القواعد الفقهيّة - ج ٣

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٥٢

البيّنة مخصصا لهذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الأولى.

والدليل على قبول الودعي ـ في ردّه الوديعة إلى مالكه بدون البيّنة ـ الإجماع كما ادّعاه صاحب الجواهر قدس‌سره (١) والأخبار (٢).

منها : أنّ المالك لو ادّعى الإبدال في أثناء الحول بالنسبة لما عنده من المال الزكوي فيما يعتبر فيه مضيّ الحول في تعلّق الزكاة بها ، للفرار عن تعلق الزّكاة بها أو لغرض آخر ، فيقبل قوله من دون أن تكون عليه البيّنة.

فلو ادّعى صاحب الدراهم والدنانير أو صاحب الأنعام ـ وهي الأجناس التي اعتبر في تعلق الزكاة بها مضي الحول عليها في ملكه واجدة لجميع شرائط وجوب الزكاة وتعلقها بها ـ أنّه أبدلها بغيرها في أثناء الحول ، فهذا الموجود لم يمض عليه الحول فلم يتعلّق به زكاة ، يقبل قوله إجماعا ، ولا يطالب بالبيّنة بل ولا يمين عليه ، لقاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ».

وقد تكلّمنا في مدرك هذه القاعدة والمراد منها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب (٣) ، وللروايات الخاصّة الواردة في هذا المقام.

منها : صحيحة بريد بن معاوية : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « بعث أمير المؤمنين عليه‌السلام مصدقا » وفيها : أنّه عليه‌السلام قال : « ثمَّ قل لهم يا عباد الله أرسلني إليكم وليّ الله لآخذ منكم حقّ الله تعالى في أموالكم ، فهل الله تعالى في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليه؟ فإن قال لك قائل : لا ، فلا تراجعه » (٤) وفي خبر غياث بن إبراهيم :

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٧ ، ص ١٤٨.

(٢) « وسائل الشيعة » ج ٦ ، ص ١١١ ، أبواب زكاة الذهب والفضّة ، باب ١٢.

(٣) « القواعد الفقهية » ج ١ ، ص ٧.

(٤) « الكافي » ج ٣ ، ص ٥٣٦ ، باب آداب المصدّق ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٤ ، ص ٩٦ ، ح ٢٧٤ ، باب الزيادات في الزكاة ، ح ٨ ، « وسائل الشيعة » ج ٦ ، ص ٨٨ ، أبواب زكاة الأنعام ، باب ١٤ ، ح ١.

١٠١

« فإنّ ولّى عنك فلا تراجعه » (١).

ويظهر من هذه الروايات قبول قول المالك في نفي تعلّق الزكاة بماله الموجود عنده ، سواء أكان من جهة عدم مضيّ الحول عليه ـ وان كان عدم المضي من جهة تبديله في أثناء الحول ـ أو من جهة أخرى ، أو كان عدم وجوب الزكاة في ذلك المال من جهة دفعه زكاته الى المستحقّ ، ففي جميع ذلك يقبل قوله بلا بيّنة عليه ولا يمين أيضا عليه ، كلّ ذلك إرفاقا بالمالك.

فإذا كان مدّعي التبديل ومدّعي الدفع إلى المستحقّ يقبل قوله من دون أن تكون بيّنة عليه ، فيكون هذا تخصيصا للجملة الأولى من القاعدة ، وكذلك يقبل قول المالك في دعوى نقصان ما خرصه المصدق عليه.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المذكورات ليس من باب تخصيص تلك القاعدة ، بل قول المالك مطابق للحجّة الفعليّة ، وقد تقدّم في تشخيص المدّعي والمنكر أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من يكون قوله موافقا لها.

وأمّا إنّ قول المالك هاهنا موافق لها ، فمن جهة أصالة عدم تعلّق الزكاة بهذا المال الموجود عنده ، وكذلك عدم مضيّ الحول عليه. نعم لو كان أثر شرعي مترتبا على عنوان التبديل فينفي بأصالة عدم وقوع التبديل ، ولكنّه أجنبيّ عن محلّ البحث.

وأمّا بالنسبة إلى الدفع إلى المستحقّ فربما يقال بأنّه بعد اعترافه بتعلّق الزكاة ووجوبها عليه ، مقتضى الأصل عدم الدفع وبقاء الاشتغال ، وأيضا حكم العقل بلزوم تحصيل الفراغ اليقيني بعد ثبوت الاشتغال اليقيني يقتضي لزوم أدائه والأخذ عنه.

وفيه : أنّ هذا صحيح لو كان مصبّ الدعوى هو أداء ما كان واجبا عليه ودفع الحقّ إلى مستحقّه ، وأمّا لو كان مصبّ الدعوى هو أنّه هل في هذا المال الموجود زكاة‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٥٣٨ ، باب آداب المصدّق ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ٦ ، ص ٩٠ ، أبواب زكاة الأنعام ، باب ١٤ ، ح ٥ ، وص ٢١٧ ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب ٥٥ ، ح ١.

