القواعد الفقهيّة - ج ٣

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٥٢

يقول : هذه المرأة زوجتي ، أو هذا الغلام ابني ، أو هذه الصبيّة بنتي ، ومن هذه الجهة لو ادّعى في اللقطة أنّها لي ، ولم يكن له معارض يعطي المال له.

وربّما يستدلّ لسماع قول المدّعي بلا معارض برواية الكيس المعروفة ، وهي أنّ يونس بن عبد الرحمن روى عن منصور بن حازم ، قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام : عشرة كانوا جلوسا ، وسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو؟ قال عليه‌السلام : « للذي ادّعاه » (١).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على قبول قول مدّعي الذي ليس له معارض واضح ، لأنّه عليه‌السلام قال : هو للمدّعي الذي لم يعارضه أحد من تلك العشرة بل كلّهم نفوا عنهم.

ولكن استشكل على هذا الاستدلال شيخنا الأعظم الأنصاري على ما نقل بعض الأجلّة من تلامذته قدس‌سره وقبله ابن إدريس (٢) بأنّ سماع قول ذلك المدّعي ليس من جهة أنّه مدّع بلا معارض له في دعواه ، بل أنّ الكيس الكائن في وسط جماعة يكون تحت يد تلك الجماعة ، ولذلك لو ادّعاه شخص من غير تلك الجماعة ومن الخارج فلا يقبل قوله إلاّ بالبيّنة.

وأمّا لو كان من تلك الجماعة ، فإن ادّعى الباقون أيضا مثله ، فيجري عليه حكم الشريكين الذين يدّعي كلّ واحد منهما تمام ما في يدهما ، وأمّا إذا نفى الباقون كونه لهم ، فتسقط أمارية اليد في حقّهم. وأمّا الذي يدّعيه ولا ينفي عن نفسه فأماريّة يده باقية ،

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤٢٢ ، باب النوادر ( من كتاب القضاء والأحكام ) ح ٥ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٩٢ ، ح ٨١٠ ، باب من الزيادات في القضايا ، ح ١٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٦ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٧ ، ح ١.

(٢) « السرائر » ج ٢ ، ص ١٩١.

١٢١

ويكون هو بحكم ذي اليد الواحد الذي ليس لغيره يد عليه ، فيحكم بأنّه له من جهة يده عليه لا من جهة أنّه مدّع بلا معارض له في دعواه هذه.

وبعبارة أوضح : أماريّة اليد لكون ما في يده ملك له متوقّفة على عدم إقراره بأنّه ليس له ، فإذا نفى عن نفسه وأقرّ بأنّه ليس له تكون يده كالعدم لا أماريّة لها ، واليد بنظر العقلاء تكون كاشفة وأمارة بالمطابقة بأنّ ما هو تحت اليد ملك لذي اليد ، وبالدلالة الالتزاميّة. تدلّ على أنّه ليس لغير ذي اليد.

فالكيس الذي كان في وسط جماعة حيث أنّ لتلك الجماعة يد عليه ، فبالدلالة الالتزامية تدلّ يد جميعهم على أنّه ليس لغيرهم. ويد كلّ واحد منهم وإن كانت تدلّ على أنّه له ، إمّا تماما كما احتمل ، أو بنسبة نفسه إلى الجميع على نحو الشركة ثلثا أو ربعا أو خمسا ، وهكذا حسب عدد الجماعة كما هو الصحيح ، ولكن هذه الدلالة سقطت بواسطة إقراره بأنّه ليس له.

وأمّا ذلك الشخص الواحد الذي ادّعاه حيث أنّه لم يقرّ أنّه ليس له ، بل ادّعى على طبق يده أنّه له ، فيبقى ليده كلتا الدلالتين : المطابقة والالتزامية ، فتثبت أنّه وليس لغيره ، كما هو الحال في اليد الواحدة التي ليس لها يد أخرى شريكة معها ، فيحكم له إلاّ أن يأتي المدّعي الخارج عن تلك الجماعة بالبيّنة على أنّه له ، كما هو الشأن في سائر المقامات بالنسبة إلى الدعوى على ذي اليد الواحد. فحكمه عليه‌السلام بأنّ الكيس لذلك الواحد المدّعي ليس من أجل أنّه بلا معارض ، بل من جهة أنّه ذو اليد على موازين باب القضاء.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ صرف كون الكيس في وسط جماعة ليس ظاهرا عند العرف في ثبوت اليد لتلك الجماعة عليه. أو يقال بأنّ اليد الواحدة ـ أي الاستيلاء والسيطرة الواحدة ـ قائمة بالمجموع ، وليس لكلّ واحد منهم يد مستقلّة ، فإذا نفوا عنهم ما عدا واحد منهم ، فتسقط تلك اليد الواحدة القائمة بمجموع تلك الجماعة ، وليس هناك‌

١٢٢

استيلاء آخر كي يكون أمارة على الملكيّة ، لأنّ اليد القائمة بالمجموع سقطت عن الاعتبار ، ويد المدّعي كانت في ضمن تلك اليد القائمة بالمجموع ، ولم يكن لها وجود مستقلّ ، فلا بدّ وأن يكون حكمه عليه‌السلام بكونه لذلك الواحد المدّعي مستندا إلى جهة أخرى غير اليد ، وليست إلاّ أنّه مدّع ليس له معارض.

