصود منها هو أنّه فيما إذا شكّ في تعدّد المسبّب بتعدّد السبب هل مقتضى الأصل هو تعدّد المسبّب وهذا معناه عدم تداخل السبب وأيضا عدم تداخل المسبّب ، لأنّه لو تداخل السبب فلا يكون وجه لتعدّد المسبّب ، لما ذكرنا من أنّ معنى تداخل الأسباب كونها بمنزلة سبب واحد في مقام التأثير ، والسبب الواحد لا يؤثّر إلاّ في مسبّب واحد ، وكذلك الأمر مع تداخل المسبّب ، أي لا وجه لتعدّده مع تداخله ، لأنّ معنى تداخل المسبّب كما ذكرنا كفاية مسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة ـ أو مقتضى الأصل عدم تعدّد المسبّب وهذا معناه هو تداخل الأسباب ، أو مرجعه إلى تداخل المسبّبات؟

مثلا في موجبات الكفّارة للإفطار في نهار شهر رمضان لو قلنا بأنّ الأصل تداخل الأسباب أو المسبّبات ، ففي مورد الشكّ يحكم بكفارة واحدة ، سواء أكانت الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد كما إذا جامع مكرّرا ، أو من أسناخ متعدّدة كما إذا صدر منه الأكل والشرب والجماع في نهار شهر رمضان.

وعلى كلّ حال هذا البحث ـ أي أنّ مقتضى الأصل هل هو التداخل أو عدمه ـ لا يأتي إلاّ فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ، وأمّا إذا لم يكن المسبّب قابلا للتكرار ـ كالقتل بالنسبة إلى موجباته وأسبابه ، كما إذا قتل أشخاصا أو قتل واحدا ، وزنى مع أنّه محصن ، ولاط ، وارتدّ بالارتداد الفطري ـ فلا أثر لهذا البحث ، لأنّ المسبّب أي : القتل ليس قابلا للتكرار.

فلو قلنا بأنّ مقتضى الأصل عدم التداخل ، لا في الأسباب ولا في المسبّبات ، لا يمكن تعدّد القتل الذي هو أثر عدم التداخل. فهذا البحث مورده فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار مثل الكفّارة.

ثمَّ إنّه لو قلنا بتداخل الأسباب ، فلا يبقى وجه للقول بتداخل المسبّبات ، لأنّه بناء‌

٢١١

على تداخل الأسباب فليس في البين إلاّ مسبّب واحد ، ولا توجد مسبّبات كي يقال بتداخلها ، ويكون كما إذا وجد سبب واحد فهل يمكن البحث في ذلك المورد من أنّ الأصل هل هو تداخل المسبّبات أم لا؟ لا شكّ في أنّه لا يمكن ، لأنّ مفهوم التداخل سواء أكان مضافا إلى الأسباب أو إلى المسبّبات لا يتحقّق إلاّ مع تعدّدهما ، أي الأسباب والمسبّبات ، وإلاّ فمع وحدتهما لا معنى للتداخل ، كما بيّنّا أنّ التداخل عبارة عن دخول كلّ واحد من الشيئين في الآخر.

ثمَّ إنّ الفرق بين تداخل الأسباب وتداخل المسبّبات من حيث ثمرة البحث هو أنّه لو قلنا بأنّ مقتضى الأصل تداخل الأسباب والمسبّبات جميعا ، ففي مورد الشكّ مثل أنّه تكرّر منه الأكل في نهار شهر رمضان ، لا يجوز له أن يعطي أكثر من كفّارة واحدة بعنوان الوجوب وامتثال الأمر ، لأنّه تشريع محرّم.

ولو قلنا بأنّ مقتضي الأصل تداخل الأسباب دون المسبّبات ، فأيضا يكون الأمر كذلك ، من جهة أنّه وإن صدر السبب متعدّدا ، سواء أكانت الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ، لكنّها بمنزلة سبب واحد ، لتداخلها على الفرض ، فلا يجب عليه إلاّ مسبّب واحد ، ويشتغل ذمّته بذلك الواحد فقط ، فإتيان غيره بعنوان الوجوب وامتثال الأمر يكون تشريعا محرما.

