القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

[ المبحث ] السادس‌

قد عرفت فيما تقدّم أنّ الأفعال والعناوين القصديّة لا تجري فيها أصالة الصحّة إلاّ بعد إحراز أنّ الغير الفاعل لذلك الفعل قصد عنوان ذلك العنوان القصدي ، وقد ذكرنا من باب المثال أنّ الذي يصلّي صلاة الظهر مثلا لا تجري أصالة الصحّة في فعله بعد صدوره عنه إلاّ بعد إحراز أنّه قصد عنوان الظهريّة في المثال المذكور. ولا شكّ في أنّ النيابة من العناوين القصديّة ، بمعنى أنّه لو حجّ ، أو زار أحد المعصومين عليهم‌السلام بدون قصد النيابة عن قبل زيد مثلا ، لا تقع النيابة عن قبل زيد. وأمّا إذا أحرز المستنيب أنّ النائب قصد بفعله النيابة عن قبله بمحرز وجداني أو تعبّدي ، وشكّ في أنّ النائب هل أتى بالحجّ مثلا بجميع ما اعتبر فيه وجودا كالأجزاء والشرائط ، أو عدما كالموانع أم لا ، فتجري أصالة الصحّة في فعل النائب ، ويثبت بها أنّه بجميع ما اعتبر فيه ؛ فيسقط عن المنوب عنه ويستحقّ النائب الأجرة إن كان بأجرة هذا.

ولكن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره أفاد أنّ لفعل النائب عنوانين :

أحدهما من حيث أنّه فعل من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشرائط ، وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه ، مثل استحقاق الأجرة ، وجواز استيجاره ثانيا بناء على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحّة استيجاره ثانيا.

الثاني من حيث أنّه فعل للمنوب عنه ، حيث أنّه بمنزلة الفاعل بالتسبيب والآلة ، وكان الفعل بعد قصد النيابة والبدليّة قائما بالمنوب عنه ، وبهذا الاعتبار يراعي فيه القصر والإتمام في صلاة ، والتمتّع والقران في الحجّ ، والترتيب في الفوائت. والصحّة من الحيثيّة الأولى لا يثبت الصحّة من هذه الحيثيّة الثانية ، بل لا بدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب.

٣٠١

وبعبارة أخرى : إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه من حيث أنّه فعل الغير كفت أصالة الصحّة في السقوط ، كما في الصلاة على الميّت ، وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلا له ولو على وجه التسبيب. إلى أن قال : لم تنفع أصالة الصحّة في سقوطه ، بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيتين انتهى. (١)

ولكن أنت خبير بأنّ ما هو موضوع سقوط التكليف عن المنوب عنه ـ وعدم وجوب الاستيجار عليه ثانيا مع موضوع استحقاق النائب للأجرة إذا كان أجيرا ـ واحد ، وهو صدور الفعل التامّ الأجزاء والشرائط وفاقد الموانع ـ أي الفعل الصحيح ـ مع إحراز أنّه قصد بهذا الفعل النيابة عن ذلك المنوب عنه ، والمفروض أنّ المنوب عنه أحرز أنّه قصد النيابة عنه. وأمّا صحّة فعله ـ وأنّه واجد لجميع الأجزاء والشرائط ، وفاقد للموانع ـ فبأصالة الصحّة ؛ فلا وجه لعدم سقوط التكليف عن المنوب عنه. ولا يحتاج إلى إثبات أن هذا فعل المنوب عنه بالتسبيب ، بل ولو كان محتاجا إلى ذلك فليس ذلك مربوطا بأصالة الصحّة ، بل يتحقّق الانتساب إليه إمّا من ناحية استنابته له ، وإمّا من ناحية قصد النائب النيابة عنه ، وكلا الأمرين لا ربط له بأصالة الصحّة.

إن قلت : نعم هذا الفعل الصادر من النائب منتسب إلى المنوب عنه بالاستنابة أو بقصد النائب ، ولكن الفعل المنتسب إليه فعل مشكوك الصحّة والفساد ، وما هو موضوع سقوط التكليف عنه هو انتساب الفعل الصحيح إليه ، فيحتاج إلى إحراز صحّته ، ولا يمكن إحرازها بأصالة الصحّة لما ذكرنا من أنّها لا تثبت الصحّة من حيث أنّه فعل المنوب عنه ، بل تثبت الصحّة من حيث أنّه فعل النائب.

قلت : بعد ما كان هذا الفعل الصادر عن النائب منتسبا إلى المنوب عنه ولو ادّعاء ومجازا ، وحكم الشارع بأنّه تامّ وصحيح ، فهذا الفعل الذي صحيح تعبّدا منتسب إلى المنوب عنه فهو في الأثر مثل انتساب الفعل الصحيح الوجداني. هذا ، مضافا إلى ما‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٧٢٧.

٣٠٢

ذكرنا من أنّ موضوع سقوط التكليف عن المنوب عنه هو صدور الفعل الصحيح وجدانا أو تعبدا عن النائب بقصد النيابة عنه ، ولا يحتاج إلى انتساب الفعل إليه.