١٠٢

أم لا؟ فلا أصل يثبت وجود الزكاة فيه ، لأنّ هذا المال الموجود لم يكن في زمان من الأزمنة كون الزكاة فيه معلوم الوجود حتّى يستصحب في ظرف الشكّ ، لأنّه من الممكن أن يكون هذا ما عدا مقدار الزكاة.

وهذا إذا كانت من قبيل الكلّي في المعيّن واضح ، وهكذا لو كانت من قبيل حقّ الرهانة ، أو من قبيل منذور الصدقة ، نعم لو كانت الزكاة من قبيل الإشاعة في المال الزكوي فللاستصحاب مجال ، ولكنّه خلاف التحقيق ، كما بيّن في محلّه.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لو كانت الدعوى في الدفع وعدمه ، فلا فرق بين أن يكون مصبّ الدعوى هو الدفع ، أو يكون في أنّ هذا المال الموجود فيه الزكاة أم لا؟ وذلك من جهة أنّه بعد القطع بتعلّق الزكاة بهذا المال الشخصي ، فاحتمال أداء الزكاة أو احتمال إخراج مقدار الزكاة عنه لا يخرج القضيّة المشكوكة عن الواحدة العرفيّة مع المتيقّنة.

ولكنّ الروايات والإجماع المدّعى في المقام حاكمان على هذا الاستصحاب على تقدير شمول إطلاقهما لمورد دعوى الدفع.

ثمَّ إنّهم ذكروا موارد أخر لعدم كون البيّنة على المدّعي وتخصيص هذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الأولى ، كدعوى الذمّي إسلامه قبل حلول وقت الجزية للتخلّص عنها ، وكدعوى الحربي الذي نبت الشعر على عانته إنّ إنباته بعلاج حتّى لا يكون أمارة البلوغ فيقتل ، وكدعوى البلوغ لصحّة معاملاته أو لغرض آخر ، وكدعوى الإعسار في بعض صور المسألة ، فقالوا بقبول قولهم ودعواهم بدون البيّنة ، غاية الأمر في بعضها مع اليمين ، وفي بعضها الآخر بغير اليمين أيضا.

وقالوا أيضا في موارد أخر بقبول قول المدّعي من دون أن يكون عليه البيّنة ، تركنا ذكرها خوفا من الإطالة.

وعلى كلّ التحقيق في هذه الموارد ، وأنّه هل هي من موارد سماع قول المدّعي من‌

١٠٣

دون أن يكون عليه البيّنة ، أو ليست كذلك؟ يحتاج إلى بحث طويل.

وقد وقع الكلام والبحث والنقض والإبرام عن كلّ منها في محلّه وبابه ، والغرض هاهنا الإشارة إلى تلك الموارد لا تحقيق الحال فيها ، فإنّه خارج عن طور هذا الكتاب.

هذا كلّه كان في تخصيص الجملة الأولى من هذه القاعدة.

وأمّا التخصيصات الواردة على الجملة الثانية :

فمنها : يمين الاستظهار‌ ، وهو عبارة عن يمين المدّعي في الدعوى على الميّت ، وادّعى الشهيد الثاني قدس‌سره عليه الإجماع (١) ، بأنّه من كان له دعوى على الميّت ، إمّا أن يكون له بيّنة على ما يدّعيه أم لا ، فإن لم تكن له بيّنة فدعواه ساقطة ، وإن كانت له البيّنة على ذلك فعليه اليمين استظهاراً.

أمّا كون هذا اليمين تخصيصا للقاعدة فوجهه واضح ، أمّا أوّلا : فلأنّهم ذكروا أنّ المبتدأ المعرّف باللام محصور في الخبر ، كقولهم : الكرام والفصاحة في العرب ، والصنعة في الصين ، فبناء على هذا يكون مفاد هذه القاعدة ـ التي هي عين مضمون الحديث الشريف ـ أنّ البيّنة محصورة في المدّعي وليست لغيره ، وهذا مضمون الجملة الأولى من هذه القاعدة ـ وقد ذكرنا موارد تخصيصها أو الموارد التي توهّم أنّها كذلك ـ وأنّ اليمين محصور في المنكر ، فكون اليمين على المدّعي وإن كان من باب الاستظهار تخصيص لهذه الكلّية ، أي الجملة الثانية.

وأمّا ثانيا : فمن جهة أنّ التفصيل قاطع للشركة ، فبحكم هذه القاعدة تكون البيّنة مختصّة بالمدّعي ، واليمين مختصّ بالمنكر ، ولا شركة بينهما في شي‌ء منهما ، فيكون الحكم على المدّعي على الميّت باليمين استظهارا مخصّصا للجملة الثانية.

__________________

(١) « الروضة البهيّة » ج ٣ ، ص ١٠٤.

