القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

معيّنة ، فلا نعيد.

وقد يقال بوجه آخر لاعتبار هذه القاعدة من الطرفين ، وهو أنّه يستفاد من مجموع أخبار هذا الباب أنّ صلاة الإمام مع صلاة المأموم كأنّهما صلاة واحدة وصادرة من شخص واحد ، وبعبارة أخرى : كان المصلّي واحد ، ولذلك تكون قراءة الإمام بدلا عن قراءة المأموم ، فكأنّه هو قرأ ، فبناء على هذا يكون حفظ أحدهما حفظ الآخر ، فيجب على كلّ واحد منهما آثار حفظ نفسه ـ وإن كان شاكّا ـ عند حفظ الآخر ، لما ذكرنا من أنّ حفظ كلّ واحد منهما يكون بمنزلة حفظ الآخر ، فيجب على كلّ واحد منهما إلغاء شكّ نفسه وعدم الاعتناء بشكّه إذا كان الآخر حافظا ، فيرتّب آثار الحفظ مع أنّه شاكّ ويلغى آثار الشكّ.

فلو شكّ أحدهما في الأوليين يلغى أثر الشكّ الذي هو البطلان ، ويراجع إلى حفظ الآخر فيبني على صحّة صلاته ، مع أنّه شكّ في الأوليين.

ولو شكّ في الأخيرتين يلغى أثر الشكّ ، وهو البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط منفصلة ومستقلّة ، بل يرجع إلى حفظ الآخر ويتمّ صلاته ولا شي‌ء عليه ، لما ذكرنا من أنّ حفظ الآخر يحسب حفظه ، فكأنّه ليس بشاكّ.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام وإن كان استحسانا حسنا ولكن صرف الاستحسان والظنّ بالملاك لا يمكن أن يكون مدركا للحكم الشرعي ، ويحتاج إلي ورود دليل على ذلك وأنّ حفظ كلّ واحد منهما يحسب حفظا للآخر. نعم هذا الحكم في الجملة مورد الاتّفاق وظاهر الروايات المعتبرة التي ذكرنا بعضها.

[ الجهة ] الثانية

في مفادها وتوضيح المراد منها‌

وهو يتوقف على ذكر أمور‌ :

٢٨١

الأوّل : في أنّه هل يعتبر في رجوع الإمام إلى المأموم أن يكون المأموم عادلا ، أو يجب الرجوع إليه وإلغاء شكّه إن كان حافظا وان لم يكن عادلا؟

وكذلك يعتبر في الرجوع إليه في شكّه مع حفظه أن يكون رجلا ، أو يجب وإن كان امرأة؟

وكذلك يعتبر في الرجوع إليه أن يكون بالغا ، أو يجب الرجوع إليه وإن كان صبيّا؟

وحيث أنّ العمدة في دليل هذه القاعدة ، الأخبار الواردة في هذا الباب فلا بدّ من ملاحظتها أنّه هل لها إطلاق يشمل الشقوق المذكورة الثلاثة ، أي كون المأموم فاسقا أو امرأة أو صبيا ، أم لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجميع ، أولها إطلاق بالنسبة إلى بعضها دون بعض؟

فنقول : لا شك في أنّ قوله عليه‌السلام في مرسلة يونس : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه » له إطلاق في حدّ نفسه يشمل الأقسام الثلاث ، أي الفاسق والصبي والامرأة ، لأنّ عنوان « من خلفه » عنوان عامّ ينطبق على الأصناف الثلاث نحو انطباقه على ما يقابل هذه الأصناف.

فشمول « من خلفه » للعادل وغير العادل ، وللبالغ وغير البالغ إذا كان مميّزا خصوصا إذا قلنا بشرعيّة عباداته ، وللرجل والامرأة على نسق واحد ، ولا طريق لإنكار الإطلاق إلاّ دعوى الانصراف ـ في الموصول في من خلفه ـ إلى غير هذه الأصناف الثلاثة. وهو كما ترى ، خصوصا الانصراف إلى المأموم العادل ، مع أنّ الغلبة في المأمومين في أغلب الأعصار والأمصار لغير العدول.

وأمّا ادعاء أنّ اشتراط كونهم عدول في رجوع الإمام إليهم لأجل حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم ـ وغير العادل لا يحصل الوثوق من قوله ـ ففيه : أنّ الرجوع إلى المأمومين ليس من باب الشهادة ، ولا من باب حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم ، ولذلك لو كانوا عدولا وكانوا حافظين على الإمام سهوه يجب الرجوع إليهم ولو لم‌

٢٨٢

يحصل الوثوق والاطمئنان من قولهم ، بل ولو لم يحصل الظنّ من قولهم ، كما سيجي‌ء ونتكلّم فيه إن شاء الله ، بل حكم تعبّدي يمكن أن يكون حكمته ما تقدّم من أنّ صلاتهما كأنّهما صدرت من شخص واحد ، ولذلك قراءة الإمام تكون بدلا عن قراءته ، فمن هذه الجهة جعل حفظ أحدهما بمنزلة حفظ الآخر ولو لم يحصل له ظنّ ، فضلا عن الوثوق والاطمئنان.

والحاصل ، أنّ ادّعاء الانصراف إلى العدول ، أو كون مناط اشتراط كونهم عدولا في الرجوع إليهم حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم بعيد عن الصواب.

وأمّا الانصراف إلى البالغين وعدم شمول الموصول في « من خلفه » لغير البالغين ، فإن قلنا بعدم شرعيّة عبادات الصبي وان كان مميّزا عاقلا كاملا بل كان مجتهدا فهو كلام حقّ لا محيص عنه ، لعدم كون صلاته صلاة حقيقيّة ، بل هو صرف صورة الصلاة لأجل التمرين ، فليس بمأموم حقيقة حتّى يرجع الإمام إليه.

نعم لو كان المناط حصول الوثوق ، ربما يحصل الوثوق من قول بعض الصبيان أكثر ، ولكن عرفت أنّه ليس بمناط ، فادّعاء الانصراف عن غير البالغين ـ خصوصا إذا كان أقلّ من زمان البلوغ بمدة قليلة ، مثل ساعة بل ومثل يوم ـ فلا شاهد له إنصافا.

