القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

تلف المبيع عند المشتري وبعد قبضه إيّاه لا وجه لأن يكون ضمانه على البائع ولو كان للمشتري الخيار فقط دون البائع ، فهذا الحكم ـ أي كون الضمان على البائع ـ مخالف للقواعد المستفادة من الأدلّة الأوّلية ، والخروج عن تلك القواعد المسلمة الثابتة بالأدلّة القطعيّة بمثل هذا الاستظهار مشكل.

وفيه : إن صح هذا الظهور فهذا حكم تعبّدي مخالف للقواعد ، ودليله هذا الظهور كما أنّه في خياري الحيوان والشرط ثبت هذا الحكم ، مع أنّه هناك أيضا مخالف للقواعد. اللهمّ إلاّ أن ينكر مثل هذا الظهور ، فحينئذ لا يثبت هذا الحكم وإن لم يكن مخالفا للقواعد ، لأنّ ثبوت كلّ حكم يحتاج إلى دليل.

وثانيا : مراده من قوله « إنّ ظاهر الصحيحة هو اختصاص هذا الحكم بما لو كان التزلزل من أول الأمر » أنّ خياري الحيوان والشرط يوجب تزلزل المعاملة من أوّل وجوده إلى انقضاء الخيار ، وسائر الخيارات ليس كذلك ، ولفظة « حتّى » الغائية ظاهرة في استمرار ما قبلها من أوّل وجوده إلى حصول تلك الغاية ، مثلا سرت حتّى دخلت البصرة ، أي سيري كان مستمرّا من أوّل وجوده إلى حصول الغاية أي دخول البصرة.

وفيما نحن فيه هذا المعنى متحقّق بالنسبة إلى خياري الحيوان والشرط ، أي تزلزل ملكيّة المشتري للمبيع متحقّق من أوّل وجوده إلى انقضاء الخيار في هذين الخيارين دون سائر الخيارات ، فلا عموم في البين كي يشمل سائر الخيارات ، أي خيار الغبن والعيب والرؤية وغيرها.

وفيه : أنّ قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن سنان « وعلى البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ويصير المبيع للمشتري » مفاده كما هو الظاهر منه أنّ ضمان المبيع على البائع من أوّل وجود المعاملة إلى انقضاء الشرط ثلاثة أيّام أي خيار الحيوان ، وصيرورته المبيع للمشتري بحيث لا يمكن له أن يسلبه عن نفسه بالفسخ ، فيكون كناية عن اللزوم.

١٤١

وهذا المعنى ـ أي كون المبيع مثلا في ضمان البائع من أوّل وجود المعاملة مستمرّا إلى انقضاء الخيار وحصول اللزوم ـ لا مانع من الالتزام به في جميع الخيارات ، فالالتزام بهذا الحكم في جميع الخيارات لا يكون مخالفا لما هو ظاهر كلمة « حتّى » وان قلنا بظهورها في استمرار وجود ما قبلها أي الحكم المغيى بها إلى حصول تلك الغاية.

وبعبارة أخرى : في غير هذين الخيارين ـ أي خياري الحيوان والشرط ـ كخيار الغبن والعيب أيضا الخيار وعدم استقرار الملك بحيث يمكن أن يسلب عن نفسه من أوّل وقوع العقد ، ووجوده موجود غاية الأمر لا يعلم بوجوده وبعد الاطلاع على أنّ المبيع معيب أو لا يساوي الثمن الذي اشتراه بذلك الثمن أي بعد ظهور العيب والغبن يعلم بوجود الخيار ، فظهور العيب أو الغبن كاشف عن وجود الخيار من أوّل الأمر ، لا أنّه سبب لحدوث الخيار ، فالتزلزل وعدم كون الملكية مستقرّا حاصل من أوّل وجود العقد ، ومستمرّ إلى انقضاء زمان الخيار.

نعم لو كان هناك قائل بأنّ ظهور العيب أو العلم بالغبن الفاحش موجب لحدوث الخيار من حين العلم والظهور فلا بدّ له من القول بعدم التعميم ، بناء على أن يكون هذا التعليل علة للتعميم وشمول القاعدة لسائر الخيارات.

وحاصل الكلام : أنّه بناء على أنّ ظهور الغبن والعيب كاشف عقلي من ثبوت الخيار لا أنّه شرط شرعي لحدوثه ، فلا يبقى مجال لإشكال شيخنا الأعظم قدس سرّه وتأمّله في استظهاره.

نعم هناك أمر آخر يوجب التأمّل في استفادة العموم من التعليل ، وهو أنّ جعل الضمان على البائع في خيار الحيوان مع قبض المشتري للمبيع وتلفه في يده من جهة مراعاة من انتقل إليه الحيوان وأنّه قبل مضي ثلاثة أيّام يمكن أن يخفى عليه بعض نقائص المبيع ، فجعل القبض كالعدم ، وجعل مناط سقوط الضمان انقضاء الشرط وحصول الملكية المستقرّة بحيث لا يمكن أن يسلبه عن نفسه بالفسخ. ومع هذا‌

١٤٢

الاحتمال كيف يمكن أن يقال بتعميم المناط.

