القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

والفرق بين هذا المعنى والمعنى الثاني هو أوّلا : أنّ المراد من الثلاث صلوات في الثاني المتواليات ، وهاهنا أعمّ من أن يكون متواليات أو منفصلات.

وثانيا : أنّ المراد من الثلاث ثلاث من جميع الصلوات ، سواء كانت من يوم واحد كالصبح والظهر والعصر من يوم واحد ، أو كانت من يومين كالعشاء من هذا اليوم مع الصبح والظهر من غده ، غاية الأمر متواليات ، وهاهنا الثلاث من الخمسة في يوم واحد وإن لم يكن متواليات كما شرحنا وذكرنا.

والإنصاف أنّ الرواية لا تخلو من هذه الجهة ـ أي من جهة تعدّد الاحتمالات ـ من إجمال ، مضافا إلى أنّه من المحتمل قريبا أن لا يكون قوله عليه‌السلام « إذا كان الرجل يسهو في كلّ ثلاث فهو ممّن كثر عليه السهو » في مقام تحديد مفهوم كثير السهو ، بل بصدد بيان بعض مصاديقه العرفيّة.

فإذا لم يكن تحديد من قبل الشارع لأحد الوجهين المذكورين ـ أي لإجمال الرواية ، أو من جهة كونه عليه‌السلام بصدد بيان أحد مصاديقه العرفيّة ـ فلا بدّ من الرجوع إلى فهم العرف من هذه الجملة ، أي جملة « كثر عليك السهو ».

ولا يبعد أن يكون المراد منها حسب المتفاهم العرفي هو كون الشخص له حالة وخلق يوجب شكّه كثيرا ، فكما أنّ الوسواسي هو كونه ذا حالة توجب الوسوسة ، فكذلك كونه كثير الوهم وشكّاكا. بل يمكن أن تكون كثرة الشكّ مرتبة نازلة من الوسوسة وإذا كان هذا معنى كونه كثير الشكّ فلو عرض له حالة فجائيّة أوجب كثرة الشك لاغتشاش حواسّه لمصيبة ، أو لسرور زائد ، أو لاشتغال فكره بأمر مهمّ فلا يكون من كثير الشكّ لأنّه ليس خلقا له ، بل عارض يرتفع بسرعة.

والحاصل : أنّك عرفت الاحتمالات وهي أربعة في الرواية.

وأمّا احتمال الخامس : بأن يكون المراد وقوع الشكّ في كلّ صلاة ثلاث مرّات فلا تساعده قواعد النحو ، إذ مقتضاها أن يكتب ثلاثا بالألف كي يكون منصوبا وتمييزا ،

٣٦١

ومعلوم أنّه لو كان ثلاثا بالألف كان هذا الاحتمال أظهر الاحتمالات وإن لم يكن على طبقه قول في الفقه ، لأنّ معنى هذه الجملة بناء على هذا الاحتمال هو أن يسهو في كلّ صلاة ثلاث مرّات بنحو العامّ الاستغراقي.

ومثل هذا المعنى إمّا لا يوجد أصلا أو نادر الوجود ، إذ معناه أن يشكّ طول عمره في كلّ صلاة من الصلوات التي يأتي بها ثلاث مرّات ، لأنّ هذا هو المعنى الذي يستفاد من العامّ الاستغراقي. وما ذكرنا هو احتمالات الرواية.

وأمّا الأقوال في الفقه أيضا كالاحتمالات أربعة :

الأوّل : قول المشهور ، وهو إيكاله إلى العرف. وهو الصحيح عندنا ، لما ذكرنا من إجمال الرواية ، أو لكونها بصدد بيان بعض مصاديقها الشائعة والأكثر وجودا.

الثاني : عروض الشكّ عليه ثلاث مرّات متواليات ، سواء أكان في صلاة واحدة ، أو كان في ثلاث صلوات متواليات.

الثالث : تعيّن هذه الثلاثة في صلاة واحدة.

الرابع : أن يسهو في كلّ ثلاث صلوات مرّة واحدة بنحو العامّ الأصولي. وهذا القول هو مختار شيخنا الأستاذ قدس‌سره وقد حمل الرواية على هذا المعنى ، وجعله أظهر الاحتمالات فيها.

ثمَّ إنّه بناء على المختار من كونه عبارة عن حالة وخلق نفساني يوجب كثرة وقوع الشكّ ، فلو حصل الشكّ في وجود مثل هذه الحالة في نفسه ، فيجري استصحاب عدم وجودها ، لأنّ هذه الحالة ليست من ذاتيّات الإنسان ، ولا من عوارضه اللازمة غير المفارقة كي لا يكون لعدمها النعتي حالة سابقة. وعدمها المحمولي وإن كان له حالة سابقة ولكن لا أثر له ، لأنّ الأثر ـ أي إلقاء حكم الشكّ وهو البناء على الأكثر إذا كان الشكّ في عدد الركعات ، ولزوم الإتيان بالمشكوك إذا كان الشكّ في الأفعال وقبل تجاوز المحلّ ـ مترتّب على وجودها النعتي لا الوجود المحمولي ، فعدمها النعتي له الأثر ،

٣٦٢

أي ثبوت هذين الحكمين كلّ في محلّه.

والحاصل : حيث أنّ هذه الحالة من العوارض المفارقة فلا مانع من استصحاب عدمها ، فيكون حالها حال سائر الحالات والملكات كالعدالة والاجتهاد يستصحب عدمها عند الشكّ في وجودها.