وأمّا الانصراف عن المرأة فالظاهر أنّه لا وجه له إلاّ غلبة الوجود ، بمعنى أنّ المأمومين غالبا هم الرجال ، والنساء قليلون.

وهو كما ترى ، لأنّ غلبة الوجود ليس موجبا للانصراف ، كما حقّق في محلّه.

فالحقّ شمول القاعدة للمأموم مطلقا ، عادلا كان أم غير عادل ، رجلا كان أو امرأة ، صبيان كان أو بالغا ، فالمراد بـ « من خلفه » أعمّ من جميع ذلك.

الثاني : أنّه ما المراد من السهو في قوله عليه‌السلام : « لا سهو للإمام » أو قوله : « لا سهو للمأموم » المستفاد من روايات الباب.

فنقول : الظاهر من قوله عليه‌السلام « ليس على الإمام سهو إذا حفظ من خلفه عليه‌

٢٨٣

سهوه » في مرسلة يونس ، المراد به الشكّ يقينا ، لأنّ الراوي سأل عن الإمام المعتدل الوهم بالنسبة إلى مقالة كلتا الطائفتين من المأمومين ، حيث أنّ طائفة منهم يقولون : قوموا ، أي يدّعون أنّ ما بيدهم هي الركعة الثالثة ولذلك يقولون : قوموا ، والطائفة الأخرى يقولون : أقعدوا ، أي يدّعون أنّ ما بيدهم هي الرابعة ، والإمام إمّا مائل إلى إحدى الطائفتين ، أو معتدل الوهم. ومعلوم أنّ هذا فرض شكّ الإمام لا فرض نسيانه ، هذا أولا.

وثانيا : أنّه لو كان المراد من السهو خصوص النسيان ، أو الأعمّ منه ومن الشكّ ، فيكون مفاد « لا سهو » أي لا حكم لسهوه ، أي إذا نسي جزء أو شرطا ، ركنا كان أو غيره فتذكر في المحلّ فلا يجب عليه أن يأتي به ، أو إذا كان له القضاء فلا يجب قضائه ، أو إذا كان موجبا لسجدتي السهو فلا يجب على الإمام ، وهكذا سائر أحكام النسيان ، وهذه الأمور ممّا لا يمكن الالتزام بها.

هذا مضافا إلى أنّ تعليق رفع حكم النسيان على حفظ المأمومين عليه نسيانه لا بدّ وأن يكون المراد منه أنّ الناسي يرجع إلى حفظ المأمومين ، كما أنّه لو كان المراد من السهو هو الشكّ معناه أنّه لا يعتني بشكّه بأن يعمل بحكم الشاكّ ويبني على الأكثر ، بل يرجع إلى حفظ المأمومين ويعمل على طبق حفظ المأمومين ، سواء كانوا قاطعين أو ظانّين ، على تقدير صدق الحفظ على الظنّ.

فلو كان المراد من السهو خصوص النسيان ، أو الأعمّ من الشكّ والنسيان ، فمعنى التعليق على حفظ المأمومين أنّه يرجع فيما نسيه إلى حفظهم.

وهذا بالنسبة إلى الناسي غير معقول ، لأنّ الناسي لا يلتفت إلى نسيانه بخلاف الشاكّ فإنّه يلتفت إلى كونه شاكّا فيبني على حفظ المأمومين ، أي على ما اعتقدوا من عدد الركعات.

وخلاصة الكلام : أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ المراد من السهو في هذه القاعدة هو‌

٢٨٤

الشكّ ، فتكون هذه القاعدة حاكمة على أدلّة البناء على الأكثر في الشكوك الصحيحة ، أي يخرج شكّ الإمام مع حفظ المأموم ، أو شكّ المأموم مع حفظ الإمام عن موضوع البناء على الأكثر تعبّدا ، فيجب البناء من كلّ واحد من الإمام والمأموم على حفظ الآخر ، سواء كان المحفوظ طرف الأقلّ من شكّه أو طرف الأكثر.

الثالث : أنّ المراد بالحفظ هل هو خصوص اليقين أو يشمل الظنّ أيضا؟ فلو شكّ الإمام أو المأموم في عدد الركعات ، وظنّ الآخر قدرا معيّنا كالثلاث أو الأربع مثلا فيجب رجوع الشاكّ منهما إلى الآخر الظانّ ، لا يبعد أن يكون المراد منه ما هو الأعمّ من اليقين والظنّ ، وذلك من جهة حجّية الظنّ في عدد الركعات إذا كان متعلّقا بإحدى الأخيرتين ، فإذا كان فالظنّ يقوم مقام العلم في إثبات متعلّقه ، فيخرج في عالم الإثبات عن الترديد ويثبت عنده ما تعلّق به الظنّ من العدد ، وهذا هو الحفظ ، لأنّ المراد من الحفظ بالنسبة إلى عدد الركعات هو أن يكون العدد محفوظا عنده ، لا يحتمل أن يكون أقلّ منه ولا أكثر منه.

وهذا المعنى في العلم وجداني وتكويني ، وفي الظنّ تعبّدي وجعلي ، فهو ـ أي الظنّ ـ أيضا مصداق للحفظ تعبّدا ، فبناء على هذا فلو شكّ الإمام أو المأموم في أنّه كم صلّى يجب أن يرجع إلى ظنّ الآخر.

الرابع : في أنّه هل هذه القاعدة تجري في الشكّ في الأفعال ، أو مخصوصة بالشكّ في عدد الركعات؟

قال في الجواهر : ويظهر من صاحب المدارك بل هو المنقول عن جدّه أيضا ، بل ربما تبعه عليه بعض من تأخّر عنه أنه لا فرق في الحكم بين الأفعال والركعات. بل نسبه في المدارك إلى الأصحاب ، وهو لا يخلو من تأمّل ، للشكّ في شمول الأدلة لها انتهى (١).

ومراده قدس سرّه من الأدلة الإجماع والأخبار الواردة في هذا الباب.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ١٢ ، ص ٤١١.