نعم لا بدّ للمنوب عنه أو من يستنيب عنه إحراز أنّ النائب قصد النيابة عنه ، فهل يثبت وجود هذا القصد ويتحقّق في عالم الإثبات بأخبار النائب مطلقا ، أو فيما إذا كان عادلا ، أو لا يثبت به وإن كان عادلا ما لم يحصل وثوق واطمينان من قوله وإخباره؟

والحق هو هذا الأخير ؛ لأنّه لا دليل على حجّية قول العادل الواحد في الموضوعات ، بل ظاهر رواية مسعدة خلافه وأنّه على ذلك حتّى تقوم عليه البينة (١) وإذا كان العادل الواحد لا يقبل فغير العادل بطريق أولى.

اللهمّ إلاّ أن يقال بقبول إقراره وسماعه بقاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به » ولا شكّ في أنّ النائب مالك لأنّ يفعل ما أنيب فيه.

وأمّا الأخير أي قبول قوله عند الوثوق والاطمئنان فلأنّ ذلك طريقة العقلاء في باب الأولياء والوكلاء والنواب في الأمور التي بيدهم وأودعت تحت تصرّفهم ، فالناس يصدّقونهم في تلك الأمور ، ولا يطلبون منهم البيّنة إذا كانوا موثوقين ومورد الاطمئنان. والظاهر أنّ الشارع أمضى هذه الطريقة ولو بعدم الردع.

المبحث السابع

في أنّها أصل أو أمارة‌

فإنّها إن كانت أمارة فبناء على ما تقدّم بأنّ جعل حجّية الأمارات من باب تتميم الكشف ، فتكون مثبتة لجميع الآثار التي لذلك الفعل الذي تجري فيه أصالة‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٣١٣ ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ح ٤٠ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٢٢٦ ، ح ٩٨٩ ، باب من الزيادات ، ح ٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٦٠ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٤ ، ح ٤.

٣٠٣

الصحّة إذا كان صحيحا واقعا ، سواء أكانت تلك الآثار آثارا شرعيّة ، أو كانت من اللوازم العقليّة التي لها آثار شرعيّة.

وأمّا إن كانت أصلا عمليّا سواء قلنا بأنّه من الأصول المحرزة أم لا ، بل كانت من الأصول غير المحرزة ، فلا يثبت بها إلاّ الآثار الشرعيّة التي تكون لذلك الفعل ، بلا واسطة أثر عقلي في البين.

وهذا الأمر ليس من مختصّات أصالة الصحّة ، بل يجري في كلّ أصل وأمارة. وهذا هو المراد من قولهم : إنّ مثبتات الأمارات حجّة دون الأصول.

وأمّا تعيين أنّها أمارة ، أو أصل محرز ، أو أصل غير محرز فهذا راجع إلى النظر في مدرك اعتباره.

فإن كان هو الإجماع ، فالقدر المتيقن من معقده هو ترتيب الآثار الشرعيّة التي للفعل الصحيح بلا واسطة لازمه العقلي ، سواء لم يكن لها واسطة أصلا ، أو كانت بواسطة الآثار الشرعيّة التي لذلك الفعل.

وأمّا إن كان هو بناء العقلاء كما اخترناه ، فإن كان بناؤهم على اعتبارها من جهة ظهور حال كلّ فاعل عاقل سواء كان مسلما أو غير مسلم في أنّه يفعل فعله وعمله صحيحا تاما ، لا ناقصا وفاسدا ، فإن قلنا إنّ بنائهم من جهة تتميمهم الكشف الناقص الموجود في ظهور حالهم ، فتكون أمارة وتكون مثبتاتها أيضا حجّة شأن كلّ أمارة.

وأمّا إن قلنا بأنّ بنائهم ليس من جهة تتميم الكشف ، بل يعملون طبق ذلك الظهور من دون أن يرونه طريقا وكاشفا تامّا في عالم اعتبارهم ، ولكن يعملون طبق ذلك الظهور عمل المتيقّن ، فيكون أصلا محرزا. وان كان عملهم طبق ذلك الظهور من دون بنائهم أنّه عمل المتيقّن ، فيكون أصلا غير محرز.

ولكن الظاهر من بنائهم هو الاحتمال الثاني ، فتكون من الأصول المحرزة ، وعلى كلّ حال ليس بناؤهم على ترتيب آثار الصحّة على فعل الغير من جهة كونه طريقا‌

٣٠٤

وكاشفا. ولا فرق في عدم حجّية مثبتاتها بين أن تكون أصلا محرزا أو غير محرز.