وأمّا لو كان عبارة عن كثرة وجود الشكّ وكان منشأ الشكّ هي الأمور الخارجيّة فأيضا يجري استصحاب عدم ذلك المقدار.

وأمّا إن كان منشأ الشكّ هو ترديد المفهوم بين الأقلّ والأكثر فلا يجري الاستصحاب ، لعدم الحالة السابقة لذلك المفهوم المردّد ، وعلى تقدير وجود الحالة السابقة لا يثبت أنّه الأقلّ أو الأكثر ، فلا بدّ من الرجوع إلى العامّ ، لأنّ المخصّص المنفصل المجمل مفهوما لا يمنع ولا يضرّ بالتمسّك بعموم العامّ.

والمسألة محرّرة مشروحة في الأصول وقد حقّقنا وأوضحناها في كتابنا « منتهى الأصول » (١) وإن شئت فراجع ، والعموم هنا في الشكّ في عدد الركعات هو البناء على الأكثر ، وفي الشكّ في الأفعال هو لزوم الإتيان بالمشكوك إذا كان الشكّ قبل تجاوز المحلّ.

السابع : في أنّ كثير الشكّ لو شكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، فلو لم يكن كثير الشكّ فالحكم هو البناء على الأربع والإتيان بسجدتي السهو ، وأمّا أنّه حيث يكون كثير الشكّ فيبني على الأربع بدون أن يأتي بسجدتي السهو. فإنّ هذا معنى المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ ، وكذلك الحكم لو كان شكّه بين الأربع والخمس قبل إكمال السجدتين لعين الدليل.

وأمّا لو عرض له هذا الشكّ في حال القيام ، فلو لم يكن كثير الشكّ كانت وظيفته هدم القيام حتّى يرجع الشكّ إلى الثلاث والأربع ، فيبني على الأربع فيأتي بصلاة‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٤٤٩ ـ ٤٥٧.

٣٦٣

الاحتياط. وأمّا لو كان كثير الشكّ ـ كما هو المفروض ـ فهل يجب عليه أن يبني على الأربع ويتمّ وليس عليه صلاة الاحتياط؟ كما هو مقتضى عدم الاعتناء بشكّه بحكم هذه الأخبار ، فإنّ مفادها كما ذكرنا عدم الاعتناء باحتمال العدم إذا كان العدم مضرّا ومفسدا ، وباحتمال الوجود أنّ كان الوجود مفسدا ومضرّا. والمقام من الأخير ، لأنّ وجود الخامسة مضرّ ، فإذا احتمل وجودها يبني على العدم ، أو لا بل يجب عليه أن يهدم القيام حتّى يرجع شكّه إلى الشكّ بين الثلاث والأربع.

حكى عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره الثاني ، ولكنّ الأوّل هو الصحيح ، وذلك لما سنذكر من حكومة دليل عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ على أدلّة البناء على الأكثر إذا كان الشكّ في عدد الركعات ، فإذا شكّ في الركعات بين الأربع والخمس فلا يأتي دليل البناء على الأكثر ، لأنّ دليل البناء على الأكثر إنّما ورد لتصحيح الصلاة لا لإفسادها ، ولذلك لا تشمل هذا الشكّ ، فالحكم بصحّة الصلاة والبناء على الأربع لدليل خاصّ إذا كان بعد إكمال السجدتين.

وأمّا إذا كان في حال القيام فليس دليل خاصّ في البين ، فمقتضى القاعدة ابتداء هو الفساد بالنظر البدوي ، وذلك لعدم شمول دليل البناء على الأكثر له لما ذكرنا ، ولا دليل على عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ لعدم حكم له كي يكون حاكما عليه ، وليس دليل خاصّ في البين ، كما هو المفروض.

هذا ، ولكنّ عند التأمّل هذا الشكّ مستلزم لشكّ آخر ، وهو أنّ الركعة السابقة مردّدة بين الثلاث والأربع ، وله حكم وهو البناء على الأربع ، وحيث أنّه كثير الشكّ ويجب عليه عدم الاعتناء بشكّه ، أي يلغي احتمال كونها رابعة والبناء على كونها ثالثة ، فإذا بني على كونها ثالثة فيكون ما بيده ـ المحتمل كونها خامسة وجدانا ـ حسب الحكم الشرعي هي الرابعة ، فيتمّها من دون وجوب هدم القيام ، بل لا يجوز ذلك ، لحكم الشارع بأنّها رابعة ، فيتمّها ولا شي‌ء عليه حتّى سجدة السهو ، لأنّها منصوصة في مورد خاصّ.

٣٦٤

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حكم الشارع بالمضي وعدم الاعتناء بالشكّ في نفس المورد الذي وقع الشكّ لا ما يلازم هذا الشكّ ، ففي نفس المورد لا بدّ وأن يكون للشكّ حكم حتّى يرفعه دليل عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ ووجوب المضي في الصلاة. وهاهنا ليس في نفس المورد حكم في البين كي يكون دليل وجوب عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه حاكما عليه.

فلا بدّ من هدم القيام حتّى يرجع الشكّ إلى الشكّ بين الثلاث والأربع ، فيبني على الأربع ويتمّ الصلاة وليس عليه صلاة الاحتياط ، لأنّ الشارع ألغى احتمال عدم وجود الرابعة ، لأنّه كثير الشكّ.

وفيه : أنّ وجود الشكّ بين الثلاث والأربع في الركعة السابقة على ما بيده وجداني وتكويني ، وحكم ذلك الشكّ مع قطع النظر عن دليل عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه هو أنّ السابقة رابعة ، وهذه التي بيده خامسة فيجب هدمها.