وأمّا خيار الشرط فشريك مع خيار الحيوان في هذه الجهة والنكتة ، ولذلك أطلق على كليهما الشرط في الأخبار ، غاية الأمر أنّ الشرط في خيار الحيوان من قبل الشارع ، وفي خيار الشرط من قبل المتعاملين. وهذا ليس بفارق فيها هو المهمّ في المقام من أنّ المناط لجعل الضمان في عهدة من ليس له الخيار حتّى بعد قبض من له الخيار من جهة مراعاة من انتقل إليه الحيوان ، أو المشروط له في خيار الشرط ، فيكون التعليل مختصّا بهذين الخيارين ، ولا يسري إلى خيار المجلس فضلا عن سائر الخيارات.

وأمّا ما ربما يقال ـ في وجه عدم التعميم واختصاص هذه القاعدة بهذين الخيارين دون غيرهما من أنّ قولهم : « التلف في زمن الخيار » يدلّ على أنّ الخيار المذكور في هذه القاعدة لا بدّ وأن يكون من الخيارات الزمانية ، أي ما كان لها زمان محدود من طرف الشارع كخيار الحيوان المحدود بثلاثة أيّام ، أو من طرف المتعاملين كخيار الشرط ، وليس في سائر الخيارات تحديد بحسب الزمان لا من طرف الشارع ولا من طرف غيره ، فهذه القاعدة بقرينة كلمة « زمن الخيار » لا تشمل الخيارات غير الزمانية ـ فعجيب.

وذلك من جهة أنّ كلّ حادث زماني لا بدّ وأن يكون لوجوده زمان يمتدّ بامتداد وجوده ، وكما أنّ لكلّ جسم مكان يحيط به كذلك لكلّ حادث في سلسلة الزمان وفي وعائه زمان يحيط به ، وهذا الزمان هو عمر ذلك الشي‌ء ، فكلّ شي‌ء كان امتداد وجوده في وعاء الزمان أكثر يكون عمره أطول ، وكلّ خيار سواء كان أحد هذين الخيارين أو غيرهما حيث أنّه حادث زماني فله زمان يحيط به من أوّل وجود هذا الحقّ إلى آخره وانتهائه ، فقولهم : « التلف في زمن الخيار » أي ذلك الزمان المحيط بالخيار ، لا الخيارات الزمانية كما توهّم.

١٤٣

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا : أنّ مدرك هذه القاعدة هو الأخبار الواردة في خياري الحيوان والشرط ، والظاهر اختصاصها بذينك الخيارين وعدم شمولها لسائر الخيارات حتّى خيار المجلس ، فافهم. وذلك لعدم تنقيح المناط الذي ذكره شيخنا الأعظم قدس سرّه بطور يوجب الاطمئنان حتّى نحكم بالتعميم.

وأمّا شمولها لخيار المجلس ـ باعتبار إطلاق الشرط عليه في الأخبار مع اختصاص مورد الروايات الواردة في هذا الباب بخياري الحيوان والشرط ـ فلا يخلو من نظر وتأمّل.

وأمّا شمولها للثمن والمثمن بالنسبة إلى التالف ، وللبائع والمشتري بالنسبة إلى من لا خيار له ، فنقول :

إنّ صور المسألة أربع ، لأنّ التلف المفروض أنّه بعد القبض ـ وإلاّ يكون من مصاديق قاعدة تلف المبيع قبل القبض ، ويكون خارجا عن دائرة انطباق هذه القاعدة ـ إمّا يكون في يد البائع أو المشتري ، وفي كلّ واحدة من الصورتين إمّا أن يكون الخيار للذي وقع التلف في يده فقط ، أو يكون للآخر الذي لم يقع التلف في يده.

الصورة الأولى : أن يكون التلف في يد البائع ، فقهرا يكون التالف هو الثمن ، لأنّ المفروض أنّه بعد القبض ، ويكون الخيار للآخر أي المشتري فلا ضمان لأحد ، لأنّ ملك البائع تلف في يده ويكون كسائر أمواله. ولا وجه لأن يكون تلفه موجبا لضمان شخص آخر إلاّ بأحد أسباب الضمان المعروفة ، وليس شي‌ء منها في البين.

الصورة الثانية : أن يكون التلف أيضا في يد البائع ، ولكن كان الخيار للبائع فقط. وهذه هي الصورة التي يكون الضمان على المشتري إن قلنا بتعميم القاعدة بالنسبة إلى البائع والمشتري ، لأنّ الضمان يكون على من لا خيار له وهو هاهنا المشتري ، كما هو المفروض.

الصورة الثالثة : أن يكون التلف في يد المشتري وكان الخيار للبائع فقط ، ولا شكّ‌

١٤٤

في أنّ الضمان لا يكون على أحد أصلا ، وذلك لأنّ مال المشتري تلف في يده ، ولا وجه لأن يكون في ضمان شخص آخر إلاّ بأحد أسباب الضمان من إتلاف ذلك الآخر ، أو كون يده يد ضمان ، أو غير ذلك من أسباب الضمان ، والمفروض أنّه ليس شي‌ء آخر في البين.

الصورة الرابعة : أن يكون التلف في يد المشتري والخيار له فقط وهذه الصورة هي التي مشمولة لهذه القاعدة نصّا وفتوى إجماعا ، ويكون من المسلّمات أنّ ضمان التالف على البائع الذي ليس له الخيار فيما إذا كان الخيار الذي للمشتري خيار الحيوان أو خيار الشرط ، وأمّا فيما عداهما من الخيارات فيأتي ذلك الكلام الطويل الذي تقدّم.