٢٨٥

أمّا الإجماع على تقدير صحّة الاستدلال به والإغماض عمّا استشكلنا عليه فغير معلوم التحقّق في الشكّ في الأفعال ، والقدر المتيقّن على تقدير وجوده هو في الشكّ في الركعات.

وأمّا الأخبار فعمدة الدليل منها على هذه القاعدة هو مرسلة يونس ، وصحيحة عليّ بن جعفر ، ومورد كليهما خصوص مورد الشكّ في عدد الركعات ، لا الشكّ في الأفعال.

إن قلت : إنّ الجواب في المرسلة الذي هو مدرك استفادة هذا الحكم عامّ يشمل الركعات والأفعال ، لأنّ قوله عليه‌السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه » وكذلك في طرف المأموم قوله عليه‌السلام : « وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام » (١) لم يذكر متعلّق السهو أنّه خصوص الركعات أو الأعمّ منها ومن الأفعال ، فلفظ السهو مطلق ، سواء أكان متعلّقه الركعات أو الأفعال.

فمعنى رفع السهو ـ أي الشكّ ـ بناء على ما تقدّم من معناه ، هو رفع الحكم المترتّب شرعا على الشكّ ، والحكم المترتّب شرعا على الشكّ إن كان متعلّق الشك هو الركعات هو البناء على الأكثر ، إن كان الشكّ من الشكوك الصحيحة والخمسة المعروفة.

فحفظ كلّ واحد منهما موجب لرفع وجوب البناء على الأكثر عن شك الآخر إذا كان شكّه متعلّقا بعدد الركعات. والحكم المترتّب شرعا على الشك في وجود جزء أو شرط إذا كان الشكّ في المحلّ إتيان ذلك الجزء أو ذلك الشرط ، فحفظ كلّ واحد منهما يرفع هذا الأثر عن شكّ الآخر ، فلا يجب الإتيان به ، ولو كان الشكّ في المحلّ فلا قصور في دلالة المرسلة على العموم وشمولها للشكّ في الأفعال أيضا.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٧٩ ، رقم (١).

٢٨٦

نعم لا يستفاد العموم من صحيحة علي بن جعفر (١) ، لأنّ السائل سأل عن مورد خاصّ وأنّه هل هناك في مفروضه أثر لشكّه؟ فأجابه عليه‌السلام بقوله : « لا » فلا عموم في البين.

قلنا : إنّ ما ذكرت صحيح ، ولكن وحدة السياق قرينة على الأخذ بخصوصيّة المورد ، وموجبة لعدم ظهوره في الإطلاق ، لأنّ قوله عليه‌السلام بعد هذه الجملة : « لا سهو في سهو ، وليس في المغرب سهو ، ولا في الركعتين الأوليين من كلّ صلاة سهو ، ولا سهو في نافلة » كلّها راجع إلى نفي حكم الشكّ في عدد الركعات ، أي صلاة الاحتياط ولا ربط لها بحكم الشكّ في الأفعال أي الإتيان بالجزء أو بالشرط الذين شكّ في إتيانهما ، فليس دليل على رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما في الأفعال.

وهذا ، أي عدم الدليل على رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما في الأفعال هي العمدة في اختصاص الرجوع بالشكّ في الركعات ، لأنّه لا يصحّ الرجوع إلى شخص آخر ورفع حكم الشكّ عن نفسه مع شمول عموم ما دلّ على لزوم إتيان ما شكّ في وجوده إذا كان شكّه لم يتجاوز المحلّ ، إلا بدليل يكون حاكما على تلك القاعدة أو مخصّصا ، فلو لم يكن دليل في البين لا بدّ من الأخذ بذلك العموم.

وأمّا ما ربما يقال من الفرق بين الركعات والأفعال بأنّ رجوع الشاكّ إلى الحافظ في الأوّل موافق مع الاعتبار ، دون الثاني ، وذلك من جهة اتّحاد الركعة بين الإمام والمأموم لأنّ الركعة التي هي للإمام هي بعينها ركعة المأموم ، وكذلك العكس ، فحفظ أحدهما لركعته حفظ للآخر ، لأنّ هذه الركعة كما تكون له كذلك تكون للآخر.

وبعبارة أخرى : هذه الركعة التي بيد الإمام وبيد المأموم المقتدي بذلك الإمام يحسب ركعة لكل منهما ، فهذه الركعة يصحّ أن ينسب إلى كلّ واحد منهما ، فحفظ كلّ‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٥٠ ، ح ١٤٥٣ ، باب أحكام السهو ، ح ٤١ ، وج ٣ ، ص ٢٧٩ ، ح ٨١٨ ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح ١٣٨ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٨ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ٢٤ ، ح ١.

٢٨٧

واحد منهما لها يكون حفظا للآخر ، وهذا بخلاف الأفعال ، فإنّه بناء على عدم لزوم المتابعة في الأقوال والأفعال مع بقاء الاقتداء والجماعة فيمكن أن تكون السجدة الأولى لأحدهما والثانية للآخر.

وفيه : أنّ المراد بوحدة الركعة التي يقتدي فيها المأموم مع الركعة التي يوجدها الإمام إن كان أنّ ما يصدر من الإمام واحد مع ما يصدر من المأموم بصرف أنّه يتبعه في القيام والركوع فهذا واضح البطلان.

وإن كان المراد وحدتهما من حيث مرتبة العدد مثلا ثالثة الإمام وثالثة المأموم ، فهذا قد يكون وقد لا يكون ، لأنّه قد يكون ثالثة الإمام أو رابعته والثانية أو الأولى من المأموم ، كما أنّه لو اقتدى به والإمام في الثالثة ، فيكون الأولى للمأموم والثالثة للإمام ، وما بعدها الرابعة للإمام والثانية للمأموم ، فلا يمكن التفرقة بين الركعات والأفعال من هذه الجهة والقول بالرجوع في الأوّل دون الثاني.