ولكن أنت خبير بعدم صحّة كلتا الدعويين :

أمّا عدم صحّة دعوى عدم ظهور كون الكيس في وسطهم عرفا في ثبوت اليد لهم ، فممّا يشهد عليه العرف والوجودان. نعم في بعض الفروض يمكن دعوى عدم الظهور عرفا في ثبوت اليد لهم ، كما إذا كان الكيس موجودا في ذلك المكان قبل اجتماعهم فيه ، وبعد ذلك اجتمعوا وصار الكيس في وسطهم ، لكن هذا الفرض وأمثاله خارج عن ظاهر الرواية ، وتكون الرواية منصرفة عنها.

وأمّا دعوى أنّ لمجموع تلك الجماعة يد واحدة ، وليس لكلّ واحد منهم يد مستقلّة ، ففيها : أنّه لو كانت الجماعة كلّهم يدّعون أنّه لهم فبنظر العرف ـ الذي هو المناط في فهم مفاهيم الألفاظ وتعيين المراد منها ـ كان الأمر كما ادّعاه صاحب هذه الدعوى ، بمعنى أنّ لكلّ واحد منهم كانت يد غير تامّة وغير مستقلّة ، كما في الشريكين أو الشركاء في دكّان مثلا.

وقد بيّنّا في محلّه أنّ اليد غير التامّة على المجموع بمنزلة اليد التامّة المستقلّة على بعض ذلك المجموع بنسبة عدد الشركاء ، فإذا كانا اثنين متصرّفين في الدكّان مثلا ، يرى العرف أنّ لكل واحد منهما الاستيلاء التامّ على النصف ، وإن كانوا ثلاثة يرى الاستيلاء واليد التامّة على الثلث ، وهكذا.

وأمّا إن نفوا عنهم ما عدا واحد الذي ادّعى المجموع ، ففي هذه الصورة يرى العرف أنّ الاستيلاء لذلك الواحد فقط ، لأنّ سائرهم بواسطة إقرارهم بعدم كونه لهم أسقطوا يدهم عن الاعتبار ، فصارت يدهم كأن لم تكن ، فيد هذا الواحد كأنّها يد‌

١٢٣

واحدة مستقلّة على المجموع.

والحاصل : أنّ دلالة الرواية على قبول قول المدّعي الذي ليس له معارض في غاية الإشكال.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ جميعهم أو بعضهم لو ادّعى ملكيّة ذلك الكيس بعد نفيه عن نفسه أو عن أنفسهم لا يسمع ، لأنّه إنكار بعد الإقرار ، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فإقراره السابق بعدم كون الكيس له أسقط ماليّته ظاهرا وإن كان ماله بحسب الواقع ، إلاّ أن يأتي بدليل حاكم على ذلك الإقرار ، أو علم بأنّ إقراره كان على خلاف الواقع لنسيانه ، أو لجهة أخرى.

الثالثة : كبرى « من ملك شيئا ملك الإقرار به » ‌فلو ادّعى أنّه طلّق زوجته ، أو باع ماله الفلاني من فلان ، أو وهبه لفلان ، أو أعطيت زكاتي الواجب عليّ وأمثال ذلك ، سواء أكان له أو عليه ، يسمع بدون أن يطالب بالبيّنة لتلك القاعدة. وعمدة فائدة هذه القاعدة فيما لا يكون الإقرار على ضرره ، وإلاّ فلا احتياج إليها ، لكون موارد الإقرار على ضرر نفسه مشمولا لقاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ أو جائز ».

وأمّا الدليل على هذه الكبرى ، أي كبرى « من ملك شيئا ملك الإقرار به » فقد تقدّم في شرح هذه القاعدة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ، فلا نعيد.

الرابعة : كبرى « أنّه يسمع كلّ دعوى لا يعلم إلاّ من قبل مدّعيها ».

واستدلّوا لهذه الكبرى بوجوه :

الأوّل : الإجماع الإجماع على أنّ من يدّعي شيئا لا يعلم إلاّ من قبله ، يسمع قوله من دون أن يطالب بالبيّنة ، ولكن الحكم له بعد الحلف ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ على تصديقه بدون الحلف والشاهد على اتّفاقهم على هذا الحكم هو أنّهم يعلّلون في بعض الدعاوي سماعها بأنّه شي‌ء لا يعلم إلاّ من قبله ، ويرسلونه إرسال المسلّمات ولا ينكره‌

١٢٤

أحد منهم ، بل كلّ واحد من الفقهاء قدس‌سرهم يقبل هذا التعليل ولا يستشكل عليه ولا يطلبون من القائل الدليل عليه ، فيكون من الكبريات المسلّمة عندهم.

