القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

مثلا ـ وان كان هذا التسلّط بجعل المالك المسلم ـ يكون علوّا وسبيلا عليه.

وأمّا وقف العبد المسلم على الكافر ، فقد يقال بأنّ حال الوقف حال الإجارة فيما ذكرنا من الأقوال ، من المنع مطلقا ، والجواز كذلك ، والتفصيل الذي ذكرنا. واخترنا من المنع فيما يوجب الذلّ والهوان وعلوّ الكافر وسبيله على المسلم ، والجواز فيما عدا ذلك.

ولكنّ الظاهر أنّه بناء على القول يكون العين الموقوفة ملكا للموقوف عليهم فلا تصحّ مطلقا ؛ لأنّ نفس كون المسلم ملكا للكافر علوّ للكافر عليه ، وأي علوّ أعظم من كونه مالكا والمسلم مملوكا له ، وقد تقدّم هذا الكلام.

نعم لو قلنا بعدم كون عين الموقوفة ملكا للموقوف عليهم فلا بأس بما اخترناه من التفصيل ، كما أنّه لو وقف عبده المسلم على تعليم أقاربه الكفّار أو معالجة مرضاهم فلا منع وأمّا لو وقف على خدمتهم بأن يكون خادما أو خادمة في بيتهم مثلا فلا يجوز.

ثمَّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا من موارد الجواز والمنع بين فرق المسلمين ممّن يقرّون ويعترفون بنبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ كلّما جاء به من الأحكام الشرعيّة حق.

وبعبارة أخرى : الإسلام والإيمان هو شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، والاعتراف بوجوب الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ ، وبهذا تحقن الدماء ، وعليها جرت المواريث وجاز النكاح.

ويدلّ على هذا ما رواه حمران بن أعين ـ كما في الكافي ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « الإيمان ما استقرّ في القلب ، وأفضى به إلى الله عزّ وجلّ ، وصدّقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره. والإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح ، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فخرجوا بذلك من الكفر وأضيفوا إلى الإيمان ، إلى أن قال : فهل للمؤمن فضل على المسلم في شي‌ء من الفضائل‌

٢٠١

والأحكام وغير ذلك؟ فقال : لا ، هما يجريان في ذلك مجرى واحد » الحديث (١).

ولا يخفى أنّ ما ذكره في هذا الحديث من الفرق بين المؤمن والمسلم لا يدلّ على عدم اتّحادهما ، بل المراد من الإيمان الذي وصفه عليه‌السلام بما ذكره من الاستقرار في القلب ، والعمل بالطاعة لله عزّ وجلّ ، والتسليم لأمره هو أعلى مراتب الإيمان والإسلام ، ولا شكّ في أنّه كان للإسلام والإيمان في زمان نزول هذه الآية معنى واحد ، وفي كثير من الموارد من القرآن العظيم استعملا بمعنى واحد ؛ فالمؤمن في قوله تعالى : ( لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٢) يشمل جميع فرق المسلمين.

وأمّا عموم هذا الحكم لأطفال الكفّار والمسلمين ، بمعنى أنّ بيع عبد المسلم من أطفال الكفّار أو بيع طفل المسلم الذي هو عبد من الكفّار هل يجوز أم لا؟

الظاهر هو الشمول من الطرفين ، أي لا يجوز بيع أطفال المسلمين الذين هم عبيد من الكفّار ، ولو كان المشتري الكافر طفلا ؛ لوحدة الملاك والمناط ولو قلنا بعدم شمول لفظة « الكافرين » و « المؤمنين » لأطفال الطرفين ، مع أنّه لا وجه للقول بعدم الشمول ؛ لأنّه أيّ فرق في نظر العرف بين من كان عمره أقلّ بساعة عن حدّ البلوغ وبين من لا يكون.

اللهمّ إلاّ أن يدّعي أنّ الشارع استعمل لفظ « المسلم » فيمن كان بالغا وأظهر الاعتقاد بما ذكرنا ، ولفظ « الكافر » في البالغ غير المعتقد.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الادّعاء لا يخلو من غرابة.

ثمَّ إنّهم استثنوا من عدم جواز بيع العبد المسلم على الكافر موارد :

منها : فيما إذا كان الشراء سببا للانعتاق ، أي كان العبد أو الأمة ممّن ينعتق على المشتري الكافر ، لكونه من أقاربه الذين شرع هذا الحكم في حقّهم.

__________________

(١) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٦ ، باب أنّ الإيمان يشترك الإسلام و. ، ح ٥.

(٢) النساء (٤) : ١٤١.

٢٠٢

ولكن أنت خبير أنّ خروج هذا المورد عن تحت عموم الآية والحديث الشريف بالتخصّص لا بالتخصيص ، ويكون خروجا موضوعيّا ؛ لما ذكرنا من أنّ المراد من السبيل نفي الملكيّة المستقرّة ، فالملكيّة غير المستقرّة التي هي موضوع للانعتاق لقوله عليه‌السلام « إذا ملكوا أعتقوا » ، أو قوله عليه‌السلام « إذا ملكن أعتقن » (١).