ولكن حيث أنّ المفروض أنّه كثير الشكّ فلا يأتي هذا الحكم ـ أي كون هذه التي بيده خامسة ـ في المقام ، بل يجب عليه المضي في صلاته وإلغاء احتمال الخامسة ، لما ذكرنا أنّ مفاد أدلّة عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه والمضي في صلاته هو عدم الاعتناء باحتمال العدم فيما يكون عدمه مضرّا ، وعدم الاعتناء باحتمال الوجود فيما يكون وجوده مضرّا.

وإن شئت قلت : بأنّ مفاد أخبار الباب هو الحكم بالصرفة وإرغام أنف الشيطان ، ولا شكّ في أنّ الصرفة في المقام تقتضي عدم الاعتناء باحتمال وجود الخامسة ، فلا يجوز الهدم بل يجب البناء على الأربع وإتمام الصلاة بدون أن يكون عليه شي‌ء من صلاة الاحتياط أو غيرها ، فلا يبقى وجه لما حكى عن الشيخ الأعظم قدس سرّه من وجوب هدم ما بيده.

الثامن : في أنّه هل يلحق كثير الظنّ بكثير الشكّ في هذا الحكم أم لا؟ بعد الفراغ‌

٣٦٥

عن عدم إلحاق كثير القطع به يقينا ، بل عدم إمكانه ، لعدم إمكان سلب الحجّية عن القطع ولو كان قطّاعا ، أي كثيرا ما يحصل له القطع من أسباب لا توجب القطع عند أهل العرف والمتعارف من الناس ، بخلاف الظنّ فإنّه يمكن تقييد حجّيته بما إذا كان حاصلا من أسباب متعارفة عند أغلب الناس.

فالدليل الذي يدلّ على حجّية الظنّ في عدد الركعات أو في أفعال الصلاة وإن قلنا بأنّه يمكن أن يقيد بالظنّ المتعارف لا مطلق الظنّ ، ولكن صرف الإمكان لا يثبت كونه ـ أي كثير الظنّ ـ مثل كثير الشكّ وأن لا يعتني بظنّه ، مثلا لو كان كثير الظنّ وظنّ بعدم الركوع مع عدم التجاوز عن المحلّ فيحكم بعدم اعتبار هذا الظنّ ويقال بوجود الركوع وصحّة الصلاة ، بل يحتاج اتّحاد كثير الظنّ مع كثير الشكّ في هذا الحكم ـ أي عدم الاعتناء باحتمال العدم إذا كان العدم مضرّا بالصحّة ، وعدم الاعتناء باحتمال الوجود إذا كان الوجود مضرّا بالصحّة ـ إلى دليل على ذلك. والأخبار المتقدّمة ـ التي كانت دالّة على عدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ـ لا تدلّ على ذلك ، لخروج كثير الظنّ عن موضوع كثير الشكّ.

هذا إذا كان الظنّ حجّة ، وأمّا إذا لم يكن حجّة فهو في حكم الشكّ بل هو هو ، لأنّه ليس المراد من الشكّ تساوي الاحتمالين كي لا يشمل الظنّ ، فإنّه معنى اصطلاحي عند المنطقيين والأصوليين ، وإلاّ ففي العرف الشكّ خلاف اليقين فيشمل الظنّ والوهم.

فبناء على هذا لو قلنا بعدم حجّية الظنّ في أفعال الصلاة ، فلو ظنّ بعدم القراءة مثلا وكان في المحلّ أي كان قبل الدخول في قراءة السورة ظنّ بعدم قراءة فاتحة الكتاب ، أو ظنّ بعدم قراءة السورة قبل الدخول في الركوع ، فلو لم يكن كثير الظنّ فمقتضى الشكّ في المحلّ أن يأتي بالمشكوك ، وأمّا لو كان كثير الظنّ والمفروض عدم حجّية الظن في الأفعال فيجب المضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالظنّ بالعدم ، لشمول قوله عليه‌السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك ».

٣٦٦

نعم ، إذا قلنا بحجّية الظنّ في أفعال الصلاة ـ كحجّيته في عدد الركعات ـ قامت الحجّة على العدم في المثل المذكور ، فكيف يمكن أن يقال بعدم الاعتناء بمثل هذه الحجّة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ دليل وجوب المضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالشكّ في مورد كثير الشكّ حاكم على دليل اعتبار الظنّ في أفعال الصلاة ، أي يخرج كثير الظنّ عن تحت دليل اعتبار الظنّ وحجّيته تعبّدا ، فكأنّه قيد دليل اعتبار الظنّ بعدم كونه من كثير الظنّ.

وننكر ما اعتذرنا سابقا لعدم الحكومة بخروج كثير الظنّ عن موضوع كثير الشكّ ، وهذا الإنكار في محلّه وصحيح ، لما قلنا من أنّ الشكّ لغة وعرفا يشمل الظنّ والوهم ، لأنّه خلاف اليقين.