بقي الكلام في أنّ الضمان المذكور في هذه القاعدة ـ وأنّه من مال من لا خيار له ـ هل هو ضمان المسمّى الذي هو أحد العوضين في المعاملة ، أو هو عبارة عن الضمان الواقعي أي المثل والقيمة كلّ واحد منهما في محلّه ومورده؟

فنقول : مبنى المسألة على أنّه جعل الشارع قبض ذي الخيار في المفروض كالعدم ، فالضمان الثابت قبل القبض باق لعدم ما يوجب رفعه ، فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من القول بأنّ الضمان ضمان المسمى ، لعدم الشكّ في كون الضمان السابق على القبض ضمان المسمّى.

وأمّا إن قلنا بأنّ الضمان إذا تلف في يد ذي الخيار بعد القبض حكم تعبّدي ، لا من جهة أنّ الشارع جعل القبض كلا قبض ، بل يقبض المشتري مثلا خرج المبيع عن عهدة البائع ، وحصل القبض والإقباض الذي كان من مقتضيات العقد.

فقوله عليه‌السلام فيما إذا تلف المبيع في يد المشتري بعد القبض في زمن خيار الحيوان أو الشرط « فهو من مال البائع » حكم تعبّدي لا ربط له بضمان البائع قبل القبض الذي كان عبارة عن اشتغال ذمّته بتسليم المبيع المعيّن المسمّى إلى المشتري ، لأنّ المفروض أنّ ذلك حصل وتمَّ ، ولا معنى للزوم حصوله ثانيا ، فلا معنى لبقائه بعد القبض‌

١٤٥

والتسليم ، فحينئذ لا طريق لمعرفة نوع الضمان إلاّ الاستظهار من هذه الجملة ، أي قوله عليه‌السلام : « فهو من مال بايعه ».

فنقول : يمكن أن يكون المراد من هذه الجملة أنّ خسارته وغرامته على البائع ، سواء فسخ المعاملة أم لم يفسخ ، بناء على أنّ تلف المبيع لا يكون مانعا عن جواز فسخ المشتري في زمان خياره. نعم لو فسخ المشتري يستردّ عين الثمن إن كان شخصيّا وكان باقيا ، وإن كان تالفا فمثله أو قيمته ، كلّ واحد منهما في مورده ، وإن كان كلّيا فيأخذ أحد مصاديقه. وإن لم يفسخ فيكون البائع ضامنا للمبيع التالف في يد المشتري بالضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة كلّ واحد في مورده ، لأنّه معنى كون غرامة التالف وخسارته على البائع هو أنّ ضمانه الواقعي عليه.

ويمكن أن يكون المراد منها أنّ التلف يقع من مال بائعه ، بمعنى أنّه ينتقل إلى البائع آنا ما فيتلف ، ولا شكّ في أنّه لا ينتقل إلى البائع مجّانا وبلا عوض ، فلا بدّ وأن يكون انتقاله إلى البائع إمّا ببدله الواقعي من المثل والقيمة كلّ في محلّه ، أو يكون بانفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف حتّى يرجع كلّ واحد من العوضين إلى ملك مالكه الأوّل ، أي إلى مالكه قبل وقوع المعاوضة ، كما قلنا في مسألة تلف قبل القبض. ونتيجة الانفساخ القهري هو نتيجة الفسخ الاختياري ـ كما بيّنّاه ـ فيرجع عين الثمن إلى المشتري لو كان باقيا وإلاّ فعلى التفصيل الذي تقدّم في صورة الفسخ.

هذه الاحتمالات كلّها في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات : فالظاهر هو انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف ، وذلك من جهة أنّ قوله عليه‌السلام : « فهو من مال بائعه » ظاهر في أنّ التلف يقع في مال البائع ، أي التالف يكون من أمواله لا أنّ خسارة التالف وغرامته عليه. وهذا أي كون التلف واقعا على ماله لا يمكن إلا بالانفساخ آنا ما قبل التلف حتّى يرجع التالف إلى ملك البائع ، فيكون التلف واقعا في ملكه.

١٤٦

فالصواب هو أنّ الضمان في هذه القاعدة هو ضمان المسمّى لا الضمان الواقعي أي المثل والقيمة.

وبعبارة أخرى : التلف بعد القبض ـ إذا كان التلف في يد من له الخيار فقط دون صاحبه ـ في حكم التلف قبل القبض ، أي يكون ذلك الضمان الذي قبل القبض موجود وفي عهدة البائع باقيا بعد القبض أيضا ، ومعلوم أنّه كان ضمان المسمّى. وبهذا صرّح جمع من المحققين كالمحقق والشهيد الثانيين (١) ، ويظهر أيضا من الشهيد قدس سرّه في الدروس (٢) حيث قال : وبالقبض ينتقل الضمان إلى القابض ما لم يكن له خيار. من جهة أنّ مفهوم هذا الكلام هو أنّه لو كان للقابض الذي هو المشتري في المفروض خيار فلا ينتقل الضمان إليه ، بل يبقى على حاله.