ولو قلنا بتداخل المسبّبات دون الأسباب ، فإنّه وإن كان له الاكتفاء بالواحد ، لما ذكرنا من أنّ المراد من تداخل المسبّبات الاكتفاء بمسبّب واحد عن أسباب متعدّدة ، وذلك كالاكتفاء بوضوء واحد أو غسل واحد عن أسباب وموجبات متعدّدة ، ولكن يجوز له أن يأتي بفرد آخر من المسبّب ، لأنّ المفروض في هذه الصورة عدم تداخل الأسباب ، وتأثير كلّ واحد منها في لزوم إيجاد المسبّب.

غاية الأمر إنّ الشارع مثلا حكم بكفاية إتيان فرد واحد من طبيعة المسبّب ولا يؤاخذ على ترك البقيّة ، فهذا لطف وتسهيل من قبل الشارع على المكلّف ، وإتيانه‌

٢١٢

بالفرد الآخر من طبيعة المسبّب ليس تشريعا كي يكون محرّما ، بل عمل بمقتضى تأثير الأسباب المتعدّدة ، وإن كان يجوز له الاكتفاء بفرد واحد منّة منه تعالى عن عباده.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره في هذه الصورة ، بناء على ما ذكره من أنّ تداخل المسبّبات عبارة عن الاكتفاء بمسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة المؤثّر كلّ واحد منها تأثيرا مستقلاّ (١).

ولكن أنت خبير بأنّ هذا ليس من تداخل المسبّبات ، بل هو إسقاط ما في ذمّة العبد من الأفراد المتعدّدة إلاّ فردا واحدا ، والظاهر من تداخل المسبّبات هو أن يكون الفرد الواحد من طبيعة المسبّب أثرا للجميع وهذا المعنى إمّا أن يرجع إلى تداخل الأسباب ، بمعنى : أنّ الأسباب المتعدّدة في عالم التأثير لها أثر واحد ، فيكون خارجا عن مفروض الكلام ، لأنّ مفروضنا الآن هو تداخل المسبّبات دون الأسباب ، وإمّا أن يكون المراد أنّ الآثار المتعدّدة المسبّبة عن الأسباب المتعدّدة يندكّ بعضها في بعض ويوجد مسبّب واحد ، وذلك كالسرج المتعدّدة التي كلّ واحد منها يؤثّر في وجود مرتبة من الضوء في الغرفة مثلا مستقلا ، لكن تلك الآثار يندكّ بعضها في بعض ويتشكل ضوء واحد قويّ.

فنقول : في الشرعيّات مثلا موجبات الوضوء أو الغسل ، كلّ واحد منها يؤثّر في مرتبة من الحدث ، فيوجد حدث واحد قويّ ، أصغرا كان أو أكبرا ، فيرتفع بوضوء واحد في الأوّل ، وبغسل واحد في الثاني ، فيصحّ أن يقال : إنّ هذا تداخل المسبّب من دون تداخل أسبابها وإلاّ لو كان لكلّ سبب تأثير مستقل في وجود فرد من طبيعة المسبّب ، ومع ذلك الأفراد الموجودة بحدودها المعيّنة تصير فردا واحدا ، فهذا محال معناه صيرورة الاثنين واحدا ، وهو مستلزم لاجتماع النقيضين.

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ١ ، ص ٤٩.

٢١٣

وإذا كان تداخل المسبّبات بهذا المعنى ، فإيجاد المسبّب ثانيا بعنوان الوجوب والامتثال يكون تشريعا محرما ، لأنّ المفروض في المثال أنّ الحدث إذا كان هو الأصغر ارتفع بالوضوء الواحد ، وإذا كان هو الأكبر ارتفع بالغسل الواحد ، فيكون الوضوء أو الغسل الثانيين بعنوان امتثال الأمر تشريعا محرما ، كما في تداخل الأسباب بلا فرق بينهما أصلا.

