القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

١٨ ـ قاعدة

ما يضمن بصحيحة

يضمن بفساده‌

١٠١
١٠٢

قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده (*)

ومن القواعد الفقهية المعروفة المشهورة قاعدة « كلّ ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها ومستندها‌

فنقول : وهو أمور ذكرها الفقهاء :

الأوّل : قاعدة الإقدام.

الثاني : قاعدة الاحترام.

الثالث : قاعدة اليد.

والرابع : الإجماع.

امّا الأوّل أي قاعدة الإقدام ، فالمراد بها أنّ كلا المتعاقدين أقدما على أن يكون مال‌

__________________

(*) « الحق المبين » ص ٨٨ و ١٣٨ ، « عناوين الأصول » عنوان ٦٣ ، « بلغة الفقيه » ج ١ ، ص ٦٧ و ١١٦ ، « مجموع قواعد فقه » ص ٧١ ، « قواعد فقه » ص ٩٠ ، « القواعد » ص ٢٠٩ ، « قواعد فقه » ص ١٩١ ، « قواعد الفقهية » ص ٩٨ ، « قواعد فقهية » ص ١٠٥ ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج ٤ ، ص ٢١٣ ، « قواعد الفقهية » ص ٧٤ ، « مجله حقوقي » العام ٢ ، ش ١٧ ، قاعدة كل عقد يضمن بصحيحه ، « فصل نامه حق » دفتر ١١ و ١٢ ، العام ١٣٦٦ ، قاعدة ما يضمن ، « بررسى فقهي حقوقي قاعدة ما يضمن » ماجستير ، مجيد فرخي مقدم ، مدرسة الشهيد مطهري العالية.

١٠٣

الآخر له بضمان لا مجّانا وبلا عوض ، ولذلك لو كانت المعاملة صحيحة كان كلّ واحد منهما ضامنا للمسمّى حسب إقدامه والتزامه ، فالبائع مثلا يكون ضامنا للمبيع المسمّى بمعنى أنه في عهدته ويجب عليه تفريغ ما في ذمّته بإعطاء المبيع المسمى في العقد للمشتري ، وكذلك الأمر في طرف المشتري.

واستشكل على هذا الوجه أوّلا بأنّ إقدام المتعاملين على أن يكون أخذ مال صاحبه وإن كان مبنيّا على أن يكون بعوض أي ما هو المسمّى في العقد من الطرفين ، ولكن كان هذا الإقدام والالتزام بالمسمّى ـ والمفروض عدم إمضاء الشارع ما التزما به وأقدما عليه ـ وهو أن يكون أخذ كلّ واحد منهما مال صاحبه بالعوض المسمّى ، فضمان كلّ واحد منهما لمال الآخر إذا تلف ولم يكن إتلاف في البين يحتاج إلى دليل آخر غير الإقدام ، لعدم إقدامهما على ضمان المثل والقيمة.

ثانيا : أنّه ما الدليل على أنّ إقدامه هذا ملزم له على ضمانه بالمثل أو القيمة ، فإنّ ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ليس في البين ، لأنّ المفروض فساد العقد وعدم إلزام من طرف الشارع على الوفاء بهذه المعاملة والعقد ، فلو فرضنا أنّه أقدم على أصل الضمان وعينه في المسمّى والشارع لم يمض لزوم إعطاء المسمّى مع التزامه هو بذلك وقلنا إنّ التزامه بأصل الضمان باق ، غاية الأمر لم يلزمه الشارع بإعطاء تلك الخصوصيّة وجوّز له عدم إعطائه لها لكن عليه العمل على طبق إقدامه فيما عدا تلك الخصوصية ، فيبقى السؤال ـ بعد التسليم على أنّ إقدامه على أصل الضمان غير الإقدام على الخصوصيّة ، وهناك إقدامان ـ عن أنّه ما هو الملزم لوجوب العمل على طبق هذا الإقدام.

وبعبارة أخرى : إنّ هذا التزام ابتدائي لا يجب العمل به تكليفا ، ولا يوجب اشتغال الذمّة والعهدة وضعا الذي يسمّى بالضمان.

وإن شئت قلت : إنّ الالتزامات التي تقع بين الناس بصورة المعاوضة والمبادلة إن‌

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

١٠٤

أمضاها الشارع وحكم بلزوم الوفاء بها فيجب الوفاء ، وإلاّ فهو مخيّر بين الوفاء بها وبين عدم الوفاء إن لم تكن المعاملة والوفاء بها محرّما ، وإلاّ فإن كان محرّما شرعا كبيع الخمر أو البيع الربوي فلا يجوز الوفاء به ، والمفروض في المقام فساد العقد والمعاملة وعدم إمضاء الشارع لها ، فلا قيمة لهذا الالتزام والإقدام.

ولكن يمكن أن يقال : إن العقلاء بناؤهم في أبواب معاملاتهم على أنّه إذا أخذ شيئا من الطرف بعنوان أن يعطي بدله وعوضه فإن تراضيا على عوض معين وسمياه ـ وهو الذي نسمّيه بالمسمّى ـ فإن تعذّر ذلك المسمّى فيرون المأخوذ مضمونا على الأخذ بالضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة. فلو تلف المأخوذ في يده يرونه ضامنا ، فإذا حكم الشارع بفساد معاملة وعدم لزوم أداء المسمّى لذلك الآخر فيرونه ضامنا بالضمان الواقعي ، ولم يصدر ردع عن هذا البناء ، فيكون ضمان المقبوض بالعقد الفاسد إذا تلف عند القابض على القاعدة ، ودليله بناء العقلاء مع عدم ردع الشارع الذي هو كاشف عن الإمضاء. فهذا يكون دليلا خامسا لهذه القاعدة.

