القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

حفص بن غياث ، وهذا المعنى أعمّ من الأماريّة والأصليّة ، ويجتمع مع كلّ واحد منهما ، فلا يمكن إثبات خصوص أحدهما بها ، حتّى أنّ جواز الحلف والشهادة الذي أخذ العلم في موضوعهما على نحو الطريقيّة مستندا إليها لا ينافي أصليّتها ؛ لأنّه قد حقّقنا في محلّه أنّ الأصول التنزيليّة أيضا مثل الأمارات تقوم مقام العلم الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة ، فمن هذه الجهة أيضا لا فرق بينهما.

نعم هذه الجهة تنافي كونها من الأصول غير التنزيليّة ، ونحن قلنا إنّ احتمال كونها من الأصول غير التنزيليّة ساقط جدّا.

وأمّا رواية حمزة ابن حمران وصحيحة العيص ، فليس مفادهما إلاّ جواز الشراء من ذي اليد وعدم الاعتناء بقول الجارية والعبد ما لم يأتيا ببيّنة ، وقد عرفت أنّ جواز الشراء أعمّ من الأماريّة والأصليّة ، ويجتمع مع كل واحد منهما.

وأمّا رواية مسعدة ، فقد عرفت أنّها لا تدلّ على أصل اعتبارها ، فضلا عن أماريّتها أو أصليّتها.

وأمّا قوله عليه‌السلام في موثّقة يونس بن يعقوب « ومن استولى على شي‌ء منه فهو له » لا يدلّ إلاّ على ترتيب آثار الملكيّة على ما استولى عليه ، وقد بيّنّا أنّ مثل هذا المعنى أعمّ من خصوص أحد هذين الأمرين.

فقد ظهر ممّا ذكرنا قصور هذه الأخبار عن الدلالة على إثبات أحد هذين الأمرين ، ومعلوم أنّه عند الشكّ في الأماريّة والأصليّة نتيجة العمليّة توافق الأصليّة ، لأنّ إثبات اللوازم شي‌ء زائد على إثبات أصل المؤدّى الذي هو المسلّم من هذه الأخبار ، كما أنّ الشكّ في أنّ الأصل تنزيلي أو غير تنزيلي نتيجته غير التنزيليّة بعين البيان المتقدّم.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء ـ كما هو كذلك ، حيث قلنا إنّ الأخبار إمضاء للبناء والسيرة العقلائيّة ـ فالحقّ أماريّتها ؛ لأنّه لا شكّ أن بناء العقلاء ليس من جهة‌

١٤١

التعبّد بترتيب آثار الملكيّة عند الشكّ فيها ، بل من جهة كشفها عن الملكيّة الحاصل من غلبة كون ما تحت اليد ملكا لذي اليد عند عدم اعترافه بأنّه لغيره ، فيرون اليد طريقا وكاشفا عن ملكيّة ذي اليد ما لم يعترف بأنّه ليس له كسائر الظنون النوعيّة والطرق والأمارات العقلائية.

وبعبارة أخرى : الشي‌ء تارة معلوم وجوده أو عدمه سواء أكان ذلك الشي‌ء أمرا تكوينيّا أو اعتباريّا ، فالعقل يحكم بوجوب ترتيب آثاره عليه.

وهذا معنى حجّية العلم ؛ فليست حجّية العلم من المجعولات الاعتباريّة ، بل هي عبارة إمّا عن نفس هذا الحكم العقلي ، فيكون من لوازم العلم ، ويكون من قبيل الذاتي في كتاب البرهان. أو هي عبارة عن ملزوم هذا الحكم العقلي ، أي نفس الانكشاف والظهور ، فيكون من قبيل الذاتي الايساغوجي ؛ لأنّ العلم عبارة عن نفس الانكشاف والظهور ، وعلى كلا التقديرين ليست من المجعولات الاعتبارية ، بل هي غنيّة عن الجعل المستقل.

وأخرى مظنون أحدهما ـ أي وجود الشي‌ء أو عدمه ـ وحينئذ لا شكّ في أنّ العقل لا يحكم بصرف الظنّ بوجود الشي‌ء أو عدمه بوجوب ترتيب آثار وجوده في الأوّل ، وآثار عدمه في الثاني إلاّ أن يجعل طريقا في عالم الاعتبار بأن يعتبره العقلاء أو الشارع المقدّس طريقا وكاشفا ، سواء أكان اعتبار الشارع إحداثيّا أو إمضائيّا لما يكون طريقا عند العقلاء ، كما هو الحال في أغلب الطرق والأمارات الشرعيّة بل جميعها ؛ لأنّه لم نجد في الأمارات الشرعيّة ما لم تكن هي عند العقلاء أمارة.

نعم ربما يتصرّف الشارع في موضوع ما يراه العقلاء أمارة ، بازدياد قيد ، مثل عدالة الشاهدين في ثبوت ما أخبرا به مثلا ، أو حذف قيد ممّا هو موضوع الحجيّة عند العقلاء. ولا شكّ في أنّ الحجيّة في هذا القسم من المجعولات الاعتباريّة من طرف العقلاء ، أو الشارع ، أو من طرف كليهما بأن يكون مثلا من طرف العقلاء إحداثا ومن طرف الشارع إمضاء.

١٤٢

فلا بأس بأن تقول أنّ الظنّ ممكن الحجّية ، كما أنّ لك أن تقول إنّ العلم واجب الحجيّة ، كما أنّ الشكّ في شي‌ء لا يمكن أن يجعل طريقا وكاشفا ولو كان في عالم الاعتبار العقلائي أو عالم الاعتبار الشرعي ؛ لأنّ الحجيّة المجعولة في عالم الاعتبار لا بدّ وأن تكون في محل قابل ، والشكّ والتحيّر ليسا قابلين لأن يجعلا طريقا وكاشفا ، فإذا حكم الشارع في مورده بشي‌ء يكون صرف وظيفة عملية من دون أن يكون طريقا إلى وجود المشكوك أو طريقا إلى عدمه ، فلا بأس بأن نقول الشكّ ممتنع الحجيّة.

