القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

قالوا بالضمان.

وفيه : أنه لا دخل لهذه المسألة بباب الأمانة ، وأما الإذن من قبل الشارع بالنسبة إلى مثل هذا التصرف وإن كان مسلما ، لكنه من أول الأمر مقيد بالإتلاف بعوض ، لا مجانا.

فهذه المسألة أجنبية عن مسألتنا.

وأما الصانع والحمال والمكاري والأجير وأمثالهم من الذين مأذونون من طرف المالك ، أو من كان بمنزلته كوكيله أو وليه أو الذين هم مأذونون من طرف الشارع بأن يكون المال في يده فليس تلفه موجبا لضمانهم ، لأجل هذه القاعدة التي أثبتناها بالأدلة المتقدمة. وأما إتلافهم لذلك المال فموضوع آخر غير التلف ، والضمان يكون لإتلافه لو قلنا به في بعض المقامات.

فتلخص من مجموع ما ذكرنا من أول القاعدة إلى هاهنا أن قاعدة عدم ضمان الأمين لو تلف ما في يده بدون تعد وتفريط قاعدة فقهية ، ثابتة بالأدلة. والنقوض التي أوردوها لا يرد شي‌ء منها عليها ، وأن باب ضمان الإتلاف خارج عن مورد هذه القاعدة ، فإن موردها التلف وضمان اليد كما عرفت.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌

وموارد تطبيقها وإن ظهرت مما ذكرناه وهو أن كل مورد يكون مال الغير بيد شخص هو مأذون من قبل مالكه ، أو من قبل الشرع في أن يكون ذلك المال بيده ، بغير تضمينه من قبل المالك ، أو بغير اشتراط الإذن من قبل الشارع بكونه ضامنا عند التلف.

٢١

وبعبارة أخرى : يكون أمينا من قبل مالكه ، أو من قبل الشارع : ففي مثل هذا المورد ، لو تلف ذلك المال في يده بدون تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه من ناحية يده.

فالموارد التي لا ضمان عليه من جهة إذن المالك في كونه بيده : ككونه وكيله في أنواع المعاملات من بيع ، أو صلح ، أو إجارة ، أو الأخذ بالشفعة ، أو رهن أو أداء دين ، أو إعطاء قرض ، أو مضاربة ، أو مزارعة ، أو مساقاة ، أو في شراء حاجة من أمور معاشه ، أو في شراء ملك أو دار أو بستان ، أو يعطي ماله للحمالين أو المكارين لحمله ونقله ، وكثير من الموارد الآخر التي تركناها ، لوضوحها بعد معرفة الضابط فيها ، ولان لا تطول المقام.

والموارد التي لا ضمان عليه من جهة إذن الشارع : كاللقطة مدة التعريف ، ومجهول المالك إلى أن يحصل اليأس من معرفة صاحبه ، وأن يتصدق به عن طرف صاحبه بعد حصول شرائط التصدق من وجود الفقير ومعرفته وتحصيل الإذن من الحاكم الشرعي إن لم يكن هو بنفسه متصفا بهذه الصفة.

وكيد الحاكم الشرعي ، أو وكيله ، أو المأذون من قبله على أموال القصر والغيب.

وكيد الأب أو الجد على أموال صغارهما ، أو كيد الوصي أو القيم من قبلهما عليهم.

وكيد صاحب المال الذي تعلق به الخمس أو الزكاة إلى حصول المستحق ووجدان الفقير وإمكان الإيصال بهم عرفا ، أو المال الذي أنقذه من الغرق أو الحرق ، أو أخذه من يد السارق بدون اطلاع المالك في الموارد الثلاثة.

ففي هذه الموارد ، وكثير من الموارد الآخر من أمثالها لو تلف المال في يد الأمين بلا تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه من ناحية يده.

نعم لو تحقق أحد أسباب الضمان الآخر غير اليد فهو يكون على مقتضاه.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

٢٢

١٥ ـ قاعدة الإتلاف‌

٢٣
٢٤

قاعدة الإتلاف (*)

ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة التي تمسك بها الفقهاء في موارد الضمان هي قاعدة « من أتلف مال الغير بلا إذن منه فهو له ضامن ».

والبحث فيها من جهات ثلاث :

[ الجهة ] الأولى

في مداركها‌

أقول : إن هذه القاعدة مما اتفقت عليه الكل ولا خلاف فيها ، بل يمكن أن يقال إنها مسلمة بين جميع فرق المسلمين ، وربما يقال إنها من ضروريات الدين.

واستدل عليها الشيخ وابن إدريس في المبسوط (١) والسرائر (٢) بقوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (٣).