وحاصل الكلام أنّ بناء العقلاء في معاملاتهم على أنّ الذي يأخذ ويقبض مال الغير بعنوان المعاوضة والمبادلة بإعطائه له ما يساويه ـ وإن كان الأخذ بهذا القصد في المعاملة غير الصحيحة عندهم لفقد ما هو مانع عندهم ـ لا يذهب ما أخذه هدرا ولا يكون مجّانا ، بل يرونه ضامنا لما أخذ ومشغولا ذمّته بما قبض. نعم حيث أنّ المعاملة الكذائية باطلة عندهم فلا يرون ذمّته مشغولة بالمسمّى.

وأما أصل اشتغال ذمّته وكون ضمان ما قبض على عهدته فشي‌ء مفروغ عنه ، ولعلّ نظر شيخ الطائفة (١) أبو جعفر الطوسي قدس سرّه في استدلاله للضمان في المقبوض بالعقد الفاسد وأمثاله من المتقدمين بأنّه أقدم على الأخذ والقبض بالضمان إلى ما قلناه ، وإلاّ فهذا الكلام بظاهره ظاهر الخلل.

__________________

(١) انظر : « المبسوط » ج ٣ ، ص ٦٤.

١٠٥

وأمّا الثاني : أي قاعدة الاحترام ، وهي عبارة عن احترام مال المؤمن وأنّ حرمته كحرمة دمه.

فتقريب دلالتها في المقام هو أنّه بعد ما حكم الشارع بفساد هذه المعاملة وعدم دخول كلّ واحد من العوضين في ملك الآخر لخلل في نفس العقد ، أو في المتعاقدين ، أو في العوضين فقبض كلّ واحد من المتعاملين لمال الآخر بدون اشتغال ذمّته بشي‌ء في قباله ، معناه أنه لا احترام لهذا المال ويذهب هدرا لو تلف بدون إتلاف من طرف القابض ، وهذا مناف مع جعل الشارع حرمته كحرمة دم مالكه ، فكونه محترما معناه أنّ القابض إذا لم يكن مالكا له لفساد المعاملة يكون ضامنا لدركه ، بمعنى أنّه لو تلف فعليه غرامته بالمثل أو القيمة ، لا أنّه يجب عليه الردّ فقط فصرف تكليف ولا ضمان في البين. هذا ما ذكروه.

ولكنّ الإنصاف أنّ صرف كون المال محترما لا يدلّ على أنّه بمحض القبض يكون ضامنا ويكون المال في عهدته ، بل قضيّة احترامه عدم جواز التصرّف فيه بدون إذنه ، وأنّه لو تصرّف فيه وأتلف أو نقص شي‌ء منه بسبب تصرّفه بدون إذن صاحبه فيكون ضامنا لذلك التلف أو ذلك النقص وعليه غرامته إلاّ أن تكون يده يد ضمان. وسنتكلّم عنها ونقول إنّها دليل مستقلّ ، بل هي العمدة في هذا الباب.

والحاصل : أنّ مفاد قاعدة الاحترام هو أنّ مال المؤمن محترم مثل دمه ، فكما أنّه لو جاء ضيف إليه فمات حتف أنفه عنده ليس على المضيف شي‌ء ، فكذلك لو قبض ماله لا بالقهر والغلبة ـ حتّى تكون يده عادية ـ لا شي‌ء عليه لو تلف بالتلف السماوي من دون ارتباط إلى القابض ، لا مباشرة ولا تسبيبا.

ولا منافاة بين عدم الضمان والاحترام ولذلك قال الشيخ الأعظم (١) وشيخنا‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ١٠٣.

١٠٦

الأستاذ (١) ـ قدس‌سرهما ـ أنّ الضمان في المقام مستند إلى اليد ، والمقصود من ذكر قاعدة الإقدام وكذلك الاحترام عدم ما يوجب تخصيص قاعدة اليد ، بمعنى أنّ اليد على مال الغير موجبة للضمان إلاّ في المال الذي لا احترام له كمال الكافر غير الذمّي ، وأيضا إلاّ فيما إذا أقدم على إعطائه مجّانا وبلا عوض. فقاعدة الاحترام لأجل عدم وجود المخصص وهو عدم احترام المال ، والإقدام كذلك أيضا لأنّ إقدامه على الإعطاء مجّانا وبلا عوض يوجب تخصيص قاعدة اليد بل تخصّصه.

وامّا الثالث : أي قاعدة اليد ، والمراد به النبوي المشهور ، أعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » (٢).

وهذا الحديث الشريف من ناحية السند من جهة شهرته بين الفريقين غنيّ عن البحث والتكلّم فيه ، من جهة أنّ هذه الشهرة توجب الوثوق بصدوره منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تقرّر في الأصول أنّ موضوع الحجّية الخبر الموثوق الصدور.

وأمّا من ناحية الدلالة فنقول : الظاهر أنّ الظرف ظرف مستقر ، أي يكون عامله من أفعال العموم ك‍ « مستقر » أو « ثابت » وأمثال ذلك ، لا أنّه ظرف لغو كي يكون عامله من أفعال الخصوص مثل « يجب » و « يلزم » وأمثالهما.