١٠٤

وأمّا الاعتذار عن ذلك وتوجيهه ـ بأنّ كون هذا اليمين على المدّعي على الميّت باعتبار كونه منكرا لدعوى المتوهّمة من قبل الميت ، بمعنى أنّ الميّت لو كان حيّا فلربما يدّعي عليه الوفاء لدينه وحقّه ، فيكون المدّعي على الميّت بالنسبة إلى هذه الدعوى المحتملة الفرضيّة منكرا ، فمن هذه الجهة يكون عليه اليمين ـ لا يخلو من غرابة.

وأمّا مدرك هذا الحكم ـ أي يمين المدّعي على الميّت ـ مضافا إلى الإجماع الأخبار المرويّة عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام.

منها : موثّقة عبد الرحمن التي رواها المشايخ الثلاث‌ ، قال : قلت للشيخ (١) عليه‌السلام. وفيها : « فإن كان المطلوب بالحقّ قد مات ، فأقيمت عليه البيّنة ، فعلي المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلاّ هو لقد مات فلان وأنّ حقّه لعليه ، فإن حلف ، وإلاّ فلا حقّ له ، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو غير بيّنة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البيّنة ، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له ، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ ، ولو كان اليمين عليه ، فمن ثمَّ لم يثبت الحقّ » (٢).

ومنها : صحيح الصفار‌ ، كتب محمّد بن الحسن الصفار إلى أبي محمّد الحسن بن علىّ : هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين ». وكتب : أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيرا أو كبيرا وهو القابض للصغير وليس للكبير بقابض؟ فوقّع عليه‌السلام : « نعم ، وينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ ولا يكتم الشهادة ». وكتب : أو تقبل شهادة الوصي على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « نعم من بعد يمين » (٣).

__________________

(١) يعني أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٥ ، باب من ادّعى على ميّت ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٦٣ ، ح ٣٣٤٣ ، باب الحكم باليمين على المدعى. ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٢٩ ، ح ٥٥٥ ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح ٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٢ ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب ٤ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٩٤ ، باب شهادة الشريك والأجير والوصي ، ح ٣ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٧٣ ، ح ٣٣٦٢ ،

١٠٥

والمراد بقوله عليه‌السلام : « من بعد يمين » ظاهر في يمين المدّعي. واحتمال كون المراد منه يمين الوصي بعيد لا يعتنى به ، بل لا مجال له ، لأنّ الحلف على مال الغير لا مورد له أوّلا ، وثانيا : لا حلف إلاّ عن بتّ ، ولا يمكن حصول البتّ للوصي ، ولو كان الاحتمال أنّ المدّعي برأ ذمّة الميّت بعد موته ثمَّ ندم ويدّعي.

فالإنصاف أنّ دلالة الروايتين على هذا الحكم ـ أي يمين المدّعي على الميّت على بقاء حقّه عليه ، وأنّه لم يوفه ، وهو أي المدّعي ، لم يبرئه بعد قيام البيّنة من طرف المدّعي على حقّه على الميّت ـ واضحة لا ارتياب فيه.

وأمّا ضعف السند في موثّقة عبد الرحمن البصري ـ لو كان ـ فمنجبر بعمل الأصحاب ، وقد حقّقنا هذه المسألة في كتابنا « منتهى الأصول » (١). مضافا إلى أنّ رواية الصفار صحيحة ، فلا إشكال لا من ناحية السند ، ولا من ناحية الدلالة.

نعم هاهنا فروع في هذه المسألة بحث الفقهاء عنها في كتاب القضاء :

منها : أنّه هل هذا الحكم ـ أي : الاحتياج إلى ضمّ يمين المدّعي إلى البيّنة لإثبات ما يدّعيه ـ مختصّ بالديون ، أو يجري في الأعيان أيضا؟

ومنها : أنّ أثر الحلف نفي احتمال الوفاء وأداء الميّت في حال حياته فقط ، أو أنّ أثره نفي جميع الاحتمالات حتّى احتمال الإسقاط والإبراء بعد الموت؟

ومنها : أنّه لو أقام المدّعي شاهدا واحدا ولم يحصل له شاهد آخر ، فهل هذا اليمين يكفي لانضمامه إلى ذلك الشاهد الواحد ، أو يحتاج إلى يمين آخر ، لأنّ هذا اليمين يمين استظهار؟

ومنها : أنّ هذا الحكم مختصّ بالدعوى على الميّت ، أو يتعدّى إلى المجنون‌

__________________

باب شهادة الوصي للميّت و. ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٤٧ ، ح ٦٢٦ ، باب البيّنات ، ح ٣١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢٧٣ ، أبواب كتاب الشهادات ، باب ٢٨ ، ح ١.

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٩١.

١٠٦

والغائب؟

ومنها : أنّه هل هذا الحكم مختصّ بما إذا كان نفس المدّعي صاحب الحقّ الذي يدّعيه ، أو يجري وإن كان المدّعي وليا أو وصيّا أو وكيلا عن صاحب الحقّ.

فهذه أمور بحث عنها الفقهاء في كتاب القضاء ، ونحن تركناها خوفا من التطويل ، ولخروجها عن وضع هذا الكتاب.