ولا شك في أن إتلاف مال الغير بدون إذنه ورضاه اعتداء عليه ، وتعبيره سبحانه‌

__________________

(*) « الحق المبين » ص ٨٧ ، « عناوين الأصول » عنوان ٥٨ ، « خزائن الأحكام » ش ٢٥ ، « مجموعه رسائل » ش ١٢ ص ٤٧٤ ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص ٩٤ ، « مجموعه قواعد فقه » ص ١٤٣ ، « قواعد فقه » ص ٩١ ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص ١١٠ ، « القواعد » ص ١٩ ، « قواعد فقه » ص ١٠٩ ، « قواعد الفقه » ص ١٣٧ ، « قواعد فقهي » ص ٢١ ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج ١ ، ص ٤٥ ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج ٤ ، ص ١٩٣ ، « قواعد الفقيه » ش ٤١ ، ص ١١٩ ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص ٣٧٨ ، « مجله حقوقي دادگسترى » العام ١ ، ش ٤ « ضمان تلف » مصطفى امامى.

(١) « المبسوط » ج ١٣ ، ص ٦٠.

(٢) « السرائر » ج ٢ ، ص ٤٨٠.

(٣) البقرة (٢) : ١٩٤.

٢٥

وتعالى عن أخذ المثل في المثليات والقيمة في القيميات الذي هو عبارة عن كونه ضامنا بالاعتداء للمشاكلة ، كقوله تعالى ( جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) ، (١) وكقول الشاعر :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جهة وقميصا

فالآية تدل دلالة واضحة على أن من أتلف مال الغير بدون إذنه ورضاه فهو له ضامن.

وقال الشيخ في المبسوط : روى الأعمش عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » (٢). ولا شك في أن احترام المال وأنه بمنزلة دمه يدل على أنه لو أتلفه متلف لا يذهب هدرا ، بل يكون ضمانه عليه.

وروي الشيخ أيضا في المبسوط عن عبد الله بن السائب ، عن أبيه ، عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا ، من أخذ عصا أخيه فليردها » (٣).

وأيضا روي في المبسوط عن الحسين أو حسن ، عن سمرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (٤).

والرواية الأخيرة ، أي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي » وفي بعض النسخ « حتى تؤديه » رويت عن طريق الخاصة أيضا (٥).

كما أنّ ما رواه ابن مسعود ، أي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » أيضا رواه الخاصة ، (٦) وأيضا يدل عليه وقوله عليه‌السلام : « المغصوب مردود » (٧).

__________________

(١) الشورى (٤٢) : ٤٠.

(٢) « المبسوط » ج ٣ ، ص ٥٩.

(٣) المصدر.

(٤) المصدر.

(٥) « مستدرك الوسائل » ج ١٤ ، ص ٧ ، أبواب كتاب الوديعة ، باب ١ ، ح ١٥٩٤٤ ، « عوالي اللئالى » ج ١ ، ص ٢٢٤ ، ح ١٠٦ ، وج ٢ ، ص ٣٨٩ ، ح ١٠ ، وج ٣ ، ص ٢٤٦ و ٢٥١ ، ح ٢ و ٣.

(٦) « عوالي اللئالي » ج ٣ ، ص ٤٧٣ ، ح ٤.

(٧) « الكافي » ج ١ ، ص ٥٣٩ ، باب ألفي والأنفال و ... ، ح ٤ ، « تهذيب الاحكام » ج ٤ ، ص ١٢٨ ، ح ٣٦٦ ، باب

٢٦

وحكى في المستدرك عن دعائم الإسلام : روينا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب يوم النحر بمنى في حجّة الوداع وهو على ناقة العضباء ، فقال : أيّها الناس إنّي خشيت أن لا ألقاكم بعد موقفي هذا ، بعد عامي هذا ، فاسمعوا ما أقول لكم فانتفعوا به ، ثمَّ قال أيّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا : هذا اليوم يا رسول الله. قال : فأي الشهور أعظم حرمة؟ قالوا : هذا الشهر يا رسول الله. قال : فأيّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا : هذا البلد يا رسول الله. قال : فإنّ حرمة أموالكم عليكم ، وحرمة دمائكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقوا ربكم فيسئلكم عن أعمالكم ، ألا هل بلّغت؟ قالوا : نعم. قال : « اللهم أشهد » الحديث. (١)

وأيضا عنه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال في حديث : « فمن نال من رجل شيئا من عرض أو مال وجب عليه الاستحلال من ذلك ، والانفصال من كل ما كان منه إليه ، وإن كان قد مات فليتنصّل من المال إلى ورثته ، وليتب إلى الله مما أتى إليه حتى يطلع عليه عزّ وجلّ بالندم والتوبة والانفصال. ثمَّ قال : ـ ولست آخذ بتأويل الوعيد في أموال الناس ، ولكنّي أرى أن أؤدي إليهم إن كانت قائمة في يدي من اغتصابها وينتصّل إليهم منها ، وإن فوّتها المغتصب أعطى العوض منها ، فإن لم يعرف أهلها تصدّق بها عنهم على الفقراء والمساكين ، وتاب إلى الله عزّ وجلّ ممّا فعل » (٢).