ثمَّ لا يخفى أنّه في مورد الظن بشي‌ء يمكن أن يجعل وظيفة عمليّة ، ولا يلاحظ جهة كشفه الناقص وتتميمه في عالم الاعتبار كي تكون أمارة ، بل المجعول صرف الوظيفة العمليّة بإلقاء جهة الكشف الناقص الموجود فيه وعدم رعايته أصلا ، فيكون أصلا عمليّا.

ثمَّ إنّ تلك الوظيفة العمليّة المجعولة في هذه الصورة إن كانت بلسان أنّه هو الواقع فيكون أصلا تنزيليا ـ وإن شئت سمه : أصلا محرزا ـ وان لم يكن بهذا اللسان فهو أصل غير تنزيلي وإن شئت سمه : الأصل غير المحرز.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في حصول الظنّ النوعي من اليد غير المعترفة ، بأنّ ما استولت عليه ليس لها بملكيّة ما تحتها لها ، وبناء العقلاء على طريقيّة هذا الظنّ وحجيّته لا على صرف العمل على طبق المظنون مع إلقاء جهة كشفه حتّى يكون أصلا عمليا ، والشارع أمضى بناء العقلاء كما هو مفاد هذه الأخبار ، فتكون اليد أمارة وحاكمة على الاستصحاب كما تقدّم وجهها.

الجهة الخامسة

في سعة دلالتها ومقدار حجيتها وموارد جريانها‌

قد وقع الخلاف في كثير من الموارد بعد الاتّفاق على حجيّتها في الجملة.

١٤٣

فنقول : أمّا حجيّتها بالنسبة إلى ملكيّة الأعيان المتمولة هو فيما إذا كانت تلك العين في حدّ نفسها قابلة للنقل والانتقال من غير احتياج إلى طروّ أمر يكون موجبا لجواز النقل والانتقال ـ أي لا تكون من قبيل الأعيان الموقوفة ، بل ولا تكون من الأراضي المفتوحة عنوة العامرة حال الفتح ، فإنّها أيضا لا يجوز نقلها إلاّ فيما إذا رأى المصلحة في نقلها وليّ المسلمين ، وفيما إذا كانت اليد من أوّل حدوثها مجهولة العنوان ، بمعنى أنّها من أوّل حدوثها لا يعلم أنّها يد مالكه ، أو يد عادية ، أو يد أمانة شرعيّة كاللقطة ، أو أمانة مالكيّة كالإجارة والعارية والوديعة وأمثال ذلك من أمانات المالكية ـ ولم يكن معترفا ذو اليد بأنّه ليس له ، ففي مثل هذه الصورة حجيّة من المسلّمات ، ولا خلاف بينهم في ذلك بالنسبة إلى الغير.

وأمّا بالنسبة إلى نفسه إذا شكّ أنّ ما في يده هل ملك له أو لغيره ، فحجيّة اليد في هذه الصورة أيضا وإثباتها ملكيّة ما في يده لنفسه لا يخلو من كلام ، وإن كان الصحيح عندنا أنّها تثبت لاتّحاد ما هو المناط في الإثبات بين نفسه وغيره.

فموارد البحث والخلاف أمور :

[ الأمر ] الأوّل : إذا كان حال حدوثها معلوم العنوان ، بأن كانت يد عادية ، أو أمانة مالكيّة أو شرعيّة ، فقد أفاد شيخنا الأستاد قدس‌سره حكومة استصحاب حال اليد ـ من كونها عادية أو أمانة ـ على نفس اليد (١).

لا يقال : إنّ اليد أثبتنا أماريّته ، والأمارات طرّا لها حكومة على الاستصحاب ، فكيف تقول إنّ الاستصحاب حاكم على قاعدة اليد؟

لأنّه يقال في جوابه : إنّ ما قلت صحيح لو كان التعارض بين المؤدّيين ، فلا شكّ في أنّ اليد حيث أنّها أمارة ـ وبناء على ما هو المختار من تتميم الكشف في جعل حجية الأمارات ـ ترفع الشكّ عن مؤدّاه ، فيذهب بموضوع الاستصحاب حيث أنّه أخذ فيه‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٠٤.

١٤٤

الشكّ ، ولكن كلّ ذلك ، فيما إذا جرت اليد ، وكان موضوعها ، أي كونها مجهولة العنوان ومشكوك الحال ، أي لا يعلم أنّها يد مالكة أو يد عادية أو يد أمانة.

وفيما نحن فيه أيضا حال ادّعائه الملكيّة وإن كان لا يعلم حال اليد ويحتمل أن يكون يده يد مالكة بواسطة انتقاله بناقل شرعي إليه ، ولكن الاستصحاب يرفع هذا الجهل تعبّدا ، فلا يبقى موضوع لقاعدة اليد حتّى تجري وتكون حاكمة على الاستصحاب.

وأورد عليه أستادنا المحقق (١) قدس‌سره بأنّ هذا الكلام له وجه لو قلنا بأنّ الجهل بالحالة السابقة مأخوذ في موضوع دليل اعتبار اليد وحجيته ، لا أن يكون الجهل بالحالة السابقة موردا للقاعدة ـ كما هو كذلك ـ وإلاّ لو كان الجهل موضوعا للقاعدة يلزم أن تكون القاعدة أصلا عمليّا ؛ وذلك لما تقدّم في أوّل البحث عن الأصول العمليّة أنّ الفرق بين الأصل والأمارة هو أنّ الشكّ والجهل مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة. نعم حجيّة الأمارة واعتبارها في مورد الجهل واستتار الواقع ، وإلاّ فمع العلم على وفاقه أو خلافه لا يبقى مورد لجعل الأمارة.

ثمَّ إنّه يقول بعدم حجيّة اليد في مثل هذه الصور ـ أي فيما إذا كانت في أوّل حدوثها معلوم العنوان بأن كانت يد عادية أو أمانة ـ ولكن لا من جهة استصحاب حال اليد ، بل لأجل عدم شمول بناء العقلاء لمثل هذه الصورة ، ولا أقل من الشكّ. وأيضا النتيجة عدم اعتباره في هذه الصورة.