ومنها : اليمين المردودة من طرف المنكر إلى المدّعي ، فإذا حلف المدّعي بعد أنّ المنكر ردّ اليمين إليه يثبت حقّه ، كما كان يثبت بالبيّنة. وظاهر الحصر في هذه القاعدة ـ كما بيّناه ـ أنّ ميزان الحكم للمدّعي وإثبات حقّه هي البيّنة ، وأنّ اليمين وظيفة المنكر وميزان له.

فاليمين المردودة إن كان ميزان للمدّعي فيكون مخصّصا للجملة الثانية من هذه القاعدة ، أي كون اليمين مختصّا بالمنكر وعدم كونه ميزانا إلاّ له.

وربما يقال : بأنّ الحصر في هذه القاعدة باعتبار الوظيفة الابتدائيّة ، وأمّا اليمين المردودة فليست كذلك ، بل بعد عجز المدعي عمّا هو وظيفته ـ أي البيّنة ـ وتوجّه اليمين إلى المنكر ونكوله عن الحلف وردّه إلى المدّعي يكون ميزانا للمدّعي لا أوّلا وبالذات.

وفيه : أنّه ليس مفاد القاعدة هو أنّ البيّنة وظيفة المدّعي أوّلا وبالذات ، واليمين وظيفة المنكر كذلك ، بل ظاهرها انحصار ميزان المدّعي في البيّنة وميزان المنكر في اليمين ، ولكن الحصر ليس حصرا عقليّا كي لا يكون قابلا للتخصيص ، وإنّما هو بحكم الشارع ، فقابل لأن يخصّصه بدليل آخر ، وهو الإجماع والنصّ.

كصحيحة محمّد بن مسلم في الرجل يدّعي ولا بيّنة له ، قال : « يستحلفه ، فإن ردّ‌

١٠٧

اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف ، فلا حقّ له » (١).

وصحيحة عبيد بن زرارة في الرجل يدّعي عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي ، قال : « يستحلف أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ ، فإن لم يفعل فلا حقّ له » (٢).

وصحيحة هشام قال : « تردّ اليمين على المدّعي » (٣).

وروايات أخر بهذا المضمون مذكورة في كتاب القضاء (٤).

هذا آخر ما كتبناه في هذه القاعدة.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٦ ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٣٠ ، ح ٥٥٧ ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح ٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٦ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٧ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٦ ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٣٠ ، ح ٥٥٦ ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح ٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٦ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٧ ، ح ٢.

(٣) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٧ ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح ٥ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٣٠ ، ح ٥٦٠ ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح ١١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٦ ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب ٧ ، ح ٣.

(٤) « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٦ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٧.

١٠٨

٢٩ ـ قاعدة

كلّ مدّع يسمع قوله

فعليه اليمين‌

١٠٩
١١٠

قاعدة كلّ مدع يسمع قوله فعليه اليمين *

ومن القواعد الفقهية قولهم : « كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في بيان المراد منها‌

فنقول : المراد من سماع قوله عدم تكليفه بالبيّنة أو بحجّة أخرى في الحكم له ، مثلا يقال : إنّ المالك يسمع قوله إذا ادّعى تلف العين الزكويّة في أثناء الحول ، أي قبل حلول وقت الزكاة ، أو ادّعى أنّه أدّيت زكاتي المتعلّق بمالي ، أو ادّعى الكافر إسلامه قبل حلول وقت الجزية ، أو المدّعي الذي بلا معارض مثلا يسمع قوله ، أي لا يطلب منه البيّنة ، أو الودعي يسمع قوله ، أي لا يطلب منه البيّنة إذا ادّعى التلف أو الردّ ، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي يسمع قوله ولا يطلب منه البيّنة أو حجّة أخرى ، ففي جميع ذلك يكون عليه اليمين إلاّ ما خرج بالدليل ، وسنذكر إن شاء الله تعالى تلك الموارد.

__________________

(١) « عناوين الأصول » عنوان ٧٨.

١١١

[ الجهة ] الثانية

فذي مدرك هذه القاعدة‌

فنقول : إنّ هذه القاعدة من قواعد باب القضاء ، بمعنى أنّ الحاكم في مقام حكمه إذا يسمع قول مدّع ولا يطلب منه البيّنة فلا يحكم له إلاّ بعد اليمين ، مثلا إذا تخاصم المودع مع الودعي ولم يكن للمودع بيّنة على أنّ الودعي أتلف ماله أو قصر في حفظه ، أو تصرّف في الوديعة من دون إذن المودع ، أو غير ذلك ممّا يوجب الضمان ، فلا يحكم الحاكم بعدم اشتغال ذمّته إلاّ بعد حلف الودعي على نفي هذه الأمور ، وهذا معنى سماع قوله ، لا أنّه بمحض أن لا تكون للمودع بيّنة على أحد هذه الأمور يحكم للودعي بدون أي شي‌ء.

واستدلّوا على لزوم الحلف للمدّعي الذي يسمع قوله من دون بيّنة بأمور :

الأوّل : أن الحكم في مقام المخاصمة لا يجوز إلاّ بأحد الميزانين ، وهما البيّنة واليمين، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (١).