التاسع : في أنّه لو كان كثير الشكّ في أصل وجود الصلاة ـ بمعنى أنّه كثيرا يشكّ مثلا في أنّه صلى صلاة الظهر أم لا ، وهكذا في سائر الصلوات ـ فهل تجري هذه القاعدة ، أي يحكم بوجود تلك الصلاة أم لا؟

الظاهر عدم الجريان ، لأنّ قوله عليه‌السلام « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » أنّ كثرة الشكّ تكون في صلاته ، لا في أصل وجود الصلاة. وهذا بقرينة الحكم المترتّب على هذا الموضوع ، لأنّ الحكم قد يضيّق الموضوع مع سعته في حدّ نفسه ، مثل « لا تمش مع أحد » فإنّ لفظ « أحد » بحسب مفهومه اللغوي والعرفي يشمل الأحياء والأموات ، ولكن بقرينة الحكم ـ أي لا تمش ـ يختصّ في المثل المذكور بالأحياء. وهاهنا جملة « إذا كثر عليك السهو » حيث لم يذكر فيها متعلّق السهو ففيه إطلاق يشمل السهو في أفعال الصلاة وعدد ركعاتها وأصل وجود الصلاة ، ولكن حكمه عليه‌السلام بقوله : « فامض في صلاتك » يخصّصه بأفعال الصلاة وركعاتها ، لأنّه إذا شكّ في أصل الصلاة فلا يبقى مورد لقوله عليه‌السلام : « امض في صلاتك » وهذا واضح جدا.

٣٦٧

وأمّا مسألة عموم التعليل فالتمسّك به لا مجال له ، لما ذكرنا من أنّه حكمة التشريع وليس من قبيل علّة الحكم ، وإلاّ فكان الواجب إجراءها في كلّ مركّب ، عبادة كانت أو معاملة ، في أجزائها وشرائطها ومقدّماتها الخارجيّة. وأصل وجود كلّ شي‌ء يكون للحكم بوجوده أثر شرعي مركّبا كان أو بسيطا ، وليس الأمر كذلك قطعا.

وتقدّم الكلام في هذا الموضوع عند ما تكلّمنا في جريان هذه القاعدة وعدمه في سائر المركّبات غير الصلاة والمقدّمات الخارجيّة للصلاة ، واخترنا عدم الجريان.

العاشر : في أنّه وردت روايات فيها الأمر بالإدراج ، أي التخفيف في الصلاة كي لا يقع في الشكّ كثيرا ، وكذلك الأمر بالإحصاء بالحصى لأجل هذه الجهة ، وكذلك استحسان التخفيف في الصلاة من أجل السهو ، فهل هذه الأمور واجبة أم لا؟

فالأوّل : أي الأمر بالإدراج كما في خبر الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السهو؟ قلت : فإنّه يكثر عليّ ، فقال عليه‌السلام : « أدرج صلاتك إدراجا » قلت : وأي شي‌ء الإدراج؟ قال : « ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود » (١).

وأمّا الثاني : فكما في خبر حبيب الخثعمي قال : شكوت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام كثرة السهو في الصلاة ، فقال : « أحص صلاتك بالحصى » أو قال : « احفظها بالحصى » (٢).

والثالث : كما عن الحلبي أيضا في خبره الآخر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ينبغي تخفيف الصلاة من أجل السهو » (٣).

والاحتمالات في هذه الروايات إمّا الحمل على الإرشاد من دون أن يكون أمر‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٥٩ ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح ٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٤٤ ، ح ١٤٢٥ ، باب أحكام السهو ، ح ١٣ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٥ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ٢٢ ، ح ٣.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٤٨ ، ح ١٤٤٤ ، باب أحكام السهو ، ح ٣٢ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٤٣ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ٢٨ ، ح ١.

(٣) « الفقيه » ج ١ ، ص ٥٦٧ ، باب نوادر الصلوات ، ح ١٥٦٦ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٥ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ٢٢ ، ح ٢.

٣٦٨

مولوي في البين ولو استحبابيّا ، أو الحمل على الاستحباب ، أو الحمل على بعض مراتب الشكّ النازلة عن مرتبة كثير الشكّ المأمور بعدم الاعتناء بذلك الشك ، وذلك لأنّ الإحصاء والتخفيف نوع اعتناء.

أمّا الحمل على الوجوب المولوي فلا يلائم مع قوله عليه‌السلام في رواية الحلبي الثانية « ينبغي » ، لأنّ كلمة « ينبغي » ظاهرة في عدم الوجوب ، بل وكذلك كلمة « لا بأس » في خبر المعلى ، سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال له : إنّي رجل كثير السهو ، فما أحفظ صلاتي إلاّ بخاتمي أحوّله من مكان إلى مكان؟ فقال عليه‌السلام : « لا بأس » (١).

والظاهر من هذه الاحتمالات هو الإرشاد إلى طريق تسلّم صلاته من وقوع الخلل والنقصان فيها.

الجهة الثالثة

في بيان نسبة هذه القاعدة مع الأدلّة الأوليّة ، وموارد تطبيقها‌

فنقول‌ : أمّا نسبتها مع الأدلّة الأوليّة فهي الحكومة ، من جهة أنّ المراد من الأدلّة الأوّليّة في المقام هي الأدلّة التي مفادها ترتّب حكم على الشكّ ، ففي الشكّ في عدد الركعات عبارة عن الأدلّة التي مفادها البناء على الأكثر ثمَّ تدارك ما احتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، وفي الشكّ في أفعال الصلاة من الأجزاء والشرائط عبارة عن الأدلّة التي مفادها إتيان المشكوك إذا كان الشكّ في المحلّ.

ودليل القاعدة لو كان نفي الشكّ عن كثير الشكّ كما هو المشهور والمتداول في الألسنة لكانت حكومته على الأدلّة الأوّليّة في جانب الموضوع واضحة ، لأنّ موضوع الأدلّة الواقعيّة هو الشكّ ، إمّا الشكّ في عدد الركعات ، أو الشكّ في الأفعال لكن قبل‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ١ ، ص ٢٥٥ ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّي فيه من الثياب ... ، ح ٧٨١ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٤٣ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ٢٨ ، ح ٢.