ولكن يمكن أن يقال :

إنّ بناء العقلاء على أماريّة اليد لا يثبت الملكيّة شرعا إلاّ بإمضاء الشارع لذلك البناء ، فإذا قال الشارع : لا تنقض اليقين بكونها يد عادية أو يد أمانة مالكية أو شرعية بالشكّ في بقاء تلك الحالة السابقة وابن على بقاء تلك الحالة السابقة من‌

__________________

(١) الحاشية على « فوائد الأصول » للعراقي ج ٤ ، ص ٦٠٥.

١٤٥

كونها عادية أو أمانة ، فهذا ردع لتلك السيرة وذلك البناء.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو كانت الحالة السابقة لما في يده عدم جواز نقله وانتقاله في حدّ نفسه إلاّ بطروّ أحد الأمور التي يجوز معها النقل والانتقال كالوقف وفعلا انتقاله إليه بسبب يحتمل طروّ أحد تلك الأمور ، فأيضا لا تكون اليد في هذه الصورة أمارة على كون ما في يده ملكا له.

وذلك أيضا لما ذكرنا من استصحاب حال اليد ، وإن شئت قلت : استصحاب عدم طروّ ما يجوز معه النقل والانتقال ، ففي هذه الصورة أيضا مثل الصورة السابقة لأماريّة اليد وكشفها عن ملكيّة ما تحت اليد لا يبقى موضوع : لأنّ موضوع الأمارة اليد على مال قابل للنقل والانتقال ، فباستصحاب عدم طروّ ما معه قابل للنقل والانتقال يرتفع موضوع ما هي الأمارة.

نعم لو احتملنا أنّ ما تحت اليد كان قبل حدوث اليد قابلا للنقل والانتقال ـ بواسطة احتمال طروّ أحد المجوّزات للبيع مثلا بحيث ـ لا يبقى مجال لاستصحاب حال اليد ؛ لأنّها من أوّل حدوثها من هذه الجهة مجهول الحال.

وأمّا لو كان ما تحت اليد عن أراضي المفتوحة عنوة وحصل الشكّ في ملكيّتها لذي اليد بواسطة احتمال انتقالها إلى ذي اليد بناقل شرعي ، فالظاهر كون اليد أمارة الملك ، ولا يقاس بالوقف ؛ لأنّ الأراضي المفتوحة عنوة قابلة للنقل والانتقال ، وليست مثل الوقف محبوسة لا يجوز نقلها إلاّ بعد طروّ أحد مجوّزات نقلها ، غاية الأمر أنّ أمر نقلها بيد وليّ المسلمين حسبما يرى مصلحة المسلمين من النقل أو الإبقاء على ملك المسلمين وأخذ الخراج ممّن بيده.

هذا ، ولكن ظاهر بعض الأخبار أنّ الأراضي المفتوحة عنوة موقوفة محبوسة في أيديهم لا يجوز بيعها وشرائها ، ويأخذ الخراج وليّ المسلمين ممّن بيده تلك الأراضي ، وبناء على هذا تكون حالها حال الوقف ليست قابلة للنقل والانتقال إلاّ ضرورة‌

١٤٦

وحاجة مهمّة في أمور المسلمين.

الأمر الثاني : إذا كان في مقابل ذي اليد من يدّعي الملكيّة لما في يده ، فتارة : له بيّنة طبق ما يدّعي ، فيؤخذ المال من ذي اليد ويعطي للمدّعي. وأخرى : ليس له بيّنة ولكن ذو اليد يعترف بأنّه له ، فكذلك أيضا. وتارة : يعترف بأنّه كان له ولكن انتقل إليه بناقل شرعي ، وعلى هذا تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدّعيا بعد ما كان منكرا ، والمدعي صار منكرا أيضا بواسطة هذا الاعتراف ؛ لأنّ قول ذلك المدّعي بعد هذا الاعتراف يصير مطابقا لأصالة عدم الانتقال ، فتنقلب منكرا ولا كلام في هذا.

وإنّما الكلام في أنّ المال يؤخذ منه ويعطي لمن كان مدّعيا ، فصار منكرا بواسطة إقرار ذي اليد ، أو يبقى عنده بواسطة أماريّة اليد؟

لا يقال : أماريّة اليد للملكيّة سقطت بواسطة اعترافه بأنّ المال كان له ، وذلك لأنّ اعترافه بأنّ المال كان له لا ينافي كون اليد أمارة على الملك الفعلي ، من جهة أنّه في أغلب الموارد معلوم أنّ ما في اليد كان لشخص آخر ، فحال اعترافه حال العلم بأنّه كان لغيره. فكما أنّ في مورد العلم بأنّه كان لغير ذي اليد لا يسقط عن الاعتبار والأماريّة ، فكذلك فليكن في مورد الاعتراف.

وبعبارة أخرى : لا فرق بين أن يثبت أنّ ما في يده كان ملكا لمن يدّعى الآن بحكم الحاكم ، أو بالبينة أو بالعلم الوجداني ، أو بإقرار ذي اليد ؛ لأنّ ثبوت الملكيّة السابقة بأحد هذه الأمور لا ينافي مع الملكيّة حال الدعوى لذي اليد. وحيث أنّ بناء العقلاء على أماريّة اليد لملكيّة ما في اليد لذي اليد وقد أمضاها الشارع ، فيحكم بالملكيّة الفعليّة لذي اليد ، إلاّ أن يأتي ببيّنة طبق دعواه.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس‌سره عمّا ذكر بأنّ انقلاب الدعوى من آثار نفس الإقرار ، وليس من آثار الواقع كي لا يكون فرق بين العلم والبيّنة والإقرار ، فإذا أقرّ فهو‌

١٤٧

مأخوذ بإقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع (١).

ولكن هذا كلام عجيب.

أما أوّلا : لعدم حجيّة الإقرار مع العلم التفصيلي بمخالفته للواقع.

وأمّا ثانيا : معنى أخذه بإقراره ترتيب آثار الملكيّة السابقة لا عدم أماريّة اليد للملكيّة الفعليّة ، نعم لو انضمّ إلى اعترافه بالملكيّة السابقة للمدّعي دعوى الانتقال منه إليه بناقل شرعي ، فمن حيث هذه الدعوى يكون ذو اليد مدّعيا للانتقال ، وقول ذلك المدّعي المقابل لذي اليد يصير مطابقا لأصالة عدم الانتقال ، فتنقلب الدعوى ويصير منكرا.