ولا شكّ في أنّ « إنّما » كلمة حصر ، فيدلّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا على أنّ سبب الحكم منحصر في أحد هذين ، فإذا لم يطالب المدّعي بالبيّنة ـ كما هو المفروض في المقام ـ فإمّا أن يحكم له بدون اليمين أيضا ، وهذا خلاف قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ قضاء بأحد الأمرين ، وإمّا إيقاف الدعوى وعدم الحكم أصلا ، وهذا خلاف حكمة جعل القضاء. ويلزم اختلال النظام ، وتضييع الحقوق ، والهرج والمرج ، وخلاف الآية الشريفة ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (٢) فلا بدّ وأن نقول بأن الحكم له‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٤ ، باب إنّ القضاء بالبيّنات والأيمان ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٢٩ ، ح ٥٥٢ ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح ٣ ، « معاني الأخبار » ص ٢٧٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٦٩ ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب ٢ ، ح ١.

(٢) ص (٣٨) : ٢٦.

١١٢

بذلك الميزان الآخر ، أي اليمين.

لا يقال : إنّه في بعض الموارد ورد الدليل على عدم الحلف أيضا ، كما في باب العبادات الماليّة كالزكاة والخمس ، وسماع قول المالك في عدم التعلّق وفي الأداء أيضا ، وكسماع قول الفقير في دعوى الفقر ، كلّ ذلك من دون بيّنة ولا حلف.

لأنّه لا نقول نحن بأنّ الحصر عقليّ ليس قابلا للتخصيص ، فإذا جاء الدليل في مورد على عدم لزوم الحلف أيضا يخصّص العمومات.

الثاني : أنّ قول المدّعي في هذه المقامات حجّة ، لأنّ الدليل الذي يفيد قبول قوله من دون قيام البيّنة من طرفه ، يرجع إلى أنّ قوله حجّة ، فلا يكون من المدّعي بالمعنى المراد من المدّعي والمنكر في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (١) وهو أن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، بل يكون بمنزلة المنكر في أنّ قوله مطابق للحجّة الفعليّة ، بل هو المنكر حقيقة بناء على ما عرّفنا المنكر بأنّه عبارة عمّن يكون قوله مطابقا للحجّة الفعليّة.

إن قلت : أليس يقال المدّعي؟

قلنا : إطلاق المدّعى عليه من قبيل إطلاقه على ذي اليد باعتبار معناه اللغوي ، أي مطلق من يدّعي ، وإن كان دعواه موافقا للحجّة الفعليّة.

الثالث : الإجماع‌ على أنّ كلّ مدّع يسمع قوله ولا يطالب بالبيّنة فعليه اليمين ، وذلك مثل الأمين إذا ادّعي التلف يقبل قوله ولا يطالب بالبيّنة ، إلاّ أنّ عليه اليمين ، ولذلك اشتهر في لسان الفقهاء وفي كتبهم : أنّه ليس على الأمين إلاّ اليمين.

ثمَّ لا يخفى أنّ المراد من الإجماع في هذه المسألة هو انعقاده على هذه الكلية ، أي كلّ مدّع يسمع قوله ولا يطالب بالبيّنة فعليه اليمين ، فلا يرد على هذا الدليل أنّ تحقّق‌

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ٣٤٥ ، ح ١١ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٣٦٨ ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب ٣ ، ح ٤.

١١٣

الإجماع في بعض الموارد لا يفيد في مورد الخلاف والشكّ في لزوم الحلف ، لأنّ انعقاد الإجماع على هذا العنوان الكلّي ممّا يجعله كورود دليل لفظي عليه ، فيمكن التمسّك بإطلاقه عند الشكّ والخلاف ، كما يتمسّك بالإطلاقات اللفظيّة.

ولكن فيه أوّلا : أنّه في تحقّق مثل هذا الإجماع في ذلك العنوان الكلّي خفاء. وثانيا : على فرض تحقّقه ، في حجّية مثل هذا الإجماع إشكال ، بل معلوم عدمها ، وذلك لما ذكرنا مرارا أنّ وجه حجّية الإجماع هو كشفه عن رأي الإمام عليه‌السلام ، والحدس القطعي بكون الاتّفاق مسبّبا عن رأيه عليه‌السلام ، ومثل هذا لا يكون إلاّ فيما لا يكون مدرك آخر غير التلقّي عن الإمام عليه‌السلام يتّكئون ويعتمدون عليه ، وفي المقام مع وجود هذه المدارك والأدلّة المذكورة لا يبقى مجال لتحقّق الإجماع المصطلح الذي أثبتنا حجّيته في الأصول.