٣٦٩

تجاوز المحلّ ، ودليل القاعدة يرفع الشكّ تعبّدا ، وهو معنى الحكومة بالتضييق في جانب الموضوع من الأقسام الثمانية للحكومة.

وقد شرحنا الحكومة وأقسامها في كتابنا « منتهى الأصول » (١) ومن أراد فيراجع.

ولكن لم نجد في أدلّة القاعدة وأخبار الباب ما يكون لسانه نفي الشكّ عن كثير الشكّ صريحا ، وإنّما الموجود في أخبار الباب التي هي أدلّة عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ ثلاث عبارات : أحدها : « يمضي في شكّه ». ثانيهما : « امض في صلاتك » أو « فليمض في صلاته » بصورة أمر الحاضر تارة ، وأمر الغائب أخرى. ثالثها : « يمضي في صلاته » بصورة الجملة الخبريّة.

والفرق بين الثالث والأوّل هو أنّ الأوّل كانت العبارة « يمضي في شكّه » والثالث « يمضي في صلاته » وإلاّ فالاثنان بصورة الجملة الخبريّة ، والمستفاد من العبارات الثلاث هو المضي وعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ، فإذا كان معنى المضي وعدم الاعتناء بالشكّ هو نفي الشكّ ورفعه في عالم التشريع فتكون هذه الأخبار ـ التي هي أدلّة القاعدة ـ حاكمة على الأدلّة الأوّليّة.

وأمّا إذا كان معناه رفع حكم الشكّ عن كثير الشكّ بدون تصرّف في كونه شاكّا ولو تعبّدا فيكون تخصيصا لا حكومة. والظاهر هو الأوّل.

وأمّا موارد تطبيقها : أمّا بطور الإجمال : ففي كلّ مورد شكّ في أيّ جزء من أجزاء الصلاة ، أو شرائطها ، أو أيّ مقدّمة من مقدّماتها الداخليّة وكان الشكّ قبل تجاوز المحلّ الذي مقتضي القواعد الأوّليّة لزوم تداركها ، فإذن كان كثير الشكّ لا يعتني بشكّه ويمضي في شكّه. وكذلك في عدد الركعات لا يعتني بشكّه ويمضي في صلاته ، بمعنى ما ذكرنا من أنّه يبني على عدم ما يضرّ وجوده بالصحّة ، وعلى وجود ما يضرّ عدمه بها ، فهذا هو معنى المضي في صلاته ، وهذا هو البناء على الصرفة.

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٥٣٥.

٣٧٠

وأمّا بطور التفصيل : فقد يكون الشكّ في عدد الركعات ، وقد يكون في الأفعال.

أمّا الأوّل [ أي الشك في عدد الركعات ] فلو شكّ في صلاة الصبح مثلا بين الواحد والاثنين بمعنى أنّ ما بيده هل هي الركعة الأولى أو الثانية ، وحيث أنّ مرجع هذا الشكّ إلى احتمال عدم الإتيان بالثانية ، وأيضا حكم الشكّ في الثنائيّة والثلاثيّة كالصبح والمغرب هو البطلان ، فمعنى عدم اعتنائه بشكّه لأنّه كثير الشكّ فرض الشكّ كالعدم ، فبطلان الصلاة الذي كان حكم الشكّ يرتفع بارتفاع موضوعه في عالم التشريع.

وأيضا معنى رفع هذا الشكّ تعبّدا وفي عالم التشريع يرجع إلى رفع احتمال عدم الثانيّة ، وهذا معناه وجود الثانيّة تعبّدا ، فلو شكّ في صلاة الصبح بين الواحد والاثنين فالصلاة ليست باطلة ، بل يجب عليه أن يبني على الاثنتين ويتمّ الصلاة.

ولا فرق في كون حدوث هذا الشكّ في حال الجلوس ، أي بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية ، أو كان في حال القيام.

ولو كان هذا الشكّ ـ أي الشكّ بين الواحد والاثنتين ـ في صلاة المغرب أيضا يكون الأمر كما ذكرنا في صلاة الصبح ، أي هذه القاعدة ترفع البطلان واحتمال عدم الثانية ، فيجب عليه البناء على صحّة الصلاة والاثنتين.

وأمّا لو كان هذا الشكّ في غير صلاة الصبح وغير المغرب ، أي كان في الرباعيّات وحيث أنّ حكم الشكّ أيضا فيها البطلان ـ لأنّ الشكوك الصحيحة في الرباعيّات بعد إحراز الاثنتين وبعد إكمال السجدتين ـ فالأمر كما في صلاة الصبح والمغرب ، أي ترفع هذه القاعدة كلا الأمرين من البطلان واحتمال عدم الثانية ، فالصلاة صحيحة ويبني على الاثنتين.

هذا كلّه فيما إذا كان شكّ كثير الشكّ بين الواحد والاثنين.