وخلاصة الكلام : أنّ لفظ « الضمان » وإن كان ظاهرا في الضمان الواقعي ، أي كون الشي‌ء بوجوده الاعتباري في العهدة وارتفاعه عن العهدة ورفع اشتغال الذمّة بأداء ذلك الشي‌ء ، وحيث أنّ الشي‌ء بعد تلفه لا يمكن أداؤه بخصوصيّته الشخصيّة ، فلا بدّ وأن يطبق ما في الذمّة على ما هو أقرب إليه من غيره ، وهو مثله وإن كان له المثل أي كان من المثليّات ، وقيمته وماليّته إن كان من القيميّات ، وذلك من جهة أنّ نظر العقلاء في مقام تفريغ الذمّة في الماليّات والغرامات بعد تعذّر الخصوصيّات الشخصيّة اعتبار وجود الجهات النوعيّة والمماثلات ، وبعد تعذّر هذه الجهات أيضا لا يرون الخروج عن العهدة إلاّ بأداء القيمة.

وبعبارة أخرى : لا فرق فيما هو المراد من الضمان بين باب التلف والإتلاف ، فإذا حكم الشارع بالضمان في مورد من موارد التلف ـ كما فيما نحن فيه ـ يكون المراد منه هو الضمان في باب الإتلاف.

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ٤ ، ص ٣٠٨ ، « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ١٨١.

(٢) « الدروس » ج ٣ ، ص ٢١٠.

١٤٧

ولكن في المقام لم يقل الشارع إنّ من ليس له الخيار من المتعاملين ضامن لما تلف في يد ذي الخيار ، وأيضا لم يقل إنّ التلف في يد ذي الخيار يكون بحكم إتلاف من ليس له الخيار ، بل قال : التلف في زمن الخيار من مال من ليس له الخيار ، أو من مال بائعه. وأنت خبير بأنّ هذه العبارات غير التعبير بأنّه ضامن ، ولا تفيد ذلك المعنى الذي يستفاد من لفظة « الضمان ».

نعم أورد شيخنا الأستاذ قدس سرّه هاهنا إشكالين على كون الضمان في هذه القاعدة هو ضمان المسمّى :

الأوّل : هو أنّ في صحيحة ابن سنان حكم بضمان البائع لو تلف المبيع في يد المشتري الذي له الخيار فقط دون البائع ، سواء كان التالف نفس المبيع أو صفة من أوصافها ، حيث قال الراوي ، فيموت العبد أو الدابّة ، أو يحدث فيه حدث ، على من يكون ضمان ذلك؟ فقال عليه‌السلام : « على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ». ولا شكّ في أن الوصف لا يقابل بشي‌ء من المسمّى ، وتمام الثمن بإزاء نفس العين.

نعم الأوصاف ربما توجب زيادة قيمة العين المتصفة بها ، وإلاّ فلا يقع شي‌ء من الثمن بإزاء الوصف ، ولذلك تخلّف الوصف لا يوجب تبعّض الصفقة ، بل يوجب الخيار بقبول المعاملة بنفس الثمن أو يفسخ ويستردّ الثمن تماما ، لا أنّه يقبل ولا يردّ المعاملة ويستردّ مقدارا من الثمن بإزاء فقدان الوصف.

فإذا كان الأمر كذلك ، فلا يمكن أن يكون الضمان الذي حكم الإمام عليه‌السلام في مورد حدوث الحدث بالعبد أو الدابّة ضمان المسمّى ، لأنه بالنسبة إلى الوصف ليس مسمّى في البين حتّى يكون ضمانه ضمان المسمّى ، فلا بدّ وأن يحمل قوله عليه‌السلام : « فهو من مال بائعه » على الضمان الواقعي حتى يشمل ضمان العين والوصف جميعا وإلاّ يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

والثاني : هو أنّ ضمان المسمّى ارتفع بالقبض ، لأنّ ضمان المسمّى عبارة عن اشتغال‌

١٤٨

ذمّته بالمثمن إن كان بائعا ، وبالثمن إن كان مشتريا ، والمفروض في المقام أنّ البائع سلّم المثمن إلى المشتري وقبض المشتري ، فلا يبقى مورد ومجال لاشتغال ذمّته ثانيا بإعطاء المثمن ، بل هو من تحصيل الحاصل المحال. فلو تجدّد ضمان بواسطة كون التلف في زمن الخيار لا بدّ وأن يكون هو الضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة ، لأنّه الظاهر من لفظ « الضمان » (١).

والجواب : أمّا عن الإشكال الأوّل :

فأوّلا : أنّ المراد من حدوث الحدث في المبيع ليس هو فوات الوصف كما زعمه المستشكل ، بل المراد به أيضا التلف والموت ، فهو من قبيل التفنّن في العبارة ، أو المراد به موت خاصّ كالفجأة مثل ، فيكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ ، وكم له من نظير ، وقد ورد في الأخبار بهذا المعنى.