فبناء على هذا لا يثبت بأصالة الصحّة ما يلازم الفعل الصحيح عقلا ، بل يترتّب على ذلك الفعل الآثار الشرعيّة فقط. وفرّع الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره على هذا ـ أي على عدم إثبات أصالة الصحّة اللوازم العقليّة ـ وقال : إنّه لو شكّ في أنّ الشراء الصادر عن الغير كان بما لا يملك كالخمر والخنزير ، أو بعين من أعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء وعدم انتقال شي‌ء من تركته إلى البائع ؛ لأصالة عدمه. انتهى ما قال بعين عبارته. (١)

والظاهر من هذا الكلام أنّ هذه المعاملة صحيحة بحكم أصالة الصحّة ، ولكن لازم الصحّة عقلا أن يكون الثمن عينا من أعيان ماله ، لا الشي‌ء الذي لا يملك كالخمر والخنزير ؛ لأنّ ما لا يملك ليس قابلا للنقل والانتقال شرعا.

وبعبارة أخرى : ترديد الثمن بين ما لا يملك كالخمر والخنزير وبين عين من أعيان ماله ، إذا انضم إلى صحّة المعاملة يكون لازم الصحّة عقلا هو أن يكون الثمن المردّد منطبقا على ما هو المملوك ، إذ كون غير المملوك ثمنا ينافي صحّة المعاملة. ولكن حيث أنّ هذا من اللوازم العقليّة للصحّة لا من الآثار الشرعيّة ، وقد عرفت أنّ هذا الأصل لا يثبت اللوازم العقليّة ، فلا يثبت أنّ الثمن هو ذلك الفرد المملوك ، أي عين من أعيان تركته ، فيحكم بصحّة الشراء بأصالة الصحّة ويعطي المبيع لورثة المشتري ، ولكن لا ينتقل شي‌ء من تركته إلى البائع ؛ لأصالة عدم الانتقال ، ولا علم إجمالي بانتقال شي‌ء من تركته إلى البائع لاحتمال أن يكون الثمن هو ما لا يملك ، وتكون المعاملة باطلة. ولا ينافي احتمال بطلانها واقعا مع إجراء أصالة الصحّة ، بل مورد جريان أصالة الصحّة دائما هو مع احتمال البطلان.

نعم لا يجوز للوارث أو الورثة التصرّف في المبيع ومجموع التركة ، أو خصوص‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٨٢٨.

٣٠٥

تلك العين من أعيان ماله إذا كان طرف الترديد في الثمن المسمّى عينا معيّنا ؛ وذلك من جهة العلم الإجمالي إمّا بعدم دخول المبيع في ملك مورّثهم لو كان الثمن المسمّى ما لا يملك ، وإمّا بخروج تلك العين الشخصيّة أو مقدار ما يساوي المبيع من التركة عن ملك مورّثهم ، فيجب الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي.

وقد أشار إلى لزوم هذا الاحتياط الفقيه الهمداني قدس‌سره في حاشيته على رسائل شيخنا الأعظم الأنصاري في هذا المقام.

وقد اعترض شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره على ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري ، من الجمع بين صحّة الشراء وانتقال المبيع إلى المشتري المفروض ، وبين عدم انتقال شي‌ء من تركته إلى البائع ، بأنّه إن كان الثمن المردّة بين ما لا يملك كالخمر والخنزير وبين عين من أعيان ماله ، كان في حاقّ الواقع هو ما لا يملك ، فلا يدخل المبيع في ملك المشتري ؛ لأنّه يلزم أن يكون انتقال المبيع بلا ثمن ، وهذا ينافي مع حقيقة البيع ؛ لأنّ حقيقة البيع هي المبادلة بين المالين فلا يكون صحيحا. وإن كان هو ذلك المال الذي عيّنه وسمّاه ، فهذا مناف مع عدم انتقال شي‌ء من تركته.

وبعبارة أخرى : حاصل ما أفاد أنّ صحّة الشراء مع عدم انتقال شي‌ء من تركته إلى البائع متنافيان ، فيعلم إجمالا بكذب أحد الأصلين ، إمّا أصالة الصحّة ، وإمّا أصالة عدم الانتقال ، فيتساقطان بالتعارض.

ثمَّ أنّه قدس‌سره حكم ببطلان هذا الشراء وهذه المعاملة للشكّ في قابليّة الثمن للنقل والانتقال ؛ وذلك بناء على مبناه من أنّ أصالة الصحّة لا ترفع الشكّ الذي في جانب العوضين أو المتعاقدين. وقد تقدّم تفصيل ذلك.

ولكن أنت خبير بأنّه وإن كان كذلك بالنسبة إلى الصحّة الواقعيّة وانتقال المبيع واقعا إلى المشتري وعدم انتقال شي‌ء من تركته إلى البائع واقعا فإنّهما متنافيان ، ولكن‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٦٦.

٣٠٦

ليس كذلك بالنسبة إلى الصحّة الظاهريّة وعدم الانتقال ظاهرا ؛ لأنّه من الممكن عدم الصحّة واقعا ولكن الشارع حكم بالصحّة ظاهرا في ظرف الشكّ ، فحينئذ مع هذا الحكم الظاهري بالصحّة في المفروض لم ينتقل شي‌ء من تركته إلى البائع قطعا وكذلك في صورة العكس ـ أي في صورة حكم الشارع ظاهرا بعدم انتقال شي‌ء من تركته إلى البائع ـ لا مانع من صحّة المعاملة واقعا ؛ لأنّ عدم الانتقال الظاهري في ظرف الشكّ في الانتقال بحكم الاستصحاب لا ينافي الانتقال الواقعي ، فلا تنافي بين الظاهريين منهما كما في المقام بطريق أولى. وقد وقع نظيره كثيرا في مفاد الأصول والأحكام الظاهرية.