كما أنّه لا وجه للاستدلال للعموم وشمول الأفعال كالركعات بوحدة الملاك والمناط فيهما بأن يقال : مناط الرجوع في الركعات هو محفوظيّة الركعات عند الآخر فكأنّه حفظ الآخر علّة لرجوع الشاك منهما إليه ، والعبرة بعموم العلة لا بسعة الموضوع وضيقه.

لأنّ هذا الكلام صحيح فيما إذا كان الكبرى المجعول والملقى إلى المكلّف هي العلّة ، وإنّما يلقى إليه الأعمّ أو الأخصّ من العلّة لنكتة ، إمّا لأهميّة ذلك الفرد أو الصنف الملقى ، أو لخفاء مصداقيّته للعلّة ، أو لنكتة أخرى ، فقوله : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » ففي الحقيقة الكبرى الملقى إلى الطرف لا تشرب المسكر ، وهذا في مقام الإثبات لا بدّ وأن يكون إمّا منصوص العلّة بقوله « لأنّه » أو قوله « فإنّه » ، أو كان تنقيح المناط قطعيا الذي يقال له المستنبط العلّة ، وفيما نحن فيه ليس إلاّ صرف استحسان.

وبعبارة أخرى : يكون من باب تخريج المناط الظنّي ، فيكون حاله حال القياس ،

٢٨٨

بل هو هو. فلا طريق إلى إثبات العموم والشمول للأفعال مثل الركعات إلاّ إطلاق الأدلّة ـ أي الروايات ـ أو إطلاق معقد الإجماع ، وقد عرفت أنّ كليهما مفقودان.

الخامس : في أنّه هل تجري هذه القاعدة في الركعتين الأوليين ، أم مختصّة بالأخيرتين؟

الظاهر جريانها فيهما أيضا كالأخيرتين ، ولا وجه للمنع إلاّ ما ربما يتخيل من لزوم سلامتهما وأنهما لو سلمتا سلمت الصلاة وأنّ الشكّ فيهما يوجب البطلان.

ولكن أنت خبير بأنّه بعد حكم الشارع برجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما فيكون حفظه حفظا للشاكّ ، وبعبارة أخرى : يكون حاكما على الأدلّة التي تعتبر سلامتهما وأنّ الشكّ فيهما يوجب البطلان.

وأمّا الدليل على جريانها في الأوليين فهي الإطلاقات ، فإنّ قوله عليه‌السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام » فيه إطلاق بالنسبة إلى الشكّ في الأوليين والأخيرتين.

ولا فرق بينهما في كون الشكّ من الإمام أو المأموم مرفوع حكمه عن كلّ واحد منهما مع حفظ الآخر ، غاية الأمر أنّ الحكم المرفوع في الركعتين الأخيرتين هو البناء على الأكثر ، وفي الأوليين هو بطلان الصلاة وفي كلتا الصورتين يبني الشاكّ منهما على ما حفظه الآخر.

السادس : هل يعتبر في رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما حصول الظنّ للشاكّ بما أخبر به الآخر الحافظ ، أو يجب الرجوع إليه سواء حصل له الظنّ أم لا ، بل بقي بعد الرجوع أيضا على شكّه؟

الظاهر ، بل المسلم عدم اعتبار حصول الظنّ من قوله ، لأنّ موضوع وجوب الرجوع هو كونه شاكّا وكان هو الآخر حافظا ، ولم يعتبر الشارع شيئا آخر في موضوع حكمه.

٢٨٩

هذا ، مضافا إلى أنّه لو حصل له الظنّ وارتفع شكّه فنفس الظنّ بعدد الركعات حجّة ، وليس من باب رجوع الشاكّ إلى من هو حافظ للعدد.

وحاصل الكلام : أنّ أخبار الباب مطلقات من هذه الجهة مفادها وجوب رجوع الشاكّ منهما إلى الآخر الذي هو حافظ للعدد ، سواء حصل له من رجوعه إليه الظنّ أم لا.

السابع : هل إذا كان أحدهما ظانّا والآخر متيقنا يجب رجوع الظانّ إلى المتيقن كرجوع الشاك إليه ، أم لا؟

الظاهر عدم جواز الرجوع ، لأنّ الظانّ هو بنفسه حافظ بواسطة حجية الظنّ في عدد الركعات ، فرجوعه إلى غيره وإن كان ذلك الغير متيقنا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة حاكمة على قاعدة البناء على الأكثر ، فجريانها يكون في مورد لو لم تكن هذه القاعدة تكون وظيفته البناء على الأكثر.

وهاهنا ليس الأمر كذلك ، لأنّ ظنّه حجّة ، ولو لم تكن هذه القاعدة لم تكن وظيفته البناء على الأكثر ، بل كان يجب أن يعمل بظنّه.

وأمّا احتمال أن يكون الحفظ منصرفا إلى الحفظ القطعي لا الظني مضافا إلى أنّ هذا الادعاء باطل ـ لما تقدم في الأمر الثالث ـ لا ربط لها بالمقام ، لأنّ هذا الكلام على فرض صحته تكون نتيجته عدم جواز الرجوع إلى الظانّ ، لا وجوب رجوع الظانّ إلى المتيقن الذي هو المدعى في المقام.

الثامن : لو كان كلّ واحد من الإمام والمأموم شاكا وقامت البينة على التعيين عند أحدهما فهل يجب عليه البناء على ما قامت عليه البينة أم لا؟ ثمَّ على تقدير وجوب بنائه على طبق البينة ، فهل يجب على الآخر الشاكّ الرجوع إلى من قامت عنده البينة أم لا؟

٢٩٠

أقول : أمّا الأوّل ـ أي وجوب البناء على طبق البينة بالنسبة إلى من قامت البينة عنده ـ فممّا لا إشكال فيه أصلا ، وذلك لأنّ دليل اعتبار البينة يخرجه عن كونه شاكّا تعبدا ، ويجعله عالما وحافظا.

وهذا معنى حكومة البينة على الأدلّة المتكفلة لبيان أحكام الشاكّ ، فالشاكّ بعد قيام البينة عنده على تعيين عدد ليس بشاكّ في عالم التشريع ، بل يكون عالما وحافظا للعدد ، فيجب البناء على ما علم بتوسط قيام البينة.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه يجب على الآخر الشاكّ الرجوع إليه ، لأنّه بواسطة قيام البينة عنده صار حافظا ، والمفروض أنّ مفاد الأدلة هو رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما.