وثانيا : فبأنّ الضمان الواقعي أيضا لا يمكن أن يكون جامعا ، لأنّ الإنسان لا يضمن بالمثل أو القيمة لتلف ماله في يده ، فلا بدّ من حمل كلامه عليه‌السلام على معنى يلائم مع الانفساخ وغيره ، وهو أن يقال : إنّ المراد من قوله عليه‌السلام « فهو من مال بائعه » هو أنّه خسارته على البائع ويذهب من كيسه ، سواء أكانت الخسارة التي عليه من جهة انفساخ المعاملة ورجوع الثمن إلى المشتري من دون مقابل يرجع إلى البائع لأنّ المفروض أنّ مقابل الثمن تلف في يد المشتري بدون أن يكون عليه شي‌ء ، أو كانت من جهة فسخ المشتري ورجوع الثمن بتمامه إليه ورجوع العين الناقصة إلى البائع ، ففقدان الوصف خسارة واردة على البائع من غير تدارك.

وأمّا عن الإشكال الثاني : فبأنّ شخص ذلك الضمان وإن ارتفع بالإعطاء والإقباض وتسليم المثمن إلى المشتري ولكن لا مانع من إتيان الدليل على حدوث فرد آخر من ضمان المسمّى بواسطة التلف عند ذي الخيار تعبّدا ، كما هو كذلك وجاء الدليل ، أي‌

__________________

(١) « منية الطالب » ج ٢ ، ص ١٨٠.

١٤٩

قوله عليه‌السلام : « فهو من مال بائعه ».

ثمَّ إنّه هل يجري استصحاب بقاء الكلى الجامع بين الفردين الذين أحدهما ضمان المسمّى قبل القبض ، وثانيهما هو الفرد الآخر الذي بعد القبض إذا شككنا في بقاء الضمان بعد القبض أي بقاء الجامع بين الفردين ، وإلاّ فالفرد منه الذي يقينا كان موجودا ارتفع بالقبض يقينا ، ولكن حيث أنّه من المحتمل حدوث فرد آخر منه أي من ضمان المسمّى بعد القبض في نفس زمان ارتفاع ذلك الفرد بواسطة الإقباض والتسليم ، فيكون الكلّي الموجود يقينا في ضمن الفرد الزائل قطعا ، موجودا بقاء احتمالا في ضمن فرد آخر محتمل الحدوث؟ فيه إشكال ، فإنّه من القسم الأوّل من الأقسام التي للقسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي بنينا تبعا لأكثر المحقّقين على عدم جريانه.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه ليس هاهنا وجودين من ضمان المسمّى وأن يكون انعدام أحدهما وحدث وجود آخر ، بل هناك وجود واحد من ضمان المسمّى ، ممتدّ من أوّل المعاملة إلى ما بعد تلف المبيع في يد المشتري في زمان خياره الخاصّ به ، حتّى يخرج عن عهدته بإرجاع الثمن إلى المشتري بدون مقابل.

هذا في مفروض المسألة والمقام ، غاية الأمر بسببين ، حدوث هذا الضمان بسبب ، وبقاؤه بسبب آخر ، فحدوثه بسبب التزام المعاملي إلى زمان القبض ، وبعد حصول القبض ووفائه بالتزامه لا تأثير للالتزام المعاملي ، لأنّه كما ذكرنا يكون من قبيل تحصيل الحاصل ولكن بقاؤه بعد القبض يكون بالتعبد من قبل الشارع ، والدليل على هذا التعبد هو الاستصحاب.

لا يقال : بعد زوال العلّة ينعدم المعلول ، فإذا جائت علّة أخرى لذلك الشي‌ء فلا بدّ وأن يكون معلولة موجودا بوجود آخر ، فيعود الإشكال.

وذلك من جهة أنّه يمكن أن يكون كلّ واحد من السببين في حدّ نفسه لو كان‌

١٥٠

وحده كاف في تأثيره في وجود المعلول ، غاية الأمر عند اجتماعهما يتداخلان ، فإذا انعدم أحدهما يؤثّر الآخر مستقلا كالخيمة القائمة بعمودين ولكن كلّ واحد منهما لو انفرد كاف في قيام الخيمة به ، فإذا انعدم أحدهما يكون قيام الخيمة بقاء بذلك العمود الباقي ، كما أنّه هو كذلك بالوجدان.

فلو فرضنا قيام الخيمة حدوثا بأحد العمودين ، ثمَّ في زمان ارتفاع ذلك العمود قام عمود آخر مقامه ، فالحدوث مستند إلى علّة ، وبقاء الخيمة إلى علة أخرى ، لا أنّ تلك الخيمة بواسطة ارتفاع العمود الأوّل تنعدم وتوجد خيمة أخرى ، وفي الاعتباريات تصويره وإمكان وقوعه أسهل وأوضح ، كما أنّ في باب الخيارات يمكن أن يكون حدوث الخيار بموجب وبقاؤه بموجب آخر.

« والحاصل » أنّه لا مانع من كون حدوث شي‌ء بعلّة وبقائه بعلّة أخرى ، ولا يخرج ذلك الشي‌ء بواسطة تعدّد العلّة من حيث علّة الحدوث والبقاء عن الوحدة.