الرابع : أنّ قول المنكر ـ مع أنّه موافق للحجّة الفعليّة ـ يحتاج إلى اليمين ، وبدون اليمين لا يحكم له، فإذا قبل قول المدّعي بدون الاحتياج إلى البيّنة وهو مخالف للحجّة الفعليّة كما هو المفروض ، فيكون الاحتياج إلى اليمين فيه بطريق أولى ، وذلك من جهة أنّ المقصود من الحلف إمّا ارتداع من ليس له الحقّ عن بغيه وعدوانه ، وإمّا قوّة احتمال مطابقة قوله للواقع ، وعلى كلا الوجهين يقتضي في المدّعي الذي يقبل قوله ـ ولا يطالب بالبيّنة أيضا ـ أن يكون عليه اليمين بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذه المذكورات أمور استحسانية لا أدلّة شرعيّة ، فلا يمكن استناد الأحكام الشرعيّة إلى أمثال هذه الظنّيات. نعم لو حصل القطع بأنّ ملاك كون الحلف واليمين على المنكر أحد هذين الأمرين ، فللقول بأنّ المدّعي الذي يسمع قوله بدون البيّنة أيضا يحتاج إلى اليمين مجال.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأمور لا توجب أكثر من الظنّ. نعم في بعض صغريات هذه القاعدة ـ كالأمين والمحسن أدلّة لفظيّة تدلّ على عدم جواز اتّهامهم‌

١١٤

وعدم السبيل عليهم ، كقوله عليه‌السلام في رواية قرب الأسناد : « ليس لك أنّ تتّهم من قد ائتمنته » (١) وقوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (٢).

ولا شكّ في أنّ تكليف الأمين باليمين اتّهام له ، وأيضا تكليف المحسن باليمين سبيل عليه ، وهما منفيّان بحكم الآية والرواية.

أقول : هذا الكلام بالنسبة إلى المحسن في محلّه ، وأمّا بالنسبة إلى الأمين فليس معنى عدم الاتّهام إلاّ عدم استناد الخيانة والتعدّي والتفريط إليه ، فيرجع إلى عدم إنشاء الدعوى عليه. والرواية بهذا المعنى لم يعمل بها قطعا ، لأنّه لا شكّ في صحّة دعوى الإتلاف أو التعدّي والتفريط على الأمين ، فهذا حكم أخلاقي معناه : لا تأتمن الرجل الخائن ، وإن ائتمنت أحدا فلا تظنّ به السوء ولا تتّهمه.

وأمّا القطع بخيانته وتعدّيه وتفريطه فقطعا يجوز الدعوى معه ، غاية الأمر لو ادّعى التلف يقبل قوله ، أي لا يطالب بالبيّنة ، ولكن اليمين عليه ، لما ذكرنا.

هذا ، مضافا إلى أنّ دعوى الإتلاف من طرف المالك مع إنكار الأمين ، يجعل الأمين منكرا ، فيكون الحلف عليه إجماعا ونصا مستفيضا ، بل متواترا ، وليس من طرف الأمين إلاّ الإنكار ، فيكون خارجا عن محلّ بحثنا ، لأنّ محلّ كلامنا في المدّعي الذي يسمع قوله ، وأمّا كون اليمين على المنكر فمن ضروريّات الفقه.

والحاصل : أنّ يد الأمين ليست يد ضمان ، لأنّها يد مأذونة ، إمّا من قبل مالكه وإمّا من قبل الشرع ، فالتلف في يده لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط ، أو إتلاف الأمين له ، فصاحب المال إن كان يطلب الضمان فلا بدّ له من ادّعاء أحد هذه الأمور ، أي الإتلاف أو التعدّي والتفريط ، فيكون الأمين منكرا والحال في المحسن أيضا كذلك.

الخامس : أنّ المدّعي إن كان له شاهد واحد عادل على ما يدّعيه ، فلا يحكم له

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٢٩ ، أبواب كتاب الوديعة ، باب ٤ ، ح ٩.

(٢) التوبة (٩) : ٩١.

١١٥

بذلك الشاهد الواحد ، بل لا بدّ من ضمّ يمينه إليه ، فإذا لم يكن له شاهد أصلا فيجب عليه اليمين لاستخراج حقّه الذي يدّعيه بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذا الدليل ينبغي أن يعدّ من المغالطات ، لأنّ انضمام اليمين هناك إلى الشاهد الواحد من جهة أنّ المدّعي هناك عليه البيّنة ، وحيث أنّه عاجز عن إقامة البيّنة بتمامها ـ ولم يقم إلاّ شاهدا واحدا ـ خفّف عنه بقيام اليمين مقام الشاهد الآخر ؛ بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه ليس عليه البيّنة أصلا ، إذ المفروض سماع قوله بدون البيّنة ، فلا وجه لتكليفه باليمين إلاّ ما ذكرنا من الوجهين الأوّلين.

السادس : أنّ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (١) دلالتين :

أحدهما : أنّ المتداعيين والمتخاصمين كلّ واحد منهما يحتاج في إثبات ما يقول إلى حجة ، وبدون الحجّة لا يحكم له.

والثاني : تعيين تلك الحجّة في حقّ كلّ واحد منهما ، وأنّها هي البيّنة في حقّ المدّعي ، واليمين في حقّ المنكر ، والحجّة في حقّ الاثنين منحصرة فيهما ، وليست هناك حجّة أخرى تكون ميزانا للقضاء.