وأمّا لو كان بين الاثنين والثلاثة فإن كان في صلاة الصبح فيبني على الاثنين ، بناء على ما ذكرنا من أنّ مفاد القاعدة رفع احتمال العدم إذا كان العدم مضرّا ، ورفع احتمال‌

٣٧١

الوجود إذا كان الوجود مضرّا لأنّ هذا معنى المضي وعدم الاعتناء بالشكّ ، وحيث أنّ في صلاة الصبح وجود الثالثة مضرّ فهذا الاحتمال ملغا فيبني على الاثنين والصحة ، أمّا الاثنين لما ذكرنا من أنّ احتمال وجود الثالثة حيث أنّه مضر فملغى. وأمّا الصحّة فلأنّ حكم الشكّ في الثنائيّة ـ أي صلاة الصبح ـ والثلاثيّة ـ أي صلاة المغرب ـ هو البطلان ، فهذه القاعدة ترفع هذا الحكم برفع موضوعه تعبّدا وفي عالم التشريع.

وأمّا إن كان هذا الشكّ ـ أي بين الاثنين والثلاث ـ في صلاة المغرب فيبني على الثلاث والصحّة ، أمّا الصحّة فلما ذكرنا في صلاة الصبح عينا. وأمّا البناء على الثلاث فلأنّ هاهنا احتمال العدم مضرّ فيبني على وجودها ، فهذا الشكّ في صلاة المغرب يكون بعكس صلاة الصبح ، لأنّه كان في الصبح يبني على الاثنين ، وفي المغرب يجب البناء على الثلاث ، لما ذكرنا من أنّه يجب البناء على الصرفة لأنّ المتفاهم العرفي من « يمضي في صلاته » أو « يمضي في شكّه » هو هذا المعنى.

وأمّا لو كان هذا الشكّ ـ أي بين الاثنتين والثلاث ـ بعد إكمال السجدتين في الرباعيّات كالظهر والعصر والعشاء ، فحيث أنّ حكم الشك ليس فيها البطلان فهذه القاعدة لا تثبت الصحّة ، لأنّها صحيحة مع قطع النظر عن هذه القاعدة ، وأيضا ليس أثر هذه القاعدة في هذه الصورة هو البناء على الثلاث فقط ، لأنّ هذا أيضا كان مع قطع النظر عن هذه القاعدة ، فالمرفوع بهذه القاعدة في هذه الصورة هو وجوب صلاة الاحتياط ، لأنّه كان أثر هذا الشكّ لو لم يكن كثير الشكّ فيرتفع هذا الأثر بهذه القاعدة.

وأمّا إذا شكّ بين الثلاث والأربع ، فإن كان في صلاة الصبح وكان بعد الدخول في الركوع فهي باطلة ، لزيادة الركوع بل الركعة يقينا. وأمّا إنّ كان قبل الدخول في الركوع ، فيجب عليه هدم القيام ، لعدم كون هذا القيام من الصلاة قطعا ، وإنّما هو زيادة سهويّة فلا يضرّ من هذه الجهة ، وبعد هدمه القيام يرجع شكّه إلى ما بين الاثنتين والثلاث بعد إكمال السجدتين ، وحكم هذا الشكّ وإن كان في حدّ نفسه هو البطلان ،

٣٧٢

لأنّه شكّ في الثنائيّة ـ أي صلاة الصبح ـ ولكن حيث أنّه كثير الشكّ فيرتفع الحكم ببطلان هذه الصلاة لحكومة هذا القاعدة على ذلك الدليل.

ولمّا ارتفع الحكم بالبطلان فاحتمال الثلاثة أيضا يرتفع بهذه القاعدة ، لأنّ وجودها مضرّ لصلاة الصبح ، فإذا ارتفع احتمال الثلاثة بحكم الشارع فالنتيجة صحّة الصلاة والبناء على الاثنتين.

وأمّا إذا كان هذا الشكّ في صلاة المغرب ، ولمّا كان حكم الشكّ فيها هو البطلان كصلاة الصبح فيرتفع بهذه القاعدة ، ولمّا كان احتمال الأربعة مضرّا فهو أيضا يرتفع ، فالنتيجة صحّة الصلاة والبناء على الثلاث.

وأمّا لو كان هذا الشكّ في الرباعيّات ـ أي صلاة الظهر أو العصر أو العشاء ـ فحيث أنّ حكم الشكّ في نفسه مع قطع النظر عن كونه كثير الشكّ هي الصحّة فمن هذه الجهة لا أثر لكونه كثير الشكّ ، كما أنّ حكم الشكّ في هذه الصورة هو البناء على الأربع ، فمن هذه الجهة أيضا غير كثير الشكّ وكثير الشكّ متوافقان ، لما قلنا أنّ معنى عدم الاعتناء بالشكّ والمضي فيه هو البناء على وجود ما يكون عدمه مضرّا ، فاللازم البناء على وجود الرابعة ، فمن هاتين الجهتين لا فرق بينهما ، وهما متوافقان.

نعم الفرق بينهما أنّ في الشكّ المتعارف يجب أن يأتي بصلاة الاحتياط منفصلا ومستقلاّ لتدارك ما احتمل فوته ، وهذا كمال الاعتناء بالشكّ ، ففي كثير الشكّ الذي حكم الشارع بعدم الاعتناء بالشكّ لا يجب عليه شي‌ء أصلا ، وهذا الحكم ـ أي وجوب صلاة الاحتياط ـ مرفوع عنه.

وأمّا الشكّ بين الأربع والخمس ، ففي صلاة الصبح والمغرب موجب للبطلان قطعا ، ووجهه واضح في الشكّ المتعارف وكثير الشكّ. نعم لو كان في حال القيام يمكن أن يقال بوجوب هدم القيام في صلاة المغرب ، لأنّ هذا القيام ليس من الصلاة قطعا ، فإذا هدم يرجع الشكّ إلى ما بين الثلاث والأربع ، فيبني في كثير الشكّ على الثلاث ويلغا‌

٣٧٣

احتمال الرابعة ، لأنّ وجودها مضرّ كما تقدّم شرحه. وأمّا في الشكّ المتعارف فالصلاة باطلة ووجهه معلوم.