التاسع : أنّه بعد الفراغ عن حجية الظنّ في عدد الركعات إذا قامت بينة عند الظانّ منهما على خلاف ظنّه ، هل له أن يعمل على طبق البينة ويترك العمل على طبق ظنّه ، أو لا يجوز ، بل يجب عليه العمل على طبق ظنّه ، أو لا هذا ولا ذاك؟ لأنّه من باب تعارض الأمارتين ، كما أنّه إذا قامت عنده بينتان مختلفتان ، إحديهما تقول إنّ ما بيدك هي الثالثة ، والأخرى تقول بأنّها رابعة فيتساقطان ، وحينئذ إمّا يرجع إلى أمارة أخرى إن كانت ، وإلاّ يعمل عمل الشاكّ فيبني على الأكثر؟ وجوه واحتمالات.

ولكن الظاهر منها هو التساقط ، لأنّه حصل عنده أمارتان متعارضتان كان يجب عليه العمل على طبق كلّ واحد منهما لو لا التعارض ، فيتساقطان بعد عدم إمكان الجمع بينهما وعدم جواز الترجيح بلا مرجح ، فالنتيجة أنّه يبقى على شكّه فيعمل عمل الشاك.

هذا فيما إذا كان الذي هو ظانّ تقوم أمارة عنده على خلاف ظنّه.

وأمّا لو كان أحدهما ظانّا والآخر قامت عنده بينة على خلاف ما ظنّه صاحبه ، فليس لكلّ واحد منهما أن يرجع إلى الآخر ، بل كلّ واحد يعمل على طبق الأمارة التي عنده ، لأنّه بناء على هذا كلاهما حافظان ، فلا معنى لوجوب الرجوع إلى الحافظ ،

٢٩١

فيكون حالهما كما إذا قطع كلّ واحد منهما على خلاف الآخر فيعمل كلّ واحد منهما بقطعه.

العاشر : لا شك في وجوب رجوع الإمام إلى المأمومين إن كانوا متفقين في الحفظ ، بمعنى أنّ كلهم متفقون على أن ما بيدهم هي الركعة الثالثة أو الرابعة مثلا ، سواء كان منشأ اتفاقهم هو القطع ، أو الظنّ ، أو البينة.

وأمّا إذا كانوا مختلفين ، فإن كان بعضهم شاكّا وبعضهم الآخر قاطعا فلا شبهة في وجوب رجوعه إلى القاطعين ، لأنّهم الحافظون ، وأمّا الشاكون فحالهم مثل حاله ، لا حفظ لهم.

وما في ذيل مرسلة يونس من قوله عليه‌السلام « فإذا اختلف على الإمام من خلفه فعليه وعليهم في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم » (١) ليس المراد من الاختلاف هذا المعنى ، بل المراد اختلافهم في الحفظ ، بمعنى أنّ طائفة منهم قاطعون أو ظانون ـ بناء على أنّ الظنّ أيضا حفظ ـ على أنّ الركعة التي بيدهم مثلا هي الثالثة ، وطائفة أخرى قاطعون أو ظانون بأنّ ما في يدهم مثلا هي الرابعة ، وإن كانوا كلهم حافظين ولكنهم مختلفون في الحفظ ، فهل له الرجوع إلى إحدى الطائفتين مخيرا ، أو ليس له الرجوع إليهم أصلا؟

أمّا الرجوع إلى إحديهما معينا ، أي خصوص الطائفة التي يعتقد بالأقلّ ، أو خصوص الطائفة التي يعتقد بالأكثر فواضح البطلان لأنّه ترجيح بلا مرجح.

الظاهر هو الثاني ، أمّا أوّلا : فلأنهم إذا كانوا مختلفين في الحفظ فكلّ طائفة كما أنّه يثبت ما اعتقده تنفي ما اعتقده الأخرى ، فبدلالة المطابقة إخباره بكون ما بيدهم مثلا هي الثالثة يثبت كونه ثالثة ، وبدلالة الالتزام ينفي قول الطائفة الأخرى ، فكلّ واحدة من الطائفتين لو كان حفظه وإخباره حجّة ، فتحصل عند الإمام حجّة على نفي الثالثة‌

__________________

(١) تقدم تخريجه في ص ٢٧٩ ، رقم (١).

٢٩٢

من قول طائفة ، وحجّة أخرى على نفي الرابعة من طائفة أخرى ، والواقع لا يخلو من أحدهما فيتكاذبان في النفي والإثبات فيتساقطان.

وأمّا ثانيا : فلما في مرسلة يونس من تقييد الرجوع إليهم بكونهم متفقين في الحفظ ، ومع اختلافهم فعلى الإمام وعلى المأمومين في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم حيث يقول عليه‌السلام فيها : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه باتفاق منهم ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام ـ إلى أن يقول عليه‌السلام ـ فإذا اختلف على الإمام من خلفه فعليه وعليهم في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم » (١).

فإنّ هذه الرواية صريحة بأنّ رجوع الإمام إلى المأمومين الحافظين على الإمام مقيد بصورة اتفاقهم في الحفظ ، أي فيما قطعوا أو فيما ظنوا ـ بناء على أن الظن أيضا هو حفظ ، وهو كذلك كما تقدم ـ وأما إذا اختلفوا فليس رجوع في البين ، بل على الإمام والمأمومين جميعا غير القاطعين الإعادة من باب الاحتياط وأخذا بالجزم أي الامتثال اليقيني.