فإذا جاء الدليل على عدم تكليف بعض المدّعين في بعض الموارد بإقامة البيّنة ولا يطالب بها ، فهذا الدليل لا يدلّ على أنّ الحكم لا يحتاج إلى حجّة أخرى أصلا ، وذلك لأنّ نفي الأخصّ لا يلزم منه نفي الأعمّ.

وحيث أنّ الحجّة في باب القضاء منحصرة بهما ـ أي البيّنة واليمين ـ وهذا الدليل يدلّ على عدم مطالبته بالبيّنة ، فبحكم دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على لزوم أصل الحجّة ـ التي كانت فيما ذكرنا أولى الدلالتين ـ يجب عليه أن يقيم حجّة على ما يدّعيه ، وإذ ليست هي البيّنة ـ كما هو المفروض ـ والحجّة منحصرة فيهما ، فيكون عليه اليمين.

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ٣٤٥ ، ح ١١ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٣٦٨ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٣ ، ح ٤.

١١٦

وفيه : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّن وظيفة لكلّ واحد من المدّعي والمنكر في مقام المخاصمة ، فإذا جاء الدليل في مورد ـ أو في قسم من أقسام المدّعي ـ أنّه يسمع قوله من دون أن يطالب بالبيّنة ، فلا بدّ وأن يكون هذا التخصيص لجهة ونكتة ، فالقضاء تجري إمّا بالحكم له من دون اليمين ، أو بتوجّه الأمر إلى الطرف الآخر ، فإن حلف فلا شي‌ء عليه ويحكم له ، وإن ردّ اليمين أو نكل تجري أحكام الردّ والنكول.

اللهمّ إلاّ أن يقال : معنى سماع الدعوى بدون مطالبة البيّنة هو أنّه يحكم للمدّعي بمحض دعواه ، والحكم لا يمكن بدون أحد الميزانين ، أي البيّنة أو اليمين ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (١) بناء على حصر ميزان الحكم في هذين الميزانين ، وعدم تحقّقه بدون أحدهما ، وحيث أنّ البيّنة لا تطلب منه ، فلا بدّ وأن يكون باليمين.

ولكن هذا مرجعه إلى الوجه الأوّل الذي ذكرناه ، وليس وجها آخر ، وهو الوجه الوجيه ومبناه على استفادة الحصر ـ في ما هو ميزان القضاء بهذين ، وعدم صدور الحكم بدون أحدهما ـ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ». وقد تقدّم جميع ذلك.

الجهة الثالثة

في بيان موارد هذه القاعدة وصغرياتها‌

أي : الموارد التي يسمع دعوى المدّعي فيها بدون أن يكون عليه بيّنة ، وبيان وجه سماع دعواه.

فنقول : أمّا مواردها وصغرياتها فكثيرة جدّا ، ولكن هذه الموارد الكثيرة ليست‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١١٢ ، رقم (١).

١١٧

تحت جامع واحد وكبرى واحدة ، بل هناك كبريات متعدّدة :

منها : كون المدّعي أمينا ، حيث أنّه ليس على الأمين إلاّ اليمين.

ومنها : كون المدّعي بلا معارض.

ومنها : كون المدّعي ممّن يملك فعل ما يدّعيه.

ومنها : كون ما يدّعيه لا يعلم إلاّ من قبله.

ومنها : ما هو خارج عن تحت هذه الكبريات الأربع ، لكن ورد دليل خاصّ على سماع قوله.

وأمّا عدّ سماع قول ذي اليد أيضا من هذه الكبريات ـ كما ذكره أستاذنا المحقّق قدس‌سره في كتاب قضائه (١) ـ فليس كما ينبغي ، من جهة أنّ إطلاق المدّعى على ذي اليد غير خال عن الخلل ، بل المتفاهم العرفي من المدّعي هو الذي يدّعي ـ مثلا ـ ملكيّة شي‌ء ليس ذلك الشي‌ء تحت يده ، فإن كان تحت يده ويدّعيه غيره فهو منكر ، وذلك الغير مدّع.

والحاصل : أنّ العرف والشرع متّفقان على عدم صحّة إطلاق المدّعى على ذي اليد، حتّى أنّه بعضهم عرّف المدّعي والمنكر بمن لم يكن في يده وهو المدّعي ، ومن كان في يده وهو المنكر.

ويشهد لما ذكرنا ـ من اتّفاق العرف والشرع في أنّ المدّعي هو من ليس ما هو محلّ النزاع والمخاصمة في يده ، وإلاّ إن كان في يده فهو منكر ـ استدلاله عليه‌السلام في بعض الأخبار على كفاية اليمين منه ، وعدم مطالبة البيّنة منه (٢) بأنّه إنّما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطالب البيّنة من المدّعي ، لا من ذي اليد.

__________________

(١) « كتاب القضاء » ص ٨٦ ـ ٨٧.

(٢) « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢١٤ ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب ٢٥.