وإذا كان مرجع تداخل المسبّبات إلى تداخل الأسباب فالأمر أوضح ، لأنّه ليس هناك أصلان كي يفرق بين ثمرتيهما ، بل هناك أصل واحد وهو أصالة عدم تداخل الأسباب ، وثمرتها معلومة وقد بيّنّاها ، ولو قلنا بعدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات فيجب أن يأتي بالمسبّب بعدد الأسباب ، وهذا واضح جدّا ، فلو جامع مرارا أو أكل كذلك ، فعليه الكفّارات بعدد الجماع أو الأكل.

الجهة الثانية

في بيان الأدلّة التي أقاموها على هذه القاعدة ،

وبيان ما هو الصحيح منها وما ليس بصحيح منها‌

وقبل الشروع في ذكر الأدلّة نقدم أمورا :

الأوّل : لو وصلت النوبة إلى الشكّ ، أي لم نجد دليلا لا على أنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب والمسبّبات ، ولا على أنّه يقتضي تداخلها فما حكمه؟

فنقول : أمّا الشكّ في تداخل الأسباب ، فمرجعه إلى الشكّ في التكليف ، فيكون مجرى البراءة.

بيانه : لو شككنا في أنّ الأسباب المتعدّدة للكفّارة ، سواء أكانت سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ، هل يقتضي تعدّد الكفارة أم لا ، فمعناه أنّه يشكّ في وجوب كفّارة‌

٢١٤

أُخرى غير الأولى أم لا ، فهذا شكّ في التكليف بالنسبة إلى الكفّارة الثانية ، فيكون مجرى البراءة.

وأمّا الشكّ في تداخل المسبّبات ، فإن كان المراد من تداخل المسبّبات ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من الاكتفاء بمسبّب واحد وإن كان في ذمّته مسبّبات متعدّدة بواسطة عدم تداخل الأسباب ، فلا شكّ في أنّ المرجع بناء على هذا قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ الشكّ يكون في مرحلة الامتثال بعد الفراغ عن اشتغال الذمّة بالمتعدّد ، وأنّه في مقام الامتثال هل يكفي الإتيان بالمسبّب الواحد أم لا؟

وأمّا لو كان مرجع تداخل المسبّبات إلى تداخل الأسباب ، وأنّ تداخل المسبّبات بدون تداخل الأسباب محال كما ذكرنا ، فيكون المرجع هي البراءة ، لأنّ الشكّ فيه حيث أنّه يرجع إلى الشكّ في تداخل الأسباب ، فيكون الشكّ في أنّ ذمّته هل اشتغلت بالمتعدّد أم لا؟ فيكون الشكّ في ثبوت التكليف بإيجاد المسبّب ثانيا ، وهو مجرى البراءة.

وأمّا لو كان المراد من تداخل المسبّب هذا المعني الأخير الذي بيّنّاه ـ أي يندكّ تأثيرات الأسباب ويتشكل مسبّب قويّ واحد ، أي حدث أصغر أو أكبر واحد قويّ ـ فلا يبقى شكّ في البين أصلا بعد إتيانه بالوضوء أو بالغسل ، لارتفاع ذلك الحدث الأصغر القويّ بالوضوء ، والأكبر القويّ بالغسل. إلاّ أن يأتي دليل على عدم ارتفاع ذلك المسبّب الشديد بوضوء واحد أو بغسل واحد مثلا.

والذي يسهل الخطب أنّه لو قلنا بعدم تداخل الأسباب ، فتداخل المسبّبات خلاف الأصل يقينا ، ولا يمكن المصير إليه إلاّ بإتيان دليل على ارتفاع آثار الأسباب المتعدّدة بوجود واحد ممّا نسمّيه مسبّبا ، كوضوء واحد ، وكغسل واحد إذا وجدت لكلّ واحد منهما أسباب متعدّدة.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا ـ من أنّ الشكّ في تداخل الأسباب إن لم نجد دليلا على أنّ مقتضى‌

٢١٥

الأصل هو التداخل أو عدمه فمرجعه إلى البراءة ـ يكون في باب التكاليف.