فكأنّه هناك دعويان : أحدهما : أن يدّعي الملكيّة طرف ذي اليد ، فبالنسبة إلى هذه الدعوى يكون ذو اليد منكرا ، وطرفه يكون مدّعيا.

الثاني : دعوى ذي اليد الانتقال إليه من طرفه ، وبالنسبة إلى هذه الدعوى يكون ذو اليد مدّعيا وطرفه يكون منكرا ؛ لمطابقة قوله مع أصالة عدم الانتقال.

وأعجب ممّا ذكره شيخنا الأستاد قدس‌سره ما ذكره أستاذنا المحقّق (٢) قدس‌سره في وجه انقلاب الدعوى هو حجيّة استصحاب عدم الانتقال مع وجود اليد الفعلي على المال ، فمقتضى اليد هو كون هذا المال ملكا لذي اليد وانتقاله من الطرف إليه ، ومقتضى استصحاب عدم الانتقال عدم كونه ملكا لذي اليد وبقاؤه على ملك الطرف ، فأماريّة اليد هاهنا مع حجيّة استصحاب عدم الانتقال من المدّعي الذي هو الطرف لذي اليد ممّا لا يجتمعان ، فبناء على حجيّة هذا الاستصحاب لا يبقى مجال لأماريّة هذه اليد ؛ لما ذكرنا من أنّ مؤدّى الاستصحاب ـ أي التعبّد بعدم الانتقال ـ عدم ملكيّة ذي اليد ، فمع حجيّة هذا الاستصحاب لا يمكن أن تكون اليد في هذا المقام أمارة.

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦١٣.

(٢) الحاشية على « فوائد الأصول » للعراقي ج ٤ ، ص ٦١٤.

١٤٨

وفيه : أنّ غاية ما يستفاد من هذا البيان تعارض هذا الاستصحاب مع هذه اليد ، فبناء على أن اليد أمارة ـ كما هو نفسه جزم بذلك ـ تكون اليد حاكما على الاستصحاب ؛ لما تقدّم من حكومة الأمارات على الأصول.

وأورد شيخنا الأستاذ قدس‌سره على نفسه بعد ما قال بالانقلاب في الصورة المذكورة ـ وهي الصورة التي يعترف ذو اليد بأنّ ما في يده كان سابقا للمدّعي وادّعى الانتقال إليه بناقل شرعي ـ بمخالفة هذا القول ، أي انقلاب الدعوى لما احتجّ به أمير المؤمنين عليه‌السلام على أبي بكر بأنّ الصديقة الطاهرة عليها‌السلام ذات يد على فدك ، فلم تسأل البيّنة عنها؟ والحال أنّها صلوات الله عليها اعترفت بأنّ فدك كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحلها إيّاها فادّعت الانتقال إليها منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد اعترافها أنّها له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبمقتضى تلك القاعدة انقلبت الصدّيقة الطاهرة مدّعية فتكون البيّنة عليها ، مع أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ينفى في هذا الخبر ـ أي خبر الاحتجاج ـ كون البيّنة عليها عليها‌السلام ، فتدلّ هذه الرواية دلالة صريحة على عدم انقلاب الدعوى (١).

ثمَّ أجاب قدس‌سره عن هذا الاعتراض بما لا يخلو عن قصور وإشكال ؛ لأنّ جوابه مبتن على مبان في الملكيّة وأنواع انتقالاته غير مقبولة.

فالأحسن أن يقال على تقدير تسليم دعوى الانقلاب مع ما فيها من النظر والتأمّل : إنّ هاهنا كما قلنا آنفا دعويان :

إحديهما : دعوى الانتقال ، وبالنسبة إلى هذه الدعوى هي سلام الله عليها مدّعية وعليها البيّنة.

والأخرى : دعوى الملكية وبالنسبة إلى هذه الدعوى حيث أنّها سلام الله عليها كانت ذات يد كانت البيّنة على طرفها ـ أي أبي بكر ـ لأنّه بزعمه كان وليّ المسلمين ، فكان أمير المؤمنين عليه‌السلام احتجّ على أبي بكر بالنسبة إلى هذه الدعوى الأخيرة إن كانت‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦١٤.

١٤٩

الدعوى الأولى مسكوتا عنها.

ثمَّ إنّ في هذه المسألة صور كثيرة ما استوفينا حقّها ؛ لأنّ محلّها كتاب القضاء من الفقه.

الأمر الثالث : من تلك الأمور التي صار محلاّ للكلام والبحث : أنّه هل حجيّتها مخصوصة بالأعيان المتموّلة أم تجري في المنافع أيضا؟

فنقول : التحقيق في هذا المقام هو التفصيل بين ما كان المدّعي هو المالك باعتراف ذي اليد ـ بأن يقول مثلا : يا زيد المدّعي ، هذه الدار التي الآن في يدي ملكك ولكن في إجارتي إلى سنة مثلا ـ وبين أن يكون المدعي أجنبيّا أي ليس بمالك ، وذلك مثل أن يدّعي شخص آخر ويقول : في إجارتي لا في إجارتك ، بأن تكون اليد حجّة في الثاني ـ أي مقابل الأجنبي ـ لا الأوّل ، أي مقابل المالك.

والسرّ في ذلك : أنّ المنفعة أمر معدوم بالنسبة إلى ما سيأتي في زمان النزاع ، بل غالبا يكون أمرا غير قار لا يوجد جزء منه إلاّ بعد انعدام الجزء الآخر ، فلا يمكن وقوعها استقلالا تحت اليد التي عرفت أنّها سيطرة واستيلاء خارجي ، سواء أكان هناك معتبر في العالم أو لا يكون ؛ إذ اليد بالمعنى المذكور من الأمور التكوينيّة الخارجيّة ، وليست من الأمور الاعتباريّة ؛ ولذلك يتحقّق اليد من الغاصب مع أنّه لا اعتبار لا من طرف الشارع ولا من طرف العقلاء.