ثمَّ إنّه على تقدير جريان هذا الاستصحاب هل يعارضه استصحاب عدم الانفساخ ـ أي الأصل العدمي مقابل هذا الأصل الوجودي ـ أم لا ، فإنّهما إذا تعارضا يتساقطان ، فلا يبقى استصحاب حتّى يقال ببقاء الضمان حتّى بعد القبض؟

الظاهر عدم تعارض هذين الأصلين ، أي الأصل الوجودي والعدمي ، وذلك من جهة حكومة الأصل الوجودي هاهنا على الأصل العدمي ، لأنّ الشكّ في الانفساخ مسبّب شرعا عن الشكّ في بقاء الضمان ، وذلك من جهة أنّ بقاء ضمان المسمّى تعبّدا من إثارة الشرعي انفساخ المعاملة حتّى يرجع الثمن إلى المشتري الذي له الخيار وحده دون البائع ، ومعلوم أنّ الاستصحاب في جانب السبب يرفع موضوع استصحاب المسبّب تعبّدا وفي عالم التشريع.

تذييل : وهو أنّ هذه القاعدة هل تختصّ بالمبيع والثمن الشخصيّين ، أو تشمل الكليّين منهما؟

١٥١

مثلا لو باع عبدا أو حيوانا ورفع الغرر بذكر الأوصاف بكذا درهم أو دينار أيضا كليّين ، لا الدرهم أو الدينار الشخصيّين ، فالبائع سلّم إلى المشتري مصداقا من مصاديق ذلك الكلّي وأقبضه إيّاه ، فتلف ذلك المصداق في يد المشتري في زمان خياره المخصوص به.

فهل تشمل هذه القاعدة مثل هذه المورد ، فتجب على البائع ردّ مصداق الثمن الكلّي إن كان قبضه ، أو لا تشمل فلا تنفسخ المعاملة ، بل مال المشتري تلف في يده ، ولا ضمان على أحد لا على المشتري ولا على غيره ، لأنّ مال شخص تلف عند نفسه فلا وجه للضمان ، لا المسمّى ولا الواقعي؟

فنقول : الظاهر عدم شمولها للثمن أو المبيع الكليّين.

أمّا أوّلا : فمن جهة ظهور قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن سنان « فهلك في يد المشتري » في أن يكون التالف في يد المشتري هو نفس المبيع ، لا الفرد المنطبق عليه المبيع الكلّي. وقد عرفت أنّ العمدة في دليل هذه القاعدة هي الروايات ، وهي لا تدلّ على أزيد ممّا كان المبيع شخصيّا ، ففي المبيع الكلّي يحتاج إتيان هذه القاعدة إلى دليل ، وهو مفقود في المقام.

وأمّا ثانيا : فمن جهة أنّ المبيع إذا كان شخصيّا فبعد قبض المشتري له وتلفه في يده فإنّ حكم الشارع بأنّه ـ أي التلف من مال البائع ـ معناه أنّ التلف وقع في ملك البائع وماله ، وهذا لا يمكن إلاّ بانفساخ العقد آنا ما قبل التلف حتّى يكون التلف في ملك البائع ، وإلاّ فمال المشتري تلف في يده ولا معنى لأن يكون شخص آخر ضامنا له.

وأمّا إذا كان المبيع كليا ، وأعطى البائع مصداقا من ذلك الكلّي للمشتري ، وتلف ذلك الفرد المنطبق عليه الكلّي في يده فلا يلزم منه انفساخ العقد إن حكم الشارع بأنّ التلف وقع في ملك البائع ، من جهة أنّ ذلك الفرد ليس هو المبيع حتّى يكون العقد برجوعه إلى البائع منفسخا ، بل العقد باق ويعطي فردا آخر للمشتري مع أنّ ظاهر‌

١٥٢

القاعدة في موارد انطباقها هو الانفساخ.

وأمّا القول بأنّ ذلك الفرد المنطبق عليه الكلّي بعد انطباقه عليه يكون بالحمل الشائع هو المبيع ـ فرجوعه إلى البائع معناه الانفساخ والانحلال ـ فعجيب ، لأنّ المدار في الانفساخ عدم إمكان تسليم البائع للمبيع إلى المشتري بعد تلف ما هو المبيع في يد المشتري ، والمفروض ليس كذلك.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌

فنقول : القدر المسلّم منها هو فيما إذا تلف المبيع في يد المشتري بعد قبضه إيّاه في خيار الحيوان وخيار الشرط ، وأمّا فيما عداهما ، أمّا خيار المجلس فيظهر من الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه الميل إلى شموله له ، وإن قال : « على إشكال » (١). وأمّا سائر الخيارات المتّصلة بالعقد فجريانها فيها في خصوص المثمن لا يخلو من وجه ، وهو عبارة عن عموم التعليل في صحيحة ابن سنان المستفاد من قوله عليه‌السلام : « حتّى ينقضي الشرط ويصير المبيع للمشتري » وان تأمّل الشيخ الأعظم في هذه الاستفادة (٢) ، وعلى أيّ حال تقدّم تفصيل الكلام فيه في الجهة الثانية.

وأمّا الخيارات المنفصلة عن العقد ، كخيار الشرط إذا كان الشرط أي الخيار المجعول منفصلا عن العقد ، فقد تقدّم الإشكال

في جريان القاعدة ، لظهور كلمة « حتّى ينقضي الشرط » في كونه من ابتداء المعاملة إلى انقضائه ـ أي الشرط ـ على كلام وإشكال منّا ، تقدّم في الجهة الثانية.