وذلك لجهات :

الأولى : من جهة أنّه لو كان متعلّقا بأحد أفعال الخصوص فلا بدّ من تقدير كلمة « الردّ » أو « الأداء » وأمثال ذلك ، لأنّ الموصول كناية عن المال المأخوذ. ويجب أن يلزم ويحتم على اليد المال المأخوذ لا معنى له ، لأنّ الوجوب واللزوم لا بدّ وأن يتعلّق بالأفعال لا بالذوات ، فلا بدّ وأن يقدّر كلمة « الردّ » وما يشبهه حتّى يكون معنى الحديث يجب أو يلزم على اليد ـ أي على المسيطر ـ ردّ المال الذي أخذه ، أو أداؤه ، أو‌

__________________

(١) « منية الطالب » ج ١ ، ص ١١٨.

(٢) « مستدرك الوسائل » ج ١٤ ، ص ٧ ، أبواب كتاب الوديعة ، باب ١ ، ح ١٥٩٤٤.

١٠٧

إعطاءه وأمثال ذلك حتّى يستقيم المعنى ، ولا شكّ في أنّ التقدير خلاف الأصل.

الثانية : أنّه لو كان الظرف ظرف لغو وكان متعلّقا بـ « يجب » أو « يلزم » فيكون الحكم معنى في لسان دليله بإتيان متعلّقه وامتثاله ، وهذا ركيك إلى الغاية ، لأنّ المعنى بناء على هذا يصير هكذا : يجب ردّ ما أخذه المسيطر وأداؤه حتى يردّ ويؤدّي. ومثل هذا الكلام لا ينبغي أن ينسب إلى سوقيّ وهو من عامّة النّاس ، فضلا عمّن هو ربّ الفصاحة والبلاغة وأفصح من نطق بالعناد.

الثالثة : أنّ ظاهر الكلام أنّ نفس ما أخذته اليد عليها لا ردّها وأدائها ، ولا يمكن أخذ هذا الظاهر إلاّ بأن يكون العامل من أفعال العموم ، لأنّه حينئذ يصير المعنى أنّ ما أخذته اليد أي المال الذي وقع تحت سيطرة القابض يستقر ويثبت عليه ، وهذا عبارة أخرى عن أنّ القابض ضامن لما قبضه ، لأنّ الضمان في المقام عبارة عن كون المال المقبوض على عهدة القابض بوجوده الاعتباري ، لأنّ وجوده التكويني تحت اليد ويكون القابض مسيطرا عليه.

فالشارع اعتبر هذا المال الذي وقع تحت يد القابض وسيطرته على عهدته ، فالوجود التكويني لذلك المال تحت اليد ، والوجود الاعتباري فوق اليد عهدته مشغولة به ، ولا يرتفع عن العهدة إلاّ بأداء ما هو مصداق لذلك الوجود الاعتباري ويحمل عليه بالحمل الشائع.

وهذا الذي ذكرناه من كون ذلك الوجود الاعتباري فوق اليد ومستقرّ وثابت في العهدة يستفاد من ظهور كلمة « على » في الاستعلاء.

ومن الواضح البيّن أنّ ما أخذته أي المال المقبوض حيث أنّه لا يمكن أن يكون بوجوده الخارجي في العهدة ـ لأنّ العهدة وعاء الموجودات في عالم الاعتبار ، بل هو نفس تلك الموجودات الاعتبارية ، كما أنّ الذهن عبارة عن نفس تلك الموجودات الذهنيّة ، لا أنّه هناك ظرف ومظروف متغايران ـ فلا بدّ وأن يكون في العهدة بذلك‌

١٠٨

الوجود الاعتباري.

وهذا الاعتبار سواء أكان من طرف الشارع أو من طرف العقلاء لا يزول ولا ينعدم إلاّ بأداء ما هو مصداق لذلك الوجود الاعتباري بالحمل الشائع ، وهذا هو عين الضمان إذا العرف لا يفهم من الضمان إلاّ هذا المعنى.

ولا شكّ في أنّه ما دامت العين ـ أي نفس المال المقبوض الذي هو تحت اليد ـ موجودة فيكون المصداق الحقيقي لذلك الوجود الاعتباري هو نفس المال الخارجي ، إذ هو واجد للجهات الثلاث أي المقوّمات النوعيّة ، والصفات الصنفيّة ، والمشخصات الخارجيّة ، وذلك كما أنّ صورة الذهنيّة لذلك المال الشخصي مصداقها الحقيقي أوّلا وبالذات بدون عناية هو نفس ذلك المال الخارجي. وأمّا إذا تلف المال فمصداقه المثل مع وجوده وعدم تعذّره بل وعدم تعسّره ، لأنّ المثل واجد لجهات نوعيّته وصنفيّته ، وإن كان فاقدا لجهات شخصيّة المال.

نعم مع فقد المثل لا يمكن أداء التالف إلاّ من جهة ماليّته وهذه الجهات الثلاث مترتّبة وطولية في مقام تفريغ الذمة عما ثبتت واستقرّت على عهدته بمعنى أنّه لا تصل النوبة إلى المثل إلاّ بعد تعذّر الشخص ، ولا إلى القيمة والمالية إلاّ بعد تعذّر المثل. وهذا المعنى الذي ذكرنا للضمان هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء في باب الضمان.

وخلاصة الكلام أنّ الحديث الشريف يدلّ على أنّ مال الغير إذا وقع تحت يد شخص وسيطرته يكون مستقرّا وثابتا في عهدته حتّى يؤدّيه على بعض النسخ ، أو حتّى يؤدّي بدون الهاء في بعض النسخ الأخر.