ولا شكّ في أنّ نسبة الحكم والموضوع كنسبة العلّة والمعلول التقدّم والتأخر بينهما رتبي ، وإلاّ فحسب الزمان لا بدّ وأن يكونا متّحدين ، فمثل هذه الملكيّة لا يعدّ سبيلا وتكون خارجة عن مفهوم السبيل بل العلوّ قطعا.

ولا يتوهّم أنّ الشي‌ء لا يمكن أن يكون علّة انعدام نفسه ، فكيف صارت الملكيّة سببا للانعتاق؟

وذلك من جهة ما قلنا إنّ الملكيّة موضوع للانعتاق ، بمعنى أنّ الشارع حكم على ما صار ملكا له بالانعتاق ، ولعلّه هذا هو المراد من قولهم بالملكيّة آنا مّا ، وإن كان لا يخلو عن مسامحة ما.

فبناء على ما ذكرنا لا يبقى مجال لعدّ هذا المورد من موارد الاستثناء.

ومنها : من أقرّ بحرية مسلم ثمَّ اشتراه ، وأنّه يؤخذ بإقراره ويصير حرّا ظاهرا ، وإن كان بحسب الواقع عبدا.

نعم يردها هنا إشكال ، وهو العلم بفساد البيع إمّا لكونه حرّا ، وإمّا لكفر المشتري.

اللهم إلاّ أن يقال : إنّه على تقدير كونه واقعا عبدا فالبيع صحيح وليس كفر المشتري مانعا عن صحّة مثل هذا البيع ، لعدم صدق السبيل مع الأخذ بإقراره وصيرورته حرّا ولو ظاهرا.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ٢٤٣ ، ح ٨٧٧ ، باب العتق وأحكامه ، ح ١١٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩ ، أبواب بيع الحيوان ، باب ٤ ، ح ١.

٢٠٣

منها : فيما إذا قال الكافر لمالك العبد المسلم : أعتق عبدك عنّي ؛ لأنّه لا يمكن العتق عن الكافر إلاّ بالدخول في ملكه ، إذ لا عتق إلاّ في ملك. فالبناء على صحّة عتق عبده المسلم عن قبل الكافر ـ كما هو المشهور ـ وتوقّف العتق عن قبل شخص على كون ذلك الشخص مالكا ، لا بدّ وأن يقال باستثناء هذا المورد أيضا عن عموم عدم جواز بيع العبد المسلم على الكافر.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا أيضا يرجع إلى ملكيّة غير المستقرّة ؛ لأنّه بإنشاء العتق يجعله ملكا للكافر ويعتق عن قبله ، فالعتق عن قبل الكافر بالدلالة المطابقة ، وجعله مالكا بالالتزام. وقد عرفت أنّ خروج الملكيّة غير المستقرّة عن تحت هذه القاعدة يكون بالتخصيص لا بالتخصّص ، فلا مورد للاستثناء.

ومنها : فيما إذا اشترط البائع العبد المسلم على الكافر عتقه. فقال في الدروس (١) والروضة (٢) بالاستثناء عن عموم الآية والرواية.

ولكن أنت خبير بأنّ صرف الشرط لا يوجب الخروج عن تحت عموم السبيل ، وإلاّ فبدون الشرط أيضا يجب أن يبيعه من مسلم بل يباع عليه. والحقّ في المقام أنّه إن كان الشرط بنحو شرط النتيجة فخارج عن العموم ؛ لأنّه بمحض البيع على الكافر تقع النتيجة ويصير حرّا ، فليس إلاّ من الملكيّة غير المستقرّة ، وقد عرفت خروجه عن تحت العموم بالتخصّص.

ومنها : أي من الأمور المترتّبة على هذه القاعدة ومن موارد تطبيقها عدم ثبوت الولاية للكافر على المسلم وأن يكون له تحكّم عليه ، فلا يجوز جعله قيّما على صغار المسلمين وسفهائهم ، بل ومجانينهم ، وكما لو كان الميّت المسلم له أولاد كفّار ، فليس لهم الولاية في تجهيزه ودفنه وكفنه ، فلا تتوقّف هذه الأمور على إذنهم ، بل يكون الأمر‌

__________________

(١) « الدروس » ج ٣ ، ص ١٩٩ ، كتاب البيع ، في شرائط المتعاقدين ، درس (٢٣٩).

(٢) « الروضة البهيّة » ج ٣ ، ص ٢٤٤.

٢٠٤

راجعا إلى سائر المسلمين. كلّ ذلك لأجل نفي السبيل للكافرين على المؤمنين في الآية الشريفة ، ولا شكّ في أنّ الولاية والتأمّر والتحكّم على المسلمين سبيل وعلوّ من الكفّار عليهم فمنفيّ بالآية والرواية.