وأيضا في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه قضى فيمن قتل دابة عبثا ، أو قطع شجرا ، أو أفسد زرعا ، أو هدم بيتا ، أو عوّر بئرا ، أو نهرا أن يغرم قيمة ما استهلك وأفسد ، وضرب جلدات نكالا. وإن أخطأ ولم يتعمّد ذلك فعليه الغرم‌

__________________

قسمة الغنائم ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ٦ ، ص ٣٦٥ ، أبواب الأنفال وما يختص للإمام عليه‌السلام ، باب ١ ، ح ٤. وفي الكافي والوسائل : « لأنّ الغصب كلّه مردود ». وفي التهذيب : « لأنّ المغصوب كلّه مردود ».

(١) « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٨٧ ، أبواب كتاب الغصب ، باب ١ ، ح ٢٠٨١٦.

(٢) « مستدرك الوسائل » ج ١٢ ، ص ١٠٥ ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، باب ٧٨ ، ح ١٣٦٤١ ، وج ١٧ ، ص ٨٧ ، أبواب كتاب الغصب ، باب ١ ، ح ٢٠٨١٧.

٢٧

ولا حبس ولا أدب. وما أصاب من بهيمة فعليه ما نقص من ثمنها (١).

وأيضا يمكن استفادة هذا الحكم من صحيحة أبي ولاّد التي ذكرها الشيخ الأنصاري قدس سرّه في المكاسب (٢).

ودلالة هذه الأخبار على ضمان المتلف لمال الغير بدون إذنه ورضاه في كمال الوضوح ، مضافا إلى ما عرفت من الآية الشريفة.

وأما ما اشتهر في الألسن من قولهم « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » فلم نجده في كتب الحديث ، ولعلّ المتتبّع الخبير يجده أو وجده.

وعلى كلّ حال ثبوت هذا الحكم عند عامّة الفقهاء بدرجة تكون غنيّة عن الفحص والبحث في مداركه.

الجهة الثانية

في بيان المراد من هذه القاعدة‌

أقول : الظاهر أنّ التلف بمعنى الهلاك والفناء ، فإتلاف المال عبارة عن إهلاكه وإفنائه ، والإفناء قد يتعلّق بذات المال وقد يتعلق بماليته مع بقاء ذاته ، مثلا لا شكّ في أنّ الثلج له ماليّة في الصيف ، وأمّا في الشتاء فلا ماليّة له ، أي العقلاء لا يبذلون بإزائه المال ، فإذا أفنى ذات ثلج الغير فهذا إتلاف مال الغير.

وأمّا إذا حبسه على صاحبه حتّى دخل الشتاء ، كما لو غصب المثلج أي المكان الذي يذخرون فيه الثلج لبيعه في الصيف فرده على صاحبه مع الثلج الذي فيه في الشتاء ، فهذا إتلاف ماليّة الثلج ، لا نفسه.

__________________

(١) « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٩٥ ، أبواب كتاب الغصب ، باب ٩ ، ح ٢٠٨٤٢ ، وج ١٨ ، ص ١٩٩ ، أبواب الدفاع ، باب ٦ ، ح ٢٢٤٩٥ ، وج ١٨ ، ص ٣٣٣ ، أبواب موجبات الضمان ، باب ٣٤ ، ح ٢٢٨٨٢.

(٢) « المكاسب » ص ٦٩.

٢٨

والأمثلة لهذا القسم من الإتلاف أي إتلاف الماليّة دون نفس المال كثيرة.

والظاهر من إتلاف المال ـ سواء كان بعبارة « من أتلف مال الغير » كما هو معقد الاتفاق والإجماع ، أو كان هو بعبارة « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ـ هو المعنى الأوّل ، أي إفناء نفس المال لا إفناء ماليّته ، وبناء على هذا المعنى فالضمان في موارد إفناء المالية دون نفس المال يحتاج إلى التماس دليل آخر.

ويكفي في الحكم بالضمان في موارد إفناء الماليّة دون نفس المال قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) بالتقريب الذي تقدّم.

وأمّا المراد من « المال » فالظاهر هو أنّ كلّ شي‌ء يكون مطلوبا ومرغوبا عند الناس لأجل قضاء حوائجهم به ، ويكون دخيلا في معاشهم من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمساكن والمراكب والأشياء التي يتزيّنون بها ، أو شي‌ء يحصل مطلوبهم به كالنقود ، سواء كانت من ذهب أو فضّة أو يكون من جنس آخر ، فهو المال.

والحاصل : أنّ « المال » عبارة عن كل شي‌ء يكون للناس احتياج إليه في تدبير أمورهم في حياتهم وعيشتهم ، في حال صحّتهم ومرضهم بل في حال موتهم ، فالأدوية التي يعالج بها المريض مال عند العرف والعقلاء ، والمعول (١) الذي يحتاجون إليه في دفن موتاهم مال ، وأقسام النقود التي يحصلون بها ما يحتاجون إليه مال.

والمال بهذا المعنى قد يكون من قبيل الجواهر الموجودة مستقلا ولا في الموضوع ، وذلك مثل كلية الأجسام التي تستعمل في رفع الحاجات كما أشرنا إلى بعضها ، وقد يكون من قبيل العوارض كركوب الدابّة ، وسكنى الدار ، والتزيّن بالذهب والفضة والأحجار الكريمة ، أو غيرها.