وهذا الاختلاف في النسخ لا يؤثر في معنى الحديث وإن احتمل بعض أنّ كلمة « يؤديه » مع الهاء يؤيّد أنّ الظرف ظرف مستقرّ ، لا أنّه ظرف لغو حتّى يكون عامله من أفعال الخصوص مثل « يجب » و « يلزم » لأنّ هذه الكلمة مع الهاء معناه أنّه يؤدّي ذلك الذي أخذه ونفس ما وقع تحت اليد ، ووجوب ردّ نفس ما وقع تحت اليد بعد‌

١٠٩

التلف غير معقول ، بل المعنى المعقول منه هو أنّ ذلك المأخوذ على عهدته ولا يفرغ ذمّته إلاّ بأداء ذلك الأمر الاعتباري الذي على عهدته بالترتيب الذي ذكرنا.

ولكن أنت خبير بأنّه لا فرق من هذه الجهة بين أن يكون الظرف لغوا أو مستقرّا ، ومتعلّقه من أفعال العموم أو الخصوص ، إذ بناء على الأخير أيضا لا مانع من أن يكون المراد أنّه يجب ردّ نفس ذلك الشي‌ء الذي أخذ بأحد الوجوه الثلاثة المتقدّمة.

كما أنّ ما احتمله بعض آخر ـ من أنّ مفاد الحديث بقرينة وجود هذا الضمير عبارة عن وجوب الردّ تكليفا ما دامت العين موجودة وقبل التلف ، إذ بعد التلف لا يمكن ردّه فلا ربط له بباب الضمان أصلا ـ لا وجه له لما ذكرنا من أنّ معنى الحديث وظاهره المتفاهم عرفا هو كون المأخوذ وما هو تحت اليد والسيطرة على عهدته مستقرّا وثابتا إلى أن يفرغ ذمّته ويؤدّي ذلك الشي‌ء بأحد الوجوه الثلاثة المترتّبة الطوليّة المتقدّمة.

وامّا الرابع أي الإجماع ، فقد ادّعاه جمع من أساتذة الفقه وأساطين هذا الفنّ وأرسلوه إرسال المسلّمات ، ولكن مع ذلك كلّه ليس من الإجماع المصطلح الأصولي الذي بنينا على حجيته ، إذ الذي سلّمنا حجّيته كان عبارة عن اتّفاق الكلّ أو الجلّ مع عدم مستند في البين ، فحينئذ يكون مثل ذلك الاتّفاق كاشفا عن تلقّيهم الحكم عن الإمام المعصوم. وفيما نحن فيه على فرض تسليم الاتّفاق حيث أنّ بعضهم تمسّكوا بقاعدة الإقدام ، وبعض آخر بقاعدة الاحترام ، وجمع آخر بحديث على اليد فيسقط اتفاقهم عن الاعتبار ولا بدّ من المراجعة إلى نفس المدارك.

وقد حكى الشيخ الأعظم عن شيخ الطائفة وفقيه عصره في شرح القواعد وابن إدريس في السرائر ـ قدس أسرارهم ـ الإجماع على هذا الحكم (١). ولكن عرفت ما في التمسّك بالإجماع في هذا المقام.

__________________

(١) « المكاسب » ص ١٠١.

١١٠

الجهة الثانية

في مفاد هذه القاعدة ومعناها‌

فنقول : تارة يعبّر عن هذه القاعدة بما جعلناه عنوان هذه الكلية في أوّل هذه المسألة ، وهو « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » وأخرى يعبّر عنها بـ « كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ». ولا شكّ في أنّ الأوّل أشمل من الثاني لشموله الإيقاعات أيضا ، بخلاف الثاني فإنّه مخصوص بالعقود ، وذلك من جهة ظهور لفظة « ما » الموصولة في الأعمّ من العقد والإيقاع ، بخلاف لفظ « العقد » المذكور في الجملة الأخيرة فإنّه لا يمكن أن يكون أعمّ من نفسه ومن غيره.

فبناء على كون القاعدة الكليّة هو الأوّل فيشمل الجعالة والخلع أيضا ، وبناء على الثاني تكون مختصّة بالعقود ، أعمّ من أن يكون لازما أو جائزا.

وأمّا الضمان فقد ذكرنا أنّ المتفاهم العرفي منه أنّ الشي‌ء بماليّته يكون على العهدة ، وبيّنّا معنى كون الشي‌ء في العهدة وأنّه بوجوده الاعتباري هناك لا بوجوده الخارجي فإنّه غير معقول ، وهذا المعنى هو الجامع بين ضمان المسمّى والضمان الواقعي ، غاية الأمر في ضمان المسمّى يعيّنون ماليّة ذلك في مقدار معيّن من النقود أو في عين من الأعيان المتمولة وأمّا مع عدم تعيين ماليّة الشي‌ء في نقد أو جنس من الطرفين ـ أي الضامن والمضمون ـ فقهرا يكون الضمان عبارة عن اشتغال ذمّته بذلك الشي‌ء بواقع ماليّته ، على الترتيب الذي تقدّم من الجهات الثلاث. فليس الضمان في الضمان الواقعي مغايرا بحسب المفهوم والمعنى مع ضمان المسمّى ، بل كلاهما بمعنى واحد ، غاية الأمر في الضمان المسمّى برضائه الطرفين بل بالتزامهما تعيّن في شي‌ء ، فمع إمضاء العقلاء والشارع يجب عليهما العمل بما التزما.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه بناء على تماميّة هذه القاعدة واعتبارها فالضمان في الصحيح‌

١١١

والفاسد بمعنى واحد ، غاية الأمر في الصحيح حيث أنّ المتعاملين عيّنا ضمان كلّ واحد من العوضين في الآخر والتزما بذلك ، وأمضى الشارع هذه المعاوضة والالتزام من الطرفين فيجب على كلّ واحد منهما الوفاء بالتزامه.