نعم نفس المشتري إذا كان حيّا أو ورثته ، إذا كان ميتا ليس لهم التصرّف في المبيع ، وذلك الذي كان طرف ترديد الثمن من أمواله للعلم الإجمالي المذكور لما ذكرنا. ولكن هذا شي‌ء آخر لا ربط له بما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري وأفاده ، ولعلّ عدم ذكره من جهة وضوحه.

المبحث الثامن

في تقديم أصالة الصحّة على الاستصحابات

الموضوعيّة أو تقديمها على أصالة الصحّة‌

فنقول : بناء على ما اخترنا من جريان أصالة الصحّة في شرائط العقد ، والعوضين ، والمتعاقدين عند الشكّ في وجودها فتكون حاكمة على الأصول الموضوعيّة العدميّة ولو كان من شروط العوضين أو المتعاقدين بناء على كونها أمارة ؛ وذلك من جهة كشفها عن وجود تلك الشرائط تعبّدا. فلا يبقى موضوع للاستصحابات أصلا في عالم الاعتبار التشريعي ، وهذا معنى الحكومة. فبناء على أماريّتها الأمر في غاية الوضوح.

٣٠٧

ولكن نحن أنكرنا أماريّتها وبنينا على أنّها من الأصول المحرزة ، فلا يمكننا القول بتقديمها على الاستصحابات العدميّة من جهة حكومة الأمارات على الأصول ، ولا بدّ من القول بوقوع التعارض ؛ لأنّ كليهما من الأصول المحرزة.

ولكن مع ذلك كلّه يمكن أن يقال أنّ مدرك حجيّة أصالة الصحّة إمّا الإجماع كما يقول به شيخنا الأستاذ قدس‌سره (١) وإمّا بناء العقلاء وسيرتهم من كافّة الأمم ، سواء كانوا مسلمين أو لم يكونوا كذلك.

فعلى الأوّل فلا بدّ وأن ينظر في الإجماع ، وأنّه هل لمعقده إطلاق ـ بحيث يشمل موارد الاستصحابات الموضوعيّة العدميّة في غير الشرائط التي دخيلة في تحقّق عنوان المعاملة عرفا ، إذ في الشكّ فيها لا مجال لجريان أصالة الصحّة كما تقدّم بيان ذلك تفصيلا ـ أم لا؟ فإن كان لمعقده إطلاق يشمل تلك الموارد ، فأيضا لا يبقى للاستصحابات الموضوعيّة مجال ؛ إذ إطلاق معقد الإجماع مثل الإطلاق الدليل اللفظي حاكم على الاستصحاب.

وأمّا إن كان المدرك لحجيّة أصالة الصحّة هو بناء العقلاء وسيرتهم ـ كما اخترناه ـ فالظاهر أيضا تقدّمها على تلك الاستصحابات.

بيان ذلك : أنّ سيرة العقلاء إذا قامت على شي‌ء فعدم ردع الشارع كاف في الإمضاء فحينئذ لا بدّ من أن ننظر إلى دليل الاستصحاب وأنّه هل صالح لأن يردع هذه السيرة أم لا؟

فنقول : لا شكّ في أنّ الاستصحاب وظيفة علميّة مجعولة للشاكّ المتحيّر ، فإذا قامت سيرة العقلاء في مورد الشكّ في صحّة معاملة إذا كان منشأ الشكّ فقد شرط أو وجود مانع لا دخل لها في تحقّق عنوان المعاملة عرفا ، سواء كانت من شرائط العقد ، أو من شرائط العوضين ، أو من شرائط المتعاقدين فلا يرى نفسه متحيّرا شاكّا ، بمعنى‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٥٤.

٣٠٨

أنّه لا يلتفت إلى كونه شاكّا ، وإن كان لو التفت إلى حاله يكون شاكّا ، ولكن لا يتحيّر فلا يرى نفسه موضوعا لخطاب « لا تنقض » حتّى يكون رادعا.

ولا تتوهّم من هذا أماريّة أصالة الصحّة ، وهو خلاف المفروض ، لأنّ فرضنا الآن على تقدير الأصليّة وأنّها أصل محرز ، وإلاّ فعلى تقدير الأماريّة بيّنّا حكومتها على الاستصحابات الموضوعيّة ، شأن حكومة كلّ أمارة على كلّ أصل. وذلك من جهة أنّ معنى الأمارة الشرعيّة أن يجعلها الشارع في عالم اعتباره التشريعي كاشفا تامّا ، ونحن ما ادّعينا مثل ذلك لها ، وإنّما قلنا أنّ بناء العقلاء على العلم على طبق المعاملة الصحيحة التامّة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ، وهذا المعنى لا يلازم جعلها كاشفا شرعا.