ويسمّى هذا القسم في اصطلاح الفقهاء تبعا للإطلاقات العرفيّة بـ « المنافع » ، فالمنافع أيضا مال.

__________________

(١) المعول ج معاول : اداة لحفر الأرض.

٢٩

فهذه الأمور كلّها ، وأيضا كلّ ما يمكن به تحصيل بعض هذه الأمور مال ، غاية الأمر أنّ نفس هذه الأمور أموال تكوينيّة ليست ماليّتها بجعل في عالم الاعتبار.

وما يحصل به أحد هذه الأمور قد يكون مالا تكوينا وذلك كالمبادلات الجنسيّة ، وقد يكون من الأموال الاعتبارية كالأوراق الماليّة الموجودة في هذه الأعصار ، فإنّها في حدّ نفسها ليست ممّا يستعمل في رفع حوائج الإنسان أو الحيوان ولكن بعد اعتبارها من ناحية من بيده الاعتبار يمكن تحصيل ما يرفع الحوائج بها ، وعليها الآن مدار المعاملات والمعاوضات في الأسواق.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ مدار مالية المال على أحد أمرين :

أحدهما : كون الشي‌ء بحيث يرفع به إحدى حاجات الإنسان ولو كان علفا لدابّته ، أو بنزينا لسيّارته ، فضلا عن أن يكون مأكولا أو مشروبا أو ملبوسا لنفسه.

والثاني : أن يكون ممّا يحصل به أحد هذه الأمور كالأوراق الماليّة ، والنقود الذهبيّة ، والفضّية ، أو أحد هذه الأمور فيما إذا وقع عوضا في المعاملة لجنس آخر من هذه الأمور.

ومنه تعريف بعضهم البيع بمبادلة مال بمال ، وبهذا المعنى الثاني قد تكون ماليّة المال من الأمور الاعتباريّة وذلك كالأوراق الماليّة ، فهي بالاعتبار تصير مالا ، وكذلك تسقط ماليتها باعتبار آخر ممّن بيده الاعتبار.

فقوله تعالى ( الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (١) المراد بالمال المذكور في الآية الشريفة هو هذه الأمور التي تقضي بها الحوائج وأمور المعاش كلّها ـ كما ذكرنا ـ أو ما يمكن أن يحصّل تلك الأمور به. والمال بهذا المعنى مدار الغناء والفقر وجودا وعدما.

وأمّا تعريفه كما صدر عن بعضهم بأنّه ما يبذل بإزائه المال ، فهو تعريف لفظي ، وإلاّ ففيه دور واضح.

__________________

(١) الكهف (١٨) : ٤٦.

٣٠

وأمّا الضمان في هذه القاعدة : فالمتفاهم العرفي منه هو كون التالف بوجوده الاعتباري في عهدة من أتلفه ، وهذا هو الضمان الواقعي.

وأما الضمان المسمّى فهو الذي سمّاه الطرفان في العقود المعاوضيّة عوضا عن ما يقابله من الطرف الآخر.

فحاصل معنى القاعدة المتسالم عليها هو أنّه إن أفنى مال الغير بدون إذنه في ذلك الافناء ، يكون ذلك المال على عهدته بوجوده الاعتباري ، وإن لم يكن تحت يده فيجب عليه الخروج عند عهدته بإعطاء ، المثل في المثليّات والقيمة في القيميات.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌

وقبل ذلك لا بدّ من بيان مقدّمة :

وهي أنّ الإتلاف قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالتسبيب.

فالأوّل مثل أن يأكل ماله الذي من المأكولات ، أو يشرب ماله الذي من المشروبات ، أو يحرق أثوابه وأمثال ذلك ممّا يصدر (١) فناء مال الغير ، عن نفسه بدون توسيط فاعل إرادي أو غير إرادي آخر.

والثاني عبارة عن كلّ فعل صار سببا لوقوع التلف ولم يكن علّة تامّة للتلف أو جزء الأخير من العلّة التامّة ، بل يكون بحيث لو لم يصدر عنه هذا الفعل لم يقع التلف.

ولهذا عرّفوا السبب بأنّه ما لا يلزم من وجوده الوجود ، وإلاّ فهو العلّة التّامة أو الجزء الأخير منها ، ولكن يلزم من عدمه العدم فعلى هذا المعنى للتسبيب فلو حفر بئرا مكشوفة في الطريق فوقع فيها شي‌ء وتلف‌

__________________

(١) الظاهر انه غلط والصحيح : « يوجب » أو « يسبب » وأمثال ذلك.

٣١

فهو السبب.

فالقسم الأوّل يقينا إتلاف حقيقة ، فيكون موجبا للضمان قطعا ، لما ذكرنا من الأدلّة وعليه الاتفاق من المسلمين قاطبة ، بل عليه اتّفاق جميع عقلاء العالم من المسلمين وغير المسلمين من ذوي الأديان ، بل ومن غير ذوي الأديان.

وأما القسم الثاني ، أي ما يلزم من عدمه عدم التلف فأيضا يمكن تحصيل الإجماع على كونه موجبا للضمان ، وقد ادّعى في الجواهر (١) نفي الخلاف فيه.