ومنها : عدم توقّف صحّة نذر الولد المسلم على إذن أبيه الكافر ، بناء على توقف صحّة نذر الولد على اذن الوالد المسلم ، وعدم تمكّن الوالد الكافر من حلّ نذر ولده المسلم ، وإن قلنا بأنّ للوالد المسلم حلّ نذر ولده ؛ وذلك من جهة أنّ تمكّنه من حلّ نذره أو توقّف صحّة نذره على إذن والده الكافر سبيل للكافر على المسلم.

ومنها : عدم جواز جعله متولّيا على الوقف الذي راجع الى المسلمين ، كالمدارس الدينيّة التي وقف على طلاّب العلوم الدينيّة ، فكون الكافر متوليّا عليها يرجع إلى أنّ دخول الطلاّب فيها وبقائهم فيها يكون بإذن ذلك الكافر المتولّي ، وفي أيّ وقت له حقّ أن يخرج الطالب عن المدرسة.

وكذلك كون الكافر متوليّا على المستشفى الذي يكون وقفا على مرضى المسلمين ، ومعلوم أنّ جعل الكافر متولّيا على ذلك المستشفى أو تلك المدارس يرجع إلى أن يكون له السبيل على المسلمين ، فلا يجوز بحيث يكون الخروج والدخول فيها بإذن ذلك المتولّي سبيل للكافر على المسلم وعلوّ له عليه ، المنفيّان بالآية والرواية.

وهكذا الحال والكلام في المدارس التي توقّف على أولاد المسلمين لتربيتهم وتعليمهم ، بل الكلّيات كذلك ، فلا يجوز جعل الكافر عميدا لها.

فالمراد من عدم الجواز في هذه الموارد عدم الصحّة ، لا الحرمة التكليفية فقط ؛ لأنّ جعل الصحّة من طرف الشارع في هذه الموارد يلزم منه السبيل والعلوّ للكافر على المسلم ، وقد بيّنّا في معنى الآية أنّ ظاهرها عدم تشريع الشارع حكما يلزم من ذلك التشريع والجعل سبيل للكافر على المسلم.

ومنها : عدم ثبوت حق الشفعة والأخذ بها للكافر فيما إذا كان المشتري مسلما‌

٢٠٥

ولو كان البائع كافرا ؛ وذلك من جهة أنّ جعل هذا الحقّ له يلزم منه أن يكون للكافر حق انتزاع ملكه ، أي المشتري المسلم من يده قهرا عليه ورغما على أنفه ، فهذا الجعل يلزم منه السبيل والعلوّ للكافر على المسلم ، فمنفي بالآية والرواية.

ولا فرق في لزوم هذا الأمر بين أن يكون البائع مسلما أو كافرا ؛ لأنّ الشفيع يتلقّى الملك من المشتري ، ولا علاقة له بالبائع أصلا.

ومنها : أنّ نكاح الكافر تبطل بإسلامها إن لم يسلم الزوج الكافر في العدّة ، إذ بقاء الزوجيّة مع كفر الزوج يرجع إلى علوّ الكافر على الزوجة المسلمة وأن يكون له سبيل عليها ؛ لأنّ ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) (١). وقد قال بعض المفسّرين في شأن نزول هذه الآية : أنّها نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو ، وكان من النقباء وفي امرأته حيبة بنت زيد بن أبي وقّاص ، وهما من الأنصار ، وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لتقتص من زوجها وانصرفت » فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ارجعوا ، هذا جبرئيل أتاني وأنزل. هذه الآية » فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والذي أراد الله خير » ورفع القصاص.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا النقل لا يخلو عن إشكال ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يفتي بغير ما أراد الله ، وعلى كلّ حال تدلّ الآية على علوّ الرّجال على النساء ، وعليهن أن ينهين بنهيهنّ ، ولا يخالفن أزواجهنّ فيما إذا أرادوا منهنّ البضع.

وقد روى الطبري في تفسيره روايات عن أشخاص متعدّدة في تفسير هذه الآية الشريفة ، كلّها يظهر منها أنّ الرجل له حقّ تأديب زوجته ، حتّى أنّه حكي عن الزهري أنّه كان يقول : ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس ، فمثل هذه السلطنة التي موضوعها الزوجيّة لا يمكن أن يكون مجعولا للكافر ، فيدور الأمر بين أن‌

__________________

(١) النساء (٤) : ٣٤.

٢٠٦

يخصّص إحدى هاتين الآيتين ، ولا مخصّص في البين وكلتيهما آبيتان عن التخصيص ، فلا بدّ وأن يقال بارتفاع منشأ هذه السلطة حدوثا وبقاء ، أي حدوث الزوجيّة بينهما ابتداء واستدامة.

ومنها : عدم اعتبار التقاطة الطفل المحكوم بإسلامه ، لعدم مجي‌ء ذلك الطفل تحت يده ، فتكون يده عليه شبه اليد العادية ؛ لأنّ الإسلام لا يعلى عليه ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (١).