وأمّا القول بأنّه باعتبار نفسه شطط من الكلام ؛ لأنّه لو اعتبر نفسه مالكا أو مستوليا ومسيطرا ألف مرّة بدون أن يكون له سيطرة وتسلّط في الخارج لا يقال أنّه ذو اليد ، فمعنى كون المنفعة تحت اليد ليس أنّها استقلالا وبنفسها تحت اليد بل معناه أنّها تحت اليد بتبع العين ؛ لأنّ المنفعة من شئون العين ، ونسبتها إلى العين كنسبة العرض إلى موضوعه ، فالاستيلاء والسيطرة على العين استيلاء على منافعها.

وبعبارة أخرى : اليد على العين يد على منافعها ، لا بمعنى أنّه هناك استيلاء ان‌

١٥٠

وسيطرتان في الخارج : أحدهما على العين ، والأخرى على المنفعة ، بل ليس في الخارج إلاّ الاستيلاء على العين ، وهذا الاستيلاء الواحد كما يصحّ أن ينسب إلى العين يصح أن ينسب إلى المنفعة. وبعبارة أخرى : المنفعة غالبا أمر غير قارّ لا توجد إلاّ تدريجا.

نعم هناك عند العرف قد تطلق المنفعة على بعض الأعيان الخارجيّة ، كاللبن في الضرع ، والثمرة على الشجرة. فهذه وأمثالها خارجة عن محلّ الكلام ، ولا شكّ في إمكان وقوعها مستقلا تحت اليد ، فكلامنا في ما هو من قبيل الأوّل ـ أي المنافع التي لا وجود لها استقلالا ـ بل هي حال النزاع كما قلنا معدومة ولا توجد إلاّ تدريجا ، فليس حال النزاع شي‌ء موجود حتّى نقول بأنّه تحت اليد مستقلا ، نعم إنّها تحت اليد بتبع العين ، بمعنى أنّ اليد على العين يد أيضا عليها ؛ وبهذا صحّحنا الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة من باب ضمان اليد.

والحاصل : أن اليد على العين يد على المنافع غير القارّة حقيقة وواقعا ، وليس من قبيل الوصف بحال متعلّق الموصوف ، أي ليس العين واسطة في العروض بل واسطة في الثبوت ، فإذا استولى على العين لا يصحّ سلب السلطنة واستيلائه على المنفعة.

وبعد ما ظهر ما قلنا فنقول : فلو كان المدّعي هو المالك فحيث أنّ ذا اليد معترف بأنّ يده أماني ومن قبل المالك ، ففي الحقيقة يده يد المالك ، كما بيّنّا سابقا أنّ يد كلّ أمين مالكي يد المالك ، فلا يبقى مجال للمخاصمة مع المالك بمثل هذه اليد ؛ لأنّه أسقطها عن الاعتبار بالنسبة إلى المالك باعترافه أنّ يده أمانيّة.

وأمّا بالنسبة إلى الأجنبي فلا ، من جهة أنّ اليد موجودة على الفرض ، ولم يصدر عن ذي اليد اعتراف يضرّ بأماريّتها بالنسبة إلى الأجنبي.

نعم يبقى مطالبة الدليل على اعتبار مثل هذه اليد التبعي ، فنقول : لو كان المدرك لهذه القاعدة هو الأخبار فالإنصاف أنّ إثبات حجيّتها حتّى فيما إذا كان المدّعي غير المالك مشكل ؛ لأنّ أغلب الأخبار موردها الأعيان ، والخروج عنها إلى المنفعة يحتاج‌

١٥١

إلى دليل.

وأمّا قوله عليه‌السلام في موثقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي‌ء منه فهو له » (١). وإن كان فيه عموم بالنسبة إلى المنفعة والعين باعتبار لفظ « شي‌ء » ولكن ضمير « منه » الراجع إلى متاع البيت يقيّد هذا الإطلاق ، فتأمّل.

وأمّا رواية عباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وإن كان فيه عموم باعتبار جملة « لأقرّ الناس على ما في أيديهم » (٢) لكنّك عرفت عدم دلالتها على أصل المطلب ، بل هي بصدد بيان مطلب آخر لا ربط له بما نحن فيه أصلا.

وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع ، فمعلوم أنّه لا حجيّة له في محلّ الخلاف.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء كما هو الصحيح عندنا وقلنا إن هذه الأخبار إمضاء لما عندهم ، فالأظهر بل الأقوى والمتعيّن هو التفصيل المتقدّم ؛ لأنّه من الواضح أنّ العقلاء يفرقون بين أن يكون المدعي هو المالك أو الأجنبي.

الأمر الرابع : أنّها تجري في الحقوق أم لا؟

فنقول : الحقوق المتعلّقة بالأعيان على اختلاف أنحائها ، سواء أكانت الأعيان متموّلة كحقّ الرهانة وحقّ التولية وغيرهما ، أو غير متموّلة كحقّ الاختصاص المتعلّقة بالعذرة والخمر والميتة ، لا يمكن وقوعها تحت اليد ابتداء ، بل تقع تحتها بتبع العين ، وحالها من هذه الجهة حال المنافع بل انزل ؛ لأنّ الحقّ أمر اعتباري ، إذ ليس هو إلاّ سلطنة اعتباريّة مجعولة في عالم الاعتبار من طرف العقلاء أو الشارع على شي‌ء أو شخص.

ومن آثاره أنّه يسقط بإسقاطه بخلاف المنفعة ، فإنّها من الأمور الواقعيّة المحمولة بالضميمة. فالتفصيل الذي بيّنّاه في باب المنافع آت هنا بطريق أولى ، فاليد هاهنا على‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٣٦ ، رقم (٤).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٣٦ ، رقم (٤).

١٥٢

تقدير حجيّتها مخصوصة بالنسبة إلى الأجنبي ، لا بالنسبة إلى المالك.

وأمّا الدليل على اعتبارها بالنسبة إلى الأجنبي فكما بيّنّا في باب المنافع حرفا بحرف : لو كان مدرك هذه القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فلا دليل في المقام أصلا ، أما لو كان المدرك بناء العقلاء فالظاهر استقرار بنائهم بثبوت هذه الحقوق إذا كان المدعي غير مالك العين.