هذا ، مضافا إلى أنّه ما من مورد يشكّ في صحّة معاملة من أقسام المعاملات من العقود والإيقاعات ، إلاّ وأن يكون بالنسبة إلى بعض شرائط المتعاقدين أو العوضين مجرى استصحابات العدميّة ، فلو كانت تلك الاستصحابات مقدّمة على هذا الأصل لا يبقى مورد له أصلا ، أو كان مورده في غاية القلّة بحيث يكون مثل هذا التشريع لغوا ، بل يوجب سقوط هذا الأصل في تلك الموارد ـ سواء كان من باب تقديم تلك الاستصحابات ، أو من باب سقوطه بالمعارضة ـ اختلال النظام أيضا ، فلا بدّ من تقديمه على تلك الاستصحابات ، سواء قلنا بأنّه أصل أو أمارة.

وبعبارة أخرى : يكون هذا الأصل أخصّ بحسب المورد عن الاستصحاب ، فيكون مخصّصا لدليل الاستصحاب ، كما هو الشأن في مورد الخاصّ والعامّ المختلفين في الحكم. هذا تمام الكلام في مباحث أصالة الصحّة.

ثمَّ أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره ذكر أصالة الصحّة في الأقوال والاعتقادات ، وذكر للأوّل صورا وقال في بعضها بجريان أصالة الصحّة فيها ، وفي بعضها الآخر أنكر‌

٣٠٩

جريانها. (١)

ولكن جملة من الصور التي ذكرها لا ربط لها بأصالة الصحّة ، بل يكون مرجعها إلى أصالة الظهور الكاشف عن مراد المتكلّم ، أو الأصول التي تستعمل لتشخيص الظاهر عن غيره ، كأصالة الحقيقة ، وأصالة العموم ، وأصالة الإطلاق.

نعم الأقوال من حيث أنّها فعل من أفعال المكلّفين ، فإذا كان لصحيحها أثر شرعي فتجري فيها أصالة الصحّة بلا كلام. ولا إشكال مثل القراءة في الصلاة ، فإذا شكّ في أنّه أتى بها صحيحة أو فاسدة من جهة النقص في مادّتها من حيث مخارج الحروف ، أو نقيصة بعض حروف الكلمة ، أو من جهة النقص في إعرابه فتجري فيها أصالة الصحّة ويترتب عليه الأثر.

وأمّا أنّه أراد معناه الحقيقي ، أو المجازي ، أو ما أراد معنى أصلا ، أو ما أخبر به مطابق مع الواقع وصدق فيما أخبر أو كذب وأمثال ذلك ، فكلّ ذلك لا ربط له بأصالة الصحّة ، بل يرجع إمّا إلى أصالة الظهور ، أو إلى الأصول التي تستعمل لتشخيص الظاهر من غيره. وأمّا إنّه صادق أو كاذب فيرجع إلى أدّلة حجّية الخبر الواحد.

وأمّا الثاني ـ أي أصالة الصحّة في الاعتقادات ـ إن كان المراد من الاعتقادات العقائد في أصول الدين التي يجب العلم بها ومعرفتها ، فالشكّ في اعتقادها وأنّه هل اعتقاده صحيح أو فاسد ، مثلا إذا شكّ في اعتقاده بالله وأنّه واحد أحد لا شريك له ولا تركيب فيه ، لا ، من الأجزاء الخارجيّة ولا من الأجزاء العقلية ، وأنّ صفاته عين ذاته ، وأنّه واجب الوجود بالذات ، وأنّه تعالى مجمع الكمالات وينبوع الفضائل ، وأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشرف الخلائق أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين ، وأنّ الناس يحشرون بأجسامهم وأبدانهم الموجودة في دار الدنيا ، وأنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أمير المؤمنين ، وأولاده المعصومين أئمّة هداة مهديّون وحجج الله تعالى على الخلق أجمعين ، أو لا ، بل‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٧٣١.

٣١٠

لا يعترف بشي‌ء من المذكورات أو ببعضها ، وفرضنا لاعتقاده الصحيح أثر شرعي يجب ترتيبه عليه ، فإن أظهر ذلك الاعتقاد باللسان أو بدالّ آخر يكون ذلك الظاهر حجّة له ، أو عليه ، ولا ربط له بأصالة الصحّة.

وأمّا إن لم يظهر أو كان غائبا أو ميّتا ولكن لاعتقاده الصحيح أثر شرعا ولو بعد مماته ، وحصل هذا الشكّ فهل يحمل على الصحّة أم لا؟

والظاهر أنّه يحمل على الصحّة إذا علم أو ثبت بحجّة شرعيّة أنّه منتحل للإسلام وسيرة المسلمين قائمة على صحّة اعتقاد من يدّعي ويظهر الإسلام حتّى يعلم خلافه.