ومنها : عدم جعل حقّ القصاص للكافر على المسلم ، مثلا لو قتل مسلم مسلما عمدا وكان للمسلم المقتول ولدا كافرا ، سواء أكان وحده أو معه أولاد مسلمين ، فإذا كان غيره وارث مسلم فيختصّ ذلك الوارث المسلم بحقّ القصاص ، وإن لم يكن وارث آخر وكان وحده يسقط حقّ القصاص بالمرة ، أو يرجع أمره إلى الحاكم.

هذه جملة من الموارد التي تنطبق هذه القاعدة عليها ، والفقيه المتتبع يجد موارد كثيرة تركنا ذكرها ، والعمدة تنقيح هذه الكبرى من حيث مفادها وتحصيل الدليل لإثباتها ، وإلاّ فبعد تمامية هذين الأمرين لا يستصعب على الفقيه المتتبّع تعيين مواردها وتطبيقها عليها.

والحمد لله أوّلا وآخراً.

__________________

(١) « جامع البيان في تفسير القرآن » ج ٥ ، ص ٣٧.

٢٠٧
٢٠٨

٨ ـ قاعدة

لا ضرر ولا ضرار‌

٢٠٩
٢١٠

قاعدة لا ضرر ولا ضرار (*)

في شرح القاعدة الفقهيّة المشهورة المعروفة ؛ بـ « قاعدة لا ضرر ».

والكلام فيها في مقامات :

المقام الأول

في مدركها‌

وهو عبارة من روايات كثيرة في كتب الفريقين يروي هذه الجملة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي بمنزلة كبرى كلّيّة يطبقها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موارد عديدة :

منها : ما رواه في الكافي في قضيّة سمرة بن جندب المشهورة عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، بعد نقل القضيّة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للأنصاري : « اذهب فاقلعها‌

__________________

(*) « القواعد والفوائد » ج ١ ، ص ١٤١ ؛ « الأقطاب الفقهيّة » ص ٤٧ ؛ « الحقّ المبين » ص ١٥٢ ؛ « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة » ص ٣١١ ؛ « عوائد الأيّام » ص ١٥ ؛ « عناوين الأصول » عنوان ١٠ ؛ « الرسائل الفقهيّة » ص ١٠٩ ؛ « مجموعه رسائل » ص ٤٥٤ ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص ٤٠ ؛ « مجموعة قواعد فقه » ص ١٩٠ ؛ « قواعد فقه » ص ٩٧ ؛ « بدائع الدرر في قاعدة نفى الضرر » الامام الخميني ؛ « اصطلاحات الأصول » ص ١٩٥ ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص ٩٥ ؛ « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » السيستاني ؛ « قاعدتان فقهيتان اللاضرر والرضاع » السبحاني ؛ « القواعد » ص ٢٤٥ ؛ « قواعد فقه » ص ١٤٤ ؛ « قواعد الفقه » ص ٨ ؛ « قواعد فقهي » ص ١٦٩ ؛ « قواعد فقهية » ص ٥١ ؛ « قواعد الفقهية » ص ٤٤ ـ ٤٥ و ١٣٤ ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص ٢٧٠ ؛ « ترجمه وتحقيق قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » زهرا شرف الدين ، ماجستير ، جامعه طهران ، ١٣٧١ ؛ « تصحيح وتحقيق قاعدة لا ضرر از عوائد الأيّام » محمد على اليثربى ، ماجستير ، جامعة طهران ؛ « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » أحمد مولا ، ماجستير ، جامعة طهران ، ١٣٣٩ ؛ « حديث لا ضرر از ديدگاه امام راحل » محمد هادي معرفت ، مجله حضور ، العدد ٤ ؛ « دو قاعدة فقهي قاعدة يد ولا ضرر » مجلة « حقّ » ـ فصليّة ، العدد ٩ ، العام ١٣٦٦.

٢١١

وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار » (١) وفي بعض طرق هذا الحديث كطريق عبد الله بن مسكان ، عن زرارة ، عن أبي جعفر حكاية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن » (٢) ففي هذا الطريق زيد على تلك الجملة المعروفة كلمة « على مؤمن ».

ومنها : ما رواه الفقيه مرسلا في باب ميراث أهل الملل : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » بزيادة كلمة « في الإسلام » (٣).

ومنها : ما رواه الكليني عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في أنّه قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نقع الشي‌ء ، وقضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء وقال : « لا ضرر ولا ضرار » (٤).

ومنها : تطبيق هذه الكبرى في باب الشفعة ، كما رواه الكليني بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال عليه‌السلام : « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين وقال : لا ضرر ولا ضرار ». (٥).

ومنها : ما عن دعائم الإسلام في مسألة جدار الجار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه لو هدم جدار داره ولم يقسط هو ، أو أراد أن يهدمه ، قال عليه‌السلام : « لا يترك وذلك أن رسول الله عليه‌السلام قال : لا ضرر ولا ضرار » (٦).