وأمّا في الفاسد حيث أنّ الشارع لم يمض تلك المبادلة وذلك الالتزام الذي التزم به الطرفان فلا يجب الوفاء ، فلا يبقى محلّ ومجال لضمان المسمّى. فإن دلّت هذه القاعدة ـ كما هو مفادها ـ أنّ في الفاسد أيضا ضمان فلا بدّ وأن يكون هو الضمان الواقعي أي المثل أو القيمة بعد تعذّر المثل أو تعسّره ، فالضمان في الفاسد على تقدير ثبوته بعد تلف المقبوض بالعقد الفاسد بالمثل أو القيمة يكون على طبق القاعدة.

وخلاصة الكلام أنّ مفاد هذه القاعدة هو أنّ المقبوض بالعقد الفاسد أو بالإيقاع الفاسد بناء على التعميم لا يذهب هدرا ، بل مضمون على القابض بمعنى أنّ نفس المقبوض والمأخوذ بوجوده الاعتباري في عهدة القابض وفي ذمّته ولا يفرغ إلاّ بأدائه إلى صاحبه ، وأداؤه ما دام كان المال المأخوذ موجودا يكون بأداء نفس العين المأخوذة ، ومع تلفه فبالمثل إن كان مثليّا وبالقيمة إن كان قيميّا.

فما ذكره ابن إدريس من أنّ المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب عند المحصّلين إلاّ في الإثم (١) لا يخلوا من وجه.

ومدرك هذا الحكم الكلّي هي قاعدة على اليد ، أي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » وفي بعض النسخ « حتى تؤدّيه » وقد تقدّم في الجهة الأولى كيفيّة دلالة الحديث الشريف على الضمان ، نعم فيما إذا كان صاحب المال المقبوض أعطاه مجّانا بحيث لو كان هذا العقد الفاسد فعلا صحيحا لما كان على القابض شي‌ء ولم يكن ضامنا لا بالمسمّى ، لأنّه ليس مسمّى في البين على الفرض ، ولا بالضمان الواقعي ، لأنّه لا سبب للضمان إلاّ ما ربما يتخيّل من كونه هي اليد التي جعلها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث سببا‌

__________________

(١) « السرائر » ج ٢ ، ص ٣٢٦ وص ٤٨٨.

١١٢

للضمان ، ولكن المورد ـ أي فيما إذا لم يكن الإعطاء بعنوان العوض والمبادلة ، بل كان تمليكا أو إباحة بلا عوض ـ خارج عن موضوع الحديث ، أي عن تحت قاعدة « وعلى اليد » تخصيصا أو تخصّصا ، بمعنى أنّه لو أخذنا بظاهر عموم على اليد ، وقلنا بأنّ لهذه الجملة إطلاق شمولي يشمل كلّ يد ، سواء كانت مأذونة من قبل المالك أو من قبل الله أو كانت غير مأذونة فالمورد خارج تخصيصا ، لأنّه لا شكّ في خروج اليد المأذونة عن هذا العموم ، وعدم شمول هذا الحكم أي الضمان لها.

وأمّا لو قلنا بأنّ المراد من « اليد » التي جعلت في الحديث الشريف موضوعا للضمان خصوص اليد العادية أو غير المأذونة فخارج بالتخصّص وهو واضح.

ومن هنا يستخرج كليّة أخرى عكس الكلّية الأولى ، وهي « كلّ ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده » ، وذلك من جهة أنّ العقد الذي لا يضمن بصحيحه ـ كالهبة غير المعوّضة ، والعارية غير المضمونة في غير الدرهم والدينار وأمثال المذكورات ممّا لا ضمان في صحيحها ـ لا بدّ وأن يكون بناء المتعاقدين على الأخذ والإعطاء مجّانا وبلا عوض ، فأمّا قاعدة على اليد فلا تشملها ، لما ذكرنا من خروج المذكورات عن عمومها تخصيصا أو تخصّصا. ولا إتلاف في البين ، لأنّ المفروض هو تلف المقبوض لا إتلافه ، فليس موجب ضمان في البين ، أمّا الضمان الواقعي فقد عرفت أنّه لا إتلاف على الفرض ولا تشمله عموم على اليد ، وأمّا ضمان المسمّى فعدمه من جهة عدم المسمّى إذ المفروض أنّه لو كان صحيحا فلا ضمان فكيف يعقل أن يكون في فاسده ضمان المسمّى ، مع أنّه بلا مسمّى.

فتلخّص أنّ مدرك الضمان هي قاعدة على اليد وهي جارية في الكلّية الأولى ، أي ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، لذلك نقول بالضمان. وأمّا في الكلّية الثانية فلا تجري ، ولذلك نقول بعدم الضمان فيما لا يضمن بصحيحه ، فظهر صحّة كلتا الكلّيتين أصلا وعكسا.

١١٣

وأمّا البحث في أنّ الباء في هذه الكلّية هل للسببيّة أو الظرفيّة لا أثر له بعد وضوح المراد ، وقد بيّنّا المراد ومفاد الكلّيتين. ولا شكّ في استعمال الباء في كلا المعنيين في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الذين يستشهد بكلامهم على صحّة الاستعمال ، ولا ظهور في خصوص أحد المعنيين إلاّ بالقرينة ، وفي المقام يصحّ بكلا المعنيين.

أمّا الظرفية فواضح ، لأنّه بناء عليها يكون المعنى كلّ عقد أو إيقاع يكون في صحيحه ضمان ففي فاسده أيضا كذلك. وفي الكلّية السلبيّة أيضا كذلك ، أي يكون مفادها : كلّ ما ليس في صحيحة ضمان ففي فاسده أيضا ليس ضمان.