وفيه : أنّه ممنوع صغرى وكبرى. أمّا الصغرى : فمن جهة أنّ قولهم هذا في بعض الموارد لا يدلّ على اتّفاقهم على هذه الكبرى الكليّة.

وبعبارة أُخرى : التعليل إذا كان في آية أو رواية ، أي كان في كلام من يجب اتّباعه ، فيجب الأخذ بظاهره ، فإذا كان ظاهرا في العموم يجب الأخذ بذلك الظهور والحكم بعموم التعليل. وأمّا لو كان في كلام من ليس كلامه حجّة ، فلا بدّ من وجود دليل على وجوب الأخذ بظاهر ذلك الكلام ، والمفروض أنّه ليس هاهنا دليل إلاّ الإجماع ، فلا بدّ أن يكون نفس هذا التعليل ـ أي : عنوان « لأنّه لا يعلم إلاّ من قبله » ـ معقدا للإجماع ، وإثبات هذا الاتّفاق في غاية الإشكال.

ثمَّ على تقدير ثبوته يرد عليه ما ذكرنا مرارا أنّ مثل هذا الاتّفاق ليس كاشفا قطعيا عن رأيهم عليهم‌السلام لاحتمال أن يكون منشأ اتّفاقهم هو بعض ما ذكروه من الأدلّة على قبول دعوى التي لا تعلم إلاّ من قبل مدّعيها ، فلا يكون من الإجماع المصطلح في الأصول الذي قلنا بحجّيته.

الثاني : الحكمة أنّ حكمة جعل القضاء والقاضي هو رفع التشاجر والمخاصمة بين الناس وحسم النزاع ، فإذا كان دعوى المدّعي لا يعلم إلاّ من قبله ، فلا يمكن له إقامة البيّنة عليه ، لأنّ المفروض أن غير المدّعي لا يعلمه كي يشهد به ، ولا يمكن لخصمه المنكر أن يحلف ، لأنّ المفروض أنّ الخصم المنكر لا يعلم به ولا حلف إلاّ عن بتّ ، فيبقى القضاء بلا ميزان ، ولا يرفع المخاصمة.

أقول : وهذا الوجه ممّا يمكن الركون إليه.

لايقال : هذا الوجه صحيح فيما لا يمكن إقامة الشهود والبيّنة المعتبرة للمدّعي ، وموارد سماع دعوى من لا يعلم ما يدّعيه إلاّ من قبله ـ كما ذكروا ـ ليست منحصرة بما‌

١٢٥

لا يمكن إقامة البيّنة ويتعذّر ، بل أعمّ منه وممّا يتعسّر ، ففي القسم الثاني منه يمكن إقامة الشهود غاية الأمر مع التعسّر ، لأنّ التكليف بالأمر المتعسّر أيضا ليس من دأب الشارع وديدنه غالبا ، ولا يناسب الشريعة السمحة السهلة إلاّ فيما تكون المصلحة مهمّة ، بحيث يكون على المكلّف بذل كلّ نفس ونفيس كالجهاد والدفاع مع الكفّار فيما إذا هجموا على المسلمين مثلا.

فبناء على هذا يكون المتعسّر بحكم المعتذّر ، وكون التعسّر حكمة للجعل كثير في الشريعة ، كجعل التيمّم بدلا عن الطهارة المائيّة ، والتقصير والإفطار في السفر ، وأمثال ذلك.

الثالث : الأخبار أنّه وردت أخبار على أنّ الحيض والعدّة إلى النساء كصحيح زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : « العدّة والحيض للنساء إذا ادّعت صدّقت » (١) وقول الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ) (٢) « قد فوّض الله إلى النساء ثلاثة أشياء : الحيض ، والطهر ، والحمل » (٣).

ومعلوم أنّ تفويض هذه الأمور إلى النساء من جهة أنّها لا تعلم إلاّ من قبلهنّ ، وادّعى بعضهم أنّ في بعض هذه الأخبار تعليل قبول قولهنّ في هذه الأمور بتعذّر الإشهاد منهنّ عليها ، لأجل عدم اطلاع غيرهنّ عليها. ومعلوم أنّ هذا الكلام في قوّة أن يقول : لأنّها لا تعلم إلاّ من قبلهنّ ، ولكنّني فتشت بمقدار وسعي ولم أجده.

نعم ورد في رواية محمد بن عبد الله الأشعري قال : قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٦ ، ص ١٠١ ، باب ان النساء يصدّقن في العدّة والحيض ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١٦٥ ، ح ٥٧٥ ، باب عدد النساء ، ح ١٧٤ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٣٥٦ ، ح ١٢٧٦ ، باب أنّ العدّة والحيض إلى النساء. ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ٤٤١ ، أبواب العدد ، باب ٢٤ ، ح ١.

(٢) البقرة (٢) : ٢٢٨.