والإنصاف أنّ الفقيه بعد ملاحظة هذه الروايات الكثيرة من طرقنا ، بضميمة ما رواه مخالفونا في كتبهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ربما يقطع بصدور هذه الجملة ـ أي جملة « لا ضرر‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٩٢ ، باب الضرار ، ح ٢.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٩٤ ، باب الضرار ، ح ٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٤١ ، أبواب إحياء الموات ، باب ١٢ ، ح ٤.

(٣) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٣٣٤ ، باب ميراث أهل الملل ، ح ٥٧١٨.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٩٣ ، باب الضرار ، ح ٦.

(٥) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٨٠ ، باب الشفعة ، ح ٤.

(٦) « دعائم الإسلام » ج ٢ ، ص ٥٠٤ ، ح ١٨٠٥ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ١١٨ ، أبواب إحياء الموات ، باب ٩ ، ح ١.

٢١٢

ولا ضرار » ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولذلك ادّعى بعضهم (١) التواتر في هذا الحديث ، فلا حاجة إلى التكلّم في سنده مع عمل الأصحاب به وإرساله إرسال المسلمات ، مضافا إلى صحّة سند بعض هذه الروايات. نعم في ثبوت الكلمتين ، أي كلمة « في الإسلام » وكلمة « على مؤمن » إشكال ؛ لأنّ في قضيّة سمرة بن جندب التي قضيّة واحدة ، روي في بعض الطرق الصحيحة بدون كلمة « على مؤمن » وفي بعض آخر معها. ولكن يمكن أن يقال بعدم اعتبار عدم ذكرها في بعض الطرق بعد بناء الأصحاب على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لبناء العقلاء على ذلك ، وعدم ذكر الراوي في ذلك الطريق لعدم احتياجه إلى نقله ، أو لجهة أخرى.

وأمّا كلمة « في الإسلام » فيمكن أن يقال فيها بعدم الإشكال أيضا ، لاحتمال صدورها وعدم معارض لها. وأمّا إرسالها من الفقيه فلا يضرّ مع تلقّي الأصحاب لها بالقبول.

المقام الثاني

في فقه الحديث‌

أي ما هو مفاد الحديث ومضمونه ، وهو العمدة في المقام ؛ لأنّ المقصود من ذكر هذه القاعدة الفقهيّة وشرحها وإيضاحها هو أن يكون الفقيه ذا بصيرة في مقام تطبيق هذه القاعدة على الفروع المتفرّعة عليه ، ولا يتوقّف ولا يشتبه في شي‌ء منها.

فأقول : أمّا ألفاظ هذه الجملة ، أعني كلمة « الضرر » و « الضرار » وإلاّ ما عداهما ، أعني كلمتي « على مؤمن » و « في الإسلام » على فرض ثبوتهما في الحديث لا يحتاج إلى البحث والتكلّم فيهما لوضوح المراد منهما.

__________________

(١) « إيضاح الفوائد » ج ٢ : ص ٤٨.

٢١٣

أمّا كلمة « الضرر » : فقال بعض : إنّه أمر وجودي ضد النفع. وقال آخرون : إنّ التقابل بينه وبين النفع تقابل العدم والملكة ، فيكون معناه عدم النفع في موضوع قابل له. والظاهر أنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ لا العدم والملكة ؛ لأنّه في الموضوع القابل يرجع إلى النقيضين لا يمكن ارتفاعهما ، وفيهما يمكن الارتفاع حتّى في الموضوع القابل ، فالمبيع الذي بيع برأس المال مثلا مع أنّ تلك المعاملة قابلة للنفع والضرر يصدق أنّ هذه المعاملة لا نفع فيها ولا ضرر.

وعلى كلّ حال الظاهر من لفظ الضرر عرفا هو النقص في ماله ، أو عرضه ، أو نفسه ، أو في شي‌ء من شؤونه بعد وجوده أو بعد وجود المقتضى القريب له بحيث يراه العرف موجودا.

وأمّا كلمة « الضرار » : فقيل بأنّه مصدر باب المفاعلة ، وحينئذ بناء على أن تكون المفاعلة من الطرفين ، يكون معناه الضرر على الغير في مقابل ضرره عليه. وبناء على أن يكون بمعنى تكرار صدور المبدأ من الفاعل سواء أكان الفاعل شخصا واحدا أو شخصين وإن كان يستعمل غالبا فيما كان الفاعل شخصين ، ولعلّ لأجل هذه الغلبة يتبادر بدوا إلى الذهن المشاركة من الطرفين ، وإن كان محطّ النظر فاعليّة أحدهما ومفعوليّة الآخر ، كما يقال : ضارب زيد عمرا.