وممّا ذكرنا عرفت أنّه لو كان أحد طرفي الشكّ ، أو أحد أطرافه هو الأربع والطرف الآخر أيّ عدد كان زائدا على الأربع وكان في حال القيام ، فالعلاج هدم القيام وتصحيح الصلاة إذا كان كثير الشكّ في صلاة المغرب ، وأمّا في الرباعيّات فيبني على الأربع في أيّ حال كان إذا كان كثير الشكّ. وأمّا في الشك المتعارف فقد تقدّم الكلام فيه في قاعدة البناء على الأكثر.

هذا كلّه في الشكّ في عدد الركعات.

وأمّا الثاني : أي الشكّ في الأفعال : فكذلك أيضا يجب عليه عدم الاعتناء بشكّه والبناء على وجود المشكوك إن كان عدمه مضرّا ، والبناء على عدمه إن كان وجوده مضرّا ، فلو شكّ في أنّه كبّر وكان كثير الشكّ يبني على أنّه كبّر تكبيرة الإحرام ، ولا يجوز له أن يكبّر ثانيا بقصد تكبيرة الإحرام ، لأنّها زيادة عمديّة مبطلة. نعم لو أتى بها من باب الاحتياط وبرجاء إدراك الواقع ثمَّ تبيّن أنّه لم يأت بها ، فالظاهر أنّ صلاته صحيحة ، ولا تجب الإعادة.

ولو شكّ في أنّه قرأ فاتحة الكتاب أو السورة ، فإن كان الشكّ في فاتحة الكتاب قبل الدخول في السورة ، والشكّ في السورة كان قبل الدخول في الركوع في الركعة الأولى أو قبل الدخول في القنوت في الركعة الثانية ـ وبعبارة أخرى كان قبل تجاوز المحلّ ـ فيبني على وجود المشكوك ، إذ عدمه مضرّ بالصحّة ، فيبني على وجوده وإن كان الشكّ في المحلّ.

ولو شكّ في الركوع فيبني على إتيانه وإن كان في المحلّ ، لعين ما ذكرنا من وجوب عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه ، مضافا إلى ورود النصّ في المقام وفي الشكّ في السجود بقوله عليه‌السلام في موثّق عمّار عن الصادق عليه‌السلام : « لا يسجد ولا يركع ويمضي في صلاته حتى‌

٣٧٤

يستيقن يقينا » (١).

ولو شكّ في السجود سواء أكان المشكوك سجدة واحدة أو سجدتين يبني على الإتيان. وقد عرفت آنفا النهي عن الإتيان بها أو بهما ثانيا في خبر عمّار ، وهكذا الحال لو شكّ في التشهّد والتسليم أو في جزء منهما بعين ذلك الدليل.

ولو شكّ في وجود مانع كالتكلّم بكلام الآدمي ، أو تنجّس بدنه أو لباسه مثلا ، أو وجود حدث أو استدبار مثلا وكان كثير الشكّ فيبني على عدمه ، لأنّ هذا معنى عدم الاعتناء بالشكّ والمضيّ فيه حسب المتفاهم العرفي ، لأنّ العرف يفهم من عدم الاعتناء بالشكّ والمضي فيه أنّ ما هو مشكوك الوجود إذا كان شي‌ء مضرّ وجوده ، يبنى على عدمه ، وإذا كان مضرّا عدمه يبنى على وجوده ، وبعبارة أخرى : معنى عدم الاعتناء إلغاء احتمال المضرّ.

هذا في الأجزاء والموانع والقواطع.

أمّا الشرائط : فالداخلية منها حالها حال الأجزاء ، فلو شكّ كثير الشكّ في الستر ، أو طهارة البدن ، أو اللباس ، أو الاستقبال ، أو الجهر في الجهرية ، أو الإخفات في الإخفاتيّة ، أو الموالاة ، أو الترتيب ، أو غير ذلك من الشرائط الداخلية ، فيبني على وجودها ، فإنّ هذا معنى المضي في الصلاة وعدم اعتنائه بشكّه.

وأمّا الشرائط الخارجيّة : والمراد بها ما يكون لها وجود مستقلّ في خارج الصلاة كالوضوء والغسل والتيمم ، مقابل الشرائط الداخليّة التي ليس لها وجود مستقلّ خارج الصلاة ، مثلا الوقت الذي من شرائط الصلاة عبارة عن كون صلاة الظهر والعصر بين الحدّين ، أي بين زوال الشمس عن دائرة نصف النهار وبين استتارها في الأفق أو ارتفاع الحمرة المشرقيّة إلى ما فوق الرأس ، وهذا المعنى لا يمكن أن يوجد‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ١٥٣ ، ح ٦٠٤ ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ... ، ح ٦٢ ، « الاستبصار » ج ١ ، ص ٣٦٢ ، ح ١٣٧٢ ، باب من شكّ فلم يدر واحدة سجد أم اثنتين ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٠ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ١٦ ، ح ٥.

٣٧٥

إلاّ في نفس الصلاة.