وأمّا إن كان المراد من الاعتقاد ، الاعتقاد في الفروع وأحكام الفقهيّة ، بمعنى رأي الفقيه واعتقاده مثلا بوجوب شي‌ء أو حرمته حيث أنّ لاعتقاده ورأيه إذا كان عن منشأ صحيح أثر بالنسبة إلى مقلّديه ، فإذا شكّ في أنّ هذا الرأي هل هو عن استنباط صحيح أم لا ، بل لم يؤدّ وظيفة الاستنباط كاملا بل تساهل وتسامح ، فالظاهر هو الحمل على الصحّة ، وعليه بناء عامّة المقلّدين في الأعصار والأمصار. ولكن هذا في الحقيقة إجراء أصالة الصحّة في الاستنباط ، لا في الاعتقاد.

نعم لا يمكن إثبات أنّ هذا الرأي والاعتقاد مطابق للواقع بأصالة الصحّة بالمعنى المذكور ؛ لأنّ الاستنباط ولو كان عن مدرك صحيح موافق للقواعد المقرّرة الفقهيّة والأصولية وكان في كمال الدقّة ، ومع ذلك كلّه قد يخطئ وقد يصيب ، فكون الاستنباط عن مدرك صحيح لا يلزم دوام الإصابة ، فلا يمكن الحكم بالإصابة ومطابقة هذا الرأي للواقع بإجراء أصالة الصحّة في الاستنباط. هذا تمام الكلام في أصالة الصحّة.

والحمد لله أوّلاً وآخراً.

٣١١
٣١٢

١٢ ـ قاعدتي

الفراغ والتجاوز‌

٣١٣
٣١٤

فراغ والتجاوز (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدتي الفراغ والتجاوز.

وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل

في أنّهما هل من الأصول التنزيليّة أو من الأمارات؟

وأمّا احتمال أن يكونا من الأصول غير التنزيليّة فبعيد لا ينبغي المصير إليه والبحث عنه.

فنقول : قد ذكرنا مرارا أنّ المناط في الأماريّة بناء على ما هو التحقيق في وجه حجيّتها هو تتميم كشفها في عالم الاعتبار التشريعي بعد ما كان فيها كشف ناقص ، فالشارع في عالم الاعتبار التشريعي يعتني بذلك الكشف الناقص التكويني ، ويحسبه ويعتبره كشفا تامّا.

فأماريّة الأمارة متوقّفة على أمرين : أحدهما : أن تكون فيه جهة كشف ناقص. والثاني : عدم إلغاء الشارع تلك الجهة ، بل اعتنائه بها واعتبارها كشفا تامّا وإن لم يكن تامّا بحسب التكوين ، بل احتمال الخلاف فيه موجود.

__________________

(*) « عناوين الأصول » عنوان ٥ ؛ « اصطلاحات الأصول » ص ١٩١ ؛ « قاعدة الفراغ والتجاوز » الهاشمي ؛ « القواعد » ص ١٩١ ؛ « قواعد فقهي » ص ٢٧٠ ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج ٢ ، ص ٢١٢ ؛ « ما وراء الفقه » ج ١ ، ص ٢٧٠ ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص ٢٤٦.

٣١٥

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في أنّ في مورد هاتين القاعدتين يكون لهما نحو كشف وطريقيّة ، لوجود العمل التام الصحيح بعد الفراغ في مورد قاعدة الفراغ ، ووجود الجزء المشكوك بعد تجاوز محلّه في قاعدة التجاوز ؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا أراد إيجاد عمل مركّب في الخارج فإرادته تتعلّق بإيجاد تمام أجزائه وشرائطه ، كلّ في محلّه إن كان له محلّ ، وترك جميع موانعه ، وإلاّ ليس في مقام الامتثال ، وهو خلاف الفرض.

فالظاهر أنّ العمل يصدر منه طبق تلك الإرادة ، وكما أنّه بعيد غاية البعد أن يريد إيجاد شي‌ء ويوجد شيئا مباينا لما أراد ، كذلك لا يخلو من البعد أن يريد إيجاد مجموع الأجزاء والشرائط وترك جميع الموانع ، ثمَّ يأتي ببعضها بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط ، ويترك بعضها بالنسبة إلى الموانع ولو غفلة ونسيانا ؛ لأنّ الغفلة والنسيان حالتان قد تعرض على الإنسان في بعض الأحيان بالنسبة إلى بعض الأعمال ، فهاتان الحالتان ليستا دائميّتين ولا غالبيّتين ، ولذلك بناء العقلاء على أصالة عدم الغفلة والنسيان عند الشكّ فيهما ، وذلك من جهة أنّ الغفلة والنسيان خروج عن مقتضى الطبع الأوّلي وإن قيل بأنّ السهو والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان.

وحاصل الكلام : أنّ مقتضى طبع الإرادة المتعلّقة بالمركّب إيجاده على طبقها ، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ الإرادة الكليّة المتعلّقة بالمركّب هي المحرّكة للعضلات نحو إيجاد الأجزاء ـ كما هو الحقّ ـ وبين القول بتولّد إرادات جزئيّة من تلك الإرادة الكليّة وتعلّق كلّ واحدة منها بجزء من الأجزاء ، أو شرط من الشروط ، أو ترك مانع من الموانع.