الأمر الخامس : في أنّه هل تجري قاعدة اليد في النسب والأعراض أم لا؟ كما لو تنازع شخص مع آخر في زوجة تحت يد أحدهما ، أي تكون في بيته ويعامل معها معاملة الزوج مع زوجته ، أو في صبي تحت يد أحدهما.

والأقوال في المسألة مضطربة ، ولكن الأقوى ـ بناء على ما ذكرنا من أنّ مدرك هذه القاعدة هو بناء العقلاء ـ استقرار بنائهم على أماريّة اليد في هذه المواضع ؛ لأنّ الظنّ الحاصل من الغلبة هاهنا أقوى بمراتب من الظنّ الحاصل في باب الأملاك ؛ لأنّ الغصب في باب الأملاك كثير ، بخلافه هاهنا فإنّ غصب أحدهم زوجة الآخر أو ولده في غاية القلّة بل الندرة.

نعم لو كان مدرك القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فشمولهما لمثل المقام في غاية الإشكال ؛ لعدم شمول الإجماع لمورد الخلاف واختصاص الأخبار حسب ظهورها العرفي بأعيان الأملاك.

الأمر السادس : في أنّه هل هذه القاعدة تجري في حقّ نفس ذي اليد إذا شك في أنّ ما بيده ملك له أو لغيره فيما إذا لم يكن مدّع في قباله ، أم لا؟

ربما يقال بجريانها في حقه وان لم يكن في قباله مدّع يزاحمه ؛ مستندا إلى رواية مسعدة بن صدقة ، فإنّه عليه‌السلام قال فيها بحلّيّة ما تحت يده ، ولو احتمل ذو اليد كونه سرقة أو غير ذلك من الاحتمالات المنافية لملكيّة ذي اليد ، سواء أكان هناك مدّع أو لم يكن.

١٥٣

ولكنّك عرفت أنّ مساق تلك الرواية في بيان قاعدة الحلّ ولا ربط لها بباب اليد أصلا.

وربما يستند لإثبات هذا المطلب بعموم قوله عليه‌السلام في موثّقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي‌ء منه فهو له » حيث أنّه عليه‌السلام لم يقيد هذا الحكم بأنّه فيما إذا كان في قباله مدع ، فالحكم بكونه له مطلق من هذه الجهة.

وفيه : أنّ الظاهر من هذه الرواية أنّه عليه‌السلام في مقام مخاصمة الزوج مع الزوجة حكم بأنّ كلّ واحد منهما إذا كان مستوليا على شي‌ء من متاع البيت فهو له ، فلا إطلاق لها يشمل صورة عدم التنازع وعدم وجود مدّع في البين.

واستدلّ أيضا لهذا المطلب ـ أي حجيّة اليد لملكيّة ما في يده لنفسه عند الشكّ ، ولو لم يكن مدّع في البين ـ بصحيحة جميل بن صالح ، عن الصادق عليه‌السلام ، رجل وجد في بيته دينارا ، قال عليه‌السلام : « يدخل منزله غيره؟ » قلت : نعم كثير ، قال عليه‌السلام : « هذه لقطة » قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا قال عليه‌السلام : « فيدخل أحد يده في صندوقه غيره ، أو يضع فيه شيئا؟ » قلت : لا ، قال : « فهو له » (١). حيث حكم عليه‌السلام بكون الدينار الذي وجده في صندوقه له مع كونه شاكّا أنّه له ، ولم يفرق عليه‌السلام بين أن يكون هناك مدّع يدّعيه أم لا ، فالرواية بإطلاقها يشمل المقام.

ولكنّه من المحتمل جدّا أن يكون حكمه عليه‌السلام بكونه له ـ بعد السؤال عنه بأنّه هل يدخل أحد فيه غيره أو يضع فيه شي‌ء وجوابه بالعدم ـ من جهة حصول القطع العادي ، أي ركون النفس والاطمئنان بأنّه له في مثل هذه الصورة ، فكأنّه عليه‌السلام نبّهه على أنّ احتمال كونه لغيره في الفرض وهم محض ، فلا ربط له بباب اليد ، بل نفس هذا الاطمئنان معتبر سواء أكان هناك يد أم لا.

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٣٧ ، باب اللقطة والضالة ، ح ٣ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٩٣ ، باب اللقطة والضالّة ، ح ٤٠٥٠ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٩٠ ، ح ١١٦٨ ، باب اللقطة والضالة ، ح ٨ « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٥٣ ، أبواب اللقطة ، باب ٣ ، ح ١.

١٥٤

والشاهد على ذلك أنّه عليه‌السلام حكم في صدر هذه الرواية بأنّ الدرهم الذي وجده في الدار لقطة ، وليس له بعد السؤال عنه أيضا بمثل هذا السؤال وأنّه هل يدخل ذلك المنزل غيره وجوابه بـ « نعم ، كثير » مع وجود اليد في كلا الموردين ، ولا فارق بينهما إلاّ ما ذكرنا. ولو كان يجيب في ما وجده في صندوقه أيضا بـ « نعم ، كثير » مثل ما أجاب في منزله لكان حكمه عليه‌السلام أيضا بأنّه لقطة.

واحتمال أن يكون الفرق من جهة أنّه في الصورة الأولى كثرة الداخلين في ذلك المنزل كما هو المفروض ، واحتمال أن يكون الدينار الذي وجده من أحدهم مانعة من حجية اليد فيها ، بخلاف الصورة الثانية فإنّ الفرض فيها عدم وضع غيره شيئا فيه ، فليس شي‌ء مانعا عن حجيّتها.

وبعبارة أوضح : اليد في الصورة الأولى سقطت عن الحجيّة بواسطة الأمارة على الخلاف ، وهي كثرة الداخلين في ذلك المنزل غيره ، فيكون احتمال أن يكون لهم أقوى من احتمال أن يكون له ؛ لأنّه أحدهم وفي عرض أحدهم ، فهذا احتمال مرجوح بل خلاف المتفاهم العرفي. وعلى فرض تساوي هذين الاحتمالين أيضا تسقط عن الدلالة على اعتبارها في المقام.