(٣) « مجمع البيان » ج ٢ ، ص ٣٢٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ٤٤١ ، أبواب العدد ، ب ٢٤ ، ح ٢.

١٢٦

يتزوّج. إلى آخره؟ فقال عليه‌السلام : « أرأيت لو سألها البيّنة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج » (١).

والحاصل : أنّ ظاهر هذه الأخبار قبول قول المرأة في الحيض والحمل والطهر والعدّة ، وهذه أمور لا تعلم إلاّ من قبلهنّ في الغالب ، فمن هذا يستكشف كبرى كلّية ، وهو أنّ كلّ ما لا يعلم إلاّ من قبله يسمع قوله فيه.

هذا إذا لم يكن ذلك التعليل في البين ، وأمّا إذا كان كما ادّعاه الكني قدس‌سره في قضائه (٢) فالأمر أوضح ، لأنّه بناء على ثبوت ذلك التعليل ووجوده في بعض الأخبار يكون الحكم بالقبول دائرا مدار وجود تلك العلّة ، ففي كلّ دعوى يتعذّر الإشهاد عليها أو يتعسّر ، يجب قبولها من دون مطالبة البيّنة عن مدّعيها.

ومعلوم مطابقة دعوى التي يتعذّر الإشهاد عليها مع ما لا يعلم إلاّ من قبله ، بمعنى أنّ كل دعوى لا تعلم إلاّ من قبل مدّعيها يتعذّر الإشهاد عليها ، لأنّ الإشهاد فرع معرفة الشاهد وعلمه بالمشهود به ، وعلمه بالمشهود به مع كون الدعوى ممّا لا تعلم إلاّ من قبله خلف.

الرابع : لا شكّ في أنّ قول المنكر مع أنّه موافق للحجّة الفعليّة ـ كما بيّنّاه ـ يحتاج في الحكم له وثبوت قوله إلى اليمين ، فكيف يمكن الحكم للمدّعي بصرف الادّعاء بدون اليمين؟ مع أنّ قوله مخالف للحجّة الفعليّة ، كما عرفت في بيان معنى المدّعي.

وبعبارة أُخرى : حيث أنّ المدّعي كان قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، فجعل الشارع وظيفته أثقل ميزاني القضاء ـ أي البيّنة ـ ولكن بالنسبة إلى بعض الدعاوي ارتفع هذا الثقل ـ أي : البيّنة ـ عنه لمصلحة وملاك لإحدى الجهات التي تقدّمت ، ولم يكلّف‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٢٥٣ ، ح ١٠٩٤ ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح ١٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٤٥٧ ، أبواب المتعة ، باب ١٠ ، ح ٥.

(٢) « كتاب القضاء » ص ١٠٤.

١٢٧

بالبيّنة.

ولكن لا يمكن أن يكون حاله أحسن من المنكر الذي قوله موافق مع الحجّة ولا يحتاج إلى اليمين أيضا ، وهذا معناه عدم الاعتناء بالحجّة.

وفيه : أنّ هذا صرف استحسان ، ولا يصحّ أن يكون مناطا وملاكا للحكم الشرعي ، والشارع عيّن وظيفة للمدّعي وهي البيّنة ، ووظيفة أخرى للمنكر ، أي اليمين بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (١) وهذان الحكمان ـ أي كون وظيفة المدّعي هي البيّنة ووظيفة المنكر اليمين ـ عامان يشمل كلّ مدّع وكلّ منكر ، فجاء المخصّص بالنسبة إلى بعض أقسام المدّعي وأسقط لزوم إقامته البيّنة ، فكون وظيفة أخرى له يحتاج إلى جعل آخر ، وإلى دليل على ذلك الجعل في مقام الإثبات ، وإذ ليس فليس.

نعم الدليل هو الوجه الثاني الذي ذكرناه من أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (٢) يستفاد منه أمران : أحدهما حصر ميزان القضاء في هذين الاثنين. والثاني : عدم جواز الحكم بدون الميزان ، فبضميمة عدم جواز إيقاف الحكم وارتفاع البيّنة عنه ، لا بدّ وأن نقول بأنّ الحكم لمثل هذا المدّعي لا يجوز إلاّ مع حلفه.

ثمَّ إنّهم ذكروا هاهنا وجوها استحسانية آخر لهذا الحكم ـ أي كون اليمين على المدّعي الذي يسمع قوله ـ تركنا ذكرها ، لعدم الاحتياج إليها ، وعدم صحّتها في أنفسها.

ثمَّ إنّ هذه القاعدة خصّصت في موارد ، بمعنى أنّه جاء الدليل على قبول قول بعض المدّعين بدون أن يكون عليه البيّنة أو اليمين ، أي ليس عليه كلتا الوظيفتين ، وما قلنا إنّ الحكم لا يجوز بدون أحد الميزانين ليس حكما عقليّا غير قابل للتخصيص ، بل‌

__________________

(١) سبق تخريجه في ص ١١٣.