ثمَّ إنه بعد ما ظهر مما تقدم أن المأمومين لو كان بعضهم متيقنين والآخرون شاكون فالإمام يرجع إلى المتيقنين منهم ، فهل بعد رجوع الإمام إليهم وأن صار حافظا بحفظهم فالشاكون عليهم الرجوع إلى الامام ، لأنه صار حافظا بواسطة رجوعه إلى الحافظين منهم ـ أي المتيقنين منهم ـ أو يجب على الشاكين الرجوع إلى نفس المتيقنين ، أو لا هذا ولا ذاك؟ احتمالات :

أما الوجه الأول : أي الرجوع إلى الإمام ، فلأن مفاد الروايات كما تقدم رجوع المأموم الشاك إلى الإمام الحافظ للعدد فقد يقال : إن الإمام في المفروض وإن كان شاكا من قبل نفسه فهو مثل المأموم الشاك ، فكيف يرجع المأموم الشاك إليه ، ولكن بعد رجوعه إلى تلك الطائفة المتيقنين من المأمومين يصير حافظا بواسطة الرجوع‌

__________________

(١) تقدم تخريجه في ص ٢٧٩ ، رقم (١).

٢٩٣

إليهم ، فيوجد موضوع رجوع المأموم الشاك إلى الإمام الحافظ.

ولكن أنت خبير بأن ظاهر المرسلة هو نفي الشك عن المأموم إذا لم يسه الإمام ، لقوله عليه‌السلام : « وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الامام » وهاهنا المفروض أن الإمام أيضا سهى مثل المأموم. اللهم إلا أن يقال : إن الشارع بعد أن حكم برجوعه إلى المتيقنين من المأمومين فكأنه ألغى سهوه ، وجعله في عالم التشريع غير شاك وحافظا ، فتحقق موضوع الرجوع إليه.

وأما الوجه الثاني : أي رجوع المأمومين الشاكين إلى الطائفة الأخرى الذين هم متيقنون هو أن مناط الرجوع كون ذلك الشخص منهم الذي يرجع إليه حافظا مع اشتراكه مع الشاك في الركعة التي بيدهما ، ولا خصوصية لكون من يرجع إليه المأموم هو الإمام ، فإذا كان مناط الرجوع هو الذي ذكرنا فهو موجود في المأمومين المتيقنين ، فيجب رجوع الشاكين منهم إليهم.

وفيه : أنه بعد ما كان المصلي شاكا في عدد ركعات صلاته وقد جعل الشارع له حكما وهو البناء على الأكثر وتدارك ما يحتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، فرفع اليد عن هذا الحكم وصرف النظر عنه لا بد وأن يكون بدليل حاكم عليه ، أو مخصص له.

والدليل الحاكم هاهنا عبارة عن هذه الروايات التي عرفت أن مفادها رفع السهو والشك عن الإمام مع حفظ المأموم ، وعن المأموم مع حفظ الإمام ، وليس هاهنا دليل يكون مفاده رفع الشك عن المأموم مع حفظ المأموم الآخر.

وبعبارة أخرى : رجوع المأموم إلى المأموم لا دليل عليه وإن كان أحدهما شاكا والآخر متيقنا.

وأما وجه احتمال الثالث : هو عدم الدليل على رجوع المأموم الشاك إلى المأموم الآخر ، وأيضا عدم الدليل على رجوعه إلى الإمام الذي هو في حد نفسه شاك ، ويجب عليه الرجوع إلى الغير ، فلا يجوز له الرجوع لا إلى الإمام ولا إلى المأمومين المتيقنين.

٢٩٤

والأوفق بالقواعد هو الاحتمال الثالث ، لأن الدليل على رجوع كل واحد من الامام والمأموم إلى الآخر هذه الروايات ، لأن الإجماع أيضا كما بينا بالأخرة ينتهي إلى هذه الروايات ، وهي لا تدل إلا على رجوع المأموم الشاك إلى الإمام ، لا إلى المأموم الآخر المتيقن ، ولا إلى الإمام الشاك ولو بعد رجوعه إلى المتيقنين من المأمومين كما شرحنا.

ولكن مع ذلك كله ، الاحتمال الأول لا يخلو عن قوة ، لأنه بعد رجوع الإمام الشاك إلى المأموم المتيقن الحافظ لعدد الركعات ، وحكم الشارع بأنه صار بمنزلة المتيقن وألغى شكه فموضوع الرجوع إليه يوجد بحكم الشارع.

وأما الاحتمال الثاني ـ أي رجوع المأموم الشاك إلى المأموم المتيقن ـ فخارج عن مدلول هذه الروايات قطعا ، لأن مدلولها رجوع الإمام إلى المأموم ورجوع المأموم إلى الإمام ، لكن في صورة كون الذي يرجع إليه إماما كان ، أو مأموما ، حافظا لعدد الركعات ، وأما رجوع المأموم إلى المأموم فلا أثر له في هذه الأخبار.

وليس هاهنا دليل آخر يدل على رجوع المأموم إلى المأموم ، وما ذكرنا في وجه هذا الاحتمال ليس إلا استحسانا شبيها بالقياس.

ومما ذكرنا ظهر الحال فيما إذا قامت بينة على تعيين الركعات عند بعض المأمومين دون بعضهم الآخر ، وأيضا قامت بينة عند الإمام ، فهل المأموم الشاك الذي لم تقم عنده بينة يرجع إلى الإمام لأنه صار حافظا بواسطة قيام البينة ، أو يرجع إلى المأموم الذي قامت عنده لأنه أيضا صار حافظا بواسطة قيام البينة ، أو لا إلى هذا ولا إلى ذاك؟

وقد عرفت أن رجوع المأموم إلى المأموم لا دليل عليه إلا ما هو من قبيل الاستحسان الذي هو شبيه بالقياس.

وأما احتمال الرجوع إلى الإمام في هذا الفرض أقوى من الفرض السابق ، لأن الإمام بواسطة قيام البينة عنده يصير حافظا واقعا ، لأن البينة من الأمارات وتقوم‌

٢٩٥

مقام العلم ، ويجوز أن يشهد على طبق مؤداها وأن يحلف على طبق مؤداها ، مع أن الشهادة لا تجوز إلا عن علم ، والحلف أيضا هكذا لا بد وأن يكون عن بت.

فالإمام في هذا الفرض يصير حافظا بواسطة قيام البينة بلا كلام ، وموضوع الرجوع إلى الإمام هو أن يكون المأموم شاكا والإمام حافظا ، والمفروض حصول كلا الأمرين ، لأن المأموم شاك على الفرض والإمام في حكم العالم بواسطة قيام البينة.