هذا مضافا إلى دلالة الأخبار على هذا المعنى.

فمنها : صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، سألته عن الشي‌ء يوضع على الطريق فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره؟ فقال عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه » (٢).

ومنها : صحيح زرارة عنه عليه‌السلام أيضا ، قلت له : رجل حفر بئرا في غير ملكه فمرّ عليها رجل فوقع فيها؟ فقال عليه‌السلام : « عليه الضمان لأنّ كلّ من حفر في غير ملكه كان عليه الضمان » (٣).

ومنها : موثّق سماعة : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يحفر البئر في داره أو ملكه؟ فقال عليه‌السلام : ما كان حفر في داره أو ملكه فليس عليه ضمان ، وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها » (٤).

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٣٧ ، ص ٤٦.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٤٩ ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح ٢ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ١٥٥ ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه ... ، ح ٥٣٤٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ١٠ ، ص ٢٢٣ ، ح ٨٧٨ ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح ١١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٩ ، ص ١٨١ ، أبواب موجبات الضمان ، باب ٩ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٥٠ ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح ٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ١٠ ، ص ٢٣٠ ، ح ٩٠٧ ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح ٤٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٩ ، ص ١٧٩ ، أبواب موجبات الضمان ، باب ٨ ، ح ١.

(٤) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٥٠ ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح ٤ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ١٥٣ ، باب ما

٣٢

ومنها : خبر السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابّة ، أو حفر بئرا في طريق المسلمين فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن » (١).

وأيضا هناك روايات معتبرة في باب تغريم شاهد الزور حتى قتله في بعض الصور (٢) ، مثلا لو شهد شاهدان عدلان مرضيّان بحسب الظاهر على أنّ فلانا قتل فلانا ، فقتل المشهود عليه بواسطة هذه الشهادة ، ثمَّ رجعا عن شهادتهما. فان قالوا : أخطأنا ، فعليهما دية المقتول. وإن قالوا : تعمّدنا الكذب ، فيقادان.

وخلاصة الكلام أنّ الروايات في باب ضمان المسبب ـ بالكسر مثل المباشر ـ للإتلاف كثيرة ، وقد ذكرنا جملة منها في شرح قاعدة « المغرور يرجع إلى من غر » (٣).

ثمَّ إنّ ظاهر الروايات التي ذكرناها بعضها فيه الإطلاق بالنسبة إلى قصد موجد السبب الوقوع المسبب وعدم قصده ، بل ظاهرها هو الضمان. ولو كان حفره للبئر في غير ملكه بقصد عدم وقوع أحد فيه وبرجاء ذلك ، فان كان مدرك الضمان في هذه الصورة هو الإجماع يمكن أن يقال بأنّ المتيقّن منه هو فيما إذا قصد بإيجاد السبب وقوع التلف.

ولكن إذا كان المدرك هي الروايات كما هو كذلك ، لما ذكرنا مرارا من أنّ مع وجود دليل معتبر في المقام لا يبقى مجال للإجماع ، لأنّ أحد مقدّمات تحقّق الإجماع المصطلح‌

__________________

جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه ، ح ٥٣٤١ ، « تهذيب الأحكام » ج ١٠ ، ص ٢٢٩ ، ح ٩٠٣ ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح ٣٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٩ ، ص ١٨٠ ، أبواب موجبات الضمان ، باب ٨ ، ح ٣.

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٥٠ ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المارّ ، ح ٨ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ١٥٤ ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه ... ، ح ٥٣٤٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ١٠ ، ص ٢٣٠ ، ح ٩٠٨ ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح ٤١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٩ ، ص ١٨٢ ، أبواب موجبات الضمان ، باب ١١ ، ح ١.

(٢) راجع : « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٨٣ ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح ٢ ـ ٥ ، و « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢٣٨ ، أبواب الشهادات ، باب ١١ ، ح ١ و ٢ ، وج ١٩ ، ص ٦٩ ، أبواب القصاص في النفس ، باب ٦٢ ، وج ١٩ ، ص ١٩٤ ، أبواب موجبات الضمان ، باب ٢٤.

(٣) « القواعد الفقهية » ج ١ ، ص ٢٧٠.

٣٣

في الأصول ـ الذي هو من الأدلّة وقلنا بحجيته ـ هو عدم وجود دليل معتبر يمكن أن يكون هو منشأ ذلك الإطلاق ، فلا شكّ في إطلاقها في كون إيجاد سبب الفناء والهلاك بالمعنى الذي ذكرنا للسبب موجب الضمان ، قصد الموجد للسبب ترتّب المسبّب على فعله أو لم يقصد.

نعم يلزم أن يصدق عليه ما أخذ موضوعا للضمان ، وهو عنوان « من حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيها شي‌ء فهو ضامن » وإن قصد العدم أي حفر برجاء عدم وقوع أحد فيها.

ولو اجتمع السبب والمباشر ، فهل الضمان على المباشر أو السبب أو على كليهما بالاشتراك؟ احتمالات :

قال المحقّق في الشرائع : إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان على ذي السبب ، كمن حفر بئرا في ملك غيره عدوانا فدفع غيره فيها إنسانا ، فضمان ما يجنيه الدفع على الدافع (١).