وأمّا القول بمعارضة هذه الصحيحة بموثّقة إسحاق بن عمّار ، عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة ، فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة ، فلم يزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : « يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها ». قلت : فإن لم يعرفوها؟ قال عليه‌السلام « يتصدق بها » (١). حيث حكم الإمام عليه‌السلام بالتصدّق بها في صورة عدم معرفتهم إيّاها ، الشاملة بإطلاقها ، ما إذا كانوا شاكّين أنّها لهم أم لا ، فليس بشي‌ء ؛ من جهة أنّه :

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٩١ ، ح ١١٧١ ، باب اللقطة والضالة ، ح ١١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٥٥ ، أبواب اللقطة ، باب ٥ ، ح ٣.

١٥٥

أولا : عدم معرفة أهل المنزل لها ملازم عادة مع العلم بالعدم ، لا صرف عدم العلم. واحتمال أن يكون لأبيهم أو جدّهم ـ مع عدم اطّلاعهم ـ في غاية البعد.

وثانيا : صدق اليد على الدراهم المدفونة خصوصا في تلك المنازل المعدّة للايجار كما في الفرض لا يخلو عن إشكال ، فيكون من قبيل مجهول المالك الذي تعريفه بالنسبة إلى صاحب الدار ممكن ، وبالنسبة إلى غيرهم غير ممكن. فحكم عليه‌السلام أوّلا بتعريفهم إيّاها فإذا لم يعرفوها يتصدّق بها.

وأمّا القول باعتبار اليد في حق صاحب اليد لو لم يكن مدّع يدّعيه ويزاحمه ـ حتّى مع علمه بعدم كونه له لأنّه رزق ساقه الله إليه ـ فدعوى بلا برهان وبعيد عن مذاق الفقه والفقاهة. كما أنّ انضمام كونه مدّعيا أنّه له في هذه الصورة ـ أيّ : فيما إذا كان شاكّا مع عدم وجود مزاحم يزاحمه ومدّع في البين إلى اليد في الحكم بأنّه له ، وإلاّ لو كان ذو اليد شاكّا وساكتا فما بيده ليس له ـ عجيب لا ينبغي التكلّم فيه.

هذا كلّه لو كان المدرك لهذه القاعدة هي الأخبار ، أمّا لو كان بناء العقلاء ـ كما ذكرنا ـ فالإنصاف أنّه لا فرق عندهم في اعتبارها بين أن يكون مدّع في البين أم لا.

الأمر السابع : في أنّه هل يد المسلم أمارة على التذكية والحلّية أم لا؟

فنقول : لا كلام في أماريّة سوق المسلم ويده على التذكية والحلّية إجماعا ونصّا ، وإنّما الكلام وقع في محلّ آخر ، وهو أنّه هل كما أنّ يد المسلم أمارة التذكية ، يد الكافر تكون أمارة الميتية أم لا؟

فذهب جمع إلى أنّها أمارة ، وبعض آخر إلى عدمها.

نعم ما كان في يد الكافر حيث أنّه ليس عليه أمارة التذكية فاستصحاب عدمها يجري ، ويجعله في حكم الميتة أو يدخله في موضوعها ، على القولين في معنى الميتة ، وهذا غير كونها أمارة الميتيّة.

واستدل للقول الأوّل برواية إسحاق بن عمّار ، عن العبد الصالح عليه‌السلام : « لا بأس في‌

١٥٦

الصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام » ، قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال عليه‌السلام : « إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (١).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية : أنّها تدلّ بمفهوم الشرط على ثبوت البأس إذا لم تكن الغلبة للمسلمين في تلك الأرض أو ذلك البلد ، ولو كان ذو اليد مشكوك الكفر فضلا عن أن يكون معلوم الكفر.

ولكنّك خبير بأنّ الرواية في مقام بيان المراد من سوق الإسلام وأرضهم ، وأنّ المدار في كون السوق سوق الإسلام هو أن يكون إمّا جميعهم مسلمين أو غالبهم ، فإذا لم يكن كذلك فليس أمارة على التذكية والحلية ، فقهرا يكون فيه البأس بحكم أصالة الحرمة في اللحوم ما لم تكن امارة على التذكية. وذلك لجريان استصحاب عدم التذكية بدون أن يكون حاكم عليه في البين ، فلا ربط لها بأماريّة يد الكافر على الميتيّة أصلا ، ولا بأماريّة سوقهم وأرضهم ، كما أنّ الظاهر من صاحب الجواهر قدس‌سره استفادة ذلك (٢). من جهة أنّه عليه‌السلام حكم بالبأس عند عدم غلبة المسلمين ، وعند عدم تحقّق سوقهم.

وذلك من جهة أنّ حكمه عليه‌السلام بالبأس في الصورة المذكورة أعمّ من كون سوقهم أمارة على العدم ومن عدم كونه أمارة ، فكيف يستكشف منه الملزوم الخاص؟

مضافا إلى أنّ إطلاق عدم الغلبة يشمل صورة تساويهما من حيث العدد ، فيكون في هذه الصورة أيضا بأس بحكم المفهوم. ولا وجه حينئذ لعدّها من سوق الكفّار وأرضهم مع تساوي الطائفتين من حيث العدد.

واستدلّ أيضا لذلك القول برواية إسماعيل بن موسى ، عن أبيه : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال عليه‌السلام : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٦٨ ، ح ١٥٣٢ ، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس ، ح ٦٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧٢ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٥ ؛ وج ٣ ، ص ٣٣٢ ، أبواب لباس المصلّى ، باب ٥٥ ، ح ٣.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٦ ، ص ٣٤٧ ، وج ٨ ، ص ٥٤.