والسرّ في عدم الفرق أنّ وجود الأجزاء والشرائط وعدم الموانع بالآخرة مسبّب عن تلك الإرادة الكلّية ، غاية الأمر إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة.

إذا تبيّن ذلك وعرفت أنّ الجهة الأولى من الجهتين اللتين تتوقّف الأمارة عليهما موجود في مورد القاعدتين إلاّ وهو الكشف الناقص ، فلننظر في الجهة الثانية وهو أن‌

٣١٦

يكون الجعل الشرعي بلحاظ تلك الجهة وتتميم الكشف الناقص الموجود فيهما واعتباره كشفا تامّا.

ولا بدّ في تعيين هذه الجهة وتشخيصهما من ملاحظة أدلّة حجيّتهما وأنّ أيّ شي‌ء يستفاد منها.

فنقول : إنّ السنّة أدلّتهما مختلفة ، ففي بعضها حكم بأنّه يمضي ، وفي بعضها حكم بأنّ « شكّك ليس بشي‌ء » ، وفي جملة منها « إنّما الشكّ في شي‌ء لم تجزه ».

والإنصاف أنّ هذه العبارات على اختلافها لا تدلّ على أكثر من الجري العملي ، ولا يمكن إثبات الأماريّة بها. نعم في بعض أخبار الشكّ في أجزاء الوضوء بعد الفراغ عنه : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ » وظاهر هذا التعليل لعدم الإعادة هي الأماريّة ، وأنّ حجيّتها بلحاظ الكشف عن وجود المشكوك.

هذا كلّه بحسب الأخبار ، وأمّا بناء على كون حجيّتهما من باب بناء العقلاء على صحّة المركّب الذي صدر منهم إذا شكّوا في إتيانه كاملا بعد الفراغ عنه ، أو إذا شكّوا في إتيان جزء بعد التجاوز عن محلّه إذا كان للجزء محلّ ، فتكون القاعدتان من الأمارات يقينا ، وعلى كلّ حال تكونان مقدّما على الاستصحاب إمّا من باب الحكومة لو كانا من الأمارات ـ وقد أوضحنا وجه حكومة الأمارات على الأصول وإن كانت الأصول تنزيليّة ـ وأمّا بناء على كونهما من الأصول التنزيليّة ، فتقديمها على الاستصحاب من جهة كون جعلهما في مورد الاستصحاب غالبا ، فلو لم يقدّما عليه يلزم لغويّة جعلهما.

وربما يقال في وجه تقديمهما عليه وإن كانا من الأصول التنزيليّة أيضا بحكومتهما عليه ، كما لو كانا أمارتين من جهة أنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث ، ومفاد القاعدتين هو البناء على عدم الاعتناء بالشكّ في بقاء العدم ، بل البناء العملي على انقلاب العدم بالوجود ، فيرتفع موضوع الاستصحاب تعبّدا ،

٣١٧

وهذا معنى الحكومة ، فتأمّل.

ثمَّ إنّه لو شككنا ولم نحرز أنّهما من الأمارات أو من الأصول ، فمقتضى القاعدة عدم ترتيب آثار الأمارة عليهما من ترتيب آثار الشرعيّة التي للوازمهما العقليّة عليها ؛ لأنّ مرجع هذا الشكّ هو الشكّ في إثبات اللوازم بهما ، وإلاّ بالنسبة إلى أصل المؤدّى فلا فرق بينهما ، أي سواء كانا من الأصول أو من الأمارات يثبت المؤدّى بهما ، ومعلوم أنّ نتيجة الشكّ في حجيّتهما في إثبات اللوازم عدم حجيّتهما كما هو الشأن في كلّ مشكوك الحجيّة.

[ المبحث ] الثاني

في أنّهما من القواعد الفقهيّة أو من المسائل الأصولية؟

وقد ذكرنا مرارا أنّ الضابط في كون المسألة أصوليّة أن تكون واسطة في إثبات المحمولات الفقهيّة لموضوعاتها.

والسرّ في ذلك أنّه لا شكّ في أنّ كلّ قضيّة ومسألة ليس ثبوت محمولها لموضوعها بديهيّا ومبيّنا في نفسه ، فالتصديق بثبوت ذلك المحمول لذلك الموضوع يحتاج إلى دليل ومثبت ، وذلك الدليل والمثبت هو الذي تسمّيه بالواسطة في الإثبات. ولا شكّ في أنّ أغلب المسائل الفقهيّة نظريّة يحتاج إلى النظر والاجتهاد والاستنباط في عصر الغيبة ، بل وفي عصر حضور الإمام عليه‌السلام ، كما يظهر ذلك من أمرهم صلوات الله عليهم بعض أصحابهم في زمان حضورهم بالجلوس والإفتاء بين الناس.