وادّعى جمع ـ على هذا القول ـ عدم الخلاف والإجماع ، وكان تقديم المباشر على السبب عندهم من المسلّمات.

والأمر في هذه الفرع الذي ذكره المحقّق وإن كان كما ذكره ، لأنّ الجناية مستند عرفا بل عقلا إلى الدافع ، وحفر البئر بالنسبة إلى هذه الجناية من المعدّات التي لا توجب الضمان مع صدور الإتلاف عن الفاعل المختار ، وإلاّ كان صانع السيف ضامنا إذا قتل به المباشر شخصا ، وهذا ممّا لم يقل به أحد ، ولا يصحّ القول به قطعا.

إلاّ أنّ جميع موارد اجتماع السبب والمباشر ليس من هذا القبيل ، مثلا لو وصف الطبيب دواء وكان سمّا قاتلا ، والممرض أعطاه للمريض فأتلفه ذلك السمّ ، ففي هذا المورد استناد الجناية إلى السبب أي الطبيب أقوى من المباشر ، خصوصا إذا كان‌

__________________

(١) « الشرائع » ج ٣ ، ص ٢٣٧.

٣٤

المرض جاهلا والطبيب عالما بأنه سمّ قتّال.

نعم إذا كان الممرض عالما بأنه سمّ قتّال فيكون هو الجاني.

وكذلك في باب شهادة الزور التي تصير سببا لإتلاف نفس المشهود عليه أو ماله الضمان على السبب أي الشاهد الزور ، لا على المباشر أي الحاكم أو من يأتمر بأمره وينفذ حكمه.

وخلاصه الكلام في هذا المقام ـ أي فيما إذا اجتمع السبب والمباشر ـ أنّ المباشر إذا كان فاعلا مختارا عاقلا ، وكان ملتفتا إلى أنّ فعله هذا يترتّب عليه التلف ، فلا شكّ في اختصاصه بكونه ضامنا في هذه الصورة ، وليس على ذي السبب ضمان أصلا.

وأمّا لو يكن المباشر ذا إرادة وشعور فالضمان على ذي السبب ، وذلك كمن أجّج نارا في غير ملكه والريح نشر النار فأصابت النار مال غيره فاحترق ، أو حفر بئرا في الطريق فدفعه حيوان أو مجنون إلى البئر ووقع فيها فتلف هو نفسه أو ماله ، ففي مثل هذه الصورة الضمان على ذي السبب ، لأنّه المتلف حقيقة ، والتلف حاصل بسبب فعله بالمعنى الذي ذكرنا للسبب.

وأمّا إن كان عاقلا مختارا في فعله ولكن لم يكن يعلم بأنّ فعله هذا يترتّب عليه التلف ، فإن لم يكن مغرورا ولا مكرها فأيضا الضمان عليه ، أي على المباشر ، لأنّ هذه القاعدة مفادها أنّ من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، سواء كان عالما بأنّ فعله هذا يترتّب عليه الإتلاف أو لم يعلم ، لأنّ عدم العلم لا يؤثّر في عدم الضمان ، إذ موضوع كون الضمان عليه هو الإتلاف مطلقا ، لا الإتلاف مع العلم بأنّه إتلاف. وأمّا لو كان مغرورا كالممرض الجاهل فيرجع ـ بما خسره من باب ضمان الإتلاف ـ إلى الغارّ. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغارّ عالما أو جاهلا بتغريره لهذا التلف.

وأمّا إن كان مكرها فليس عليه ضمان إذا كان الإكراه في غير الدماء ، فإذا أكره على الدفع في البئر فمات فيضمن الدية أو يقاد ، إذا كان الدفع في البئر من الأسباب‌

٣٥

العادية للموت ، لأنّه لا تقية في الدماء. وأما إذا أكره على إتلاف مال الغير فالضمان على المكره ـ بالكسر ـ لا على المتلف الذي هو مكره ـ بالفتح ـ لأنّ السبب هنا أقوى من المباشر ، لأنّ المباشر وإن كان فاعلا ولكن ليس بمختار.

ولذلك نقول ببطلان معاملات المكره من عقوده وإيقاعاته ، والعرف والعقلاء ينسبون الفعل إلى المكره ـ بالكسر ـ ويسندون إليه ، كما أنّه لو أمر المكره بهدم دار شخص خدّامه وغلمانه الذين يخافون من مخالفته لا ينسب هدم الدار عند العرف إلاّ إلى ذلك المكره ، والناس يقولون إنّ فلانا ـ الذي هو المكره ـ هدم دار فلان ، لأنّه أمر غلمانه بذلك.

وبناء على هذا لو أكره إنسانا على حفر البئر في الطريق ، فوقع فيها مال شخص وتلف ماله بذلك الوقوع ليس على الحافر ضمان ، بل الضمان على الآمر المكره.