وأمّا في باب الوضعيّات كما إذا وجد سببان للخيار ولم يدلّ دليل على التداخل ولا على عدمه ، فالظاهر أنّه يكون مورد الاستصحاب لا البراءة ، مثلا لو ظهر في المبيع الذي هو حيوان ، عيب ، فما دام يكون البائع والمشتري في مجلس البيع وظهر العيب ، تجتمع للخيار أسباب ثلاثة : المجلس ، وكون المبيع حيوانا ، والعيب. فإذا أسقط الخيار المضاف إلى أحد هذه الأسباب فبناء على التداخل لا يبقى له خياران الآخران ، لأنّه بناء على هذا ليس له إلاّ خيار واحد وقد أسقطه.

وبناء على عدم التداخل فيكون الخياران الآخران موجودا ، فإذا شكّ في التداخل وعدمه ولم يكن دليل عليه ولا على عدمه ، فيشكّ في بقاء طبيعة الخيار ، فيكون مجرى الاستصحاب.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الخيار الذي هو عبارة عن حقّ خاصّ به يكون له السلطنة على حلّ العقد وإبرامه. ومثل هذا الحقّ ليس قابلا للتكرار ، فإذا أسقط فلا يبقى احتمال البقاء كي يستصحب ، بل البحث عن التداخل وعدم تداخل الأسباب لا يأتي هاهنا ، كما ذكرنا أنّ مورد هذا البحث هو فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ، لأنّ ما ليس قابلا للتكرار في مقام الثبوت فالبحث عنه في مقام الإثبات ـ بأنّ مقتضى الأصل هل هو عدم التداخل؟ أي : التكرار مع عدم إمكانه ـ لا مجال له أصلا.

إن قلت : إنّ الخيار وإن لم يكن قابلا للتكرّر بتعدّد الأسباب من حيث تعدّد وجوده ، ولكنّه قابل للتعدّد بواسطة إضافته إلى أسباب متعدّدة ، فقابل لأن يبحث فيه إذا تعدّد أسبابه ، كما ذكرنا أنّ مقتضى الأصل هل تداخل الأسباب كي يكون خيار واحد عند اجتماع تلك الأسباب ، أو مقتضى الأصل عدم التداخل كي تكون خيارات باعتبار إضافتها إلى أسبابها.

قلنا : إنّ هذا وإن كان كلاما صحيحا ولكن ليس مصحّحا لجريان الاستصحاب‌

٢١٦

بعد سقوطه أو إسقاطه باعتبار إضافته إلى بعض الأسباب ، وذلك من جهة أنّ الشكّ في التداخل وعدمه وإن كان موجبا للشكّ في وجود الخيار بعد سقوطه أو إسقاطه مضافا إلى أحد أسبابه ، ولكنّه ليس شكّا في بقاء ما هو كان موجودا يقينا الذي هو موضوع الاستصحاب ، لأنّه على تقدير التداخل حيث أنّه كان خيار واحد له ارتفع يقينا بالإسقاط أو السقوط ، ولم يبق شي‌ء ولو من حيث إضافته إلى سائر الأسباب غير ما أسقط أو سقط ، وعلى تقدير عدم التداخل فموجود يقينا من حيث إضافته إلى سائر الأسباب.

وحيث أنّ المفروض هو الشكّ في التداخل وعدمه ، فما عدا الساقط مشكوك الحدوث ، لا مشكوك البقاء ومتيقّن الحدوث كي يجري الاستصحاب.

وأمّا استصحاب بقاء الجامع ـ بين ما سقط والمضاف إلى سائر الأسباب لأنّه مشكوك البقاء ـ وإن كان صحيحا من حيث تماميّة أركانه ، لكنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي أثبتنا عدم صحّة جريانه.

وخلاصة الكلام : أنّ الوضعيّات إن لم تكن قابلة للتكرّر ولا للتأكّد فعند اجتماع الأسباب وتعدّدها لا يأتي بحث التداخل وعدمه ، وأيضا لا حكم للشكّ في التداخل وعدمه ، بل لا موضوع له ، لأنّ المفروض أنّ عدم التداخل بمعنى تعدّد المسبّب أو تأكّده غير ممكن فيه.