١٥٧

رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (١).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو أنّه عليه‌السلام أمر بالسؤال إذا كان البائع مسلما غير عارف بأنّ ما باعه ميتة أم لا ، وكان هناك في البلد والسوق مشركون يبيعون ذلك ، ومن المحتمل أن يكون هذا المسلم اشترى منهم. ونتيجة السؤال هو أنّه لو تبيّن أنّ البائع الأوّل مشرك ، وهذا البائع الثاني المسلم اشترى من ذلك المشرك يجب الاجتناب عنه ، وإلاّ يلزم أن يكون الأمر بالسؤال لغوا ومعلوم أنّ معنى هذا أنّ يد الكافر أمارة عدم التذكية ؛ وتعارض يد المسلم التي هي أمارة التذكية وتكون مقدّمة عليها ، فيدلّ على اختصاص أماريّة يد المسلم على التذكية بما لا يعلم تقدّم يد الكافر عليها.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان الأمر كذلك فحينئذ ( يمكن أن يقال ) أن حكمة السؤال هو أنّه هل أمارة التذكية هاهنا موجودة أم لا؟ لأنّه على فرض سبق يد الكافر لا أماريّة لهذه اليد التي اشترى منها ، لا أنّ الحكمة وجدان الامارة على الميتيّة كما توهّم.

إن قلت : أيّ داع كان على الفحص مع أنّ اليد يد مسلم ، ولم يعلم الانتقال إليها من يد الكافر.

قلنا : علّق السؤال على رؤيته بيع المشركين لذلك ، وبعبارة أخرى : الظاهر أنّ المراد من هذه الرواية أنّ يد المسلم وسوقهم أمارة إذا لم يكن هناك جماعة من الكفّار يتناولون بيعها وشرائها ، وإلاّ يجب السؤال إذا كان البائع المسلم غير عارف ، أمّا إذا رأيته يصلي فيه فلا يجب السؤال. فما عن الجواهر في هذا المقام ـ حيث يقول : بل لعلّ‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ١ ، ص ٢٥٨ ، باب فيما يصلّي فيه وما لا يصلّي ، ح ٧٩٢ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٧١ ، ح ١٥٤٤ ، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس ، ح ٧٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧٢ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٧. وفي السند : « عن سعد بن إسماعيل ، عن أبيه إسماعيل بن عيسى » بدل : إسماعيل بن موسى عن أبيه.

١٥٨

من خبر إسحاق بن عمّار مع خبر إسماعيل يستفاد كون يد الكافر وأرضه أمارة على عدم التذكية (١) ـ غريب.

هذا أحد الاحتمالات في معنى الرواية ، لكنّه انصافا بعيد.

والصحيح في معناها : أنّ الراوي سأل عن لزوم السؤال إذا كان البائع المسلم غير عارف ، وغير العارف يحتمل له معنيان : أحدهما أنّه غير عارف بالولاية ، ثانيهما أنّه غير عارف بالأحكام ، والإمام عليه‌السلام يجيبه بأنّه يجب السؤال إذا كان البائع مشركا ، فكأنّه عليه‌السلام جعل حجيّة يد المسلم مفروغا عنه ، سواء أكان عارفا أو غير عارف ، وأنّه هناك لا يحتاج إلى السؤال عن البائع ، وأثبت السؤال في مورد آخر وهو كون البائع مشركا وكافرا.

ووجه الاستدلال ـ بناء على هذا المعنى للرواية ـ هو أنّ السوق مع أنّه سوق المسلم كما أنّه المفروض في صدر الرواية ، حيث يقول الراوي « يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل » وأنّه أمارة على التذكية وحاكم على استصحاب عدم التذكية ، فلا يجب السؤال ومع ذلك أمر عليه‌السلام بلزوم السؤال إذا كان البائع مشركا ، وليس هذا إلاّ من جهة أماريّة يد الكافر على عدم التذكية ، وتقديمها على سوق المسلم عند التعارض.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان الأمر كذلك فلا معنى لوجوب السؤال بعد قيام الحجّة على العدم ، فنفس الأمر بالسؤال يبطل هذا الاحتمال ، مضافا إلى أنّه لا وجه لتوهّم أماريّة سوق المسلم مع أنّ اليد يد كافر ، بل أماريّتها في مورد كون اليد مشكوكا.

نعم الذي يمكن أن يستدلّ بهذه الرواية عليه بناء على هذا الاحتمال أمران :

أحدهما : حجية اليد ولو كان من غير العارف بالولاية.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٨ ، ص ٥٤.

١٥٩

والثاني : حجيّة إخبار ذي اليد في ثبوت التذكية وآثارها ولو كان ذو اليد كافرا ؛ وذلك لأنّه لو لا حجيّته يلزم أن يكون السؤال لغوا ، بل يمكن أن يدّعي الملازمة العرفيّة بين وجوب السؤال وحجيّة قوله خصوصا وأنّ الوجوب وجوب طريقي.

وممّا ذكرنا تبيّن أنّه لو كان هناك يدان : أحدهما للمسلم ، والأخرى للكافر على مشكوك التذكية ، فبناء على أنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية تتعارض اليدان ، وبعد التساقط يرجع إلى استصحاب عدم التذكية. وأمّا بناء على المختار فيحكم على طبق يد المسلم ولا تعارض أصلا ، فتكون يد المسلم حاكمة على الاستصحاب.

الأمر الثامن : هل يقبل قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة أم لا؟ المشهور هو القبول خصوصا بين المتأخّرين ، بل عن الحدائق : ظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه ، ولذلك استدل عليه بعضهم بالإجماع (١).

وقد عرفت حال الإجماع في أمثال هذه المقامات ممّا يكون مستند المجمعين معلوما ، وهو تارة سيرة المتشرّعة كما في لسان بعض ، وأخرى أخبار ذكروها في هذا الباب.

ولكن عمدة المستند في هذا الباب هي الأخبار ، كصحيح معاوية بن عمّار ، عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج ، ويقول : قد طبخ على الثلث وأنا أعرفه أنّه يشربه على النصف ، فاشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال عليه‌السلام : « لا تشربه ». قلت : رجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه أنّه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف يخبر أنّ عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال عليه‌السلام : « نعم » (٢). ولا شكّ في أنّ ظاهر هذه الرواية هو حجيّة إخبار ذي اليد

__________________

(١) « الحدائق الناضرة » ج ٥ ، ص ٢٥٢.

(٢) « الكافي » ج ٦ ، ص ٤٢١ ، باب الطلاء ، ح ٧ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٢٢ ، ح ٥٢٦ ، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك. ، ح ٢٦١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٢٣٤ ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب ٧ ، ح ٤.

١٦٠