إذا ظهرت لك هذه المقدّمة ، فنقول : ذكروا هاهنا فروعا كثيرة في كتبهم الفقهيّة ، واختلفوا في الحكم بالضمان وعدمه في بعض الموارد وأنّه على السبب في بعضها وعلى المباشر في موارد آخر ، ونحن نذكر جملة منها إن شاء الله تعالى وبتوفيقه :

منها : أنّه قال في الشرائع : لو ألقي صبيا في مسبعة ، أو حيوانا يضعف عن الفرار ضمن لو قتله السبع (١).

وهذا كلام حقّ لما ذكرنا من الضابط في كون الضمان على السبب دون المباشر ، وهو أن لا يكون المباشر فاعلا عاقلا ، بل يصدر عنه الفعل بدون تروّ وتفكّر في عواقبه لعدم قدرته على التروّي والتفكّر. وإن شئت عبّر عن هذا بأنّ السبب أقوى من المباشر ، كما عبّر به في الشرائع.

وبناءً على هذا يكون لهذا الفرع نظائر كثيرة تشبهها في هذه العلة ، مثلا لو أعطى سكينا بيد مجنون فجرح أو قتل ، أو فتح باب الحبس على سبع ففرس إنسانا أو‌

__________________

(١) « الشرائع » ج ٣ ، ص ٢٣٧.

٣٦

حيوانا ، أو ألقى حية على نائم أو من ليس بنائم ولكن لا يقدر على التحرّز عنها بقتلها أو فراره عنها فلدغته ، وأمثال ذلك من النظائر الكثيرة.

ففي جميع هذه الموارد يكون الضمان على السبب ، لما ذكرنا ، ولعدم إمكان كون الضمان على المباشر لعدم العهدة في الحيوان أي السبع أو الحية المباشران للإتلاف حتى يكون الضمان عليهما.

وأما ما ذكر في عنوان المسألة في الشرائع بأنّه لو ألقى صبيّا ، فلعلّه باعتبار ضمان اليد وأنّ الصبي يقع تحت اليد بخلاف الكبير ، أو لعلّ هذا التخصيص بلحاظ عدم قدرة الصبي على الفرار أو الدفاع ، بخلاف الكبير.

فإن كان بلحاظ الوجه الأوّل فهو واضح البطلان ، لأنّ الحرّ لا يقع تحت اليد ، صغيرا كان أو كبيرا ، ولذلك لو أخذ ولدا صغيرا بالقهر عن وليّه ، فمات حتف أنفه بدون أيّ تعدّ أو تفريط في حقّه لم يكن ضامنا ، بخلاف ما لو كان الولد عبدا ومات ولو حتف أنفه وبآفة سماويّة يكون ضامنا.

وان كان بلحاظ الوجه الثاني فليس بمطّرد ولا بمنعكس ، كما هو واضح ولا يحتاج إلى البيان ، فالحقّ أنّه لا فرق في هذه المسألة بين الصغير والكبير ، والحر والعبد ، والإنسان والحيوان ، لأنّ الكلام في ضمان الإتلاف لا ضمان اليد. فالمناط في الضمان إمكان التحرّز بالدفاع أو الفرار وعدمه إمكانه.

ومنها : أيضا ما ذكر في الشرائع من أنّه : لو غصب شاة فمات ولدها جوعا ففي الضمان تردّد ، وكذا لو حبس مالك الماشية عن حراستها فاتّفق تلفها ، وكذا التردّد لو غصب دابّة فتبعها الولد (١).

ومنشأ التردّد هو الترديد في صدق التسبيب في هذه الموارد الثلاث ، وفتاوى الفقهاء والأساطين مختلفة في هذه الموارد الثلاث ونظائرها جدّا.

__________________

(١) « الشرائع » ج ٣ ، ص ٢٣٧.

٣٧

فبعضهم يفتي بالضمان ، وبعضهم ينفي ، وبعضهم كصاحب الشرائع يقف عن الفتوى ويظهر التردّد.

وعلى كلّ حال أنت عرفت أنّ كون التسبيب موجبا للضمان مستفاد من تلك الروايات التي ذكرنا ، فلا بدّ من الحكم بالضمان في صدق ما أخذ موضوعا للضمان في تلك الروايات ، من دون أن ينجرّ إلى القياس.

والعناوين المأخوذة في تلك الروايات موضوعا للضمان :

أحدها : عنوان « كلّ شي‌ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه ».

وهذا العنوان أجنبي عن الموارد الثلاث إلاّ أن يقال إنّ المناط في الضمان هو الإضرار بالمسلمين ، ولا خصوصية لكونه من طريق الطريق ، وهو لا يخلو من تأمّل.

الثاني : عنوان « من حفر بئرا في ملك غيره أو في الطريق فهو ضامن لما يسقط فيها ».

ولا شكّ في أنّ هذه الموارد الثلاث ونظائرها ليست من مصاديق من حفر بئرا في ملك غيره ، أو من مصاديق من حفر بئرا في الطريق. اللهمّ إلاّ أن يقال : لا خصوصيّة لحفر البئر ، بل المراد إيجاد ما هو سبب تلف مال الغير في العادة مع وقوع التلف فعلا وترتّبه على السبب ، وليس ببعيد.