(٢) سبق تخريجه في ص ١١٢ ، رقم (١).

١٢٨

كان مفاد الحديث الشريف ، أعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » فإذا أتى دليل على عدم لزوم كلتا الوظيفتين يخصّصه.

فمنها : دعوى المالك للعامل أداء ما عليه من الزكاة ، فيقبل قوله من دون أن يكون عليه حلف أو بيّنة ، لقول عليّ عليه‌السلام لعامله في خبر غياث : « إذا أتيت على ربّ المال فقل : تصدّق رحمك الله ممّا أعطاك الله ، فإن ولّى عنك فلا تراجعه » (١). ولغير خبر غياث ممّا يدل على المقام.

ومنها : دعوى الفقير الفقر، فقالوا : إنّها تقبل بلا أن يكون عليه البيّنة أو اليمين ، لخبر عبد الرحمن العزرمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « قال عليه‌السلام : « جاء رجل إلى الحسن والحسين عليهما‌السلام وهما جالسان على الصفا ، فسألهما فقالا : إنّ الصدقة لا تحلّ إلاّ في دين موجع ، أو غرم مقطع ، أو فقر مدقع ففيك شي‌ء من هذا؟ قال : نعم ، فأعطياه » (٢).

ولمصحّح عامر بن جذاعة : رجل أتى أبا عبد الله عليه‌السلام ، فقال : يا أبا عبد الله قرض إلى ميسرة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إلى غلّة تدرك؟ » قال : لا ، قال عليه‌السلام : « إلى تجارة تؤب؟ » قال : لا والله ، قال عليه‌السلام : « عقدة تباع؟ » قال : لا والله ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « فأنت ممّن جعل الله له في أموالنا حقا » فدعا بكيس فيه دراهم (٣).

تذييل‌

لا يخفى أنّ ما قلنا ـ من سماع دعوى المدّعي الذي لا يمكنه الإشهاد على ما يدّعيه ،

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٥٣٨ ، باب أدب المصدّق ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ٦ ، ص ٩٠ ، أبواب زكاة الأنعام ، باب ١٤ ، ح ٥ ، وص ٢١٧ ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب ٥٥ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٤ ، ص ٤٧ ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ، ح ٧ ، « وسائل الشيعة » ج ٦ ، ص ١٤٥ ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب ١ ، ح ٦.

(٣) « الكافي » ج ٣ ، ص ٥٠١ ، باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق ، ح ١٤.

١٢٩

وإن شئت قلت : سماع دعوى الذي لا يعلم ما يدّعيه إلاّ من قبله إنّما يكون فيما إذا لم يظهر المدّعي خلاف ما يدّعيه وما ينافي دعواه ، فلو أقرّ على خلاف ما يدّعيه ، أو كان ظاهر كلامه خلاف ما يدّعيه ، فلا يسمع دعواه ، وإن كان ما يدّعيه لا يعلم إلاّ من قبله.

وذلك من جهة أنّ إقراره أو ظاهر كلامه حجّة عليه فيما إذا كان على ضرره ، فإذا أقرّ بأنّه غنيّ وليس بفقير ، أو أقرّت واعترفت بانقضاء العدّة ، أو كان ظاهر كلامه ذلك ، فلا يسمع دعواه ، لأنّه من قبيل الإنكار بعد الإقرار ، وبإقراره أو ظاهر كلامه علم من قبله بالحجّة ، فدعواه يكون معلوم البطلان شرعا.

فلو قال وادّعى عدم القصد في المعاملة الفلانيّة أو ادّعت عدم القصد في عقد النكاح مثلا ، أو غير ذلك من العقود والإيقاعات ، كالطلاق أو الجعالة مثلا ، فلا تقبل دعواه ، وإن كانت الدعوى ممّا لا يعلم إلاّ من قبله ، أو وإن كانت ممّا يتعذّر الإشهاد عليه ، لأنّ ظاهر كلامه حجّة عليه ، فهو بدعواه هذه يكذب نفسه.

والحاصل : أنّه علم شرعا خلاف ما يدّعيه من قبل نفسه ، فلا يتعذّر الإشهاد فخرج عن موضوع هذا الحكم خروجا تعبديا.

إن قلت : أليس إنّهم يقولون بسماع دعوى الزوج عدم القصد إلى الطلاق حقيقة في الطلاق الرجعي في العدّة ، مع أنّ ظاهر صيغة الطلاق مخالف لهذه الدعوى؟

قلت : هذا من جهة أنّها ما دامت في العدّة له الرجوع ، وليس للمرأة أن يعارضها ، لقوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) (١) بل ربما يقال : إنّها ما دامت في العدّة حقيقة زوجة ، فليس هذا المورد من باب المدّعي والمنكر ، بل هذا من حقوق نفسه بدون مقابل يعترض عليه ويلزمه بظاهر كلامه.

نعم لو كانت هذه الدعوى بعد انقضاء العدّة لا يسمع دعوى عدم القصد إلى‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٢٨.