فالمجتهد هو الذي يفتّش ويفحّص عن وجود الدليل على ثبوت محمول المسألة الفقهيّة لموضوعها ، والعلم المتكفّل لتعيين تلك الأدلّة هو علم الأصول ، فكل قاعدة ومسألة تقع نتيجة البحث عنها واسطة لإثبات محمول مسألة فقهيّة لموضوعها يكون من المسائل الأصولية ؛ لأنّه لا همّ ولا غرض للأصولي إلاّ معرفة المبادي التصديقيّة‌

٣١٨

للمسائل الفقهيّة والأدلّة لها ، ولأجل هذا الغرض وهذه النتيجة ألّفوا على الأصول ، ولذا عرّفوه : بأنّه العلم بالقواعد التي تقع كبرى في قياس يستنتج منه الحكم الشرعي الفرعي الكلّي.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فنقول : إنّ مفاد قاعدة الفراغ والتجاوز ليس إلاّ الحكم بصحّة العمل الذي فرغ منه ، وشكّ في أنّه هل أخلّ بذلك العمل المأمور به بترك جزء ، أو شرط ، أو إتيان مانع في قاعدة الفراغ ؛ وأيضا ليس إلاّ الحكم بإتيان جزء أو شرط إذا شكّ في إتيانه بعد تجاوز محلّه إذا عيّن له محلّ.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا المعنى الذي هو مفاد القاعدتين بنفسه حكم شرعي فرعي كلّي ينطبق على مواردها انطباق جميع الأحكام الشرعيّة الفرعيّة على مواردها ، وليس واسطة لإثبات حكم شرعي فرعي كلّي آخر ؛ فليست من المسائل الأصوليّة بل هما قاعدتان فقهيّتان.

بقي شي‌ء : وهو أنّه ما الفرق بين المسألة الفقهيّة وقاعدتها؟ ولما ذا سمّيتهما بالقاعدة الفقهيّة دون مسألتها.

والجواب أنّه صرف اصطلاح ، وإلاّ فليس ها هنا فرقا جوهريّا نعم جرى اصطلاحهم على تسمية المسائل العامّة التي تحتها مسائل ، وتنطبق على أبواب متعدّدة كمسألتينا ، هاتين حيث أنّهما تنطبقان على كلّ عمل شكّ في وقوع الخلل فيه وصحّته بعد الفراغ في قاعدة الفراغ ، وفي وجود أيّ جزء أو شرط شكّ في وجوده بعد التجاوز عن محلّه في قاعدة التجاوز في أيّ باب من أبواب الفقه ، بناء على عدم اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة ، وإلاّ تكون منحصرة فيها بأبواب الصلاة من أجزائها وشرائطها.

فقاعدة الفراغ تجري في جميع أبواب العبادات والمعاملات ، وقاعدة التجاوز أيضا كذلك ، بناء على عدم اختصاصها بالصلاة. وأمّا بناء على الاختصاص سمّيت بالقاعدة‌

٣١٩

لشمولها لجميع أبواب الصلاة من جميع أجزائها وشرائطها ، مثلا لو قال الفقيه : « لو شكّ المصلّي في القراءة بعد أن ركع فليمض في صلاته ولا يعتني بشكّه » فهذه مسألة فقهيّة. ولو قال : « لو شكّ في وجود أيّ جزء أو شرط للصلاة بعد التجاوز عن محلّه فليمض في صلاته ولا يعتني بشكّه » فهذه قاعدة فقهيّة ، وهذه هي قاعدة التجاوز. وهكذا الحال في سائر المسائل الفقهيّة وقواعدها.

[ المبحث ] الثالث

في أنّهما قاعدتين أو قاعدة واحدة؟

بمعنى أنّ الكبرى المجعول واحدة في كليهما ، أو الكبرى المجعول في إحديهما غير المجعول في الأخرى؟

أقول : لا شكّ في أنّ مفاد كلّ واحدة منهما ومفهومه غير مفهوم الآخر ؛ لأنّ قاعدة الفراغ عبارة عن الحكم بصحّة الشي‌ء المشكوك صحّته وتماميّته بعد الفراغ عنه ومضيّه ، وقاعدة التجاوز عبارة عن حكم الشارع بوجود الشي‌ء الذي شكّ في وجوده بعد التجاوز عن محلّه. وسنتكلّم إن شاء الله تعالى في أنّه ما المراد من المحلّ في بعض الأمور الآتية.

وبعد ما عرفت أنّ مفهوميهما ومفاديهما مختلفان ، فيرجع البحث إلى أنّ المجعول من قبل الشارع هل هو كبرى واحد ، بحيث ينطبق على كلا المفهومين ويكون كلا المفادين المذكورين من مصاديق تلك الكبرى المجعول الجامع بين مضمون القاعدتين أم لا؟

وهاهنا مقامان

الأوّل : في مقام الثبوت ، وأنّه هل يمكن في مقام التشريع جعل كبرى واحد تكون شاملة لكلتا القاعدتين وتنطبق على كلا المفادين ، أم لا يمكن؟ لعدم جامع بين‌

٣٢٠