١١٨

وخلاصة الكلام : أنّ كلامنا في أنّ كلّ مدّع يسمع قوله ، ولا يطلب منه البيّنة فعليه اليمين ، وليس ذو اليد مدعيا كي يكون من صغريات هذه القاعدة.

فلنتكلّم في الكبريات الأربع :

الأولى : كبرى « كون المدّعي أمينا ». أمّا مصاديق هذه الكبرى : فكلّ ما كان تحت يد شخص بإذن المالك فهي أمانة مالكيّة ، كالعارية ، والوديعة ، والعين المستأجرة ، وغير ذلك من موارد اليد المأذونة من قبل المالك ، أو بإذن الشارع فهي أمانة شرعيّة كاللقطة ، وما في يد القيّم للصغار أو المجانين من أموالهم ، وما في يد الحاكم الشرعي من أموال الغيّب والقصر ، والحقوق الشرعيّة التي تعطى للحاكم الشرعي لأن يصرف في مصرفها ، من الأخماس والزكوات والصدقات الواجبة غير الزكاة كالكفارات وردّ المظالم ، إلى غير ذلك ممّا هو وظيفة الحاكم الشرعي حفظها أو صرفها فيما يلزم صرفها فيها.

ومن هذا القبيل الأوقاف التي لم يجعل لها متولّ ، أو مجهول توليتها ، فجميع ذلك ـ في يد الحاكم أو وكيله أو المنصوب من قبله ـ أمانة شرعيّة ، أي يكون تحت يده بإذن الشارع ، وفي كلا القسمين ليست اليد يد ضمان ، فلا ضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط.

وأمّا وجه سماع قول الأمين وعدم مطالبته بالبيّنة ، فمن جهة ما تقدّم منّا وذكرناه من أنّ التلف عنده لا يوجب الضمان. لأنّ مدرك الضمان في باب التلف إمّا اليد غير المأذونة ، أو خيانته بالتعدّي أو التفريط. وفي الحقيقة هذا أيضا يرجع إلى أنّه بالخيانة ليست يده مأذونة ، فيكون ضمانه ضمان اليد.

نعم لو كان إتلاف في البين يكون هو سببا وموجبا للضمان ، ولكن حينئذ يكون الطرف مدّعيا للإتلاف وهو منكر ، فيتوجّه عليه اليمين.

١١٩

وحاصل الكلام : أنّ قول الأمين ـ ما لم يخرج عن كونه أمينا بالخيانة ـ يسمع من دون مطالبته بالبيّنة ، لأنّه لا يخلو إمّا أن لا تكون دعوى الإتلاف في البين ولا خيانة ، فلا ضمان. وإمّا أن تكون ، فيكون الطرف مدّعيا وهو منكر ، فليس وظيفته البيّنة.

وفي كلتا الحالتين لا تجوز مطالبة البيّنة من الأمين ، لا في التلف ، ولا في الإتلاف ، فهذا وجه سماع قول الأمين.

الثانية : كبرى « المدّعي بلا معارض » ‌وهو أنّهم يقولون بسماع قول المدّعي الذي بلا معارض ، وقبوله بغير بيّنة في الماليّات وإن لم يكن له يد عليه ، فإذا ادّعى أنّ المال الفلاني الذي لا يد لأحد عليه ـ أو ينفي صاحب اليد كونه لنفسه ولا يدّعي كونه لشخص معيّن ، بل يعترف بعدم علمه بمالكه ـ إنّه لي ، وليس هناك معارض يعارضه ، يقبل قوله ويعطي له مع يمينه ، بناء على ما ذكرنا من تماميّة هذه القاعدة.

وأمّا في غير الماليّات ـ كما أنّه لو ادّعى طهارة شي‌ء أو نجاسته وهو ليس بمالك ولا بذي اليد عليه ، أو أنّ هذا اليوم يوم العيد وأمثال ذلك من غير الماليّات ولا معارض له ، فلا يسمع دعواه ، بل يحتاج إثباته إلى البيّنة ، أو إحدى الأمارات الشرعيّة الأخر ، وذلك من جهة أنّ عمدة مدرك سماع هذه الدعوى هي سيرة العقلاء وبناؤهم على قبول قول المدّعي الذي لا يعارضه أحد بغير البيّنة ، ولكن هذه السيرة القدر المتيقّن منها هو فيما إذا كان ما يدّعيه من الماليّات وإن لم يكن لذلك المدّعي يد عليه ، أو كان من الحقوق ، كادّعائه تولية وقف ، أو يدّعي حقّ التحجير ، أو حقّ السبق في مكان ، أو حقّا آخر ولا يعارضه أحد في هذه الدعوى.

وأمّا الإجماع الذي ادّعاه صاحب الرياض (١) وصاحب الجواهر (٢) قدس‌سرهما فأيضا القدر المتيقّن منه هو فيما ذكرنا من الماليّات والحقوق والارتباطات كالزوجية والنسب ، كأن‌

__________________

(١) « رياض المسائل » ج ٢ ، ص ٤١٣.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٤٠ ، ص ٣٩٨.

١٢٠