ولعلّه تكون الجنابة والنجاسة من هذا القبيل ، فإذا وجدت للجنابة أو النجاسة أسباب متعدّدة ، سواء أكانت تلك الأسباب من سنخ واحد ، كما إذا جامع مرارا ، أو لاقى مكانا من بدنه البول مرارا ، أو كانت من أسناخ متعدّدة ، كما إذا جامع بدون إنزال وأنزل بدون الجماع ، هذا بالنسبة إلى الجنابة ، أو لاقى مكانا من بدنه أو من ثوبه ، أو شي‌ء آخر البول والمني أو نجس آخر ، ففي جميع هذه الصور لا تؤثّر هذه الأسباب تعدّدا في الجنابة أو في نجاسة المحلّ ، ولا تأكّدا فيهما.

٢١٧

وأمّا إن كان قابلا للتعدّد أو التأكّد ، وإن كان تعدّده باعتبار اضافة إلى أسبابه كما قلنا في الخيار ، فهذا البحث وإن كان يأتي ولكن عند الشكّ وعدم وجود دليل على التداخل ولا على عدمه ، فالاستصحاب لا يجري فيما هو قابل للتعدّد ، لما ذكرنا في الخيار.

وأمّا فيما هو قابل للتأكّد دون التعدّد ، فعدم فرد آخر مقطوع ، فلا مجرى للاستصحاب. وأمّا بالنسبة إلى احتمال بقاء مرتبة منه بعد القطع بزوال مرتبة منه ـ كما أنّه لو غسل مرّة ما تنجّس بالدم أوّلا ثمَّ لاقى البول أيضا ، فاحتملنا بقاء مرتبة من النجاسة بعد زوال مرتبة منها يقينا ، بناء على تأكّد النجاسة فيكون الاستصحاب حينئذ من القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، ولا يجري إلاّ فيما إذا كانت وحدة القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة محفوظة عرفا والمسألة مشروحة على التفصيل في كتابنا « منتهى الأصول » (١) وإن شئت فراجع.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا بالنسبة إلى النجاسة من التأكّد وزوال مرتبة منها يقينا واحتمال بقاء مرتبة منه صرف فرض ومن باب المثال ، وإلاّ فلا واقعيّة له.

نعم لو كانت لهذه المسبّبات التي من الوضعيّات آثار تكليفيّة ، كوجوب الغسل ـ بالضم ـ أو الغسل ـ بالفتح ـ وكان الشكّ فيه وأنّه مرّة أو مرّتين ، فالمرجع وإن كان هي البراءة من حيث التكليف ، ولكن لا مانع من استصحاب نفس الوضع ، وذلك كما إذا شكّ في أنّ النجاسة الحاصلة من ملاقاة البول هل يزول بالغسل مرّة أم لا؟ فاستصحاب النجاسة لا مانع منه ، ومعلوم حكومة هذا الاستصحاب على البراءة عن وجوب الغسل مرّة أخرى.

الثاني : في أنّ هذا البحث والنزاع هل يأتي في الأسباب والعلل التكوينيّة بالنسبة إلى مسبّباتها ، أو يختصّ بالأسباب والمسبّبات الشرعية؟

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٤٤٨.

٢١٨

ثمَّ إنّ هذا البحث في الأسباب والعلل التكوينيّة على تقدير إتيانه لا يكون إلاّ فيما إذا كان لتكرّر المسبّب أثر شرعي ، وإلاّ يكون البحث لغوا وبلا ثمرة.

وقد عرفت أنّ هذا البحث لا يأتي إلاّ فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار أو التأكّد ، وإلاّ ففيما لم يكن كذلك فقلنا إنّ عدم التداخل ـ أي : تعدّد المسبّب مع أنّه ليس قابلا للتكرار ـ محال ، فالبحث عنه باطل ، فهذا البحث على تقدير جريانه وإتيانه في الأسباب التكوينيّة مشروط بهذين الأمرين.

فنقول : المراد من الأسباب التكوينيّة إن كانت هي العلل التامّة ، فمع كون المسبّب قابلا للتكرار فالتداخل محال ، فلا محالة يتكرّر المسبّب بتكرّر السبب ، وإلاّ يلزم توارد علّتين تامّتين على معلول واحد. وأمّا مع عدم كونه قابلا للتكرار فقلنا إنّ هذا البحث لا يأتي مطلقا لا في الأسباب الشرعيّة ولا في الأسباب التكوينيّة.