وهذا هو الفرق بين باب المفاعلة والتفاعل بعد اشتراكهما في المشاركة ، حيث أنّ النظر في باب التفاعل إلى فاعليّة الاثنين ، ولذا يقال : تضارب زيد وعمرو برفع الاثنين ، بخلاف باب المفاعلة حيث أنّه برفع أحدهما ونصب الآخر كما ذكرنا يكون معناه تكرار صدور الضرر.

وهذا المعنى مناسب في المقام ؛ لأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسمرة « أنت رجل مضارّ » ليس بمعنى صدور الضرر من الطرفين ، لأنّ الأنصاري ما أضرّ بسمرة ، وكون إطلاق لفظة « مضارّ » عليه بلحاظ موارد الآخر بعيد عن مساق الحديث ، بل الظاهر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في‌

٢١٤

مقام بيان أنّ سمرة كثير الضرر ومصرّ عليه.

وأمّا احتمال أن يكون اسما بمعنى الضرر ، لا مصدر باب المفاعلة ففي غاية البعد ؛ لأنّه تكرار أوّلا بدون أيّ نكتة وفائدة فيه. وثانيا هو خلاف ظاهر هذه الكلمة ؛ لأنّه ظاهر في كونه مصدر باب المفاعلة.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه واخترناه في معنى الضرار ورود باب المفاعلة في كثير من الموارد بهذا المعنى ، أي كثرة صدور المبدء من شخص وتكراره ، كقوله تعالى :

( يُخادِعُونَ اللهَ ) (١) وقوله تعالى ( لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) (٢) وأمثال ذلك ممّا في القرآن الشريف أو في غيره.

والحاصل : أنّ لفظ « الضرر » له مفهوم واضح عند العرف ، بحيث كلّ تفسير وشرح له ليس أوضح من نفسه ، ومثل هذه المفاهيم ليست قابلة للتعريف الحقيقي ، فكلّ ما يذكر في شرحه يكون تعريفا لفظيّا هو أخفى منه.

وأمّا لفظة « الضرار » فهو أيضا كذلك ، وهو مصدر باب المفاعلة من نفس المادة ، فلا حاجة إلى إيراد ما ذكره اللغويّون في المقام والنقض والإبرام فيها.

وأمّا كلمة « لا » فلا شكّ في أنّها لنفي الجنس إذا كان ما بعدها نكرة ، نحو : لا رجل في الدار. فتكون ظاهرة في نفي الحقيقة حقيقة ، إلاّ أن يثبت أنّ النفي ادّعائي.

هذه شرح كلمات المفردة التي في الحديث.

وأمّا شرح هذه الجملة ومفادها ، أعني : « لا ضرر ولا ضرار » فالأقوال المعروفة المشهورة التي ذكرها الفقهاء أربعة :

الأوّل : أن يكون مفادها النهي عن إيجاد ضرر الغير ، أو مطلقا حتّى على النفس ،

__________________

(١) البقرة (٢) : ٩ ؛ النساء (٤) : ١٤٢.

(٢) البقرة (٢) : ٢٣٣.

٢١٥

فيكون مساقها مساق قوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (١) حيث أنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة هذه الأمور في الحجّ. ونظائرها كثيرة في الأخبار ، حيث يكون ظاهر الكلام نفي ولكن أريد منه النهي ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل » (٢) وغير ذلك من الموارد العديدة.

ولقد أصرّ شيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سره على هذا القول ، وتعيّن هذا الاحتمال من بين الاحتمالات الأربع (٣).

الثاني : أن يكون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، ونظائرها كثيرة في الأخبار ، كقولهم : ـ المتصيّدة من الروايات ـ لا شكّ لكثير الشكّ (٤) ، وقوله عليه‌السلام : « لا سهو في السهو » (٥) وقوله عليه‌السلام : « لا سهو للإمام مع حفظ المأموم » (٦) وغيرها من الموارد الكثيرة ، فيكون المراد من هذه الجملة بناء على هذا القول أنّ الموضوعات التي لها أحكام بعناوينها الأوّليّة إذا صارت ضرريّة وتعنونت بعنوان الضرر يرتفع ذلك الحكم عن ذلك الموضوع ، فتكون هذه القاعدة بناء على هذا حاكما على الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب الموضوع.

وإلى هذا القول ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره واختاره (٧).

الثالث : أن تكون مفادها نفي الحكم الضرري ، بمعنى أنّ كلّ حكم صدر من الشارع فان استلزم ضرر أو حصل من قبل جعله ضرر على العباد ـ سواء أكان‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٩٧.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٥٠ ، باب فضل ارتباط الخيل ، ح ١٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٤٨ ، أبواب كتاب السبق والرماية ، باب ٣ ، ح ١.

(٣) « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » ٢٤ ـ ٢٧.

(٤) « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٢٩ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ١٦.

(٥) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٥٨ ، باب من شكّ في صلاته ، ح ٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٤٠ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ٢٥ ، ح ٢.

(٦) « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٨ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ٢٤.

(٧) « كفاية الأصول » ص ٣٨١.