فإن قلنا بعدم شمول هذه القاعدة لها فلا كلام ، وإن قلنا بشمولها لها إذا كان الشكّ فيها في حال الصلاة ، مثلا إذا شكّ أنّه تطهّر عن الحدث الأكبر بالغسل أو التيمّم ، كلّ واحد منهما في محلّه ، أو تطهّر عن الحدث الأصغر بالوضوء أو التيمّم ، كلّ في محلّه أيضا وكان شكّه هذا في حال اشتغاله بالصلاة فيبني على وجودها ، لشمول قوله عليه‌السلام : « يمضي في صلاته » أو « يمضي في شكّه » لمثل هذه الشروط الخارجيّة ، لكن في حال الصلاة ، لأنّه في ذلك الحال يشبه الشروط والمقدّمات الداخليّة ، ولها بالنسبة إلى الصلاة وجود تبعي.

وبعبارة أخرى : الشروط الخارجيّة بالمعنى الذي ذكرنا لها في حال الصلاة ترجع تقريبا إلى الشروط الداخليّة فيلحقها حكمها تبعا ، لأنّ معنى شكّه في الوضوء في حال الصلاة هو أنّ صلاته مع الطهارة أم لا ، غاية الأمر أنّه من أوصاف المصلّي مثل ستر العورة والاستقبال. نعم لو شكّ قبل الصلاة في أنّه تطهّر من الحدث الأكبر أو الأصغر فلا تشمله القاعدة ، كما تقدّم الكلام فيها فلا نعيد.

تنبيهان‌

[ التنبيه ] الأوّل : هو أنّ هذا الحكم ـ أي حكم الشارع بوجوب عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه والمضي في صلاته بمعنى أنّه لو شك في وجود جزء أو شرط يبني على وجوده ولا يعتني باحتمال عدمه ، وأنّه لو شكّ في وجود مانع أو قاطع يبني على عدمه ولا يعتني باحتمال وجوده ـ حكم ظاهري ، فإذا بنى على الوجود فظهر وتبيّن عدم وجوده ، أو بنى على العدم فتبيّن وجوده ، فيعمل بمقتضى ما ظهر وتبيّن.

فإن كان ما بنى على وجوده وظهر خلافه ركنا من الأركان ولم يبق محلّ تداركه ، فصلاته باطلة ، لأنّ نقيصة الركن عمدا وسهوا موجبة للبطلان.

٣٧٦

وأمّا إن لم يكن ركنا ، فإن كان محلّ تداركه باقيا يجب عليه إن يتدارك ما فات ، وإن لم يكن باقيا فإن كان ممّا فيه القضاء فيجب عليه القضاء ، وإن كان ممّا فيه سجدة السهو فيجب عليه سجدتا السهو ، وإلاّ فلا شي‌ء عليه ، ولا إعادة لحديث « لا تعاد الصلاة إلا من خمسة » (١).

وأمّا إن بنى على العدم فبان وجوده يعمل بمقتضى وجوده ، كلّ ذلك من جهة أنّ مفاد هذه القاعدة حكم ظاهري ، والحكم الظاهري ـ كما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي (٢) ـ حكم إثباتي ، لا ثبوت ولا واقع له ، وهو كسراب يحسبه الجاهل حكما ، ولذلك قلنا في مبحث الإجزاء أنّه لا يفيد الإجزاء. والحقّ ما أفاده الشيخ الشهيد قدس‌سره أنّ القول بالإجزاء ملازم مع القول بالتصويب.

التنبيه الثاني : إذا كان كثير الشكّ في شي‌ء لا حكم له ، إمّا من جهة كون الشكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، وإمّا من جهة قيام أمارة على لزوم عدم الاعتناء بذلك الشكّ ، فالأوّل : كما إذا كان شكّه وكثرته في السجدة الثانية دائما بعد الدخول في التشهّد. والثاني : كما لو كانت كثرة شكّ الإمام أو المأموم في جزء مثلا مع حفظ الآخر ، فاتّفق في الأوّل وقوع شكّه في ذلك الشي‌ء ـ أي السجدة الثانية مثلا قبل التشهّد ـ وفي الثاني لو شكّ الإمام مثلا من باب الاتّفاق في جزء مع عدم حفظ من خلفه عليه فهل يجب الاعتناء بهذا الشكّ ـ لعدم كونه كثير الشكّ في هذا الشكّ بالخصوص ، وما كان فيه كثير الشكّ لم يكن له حكم ـ أم لا يجب الالتفات والاعتناء بهذا الشكّ؟ لكونه كثير الشك في هذا الجزء ولو في غير هذا الحال ، أي في غير حال عدم التجاوز في الأوّل ، وفي حال عدم الحفظ في الثاني وجوه وأقوال.

قول بالالتفات مطلقا ، وقول بالعدم مطلقا ، وقول بالتفصيل بين القسمين ، ففيما كان‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٠٣ ، رقم (٢).

(٢) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٥٣٥.

٣٧٧

من قبيل القسم الأوّل ، أي لا حكم له في حدّ نفسه يجب الالتفات ، فإذا اتّفق وقوع الشكّ لكثير الشكّ في ذلك الجزء قبل تجاوز المحلّ يجب عليه أن يأتي به.

وأمّا فيما إذا كان من القسم الثاني ، أي فيما إذا كانت أمارة على إلغاء الشكّ وعدم الاعتناء به فلا يجب الالتفات إليه.

واختار شيخنا الأستاذ قدس‌سره هذا التفصيل ـ معلّلا بأنّ الشكّ في القسم الأوّل نوعان بخلاف القسم الثاني ـ وهو عجيب ، والظاهر هو عدم الاعتناء مطلقا لكونه كثير الشكّ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

٣٧٨

فهرس الموضوعات

٣٧٩
٣٨٠