وأمّا شمولها للثمن فقد تقدّم أنّه تابع لأن يكون هذا الحكم الكلّي ـ أي التلف في‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٣٠١.

(٢) المصدر.

١٥٣

زمن الخيار من مال من لا خيار له ـ على طبق القواعد الأوّلية أم لا بل حكم تعبّدي مستنده الإجماع والأخبار. فبناء على الأوّل تشمل ، وبناء على الثاني فقوله عليه‌السلام : « فهو من مال بائعه » أي تلف المثمن في أيّام خيار المشتري في يده من مال البائع ، فإسراء هذا الحكم إلى الثمن وتلفه في يد البائع في أيّام خياره المختصّ به من مال المشتري أشبه بالقياس ، بل هو نفسه. وقد تقدّم كلّ ذلك فلا نطول المقام.

وأما جريانها في المبيع الكلي فيما إذا طبق البائع على فرد ومصداق وأعطاه وسلّمه إلى المشتري ، فقد تقدّم الكلام والإشكال في شمولها له فلا نعيد.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

١٥٤

٢٠ ـ قاعدة

حرمة أخذ الأجرة

على الواجبات‌

١٥٥
١٥٦

قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات (*)

ومن القواعد الفقهيّة المعروفة بين الفقهاء أنّه « يحرم أخذ الأجرة على كلّ ما هو واجب عليه ».

فنقول : اختلف الفقهاء في أنّه هل يجوز أخذ الأجرة على الواجبات أم لا؟

فالمشهور ذهبوا إلى عدم الجواز مطلقا ، بل ادعى جماعة الإجماع عليه ، كما في الرياض (١) ، وجامع المقاصد (٢) في بعض فروع المسألة ، وذهب بعضهم إلى الجواز مطلقا ، وبعضهم فصّل بين التعبّدي والتوصّلي ، فقال بالجواز في خصوص الثاني ، وفصّل آخرون بين التعييني والتخييري ، وجماعة أخرى بين الكفائي والعيني ، وبعضهم فصّل بين الكفائي والتوصّلي فقال بالجواز ومنع في سائر الأقسام ، إلى سائر التفاصيل التي يجدها المتتبّع في كلام القول لا يهمّنا ذكرها ، وإنّما المهمّ بيان ما هو الحقّ في المسألة ، ويعلم منه قهرا حال سائر الأقوال.

فنقول : إنّ الحقّ في المقام هو عدم جواز أخذ الأجرة بل مطلق العوض ـ بأيّ عنوان كان ، سواء أكان من باب الإجارة أو من باب سائر العقود المعاوضيّة ـ على مطلق ما هو واجب على الإنسان فعله ، سواء أكان واجبا عينيّا أو كفائيّا ، أو تعيينيّا أو تخييريّا ، نفسيّا أو غيريّا ، تعبّديّا أو توصّليّا ، إلاّ على احتمال في التخيير الشرعي.

__________________

(*) « بلغة الفقيه » ج ٢ ، ص ٣ ـ ٤٤ ، « رسالة في حرمة أخذ الأجرة على الواجبات » ( اصفهانى ) مع « الحاشية على المكاسب » ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص ١١٩ ، « قواعد فقهي » ص ١٤٩ ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج ١ ، ص ٥٠٥.

(١) « رياض المسائل » ج ١ ، ص ٥٠٥.

(٢) « جامع المقاصد » ج ٤ ، ص ٣٦.

١٥٧

نعم هناك شي‌ء يجب التنبيه عليه وهو أنّ هذا الذي نقول من عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات فيما إذا كان الشي‌ء واجبا بالمعنى الاسم المصدري ، وأمّا إذا كان واجبا بالمعنى المصدري فلا مانع من أخذ الأجرة عليه ، وسيأتي تفصيل هذا الكلام وتحقيقه عند التكلّم في الواجبات النظاميّة إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت ما ذكرنا فلا بدّ في تحقيق المقام من تمهيد مقدّمة ، وهي أنّه يشترط في صحّة عقد الإجارة ـ بل في سائر العقود المعاوضيّة التي تقع على الأعمال ـ أمور :

الأوّل : أن لا يكون سفهيّا ، أي يكون في العمل منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء تعود إلى المستأجر ، وإلاّ يكون أكل المال بإزائه أكل للمال بالباطل وهذا واضح جدا.

الثاني : أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر لأنّ حقيقة الإجارة هي تمليك العمل للمستأجر بعوض مالي معلوم في إجارة الأعمال ، فإذا لم يكن هذا العمل قابلا لأن يملكه المستأجر فتكون هذه المعاوضة باطلة ، لأنّ حقيقة المعاوضة بين شيئين لا يتحقّق إلاّ بعد إمكان أن يدخل كلّ واحد من العوضين في ملك الآخر ، وهذا أمر زائد على الشرط الأوّل ، لأنّه من الممكن أن تعود منفعة العمل إلى شخص بدون دخول العمل في ملكه.

الثالث : أن يكون العمل مقدورا للعامل تكوينا وتشريعا ، وفعلا وتركا.