٢١٦

الضرر على نفس المكلّف أو على غيره ، كوجوب الوضوء الذي حصل من قبل وجوبه ضرر مالي أو بدني على المكلّف ، وكلزوم المعاملة في المعاملة الغبنيّة حيث نشأ من قبله ضرر على المغبون ـ مرفوع.

ولا يخفى أنّه بناء على هذا القول استعمل كلمة « لا » في معناها الحقيقي ، لأنّ معناها الحقيقي ـ كما ذكرنا ـ نفي جنس مدخولة حقيقة لا ادّعاء ، ولا شكّ في أنّ رفع الحكم الضرري من الشارع رفع حقيقي ؛ لأنّه لا وجود للحكم الضرري ـ لو كان ـ إلاّ في عالم التشريع ، والمفروض أنّه رفعه بهذه الجملة بناء على هذا القول.

والفرق بين هذا القول والقول الثاني ، أي ما ذهب اليه صاحب الكفاية قدس‌سره لا يكاد يخفى ، لأنّ المرفوع ابتداء في القول السابق هو متعلق الحكم ، وفي هذا القول نفس الحكم.

ويترتّب على هذا الفرق آثار ، وقد ذكرنا في دليل الانسداد أنّ لزوم الاحتياط بالجمع بين المحتملات ـ في حال الانسداد في أطراف المعلوم بالإجمال ـ بحكم العقل.

فإذا كان الاحتياط بالمعنى المذكور حرجيّا أو ضرريّا فإن قلنا بالقول الثاني ـ أي ما ذهب إليه صاحب الكفاية في قاعدتي الضرر والحرج ـ فلا يمكن رفع وجوب الاحتياط بكلّ واحدة من القاعدتين ؛ لأنّ متعلّق الأحكام الواقعيّة ليس فيها حرج ولا ضرر حتّى يرتفع برفعها الأحكام ، والاحتياط ، أي الجمع بين المحتملات.

وإن كان حرجيّا أو ضرريّا ولكن وجوبه عقلي ، ليس من المجعولات الشرعيّة حتّى يرتفع برفع موضوعه في عالم التشريع ، وهو قدس‌سره اعترف في الكفاية بذلك.

وأمّا لو قلنا بالقول الثالث ، أي كون المرفوع نفس الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، فيمكن أن يقال : إنّ الضرر نشأ من قبل الأحكام المجعولة فترتفع ، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بوجوب الاحتياط ، فيكون الاحتياط لو كان واجبا شرعيّا لا عقليّا بالمقدار الذي يرفع الخروج من الدين.

٢١٧

وخلاصة الكلام : أنّه تظهر الثمرة بين القولين ـ أي الثاني والثالث ـ في كلّ مورد لا يكون موضوع الحكم ضرريّا ، ولكن نفس الحكم يكون ضرريا. وبعبارة أخرى : يكون الضرر مسبّبا عن نفس الحكم كما ربما تكون المعاملة الغبنيّة كذلك ، فإنّ الضرر يأتي من قبل لزوم المعاملة ، لا من نفس المعاملة ، وللزوم حكم شرعي ؛ ففي جميع هذه الموارد بناء على القول الثاني لا حكومة لقاعدة لا ضرر على الأدلّة الأوليّة ، بخلاف القول الثالث فإنّها بناء عليه تكون حاكمة عليها ، فظهر الفرق بين القولين بحسب الماهيّة والآثار.

الرابع : أنّ مفادها نفي الضرر غير المتدارك ، بمعنى أنّ الشارع ينهى عن الضرر غير المتدارك.

وتقريبه بأن يكون الضرر المتدارك في حكم العدم ولا يراه الشارع ضرر ، كما هو كذلك عند العرف والعقلاء ، فنفي الضرر المطلق بناء على هذا الفرض يرجع إلى نفي الضرر غير المتدارك ، والظاهر حينئذ من نفي الضرر غير المتدارك في عالم التشريع لزوم التدارك ؛ لأنّ المفروض أنّ الضرر المتدارك منزّل منزلة العدم ، فإذا كان النفي بمعنى النهي فيكون الضرر غير المتدارك منهيّا إيجاده ، وهكذا كناية عن وجوب تداركه. كما أنّه إذا قال : لا تقبل هدية بلا عوض ، فيكون كناية عن أنّه إذا أهدى إليك شخص هدية فلا تجعله بلا عوض ولا تدارك ، بل يجب عليك تداركها بإهداء شي‌ء إلى المهدي في مقابلها.

إذا عرفت هذه الوجوه والأقوال فنقول :

الصحيح من هذه الاحتمالات والأقوال هو الذي ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري (١) وشيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سرهما وذلك من جهة أنّه لا شكّ في أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٣٧٢.

(٢) « منية الطالب » ج ٢ ، ص ٢٠١.