وأمّا السببيّة فليس المراد السبب التامّ ، أي العلّة التامّة بحيث يكون المؤثّر في الضمان هو العقد فقط ، ولا يكون لشي‌ء آخر دخل فيه أصلا ، لأنّ مثل هذا المعنى لا يمكن الالتزام به حتّى في الصحيح فضلا عن الفاسد ، إذ لا شكّ في مدخليّة القبض فيه أيضا في الضمان لما تقرّر في محلّه من أنّ تلف المبيع بل الثمن أيضا قبل القبض من مال صاحبه الذي كان له قبل وقوع المعاملة ، فالعقد في الصحيح أيضا ليس تمام الموضوع لضمان كلّ واحد من المتعاملين لمال صاحبه ، بل الموضوع هو العقد مع القبض ، وفي الفاسد أيضا العقد باعتبار كونه مصداقا للإقدام مع القبض باعتبار كونه مصداقا لليد.

وأمّا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سرّه في هذا المقام من أنّ شرطيّة القبض لكون العقد سببا للضمان (١) لا ينافي استناد الضمان إلى العقد ، إن كان مراده أنّ شرطيّة القبض لا ينافي كون العقد تمام الموضوع وسببا تامّا للضمان فلا يخلو من غرابة. وإن كان مراده أنّها لا ينافي اقتضاء العقد للضمان ومدخليّته فيه فهذا شي‌ء واضح ، ليس قابلا للإنكار.

ولكن الطرف يدّعى أنّ العقد الفاسد أيضا له تأثير ومدخلية في الضمان باعتبار كونه مصداقا للإقدام كما بيّنّا وتقدّم.

ثمَّ إنّ العموم في هذه الكليّة أصلا وعكسا ـ سواء كان الأصل كلّ عقد يضمن أو‌

__________________

(١) « منية الطالب » ج ١ ، ص ١٢٠.

١١٤

كلّ ما يضمن ـ هل هو باعتبار الأنواع ، أو الأصناف ، أو الأشخاص؟

الظاهر هو الأخير.

والإشكال عليه ـ بأنّ الشخص لا يمكن أن يكون مقسما للصحيح والفاسد ، بل إذا كان صحيحا فهو صحيح دائما وإلى الأبد ، ولا يتغيّر عمّا هو عليه وإلاّ يصير شخصا آخر ، وكذلك في العكس أي إذا كان فاسد فهو لا يتغيّر عمّا هو عليه ـ لا يرد ، لأنّه ليس المراد أنّ هذا الشخص الخارجي الذي صحيح وفاسد ، صحيحه كذا وفاسده كذا ، بل المراد أنّ كلّ عقد أو إيقاع كان بحيث أنّه على تقدير أن يكون صحيحا فيكون فيه الضمان فهو على تقدير فساده أيضا يكون فيه الضمان أي بعد القبض ، وكلّ عقد أو إيقاع على تقدير صحّته لا يوجب الضمان لأنّه أقدم على أن يكون مجّانا وبلا عوض فهو على تقدير فساده أيضا لا يوجب الضمان لأنّه أقدم على أن يكون بلا عوض ومجّانا فيكون بواسطة هذا الإقدام خارجا عن تحت عموم على اليد تخصيصا أو تخصصا. وهذا الحكم عامّ يشمل جميع أشخاص طبيعة العقد أو الإيقاع.

إن قلت : إنّ ظاهر الكلّيّة هو أنّ كلّ شخص من أشخاص العقد بناء على أن يكون العموم بلحاظ الأشخاص والأفراد لا الأنواع والأصناف فعلا يكون مقسما للقسمين ، أي كلّ واحد منهما فعلا واجد للصحّة والفساد. وهذا محال لاجتماع الضدّين أو النقيضين ، وكيف يكون عقد شخصي واحد متّصفا بالصحّة والفساد معا.

قلنا : ليست هذه الجملة بهذه الصورة وهذه الألفاظ واردة في آية أو رواية معتبرة حتّى تقول يجب الأخذ بظاهرها وظاهرها كذا وكذا بل لا بدّ من الأخذ بها بمقدار ما يدلّ عليه مدركها. ولا شكّ في أنّ مدركها بناء على ما تقدّم أنّه قاعدة على اليد بضميمة عدم الإقدام مجّانا كي يكون من باب تخصيص القاعدة أو تخصصها به ، بل دخل في المعاملة وأقدم على الإعطاء بعنوان المبادلة والمعاوضة لا مجّانا ، فكلّ مورد انطبق عليه أحد هذين الضابطين يحكم بحكمه ، بمعنى أنّ كل عقد لا يكون بعنوان‌

١١٥

المبادلة والمعاوضة بحيث لو كان صحيحا واجدا لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة فيه شرعا وعرفا ولا يكون فيه مانع من الموانع ، فمع ذلك لا يوجب الضمان لأنّه أقدم على إعطاء ماله مجّانا وبلا عوض فلا تؤثّر اليد في الضمان ، فيكون فاسده أيضا كذلك. وكلّ مورد يكون صحيحه موجبا للضمان لعدم إقدامه مجانا ففاسده أيضا كذلك.

وذلك من جهة أنّ الصحّة والفساد لا دخل لها في الضمان وعدمه ، بل المناط كلّ المناط هو وقوع اليد على مال الغير مع إقدام ذلك الغير على الإعطاء بعنوان المعاوضة والمبادلة فيكون فيه الضمان ، أو بلا تعويض فليس فيه ضمان.