والحاصل : أنّ احتمال التداخل في العلل التامّة التكوينيّة محال. وأمّا المعدّات فليست المسبّبات مترتّبة عليها حتّى نتكلّم أنّ مقتضى الأصول هل هو التداخل أم لا؟

فهذا البحث مختصّ بالأسباب الشرعيّة.

ولكن ربما يقال بأنّ إتيانه في الأسباب الشرعيّة أيضا مشروط بأن تكون معرّفات لا مؤثّرات وعلل حقيقية ، وإلاّ يكون حالها حال العلل التكوينيّة في عدم جريان هذا البحث لعين ما ذكرنا ، لعدم جريانه هناك.

وفيه : أنّ ما نسميّها بالأسباب الشرعيّة ليست هي إلاّ موضوعات الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، فلا مؤثّرات ولا معرّفات لما هو العلّة حقيقة ، وذلك من جهة أنّ الشارع هو الذي يوجد هذه الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، وهي اعتبارات من قبل الشارع ومجعولات له في عالم الاعتبار والتشريع.

وكما أنّ الموجودات الخارجيّة كلّها مخلوقات له تعالى في عالم الخارج والتكوين ، كذلك جميع الأحكام الشرعيّة ، وضعيّة كانت أم تكليفيّة ، مجعولات من طرفه تعالى‌

٢١٩

في عالم الاعتبار والتشريع ، فالمؤثّر والعلّة في وجود الأحكام هو الله تعالى.

وهذه الأسباب التي نسمّيها بالأسباب لا علل حقيقية للأحكام كما هو واضح ، لما عرفت أنّ علّتها الحقيقة هو الشارع ، ولا معرّفات للعلل الحقيقة ، لأنّ هذه الأسباب ليست معرّفات للشارع ، لأنّ المراد من المعرّف هاهنا ظاهرا هو الدالّ والمبيّن ، وهذه الأسباب ليست دالاّ ومبيّنا للعلّة الحقيقة بحيث يعرف العلّة الحقيقيّة وأنّها هو الشارع.

فحديث دوران الأمر بين أن تكون أسباب الأحكام وشرائطها إمّا علل حقيقة لها أو معرّفات إليها لا أساس له ، وبناء على هذا فما فرّعوا على هذا الدوران من انّ مقتضى الأصل هو التداخل بناء على أنّها معرّفات ، وعدم التداخل بناء على أنّها علل حقيقيّة كلام فارغ لا محصّل له ، إذ مقصودهم من ابتناء التداخل على أنّها معرّفات ، وابتناء عدم التداخل على أنّها علل حقيقيّة ومؤثّرات واقعيّة هو ما أشرنا إليه ، وهو أنّ توارد علّتين تامّتين حقيقيّتين على معلول واحد محال ، فبناء على أنّها علل حقيقية يكون التداخل محالا.

وأمّا بناء على أنّها معرّفات فلا مانع من التداخل ، إذ من الممكن أن يكون للشي‌ء الواحد معرّفات متعدّدة وأمارات وعلامات كثيرة وكواشف مختلفة.

هذا إذا كان المراد من العلل الحقيقية هو موجدها في عالم الاعتبار والتشريع ـ أي الشارع ـ فقد عرفت أنّه بناء على هذا ليست هذه التي نسمّيها الأسباب والشروط علل حقيقيّة ، ولا معرّفات لها ، ولا كواشف عنها ، ولا أمارات عليها.

وأمّا لو كان المراد منها المصالح والمفاسد التي قد تكون من قبيل علّة الجعل ، وقد تكون من قبيل حكمته ، فإنّه وإن كان من الممكن أن تكون هذه الأسباب والشرائط مؤثّرات في وجود المصالح والمفاسد التي هي إمّا علّة جعل الأحكام أو حكمته ، فيكون الإفطار في نهار شهر رمضان متعمّدا مؤثّرا في وجود مصلحة في إعطاء الكفّارة التي هي العلّة الحقيقيّة لجعل وجوبها ، وأيضا يمكن أن تكون معرّفات لوجود‌

٢٢٠