٢١٨

التشريع ، وفي مقام أنّ الحكم المشروع في المقام حكم امتناني على الأمّة ؛ فالحديث ظاهر سياقا في أمرين :

أحدهما : أنّ الرفع رفع تشريعي ؛ إذ لا معنى لأن يكون إنشاء الرفع لرفع التكويني ، لأنّه أولا المناسب لمقام الشارعيّة هو أن يكون رفعه وضعه رفعا ووضعا تشريعيّا لا تكوينيّا ، لخروج ذلك عن وظيفته وليس من شئونه. وثانيا : أنّ الرفع التكويني لا يمكن أن يحصل بإنشاء الرفع ، بل لا بدّ له من أسبابه التكوينيّة.

وأمّا احتمال أن يكون إخبارا عن الرفع التكويني ، ففي غاية السقوط ؛ لأنّه كذب أوّلا ؛ وثانيا لا ربط له بمقام الشارعيّة.

وأمّا كونه في مقام الامتنان يدلّ عليه مضافا إلى تسالم الأصحاب على ذلك في فتاويهم ، سوق الكلام لذلك ، حيث يخاطب سمرة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنت رجل مضارّ » أي مصرّ على الضرر ، كما استظهرنا من هذه اللفظة ، ثمَّ يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار ».

فإذا ظهر ظهور الحديث الشريف في هذين الأمرين ، من دون الاحتياج إلى كلمة « على مؤمن » أو كلمة « في الإسلام » فنقول : لا شكّ في أنّ الرفع التشريعي ظاهره أنّ المرفوع من الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ رفعها يكون رفعا حقيقيا لا ادّعائيا ، لأنّه لا وجود للأحكام الشرعيّة إلاّ في عالم التشريع ، فإذا رفعه في عالم التشريع يرتفع من عالم الوجود حقيقة وبقول مطلق ، وقد بيّنّا في شرح مفردات وألفاظ الحديث أنّ كلمة « لا » ظاهرة في نفي جنس مدخولها حقيقة إذا كان المدخول نكرة.

وأمّا إذا كان المرفوع أمرا تكوينيا فلا بدّ أن يكون الرفع ادّعائيّا لا حقيقيّا ، فتكون النتيجة رفع الحكم حقيقة برفع الموضوع ادّعاء ، كقوله المتصيّدة من الروايات : « لا شكّ لكثير الشكّ ».

ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر هذه الجملة ، لا يصار إليه إلاّ بعد عدم إمكان رفع المدخول لكلمة « لا » حقيقة. وفيما نحن فيه يمكن ذلك ، أي الرفع الحقيقي لمدخول « لا ».

٢١٩

بيان ذلك : أنّ الضرر الناشئ من قبل الأحكام الشرعيّة ويكون مسبّبا عنها يمكن رفعه حقيقة من عالم الوجود برفع أسبابه التشريعيّة ، أي رفع ذلك الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر ، فالمرفوع حقيقة هذا القسم من الضرر لا بتقييد في لفظ الضرر ، أو بتجوّز ، أو إضمار ، أو تقدير أو غير ذلك ؛ بل الرفع التشريعي في مقام الامتنان على الأمّة يقتضي ذلك وقاصر عن شموله لأزيد من هذا ، إذ رفع سائر الإضرار ـ أي الإضرار الخارجية ـ لا ربط لها بالشارع في هذا المقام.

نعم لا ننكر أنّ الشارع قد يدعي رفع موضوع خارجي بلحاظ رفع حكمه ، ولكن هذا فيما لا يمكن رفعه حقيقة في عالم التشريع ، فمقتضى ظاهر هذه الجملة هو رفع الضرر الذي منشأه الحكم الشرعي برفع نفس الحكم ، فيكون الحديث حاكما على إطلاقات وعمومات الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب المحمول.

وهذا من هذه الجهة أيضا يفارق قول صاحب الكفاية قدس‌سره من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ؛ لأنّ ما قاله تكون نتيجة الحكومة في جانب الموضوع ، وهذا القول تكون نتيجة الحكومة في جانب المحمول.

ثمَّ أنّه ظهر ممّا ذكرنا فساد سائر الأقوال :

أمّا القول الأوّل : وهو أن يكون النفي بمعنى النهي ، فلأجل أنّه خلاف الظاهر ؛ لما ذكرنا من ظهور الجملة في الرفع التشريعي ، فلا ربط له بالضرر الخارجي التكويني كي يتوهم أنّ النفي بمعنى النهي ، وإلاّ يلزم الكذب ، أو يقال إنّ نفيه ادّعائي من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فهذان القولان متوقّفان على أن يكون الرفع رفع الضرر التكويني ، حتّى يؤول بأحد الوجهين كي لا يلزم الكذب ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : ذكرنا ظهور الحديث وسوقه في مقام الامتنان ، وأيّ امتنان في إلزام المكلّف بلزوم ترك الإضرار ، بل هذا تحميل وتكليف ، فتأمل.

وثالثا : حمل الجملة الخبريّة على الإنشاء خلاف ظاهر اللفظ ، فيحتاج إلى قرينة‌

٢٢٠