نعم لو قلنا بأن يقين المأموم بالعدد أمارة للإمام على العدد فتصير الصورة المتقدمة أيضا مثل هذه الصورة.

الحادي عشر : فيما إذا كان واحد منهما ـ أي الإمام والمأموم ـ شاكا من دون أن يكون الآخر حافظا ، فإن كان الإمام وجميع المأمومين متفقين في الشك مثلا يكون شك كلهم بين الثلاث والأربع ، فجميعهم يعملون عمل الشك ، أي يبنون على الأكثر أي الأربع ويتممون الصلاة جماعة بمعنى أن الجماعة والاقتداء يبقى ولا يبطل لعدم اختلاف بينهما.

نعم بعد أن أتموا الصلاة وسلموا ووصلت النوبة إلى صلاة الاحتياط هل يأتون بها أيضا جماعة أو فرادى؟ فهي مسألة أخرى لا نتكلم عنها الآن ، وعلى كل تقدير لا رجوع في هذه الصورة لأحدهما إلى الآخر كما هو واضح.

وأما إن كانوا مختلفين ، مثلا كان شك الإمام بين الاثنتين والثلاث وكان شك المأمومين بين الثلاث والأربع.

والاختلاف على قسمين : تارة : تكون بينهما رابطة ، وأخرى : لا تكون.

فالأول : أي ما كان بينهما رابطة أي قدر مشترك في البين أي الأكثر في أحد الشكين يكون من مراتب الأقل في الشك الآخر ، مثل أن يشك الإمام مثلا بين الثلاث والأربع ، والمأموم بين الأربع والخمس ، فالمأموم قاطع بوجود الأربع ولكن يحتمل الزيادة.

٢٩٦

والإمام شاك في وجود الأربع فيرجع في ذلك إلى المأموم ، والإمام قاطع بعدم الخمسة والمأموم شاك فيه ، فيرجع إلى الإمام فيبني على عدمه. والنتيجة أن كلاهما بعد رجوع كل واحد منهما فيما شك إلى ما تيقن به الآخر ، يبنون على الأربع ويتمون الصلاة جماعة ولا شي‌ء عليهما ، لا حكم شك الإمام وهو صلاة الاحتياط ، ولا حكم شك المأموم وهو سجدتا السهو إذا كان شكه بعد إكمال السجدتين.

وأما الثاني : أي ما لم يكن بينهما رابطة أي قدر مشترك ، مثل أن يشك الإمام مثلا بين الاثنتين والثلاث ، والمأموم بين الأربع والخمس ، فكل واحد منهما قاطع ببطلان شك الآخر وعدم مطابقته للواقع في طرفي شكه ، ففي هذه الصورة حيث أن الشكين لا رابطة بينهما ، أي ليس قدر مشترك بينهما ، بل كل واحد منهما أجنبي عن الآخر ، فكل واحد منهما يرتب حكم الشك على شكه ، فالإمام في المثل المفروض يبني على الثلاث إذا كان شكه بعد إكمال السجدتين ، وإلا فصلاته باطلة ، والمأموم يبني على الأربع ويسجد سجدتي السهو إذا كان شكه بعد إكمال السجدتين ، وقهرا ينفردان فالإمام يرتب حكم شكه في صلاة منفردا ، والمأموم أيضا كذلك.

ثمَّ إن الانفراد وترتيب كل واحد منهما حكم الشك على شكه في هذا القسم من المختلفين ـ أي ما لا رابطة بينهما ، بمعنى عدم قدر مشترك في البين ـ مسلم لا كلام فيه ، إنما الكلام في القسم الأول ـ أي ما كان بينهما رابطة وقدر مشترك في البين ـ وأنه هل يرجع كل واحد منهما إلى ما تيقن به الآخر كما ذكرنا في المثال المتقدم ، أم لا بل لا رجوع في البين ، أو يفصل بين ما يرتفع الشك بواسطة وجود الرابط والقدر المشترك بين الشكين ـ كالمثال المذكور في القسم الأول من المختلفين وهو أن يكون الإمام مثلا شاكا بين الثلاث والأربع والمأموم بين الأربع والخمس ، فالأربع قدر مشترك بين الشكين أي هو الطرف الأكثر من شك ، والأقل من شك آخر ، ففي هذا المثال بعد رجوع كل واحد منهما إلى ما تيقن به الآخر لا يبقى شك في البين ، ففي مثل هذه الصورة يقال بالرجوع ـ وبين ما لا يرتفع الشك بواسطة وجود الرابط أي القدر‌

٢٩٧

المشترك في البين ، كما إذا شكّ أحدهما بين الاثنتين والثلاث والأربع ، والآخر بين الثلاث والأربع ، فالثلاث هو المتيقن في الشكّ الثاني ، فإذا رجع إليه وبنى على الثلاث لا يذهب شكّه من البين بالمرّة.

نعم معنى رجوعه إلى المتيقن الذي هو الثلاث في المفروض إلغاء احتمال الاثنتين ، وأمّا احتمال الأربع لم يلغ وموجود ، فبعد الرجوع إلى قدر المتيقن من الشكّ الثاني يصير الشكّ الأوّل مثل الشكّ الثاني بين الثلاث والأربع ، فيصير الشكّان من المتوافقين ، ففي مثل هذه الصورة يقال بعدم الرجوع.

أمّا وجه هذا التفصيل فمن جهة أنّ المقصود من رجوع الشاكّ إلى الحافظ هو ارتفاع حكم الشاكّ وإلغائه ، وهذا إنما يكون فيما يرتفع الشكّ بالرجوع تعبدا حتّى يرتفع حكمه بارتفاع موضوعه.