١٣٠

الطلاق حقيقة ؛ لأنّه يدّعي بذلك على المرأة بقاءها في حبالته ، وهي تنكر وتقول بانقطاع الزوجيّة وبينونتها عنه ، ولا يجري استصحاب بقاء الزوجيّة ، لحكومة ظاهر كلام الزوج ـ أي إنشاء الطلاق وأنّه مع القصد ـ على هذا الاستصحاب ، كما هو الشأن في باب تعارض الأمارات والأصول.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

١٣١
١٣٢

٣٠ ـ قاعدة

العقود تابعة للقصود‌

١٣٣
١٣٤

قاعدة العقود تابعة للقصود *

ومن القواعد الفقهيّة ـ المعروفة المشهورة قاعدة « العقود تابعة للقصود » ‌

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الاولى

في بيان المراد منها‌

فنقول : الظاهر أنّ المراد من هذه الجملة هو أنّ العقود حيث أنّها من الأمور القلبيّة ، لأنّ العقد كما قال بعض اللغويين هو العهد المؤكّد ، والعهد أمر قلبي وإن كان له مبرز خارجي ، كما إنّهم في عقد البيعة كانوا يظهرونه ، بل ينشؤونه بوضع اليد في يده ، وكان أمارة تعهّده بأنّه سلم لمن سالمه وحرب لمن حاربه.

وفي الحقيقة العقد عبارة عن تعهّد الشخص مع آخر في أمر من الأمور ، سواء أكان ذلك الأمر من الأمور الماليّة كباب المعاوضات ، أو أمرا آخر كما في باب النكاح ، حيث أنّ الزوجة تتعهّد بأن تكون زوجة ، فإذا قبل الزوج تتمّ المعاهدة ويحصل ذلك الأمر في عالم الاعتبار. فتترتّب عليه آثاره ، فنتيجة العقد حصول ما تعاهدا وتعاقدا عليه لأن يترتّب عليه آثاره.

__________________

(١) « الحق المبين » ج ١ ، ص ١٨ ، « عوائد الأيّام » ص ٥٢ ، « عناوين الأصول » عنوان ٣٠ ، « خزائن الأحكام » العدد ١١ ، « مستقصى مدارك القواعد » ص ٩ ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص ٣٥ ، « القواعد » ص ١٧٩ ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج ٤ ، ص ٣٦٩.

١٣٥

ومعلوم أنّ حصول هذا المعنى في عالم الاعتبار ـ سواء أكان اعتبارا شرعيّا أم كان من اعتبارات العقلاء وأمضاها الشارع ، أو لم يمضها كما في باب بيع الغرر ، فإنّ الشارع نهى عنه وإن كان العقلاء يقدمون عليه ويرتّبون عليه الآثار في بعض مراتب الغرر ـ لا يمكن إلاّ بأن يكون ذلك المعنى مقصودا للمتكلّم والمنشئ حال إنشائه وعقده بأيّ لفظ كان.

فكما أنّ صلاة الظهر والعصر مثلا لا توجد بصرف قراءة أربع ركعات من دون قصد كونها ظهرا أو عصرا وأمثال ذلك ، فكذلك عناوين المعاملات والمعاوضات لا تقع إلاّ بالقصد والإرادة. مثلا إذا قصد تمليك ماله وكان ذلك المال من الأعيان بعوض مالي فيحصل عنوان البيع ، وإلاّ لو لم يقصد التمليك أصلا ، أو قصد التمليك بلا عوض ، وكان تمليكا مجّانيّا فيكون هبة.

كما أنّه لو قصد تمليك منفعة لذلك العين بعوض يكون إجارة ، إن كانت المنفعة معلومة من حيث نوع المنفعة ومن حيث المدّة وكان العوض أيضا مالا معلوما.

نعم ثمَّ يقع الكلام من جهات آخر ، مثلا من أنّ اللفظ الذي ينشأ به هذا المعنى هل يلزم أن يكون عربيّا أم لا ، بل يقع بأيّ لغة كان ، إلاّ أن يدلّ دليل خارجي على أنّه يلزم أن يكون باللفظ العربي ، كما أنّ المشهور قالوا بذلك في خصوص باب النكاح ، بل ادّعى جماعة عليه الإجماع.

وأيضا هل يلزم أن يكون بصيغة الماضي ، أو يقع وإن كان بصيغة المضارع؟

وكذلك في سائر الشروط التي ذكروها في العقد.

وعلى كلّ حال تحقّق هذه العناوين تابع لقصدها ، وبدون القصد لا تقع ، وليس المراد أنّ كلّ ما يقصده ويريده يقع شرعا ، لأنّ ما قصده إن لم يكن من المعاملات العقلائيّة وأيضا ليس ممّا أحدثه الشارع ، أو كان من المعاملات العقلائيّة ولكن لم‌

١٣٦

يمضها الشارع ، فجميع ذلك لا يقع شرعا قطعا ، بل المراد أنّ المعاملات العقلائيّة وعقودهم وعهودهم الدائرة فيما بينهم إن أمضاها الشارع ، فلا تقع إلاّ مع قصدها وإرادتها مع تحقّق سائر الشرائط ، من شرائط العقد ، ومن شرائط المتعاقدين ، ومن شرائط العوضين إن كانت المعاملة من المعاوضات.