وأنت خبير بأنّ هذا حكم تقديري يشمل جميع أشخاص العقود ، كسائر القضايا الحقيقيّة المقدّرة الوجود. ولا خصوصية لهذه القضية من بين سائر القضايا الحقيقيّة حتّى يقع مورد البحث والاحتمالات والنقض والإبرام.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌

وقد عرفت جريانها في جميع العقود المعاوضيّة.

فمنها : البيع‌ ففي صحيحة ضمان ، لأنّه عبارة عن تمليك عين متمول بعوض مالي. وكذلك في فاسده لما ذكرنا مفصلا فلا نعيد.

نعم لو قال : بعتك بلا ثمن ، وقبض الطرف فهذه القاعدة تقتضي عدم الضمان ، لأنّ مثل هذا البيع على تقدير صحّته لا ضمان فيه لأنّه أقدم مجّانا وبلا عوض.

ومنها : الإجارة ، ومعلوم أنّ صحيح الإجارة موجب للضمان بالنسبة إلى منافع العين المستأجرة ، سواء استوفى المنافع أو لم يستوفها ولكن بعد قبض العين المستأجرة ، فكذلك في فاسدها يكون ضامنا للمنافع بعد قبض العين التي استأجرها ، سواء‌

١١٦

استوفى تلك المنافع أم لم يستوفها.

لا يقال : تلك المنافع غير المستوفاة لم تقع تحت اليد كي يكون ضامنها ضمان اليد ، ولا استوفاها كي يكون ضمان الاستيفاء لقاعدة احترام مال المؤمن ، ولا العقد صحيح كي يكون ضمان المسمّى بواسطة لزوم الوفاء بالعقد ، فبأي وجه يكون ضامنا للمنافع غير المستوفاة.

لأنّا نقول : الضمان ضمان اليد ، لأنّ اليد على العين يد على المنافع لأنه لا شكّ في أنّ المراد من اليد ليس هي الجارحة المخصوصة حتّى يقال إنّ المنافع غير المستوفاة معدومة فكيف تقع تلك الأشياء المعدومة تحت الجارحة المخصوصة ، بل المراد من اليد هو الاستيلاء ، ولا شكّ في أنّ المستولي على العين المستأجرة مستول على منافعه الموجودة وغير الموجودة التي يمكن استيفاؤها.

هذا كلّه بالنسبة إلى المنافع ، وأمّا بالنسبة إلى نفس العين فالأقوال فيها مختلفة ، وبعضهم قالوا بالضمان مع عدم الضمان في الصحيح منها لو تلفت العين المستأجرة بدون تعدّ وتفريط ، لأنّها أمانة مالكيّة سلّمها إلى المستأجر لاستيفاء حقّه من تلك العين ، ويجب على الموجر التسليم للزوم الوفاء بالعقد ، فيد المستأجر في الإجارة الصحيحة يد مأذونة من قبل المالك ، ويد استحقاق لا يوجب الضمان. وأمّا في الفاسدة فليست يد مأذونة واستحقاق ، بل تسليمها إلى المستأجر ليس إلاّ من جهة تخيّل الموجر استحقاقه وهو في الواقع ليس بمستحق ، فتكون يده يد غصب وعدوان فيضمن المقبوض.

ونسب هذا القول في الرياض إلى جمع الفائدة للأردبيلي مدّعيا أنّه المفهوم من كلمات الأصحاب (١) ، فبناء على هذا يكون هذا نقضا على الكليّة السلبية ، أي جملة « ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » لأنّ الإجارة الصحيحة لا يضمن فيها العين‌

__________________

(١) راجع : « رياض المسائل » ج ٢ ، ص ٨.

١١٧

بالتلف السماوي بدون تعدّ وتفريط مع أنّه في فاسدها ضمان بناء على هذا القول.

وبعض آخر قالوا بعدم الضمان. وبه صرّح العلاّمة قدس سرّه في التذكرة (١) ، وأيضا في جامع المقاصد استظهر القول بعدم الضمان من كلمات الأصحاب حيث قال في باب الغصب : إنّ الذي يلوح من كلامهم هو عدم ضمان العين المستأجرة فاسدة. لكنّه هو نفسه قال : والذي ينساق إليه النظر هو الضمان ، لأنّ التصرّف فيه حرام لأنّه غصب فيضمنه (٢).

والتحقيق في هذا المقام هو أن يقال : إن كانت العين داخلة في مصبّ الإجارة فلا ضمان ، لا في صحيحها ولا في فاسدها ، وذلك أمّا في صحيحها فمن جهة أنّ مالك العين المستأجرة يلزم عليه تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر ، فتكون يد المستأجر يد مأذونة من قبل المالك ويد استحقاق ، فلا موجب للضمان وهو واضح. وأمّا في فاسدها فمن جهة أنّ العين حيث أنّها مصبّ الإجارة فدخل المالك على عدم الضمان بهذا الاستيلاء.

وقد عرفت أنّ إقدام المالك على تسليم ماله إلى الطرف بعنوان عدم الضمان يوجب عدم تأثير اليد في الضمان ، بل يوجب تخصيصه أو تخصّصه.

وأمّا إن لم تكن داخلة في مصبّ الإجارة بمعنى أنّ الإجارة تتعلّق بالمنفعة لا بالعين ، ففي الصحيح منها وإن كان أيضا لا ضمان بالنسبة إلى العين من جهة أنّ استيفاء المنفعة حيث أنّه متوقّف على تسليم العين في مثل إجارة الدار للسكنى والدكان للاشتغال فيه ، فيجب على المؤجر إعطائها وتسليمها إلى المستأجر من باب كونه مقدّمة لتسليم المنفعة إليه ، حيث أنّه بدونه لا يمكن ، فليس يد المستأجر القابض يد ضامن.