الثالث : ما جعل موضوعا للضمان في خبر السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أخرج ميزابا أو كنيفا » (١) إلى آخر ما ذكره من الأمور الخمسة.

والإنصاف أنّه يستظهر من هذه الرواية قاعدة كليّة ، وهي أنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار. وكان سببا في العادة لوقوع تلف في مال المسلمين أو في نفسه ، ولم يتوسّط بين ذلك الفعل والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بحيث يكون التلف‌

__________________

(١) « الشرائع » ج ٣ ، ص ٢٣٨.

٣٨

مستندا إليه عند العرف والعقلاء ، فهو ـ أي فاعل السبب ـ ضامن. وهذا استظهار لا قياس.

وبناء على هذا يكون تحقق الضمان وثبوته في الموارد الثلاثة هو الحقّ ، ولا وجه للتردّد.

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ الرواية ضعيفة من حيث السند ، لاشتراك هذا اللقب ـ أي السكوني ـ بين من هو موثوق إن كان المراد به إسماعيل بن مهران ـ وغير موثوق إن كان المراد منه هو إسماعيل بن أبي زياد فإنّه عامّي.

نعم ظهر لك ممّا ذكرنا ـ من أنّ الضمان يثبت فيما إذا كان الفعل المذكور سببا في العادة للتلف لا بصرف الاتّفاق ـ أنّ حبس مالك الماشية لو كان سببا في العادة يكون موجبا للضمان ، وإلاّ لو اتّفق ذلك كما هو مفروض الشرائع في هذا الموارد فإيجابه للضمان مشكل ، بل لا ينبغي القول به لعدم إطلاق في الرواية لكي يشمل مثل هذا الفرض.

ومنها : ما قال في الشرائع أيضا من أنّه : لو فكّ القيد عن الدابّة فشرّدت ، أو عن العبد المجنون فأبق ضمن ، لأنّه فعل يقصد به الإتلاف. وكذا لو فتح قفصا عن طائر فطار مبادرا أو بعد مكث (١).

أمّا كون هذه الأمور سببا للضمان واضح ، بناء على استفادة تلك القاعدة الكلّية من الروايات ، وهي أنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار ـ أي غير مكره على ذلك الفعل ـ وكان سببا لوقوع التلف في العادة والأغلب ، ولم يتوسّط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، فهو أي موجد السبب ضامن لذلك التالف. ولا شكّ أنّ فكّ القيد عن الدابّة الشرود ، خصوصا إذا كان حيوانا وحشيا مقيّدا كالغزال من هذا القبيل.

__________________

(١) « الشرائع » ج ٣ ، ص ٢٣٨.

٣٩

ففكّ القيد عن الظبي المقيّد عادة سبب لأن يشرد ويتلف ولو بلحوقه إلى البرية فيصير حاله حال سائر الظباء الموجودة في البرّ فاعتبار الملكيّة فيها لغو. وهكذا فتح القفص عن الطائر الوحشي ، وهكذا فكّ القيد عن العبد المجنون يوجب شروده ، وهو يوجب تلفه عادة ولم يتوسّط بين فعله والتلف في الموارد الثلاثة فعل فاعل عاقل متعمّد عن اختيار ، لأنّ الدابّة والطائر حال عدم عقلهما معلوم ، والثالث ـ أي المجنون ـ كون فعله عن عقل خلاف الفرض.

نعم لو كان العبد المقيّد الذي فكّ القيد عنه عاقلا فلا ضمان ، لأنه توسط بين فعله ـ أي فكّ القيد عنه وتلفه ـ فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، فيكون هو بنفسه مباشرا لإتلاف نفسه ، وذلك مثل أن فكّ القيد عنه فألقى نفسه عن عمد واختيار عن السطح فمات.

ومنها : أيضا في الشرائع لو فتح بابا على مال فسرق ، أو أزال القيد عن عبد عاقل فأبق ، وكذا لو دلّ السارق على مال فسرق فلا ضمان في الجميع ، (١) لأنّ في جميع هذه الصور توسّط بين فعله والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، فهو المباشر في الإتلاف ، ومعه لا يسند التلف إلى السبب البعيد.

نعم هو بفتح الباب إن كان ملتفتا إلى أنّه يمكن أن يوجب السرقة ، وبدون إذن صاحب الباب ، وكذلك بالنسبة إلى إزالة القيد يكون آثما ، وكذلك في دلالته للسارق آثم قطعا ، للإعانة على الإثم إن دلّه بقصد أن يسرق.

وحكى في الجواهر عن العلاّمة في الإرشاد القول بالضمان فيما لو دل السارق. (٢) والظاهر أنّه متفرّد في هذا القول ، ولم يوافقه أحد فيه.

ثمَّ إنّ صاحب الجواهر ذكر هاهنا فرعا (٣) وهو أنّه لو وجدت في البئر المذكورة ـ

__________________

(١) « الشرائع » ج ٣ ، ص ٢٣٨.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٣٧ ، ص ٦٨.

(٣) المصدر.

٤٠