وأمّا فيما لا يرتفع الشكّ ويبقى قهرا حكمه أيضا فلا أثر للرجوع ، ويكون لغوا مثلا في المثال الذي ذكرنا ، وهو أن يكون أحدهما شكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع ، والآخر بين الثلاث والأربع ، فإذا رجع الأوّل إلى الثاني وألغى احتمال الاثنتين فعليه أن يبني على الأربع مثل الثاني ، ويعمل عمل الشاكّ بين الثلاث والأربع ، أي يأتي بصلاة الاحتياط ، فلم يترتّب أثر على الرجوع وصار لغوا ، ولهذا فصل بين صورة بقاء الشكّ بعد الرجوع ، فقيل بعدم الرجوع ، وصورة ارتفاع الشكّ فقيل بالرجوع.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان هذا علّة التفصيل فلا وجه له ، لأنّ أثر الرجوع يظهر في صلاة الاحتياط ، فبناء على الرجوع تكون صلاة الاحتياط عبارة عن ركعة واحدة عن قيام ، وبناء على عدم الرجوع تكون عبارة عن صلاتين ، إحديهما ركعة عن قيام والأخرى ركعتان عن قيام ، فلا يكون الرجوع لغوا وبلا فائدة.

نعم ، يبقى الكلام في أصل الرجوع ، وإن كان فيما يرتفع الشكّ بالرجوع فنقول :

مبنى هذه المسألة على أنّ المدار في رجوع الشاكّ منهما ـ أي الإمام والمأموم إلى‌

٢٩٨

الآخر ، كان حسب أخبار الباب ـ هو حفظ الآخر سهو الشاكّ عليه ، والظاهر أنّ المراد من حفظ سهوه عليه هو اليقين فيما شكّ فيه.

فإذا شكّ شخص بين عددين مثل الثلاث والأربع ، أي يحتمل أن يكون المعدود ثلاثا ، ويحتمل أن يكون أربعا ، فإذا كان الشاكّ تروى ولم يجزم بأحد المحتملين ، أي بقي على احتماليه ، فإذا كان هناك من يعلم بأنّ ما أتى به هو المحتمل الفلاني مثلا هو الثلاث أو هو الأربع جزما ولا ترديد عنده ، فهذا معنى حفظ سهوه عليه ، بحيث لو كان إخباره حجّة للشاكّ يخرج عن ترديده ويجزم جزما تعبديا بأحد المحتملين.

وبعبارة أخرى ، الشكّ عبارة عن عدم الجزم بثبوت النسبة التي بين المحمول والموضوع في القضيّة ، سواء أكانت القضيّة سالبة أو موجبة ، فمعنى الشكّ في عدد الركعة التي بيد المصلي مثلا في أنّها رابعة أي غير جازم بأنّها رابعة ويحتمل أن يكون خامسة ، فيكون الشكّ بين الأربع والخمس ، أو يحتمل أن تكون ثالثة فيكون الشكّ بين الثلاث والأربع ، وإذا احتمل أن تكون خامسة أو ثالثة فيكون الشكّ بين الثلاث والأربع والخمس ، وهكذا صعودا ونزولا.

ومعنى حفظ هذا الشكّ على صاحبه هو الجزم بأحد طرفيه ، أو أحد أطرافه ، ففي المثل الذي ذكرنا أنّ الإمام مثلا إذا شكّ بين الثلاث والأربع فمعنى حفظ شكّه عليه أنّ الحافظ يجزم بأحد محتمليه ، أي يجزم بأنّه مثلا ثلاث أو يجزم بأنّه أربع بحيث أنّه لو كان اعتقاده في هذه القضيّة اعتقاد الحافظ كان يجزم بأحد المحتملين ويذهب شكّه.

والحاصل : أنّ معنى حفظ سهوه عليه هو الجزم بتلك النسبة التي كان هو مرددا فيها ، وأين هذا من أن يشكّ في المثل المذكور ، أي فيما إذا شكّ الإمام بين الثلاث والأربع والمأموم بين الأربع والخمس فيقال بأنّه يعلم بأنها ـ أي الركعة المشكوكة ـ ليست ثالثة ، والإمام يعلم بأنّها ليست خامسة ، فكلّ واحد منهما يرجع في أحد محتمليه إلى الآخر كي يثبت بواسطة رجوع كلّ واحد منهما إلى الآخر أنّ الركعة‌

٢٩٩

المشكوكة هي الرابعة.

والإنصاف أنّه لا يصدق على مثل هذين الشاكين أنّ كلّ واحد منهما حافظ لشكّ الآخر كي يكونا مشمولين للروايات ، ويكون رجوع كلّ واحد منهما إلى الآخر واجبا لإثبات القدر المشترك.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن المأمومون مختلفين في شكوكهم.

وأمّا لو اختلفوا فتارة يكون بين شكوكهم وشكّ الإمام رابطة ، وأخرى لا يكون قدر مشترك بين شكوكهم وشكّ الإمام.

فعلى الأول أي بناء على أن يكون بين شكوكهم وشكّ الإمام رابطة أي قدر مشترك كما إذا شكّ الإمام بين الاثنتين والثلاث ، وبعض المأمومين شكّ بين الثلاث والأربع وبعضهم الآخر شكّ بين الثلاث والخمس ، فالثلاث رابطة أي قدر مشترك بين الشكوك الثلاثة.

فبناء على الرجوع والإغماض عمّا استشكلنا على صدق الحفظ على أمثال هذه الموارد فكلّ واحد من المأمومين يرجع إلى الإمام ، أحدهما في نفي الرابعة والآخر في نفي الخامسة ، فقهرا يبقى لهما الثالثة ، وذلك لأنّ الإمام يعلم بعدم الرابعة والخامسة في المفروض ، ومن ذلك الطرف كلّ واحد منهما يعلم بعدم كون الركعة المشكوكة هي الثانية فالإمام يرجع إليهما في نفي الثانية.

والنتيجة أنّ كلهم يبنون على الثلاث ، ويتممون الصلاة مع بقاء القدوة ومن دون الاحتياج إلى صلاة الاحتياط.

وأمّا على الثاني ، أي بناء على عدم الرابطة بين شكوكهم وشكّ الإمام ، وحينئذ إن كان شكهم جميعهم موافقا للإمام فكلهم يعملون عمل الشكّ من البناء والإتيان بصلاة الاحتياط ، أو إتيان سجدتي السهو فيما فيه السجدتان ، ويبقى القدوة أيضا إلى إتمام الصلاة.

٣٠٠