ولكن عدم الضمان ليس من جهة أنّ هذا العقد ليس فيه ضمان حتّى يقال في فاسده أيضا لا ضمان بحكم الكليّة الثانية ، أي الكلية السلبية ، لأنّه أمر خارج عن‌

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٣١٨.

(٢) « جامع المقاصد » ج ١ ، ص ٢١٦.

١١٨

مصبّ العقد.

وأمّا في الفاسدة فالضمان فيها بناء على هذا ـ أي بناء على عدم دخول العين في مصبّ الإجارة ـ يكون على طبق القواعد الأولية ، لأنّ يده وقعت على مال الغير من دون كونه مقدّما على إعطاء ماله لاستحقاق الطرف ، لأنّ المفروض أنّ الإجارة باطلة ولا استحقاق للطرف أصلا. هذا على حسب كلّ واحد من الاحتمالين. ولكن الظاهر في إجارة الأعيان أنّ العين داخلة في مصبّ الإجارة ، وحقيقة الإجارة في إجارة الأعيان وإن كان عبارة عن تمليك منفعة العين بعوض مالي معلوم ، ولكن تمليك المنفعة ليس بعنوانها مستقلّة بل بعنوان أنّها من صفات العين وعوارضها ، فالإجارة متعلّقة بالعين ومعنى إجارة العين تمليك منفعتها المعلومة بعوض معلوم ، ولذلك يقول المؤجر في مقام إنشاء الإجارة « آجرت هذه الدار أو هذا الدكان مثلا بكذا » ويفهم العرف من هذه العبارة أنّه ملك منفعة الدار ، أو الدكان ، أو الانتفاع بهما للمستأجر ، فالإجارة المتعلّقة بالعين تفيد هذا المعنى حتّى فيما تكون المنفعة من الأعيان ، كالثمرة التي على الشجرة ، وكالحليب في الشاة المنحة تلاحظ في إجارة الشجرة والشاة المنحة بوجودها التبعي أي الوصفي العرضي ، وإلاّ يكون بيعا للثمرة والحليب لا إجارة.

وحاصل الكلام أنّ الإجارة تتعلّق أوّلا وبالذات بالعين ، غاية الأمر باعتبار وصفها وعرضها الكذائي.

ويمكن أن يقال في باب الأجير أيضا يكون الأمر كذلك وإن كان الأجير حرا ، أي تعلّق الإجارة بنفس الحرّ باعتبار الانتفاع بعمله الكذائي. والشاهد على ذلك أنّ في عقد الإجارة ، الأجير يقول « آجرتك نفسي لعمل كذا » فتكون العين دائما في جميع أقسام الإجارات داخلة في مصبّ الإجارة ومتعلّقة لها ففي جميع أقسام الإجارات الفاسدة يكون الضمان بالنسبة إلى العين تابعا للضمان في الصحيحة ، وحيث لا ضمان في‌

١١٩

الصحيحة منها لما ذكرنا من أنّ يد المستأجر يد مأذونة ويد استحقاق فتكون يده عليها بتسليم المالك لها إليه بواسطة لزوم الوفاء بالعقد فلا موجب للضمان ، وهذا الحكم جار حتّى في الأجير إذا كان عبدا أو أمة ، ففي جميعها تكون اليد يد أمانة مالكيّة ، ولا ضمان للعين لو لم يكن تعدّ ولا تفريط في البين ، فالكلّيتان إيجابا وسلبا ، أي قولهم « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » لا انتقاض فيهما.

وأمّا الأجير إذا كان حرّا فلا معنى للضمان ، لا في الصحيح ولا في الفاسد.

ومنها : العارية ، فإنّ في صحيحها في غير المضمونة وفي غير الذهب والفضة لا ضمان ، وكذلك في فاسدها في غير ذينك الموردين ، لعين ما ذكرنا في الإجارة من أنّ اليد والاستيلاء وقعت بإذن المالك مجّانا وبلا تعويض ، فلا تكون اليد يد ضمان لإقدام المالك على المجّانية وعدم التعويض بخلاف العقود المعاوضيّة فإنّ تسليم المالك ماله إلى الطرف هناك بعنوان التعويض وأخذ البدل.

وأمّا في فاسدها فيما إذا كانت مضمونة ، كما إذا شرط المعير ضامنها أو كانت عارية الذهب والفضة ، فمقتضى الكليّة الإيجابية أي « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » هو الضمان في المذكورات ، ولكن بناء على ما ذكرنا في وجه الضمان من وقوع اليد على مال الغير وعدم إقدامه على المجّانية وعدم التعويض ففي القسم الأوّل من المذكورات ـ أي فيما إذا اشترط الضمان ـ لا بدّ وأن نقول بالضمان لو تلف بعد قبض المستعير كما هو المفروض ، لأنّ المالك لم يقدم على المجّانية وعدم التعويض بل اشترط العوض.

وأمّا في الثاني ـ أي فيما إذا كانت عارية الذهب والفضّة ـ فإنّ قلنا بأنّ الضمان حكم تعبّدي من قبل الشارع وإلاّ فالمالك لم يقصد التعويض بل قصد إعطاء ماله للمستعير مجّانا وبلا عوض ، فتكون يد المتعير يد أمانة ولا ضمان. وهذا هو الصحيح كما هو واضح.

ومنها : الهبة ، وهي على قسمين : معوضة ، وغير معوّضة.

١٢٠