أمّا اشتراط القدرة التكوينيّة في العمل المستأجر عليه بالنسبة إلى العامل فمعلوم ، لأنّه لو كان عاجزا عن العمل ـ والمفروض أنّ الإجارة وقعت على عمله مباشرة ـ فلا يقدر على تسليم العمل الذي استؤجر عليه ، ومعلوم أنّ مثل هذه المعاملة لغو في نظر العقلاء ، ويكون من قبيل « وهب الأمير ما لا يملكه ».

وأمّا اشتراط القدرة التشريعيّة فلأنّ الشارع لو سلب القدرة في عالم التشريع عن مثل هذا العمل فيرى العامل في عالم اعتباره التشريعي عاجزا فيرى المعاملة باطلة.

فظهر أنّ صحّة المعاملة في باب إجارة الأعمال متوقّفة على أن يكون الأجير قادرا‌

١٥٨

على فعل العمل وتركه تكوينا وتشريعا.

إن قلت : عرفنا لزوم القدرة على الفعل ، ولكن لما ذا يلزم القدرة على الترك؟

قلنا : لأنّ معنى مقدوريّة فعل من الأفعال هو أن يكون الفعل والترك بإرادته وتحت اختياره ، وإلاّ لو كان الفعل ضروريّا ، كحركة الارتعاش في اليد مثلا ، لا يقال إنّ هذا الفعل مقدور له.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إن الواجب بأقسامها فيما عدا الواجب التخييري الشرعي التوصلي ـ على احتمال سيأتي ـ لو كان الواجب هو العمل بالمعنى الاسم المصدري ـ أي يكون المطلوب منه العمل الصادر ، لا جهة إصدار العمل ، لأنّ في العمل جهتين : إحداهما نفس الصادر ، والثانية جهة إصداره ، أي فاعليّة العامل لهذا العمل. وربما يكون هذا هو المراد من قولهم : جهة انتساب الفعل إلى فاعل مأخوذ في معنى المصدر ، بخلاف اسم المصدر ـ فلا يمكن أخذ الأجرة عليه ، لأنّ الفعل والعمل بواسطة الإيجاب خرج عن تحت قدرته واختياره تشريعا ، لأنّ الشارع في عالم تشريعه يرى العمل ضروري الوجود وأنّه ليس للمكلف تركه ، فكما أنّ في الحركة الارتعاشيّة في عالم التكوين ليس له تركه وخارج عن تحت قدرته تكوينا ، كذلك في جميع الواجبات في باب الأعمال إذا كانت واجبة بالمعنى الاسم المصدري تخرج عن تحت قدرة المكلف تشريعا ، فليس بقادر على العمل تشريعا.

وقد ذكرنا في المقدّمة إناطة صحّة الإجارة على أن يكون العمل مقدورا تكوينا وتشريعا ، ولذا قلنا بعدم صحّة الإجارة على الفعل المحرّم.

فالحاصل أنّ العمدة في عدم صحّة أخذ الأجرة على الواجبات بحيث يكون وافيا بجميع أقسام الواجب ـ من التعبّدي والتوصّلي ، والعيني والكفائي ، والتعييني والتخييري ، والنفسي والغيري ـ هو هذا الوجه ، وإلاّ سائر الوجوه التي ذكروها إمّا غير تامّ في حدّ نفسه ، أو أخصّ من المدعى.

١٥٩

ومن جملة الوجوه التي ذكروها في المقام هو الإجماع على عدم الصحّة.

ولكن أنت خبير أوّلا بأنّ الإجماع في أمثال هذه المسائل التي مدرك المجمعين ومستند المتّفقين معلوم ليس من الإجماع المصطلح عند المتأخرين الذي بنينا على حجيّته ، بل لا بدّ من الرجوع إلى مداركهم والنظر فيها ، وأنّها هل صحيحة هي أم لا؟

وثانيا : كيف يمكن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة التي اختلاف الأقوال فيها بهذه الكثرة.

ومن جملتها منافاة أخذ الأجرة لقصد الإخلاص والقربة.

وأجاب عن هذا صاحب الجواهر قدس سرّه بأنّ الإجارة توجب تأكّد الإخلاص ، لأنّ الوجوب يتضاعف بسبب الإجارة (١).

وأورد عليه شيخنا الأعظم قدس سرّه في مكاسبه ، بأنّ العمل الذي ليس فيه أجر دنيوي ، وكون الداعي على إتيانه فقط هو امتثال أمر الله تعالى ، قطعا أخلص من العمل الذي فيه أجر دنيوي ، ويكون تمام الداعي أو بعضه على الإتيان ذلك الأجر ، بل إذا كان تمام الداعي ذلك الأجر الدنيوي فلا إخلاص فيه أصلا ، لا أنّ العمل المجرّد أخلص فقط (٢).

فالإنصاف أنّ أخذ الأجرة في العباديات ينافي الإخلاص وقصد القربة ، وإنكاره مكابرة.

ولكن هذا الدليل كما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرّه أخصّ من المدّعى ، من جهة عدم شموله للتوصّليّات ، بل أعمّ من المدّعى من وجه ، لجريانه في المندوبات التعبّديّة التي هي مندوبة ومستحبّة على نفس الأجير (٣).

إن قلت : إن كان أخذ الأجرة ينافي الإخلاص فما تقول في العبادات المستأجرة‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٢ ، ص ١١٧.

(٢) « المكاسب » ص ٦٢.

(٣) المصدر.

١٦٠