هذا بالنسبة إلى نفس العناوين ، وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّات المعاملة ، ككون الثمن من نقد البلد ، أو من نقد خاصّ ، وإن لم يكن من نقد البلد ، أو وإن كان من أيّ نقد من النقود ، أو وإن كان من العروض ، فجميع ذلك تابع لإرادة المتعاقدين وقصدهم ، وكذلك الشرائط الضمنيّة ككون الثمن مساويا مع المبيع في البيع وغيره من الشرائط الضمنيّة ، غاية الأمر الدليل على القصد والإرادة في عالم الإثبات قد يكون بتصريح من الطرفين أو من أحدهما ، وقد يكون بالإطلاق ، وقد يكون بالانصراف.

وإلاّ ففي عالم الثبوت لا مناص إلاّ من إرادة هذه الخصوصيّات ، إذ بدون القصد والإرادة لا توجد ولا تتحقّق.

والسرّ في ذلك هو ما ذكرنا : من أنّ العقد هو العهد المؤكّد ، والعهد بدون قصد ما يتعاهد عليه لا يمكن ، وفي الحقيقة العقد ـ كما قلنا ـ ليس من باب الألفاظ ، بل من الأمور القلبيّة التي قد تسمّى بعقد القلب ، وإطلاقه على ألفاظ القبول والإيجاب مجاز ، من قبيل إطلاق لفظ الموضوع للمدلول على الدالّ ، أو من قبيل إطلاق لفظ الموضوع للمسبب على السبب ، وإن كان في تسمية المنشأ بتلك الألفاظ بالمسبب وتسمية تلك الألفاظ بالسبب مسامحة ، وذلك من جهة أنّ سبب المنشأ هو العاقد لا ألفاظ العقد ، أي ألفاظ القبول والإيجاب ، بل تسميتها بآلة الإنشاء أولى.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ القصد والإرادة له تمام المدخليّة في تحقّق العقود والمعاهدات وتحقّق خصوصيّاتها ، ولا معنى لتحقّق المعاهدة أو العهد بدون أن يقصد المعهود ، وكذلك ما تعاهدا عليه ، ولذلك أشكلنا على القائلين بالإباحة في بيع المعاطاة ،

١٣٧

وأنّه لا يمكن حصول الإباحة المجرّدة عن الملكيّة مع عدم قصد المتعاطيين لها ، لأنّ كلّ واحد من المتعاطيين يقصد تمليك ما يعطيه للآخر ، فكيف تقول لا يقع ما قصداه ويقع شي‌ء آخر لم يقصداه؟ وهل هذا إلاّ أنّ ما قصد لم يقع ، وما وقع لم يقصد ، وكأنّ هذه الكبرى بطلانها ضروري وجداني ، ومرجعه إلى أنّ الأمور القصديّة ـ كالتعظيم والتوهين والعقود ـ وقوعها وحصولها في وعائها ، سواء أكان عالم العين أو عالم الاعتبار ، تابع لقصدها.

كما قلنا في صلاة الظهر والعصر مثلا إنّهما لا تقعان ولا تحصلان في عالم العين إلاّ بقصد عنوانهما ولو كان بصورة إجماليّة ، فوقوع الأمر القصدي بدون القصد ولو إجمالا لا يمكن.

ولا شكّ في أنّ العقود من الأمور القصديّة ، ولذلك لا تقع من الغالط والهازل والسكران والنائم والغافل وأمثال ذلك ، وهذا معنى بطلان إحدى الجملتين من قولهم : إنّ ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع ، أي الجملة الأولى منه.

وأمّا الجملة الثانية ـ أي ما قصد لم يقع ـ فبطلانها مبنيّ على أن يكون متعلّق القصد من العقود أو الإيقاعات التي شرّعها الشارع إحداثا إن كانت ، أو إمضاء كما هو الغالب والأكثر إن لم يكن الجميع ، ويكون واجدا لجميع الأجزاء والشرائط المقرّرة شرعا لذلك العقد أو لذلك الإيقاع ، وإلاّ يمكن أن يقصد ولا يقع لفقد شرط أو لوجود مانع.

كما أنّه لو قصد الطلاق حقيقة وواقعا ولكن لم يكن في طهر غير المواقعة في حال حضور الزوج وعدم كونه مسافرا ، أو لم يكن بحضور شاهدين عدلين ، فلا يقع الطلاق. فمعنى أنّ العقود تابعة للقصود ، أي لا يقع العقد بغير قصد مضمونه وخصوصيّاته ، لا أنّ كلّ ما قصده يقع وإن لم يكن واجدا للشرائط المعتبرة في ذلك العقد أو في ذلك الإيقاع.

١٣٨

ثمَّ لا يخفى أنّ الشرائط الضمنيّة ـ التي يوجب تخلّفها الخيار ـ كلّها ممّا تعلّق القصد بها ، فلا يتوهّم أحد حصولها بدون القصد ، مثلا من جملة الشرائط الضمنيّة التي يوجب تخلّفها الخيار هو تساوي الثمن والمثمن بحسب القيمة السوقيّة ، إلاّ فيما إذا كان التفاوت بمقدار يتسامح العرف فيها ولا يكون فاحشا.

ولا شكّ في أنّ البائع والمشتري إنّما يقدمان على المعاملة الكذائيّة باعتقاد أنّ في هذه المعاملة لا يرد خسارة على كلّ واحد منهما ، ولذلك لو علم البائع بأنّ المبيع يساوي أكثر من الثمن المذكور في المعاملة بمقدار لا يتسامح فيه يترك المعاملة ، إلاّ أن يكون له غرض آخر ، وهو خارج عن المفروض.

وكذلك المشتري لو علم بأنّ المبيع لا يساوي هذا الثمن يترك المعاملة ولا يشتري ، فالمتعاملان قصدهما المعاملة بين المالين المتساويين من حيث الماليّة والقيمة السوقيّة ، وإنّما المبادلة تكون لأغراض أخر من احتياج المشتري إلى المبيع لقضاء إحدى حوائجه من المأكل والملبس والمسكن وغير ذلك ، والبائع لتحصيل النفع بالنسبة إلى شرائه الأوّل وإمرار كسبه ، وإلاّ ليس غرضهما من هذه المعاملة أن يخدع كلّ واحد منهما طرفه الآخر.

فهذا الذي نسميه بالشرط الضمني ، الذي هو عبارة عن تساوي العوضين من حيث القيمة السوقيّة ، يكون مقصودا لهما من أوّل الأمر ، وإلاّ فكيف يمكن أن يقع في باب المعاملات من العقود والإيقاعات من دون قصد المنشئ وإرادته ورغما عليه.

وأمّا مسألة كون ضمان المبيع على البائع قبل قبض المشتري وعلى من ليس له الخيار في زمن خيار الأخر ، فإن قلنا بأنّه تعبدي ـ ومن جهة الروايات الواردة في هاتين المسألتين ـ فأجنبيّ عن هذه القاعدة ولا إشكال في البين أصلا.

وإن قلنا : أنّ الضمان في كلا الموردين يكون من باب اقتضاء القاعدة ، فربما‌

١٣٩

يستشكل به على هذه القاعدة بأنّ الضمان في كلا الموردين لم يكن ممّا قصده المتعاملان ، فكيف صار الضمان على البائع لو وقع التلف قبل القبض ، أو لمن ليس له الخيار في زمن خيار الآخر؟

ولكن فيه ما ذكرنا هناك من بناء العرف والعقلاء على أنّ إنشاء العقود المعاوضيّة ، والمبادلة في عالم الاعتبار والتشريع لأجل الأخذ والإعطاء الخارجي ، بحيث لو لم يكن العوضان قابلين للأخذ والإعطاء خارجا ، تكون المعاملة والمبادلة في عالم التشريع لغوا وسفهيّا وعملا غير عقلائي ، فقابليّة الأخذ والإعطاء خارجا مأخوذة في حقيقة المعاملة والمعاوضة حدوثا وبقاء.

فإذا خرج عن هذه القابليّة بواسطة التلف يكون بقاء المعاملة لغوا بنظر العرف والعقلاء ، فتنحلّ عندهم ، ولذلك ليس المراد بالضمان هو الضمان الواقعي ، بل المراد انحلال العقد آنا مّا قبل التلف ورجوع كلّ واحد من العوضين إلى مالكه الأوّل ، فلا نقض على هذه القاعدة ، لأنّ بقاء المعاملة منوطا ببقاء قابليّة الأخذ والإعطاء خارجا مقصود من أوّل الأمر ، فالقصد تعلّق بانحلال العقد حين ذهاب تلك القابلية.

هذا بالنسبة إلى قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ».

وأمّا المسألة الثانية ، أي : « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » فلمّا ذكرنا في تلك القاعدة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب من أنّ التلف بمنزلة الفسخ ، من جهة أنّ العقلاء يرون في موارد ثبوت الخيار أنّ حكمة جعل الخيار أنّ ذا الخيار يتأمّل وينظر في أنّه هل إبقاء هذه المعاملة من صلاحه أم لا ، بل حلّه وفسخه أصلح بحاله؟ فإذا وقع التلف على الذي انتقل إلى ذي الخيار ، فلا يبقى مجال للنظر والتأمل ، بل يكون التلف بمنزلة الفسخ ، فقهرا ينحلّ العقد ، فهذا المعنى مقصود للمتعاملين ويقع جميع ذلك على طبق قصد المتعاقدين.

١٤٠