الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا نقص فيه ، وليس الدين إلاّ مجموعة من الأوامر والنواهي متعلّقة بفعل المكلفين أجمعين ، وقد بيّنها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيانا وافيا شافيا رافعا للجهالة ، ومزيلا لحيرة الضلالة والوقوع في خلاف الحق ، وأعطى الوقائع حكمها كاملا غير منقوض ، ولم يكتم من الشريعة شيئا لا صغيرا ولا كبيرا كما تقدم ذكره عن صحيح البخاري في حديث عائشة ، والقول بالقياس يعني إعطاء الفرع المجهول الحكم حكم الأصل المعلوم الحكم.

وبعبارة أوضح إلحاق مجهول الحكم بمعلوم الحكم ، ومعنى هذا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك حكم الفرع مجهولا أو ترك حكم بعض الوقائع ، وأوكل أمره إلى القياس ليعطيه حكمه ، أو أن دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ناقصا فأعطى القياس صلاحية إكماله ، أو أنه تعالى عند أهل القياس كان عاجزا عن إعطاء حكم الفرع وكان القياس قادرا عليه ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على زعمهم ترك دينه ناقصا ليكملوه بالرأي والقياس ، أو كان عاجزا عن بيانه وهم غير عاجزين عنه ، وكلّ أولئك كفر وضلال وطعن في الله وفي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه وهل يكون الخروج عن الدين غير هذا.

ومن ذلك كلّه تفقه أن حكم القياس يختلف عن بقية الظنون اختلافا موضوعيا ؛ لأن القياس إعطاء حكم لموضوع ، وبعبارة أخرى القياس عبارة عن جعل حكم لموضوع مجعول لموضوع آخر ، وخبر الواحد وغيره طريق لحكم مجعول معلوم في الواقع ، لذا كان القياس إدخالا في الدين ما ليس ذا خلاف فيه وهو بدعة ضلالة كما جاء التعبير عنه في الحديث المتقدم ذكره : ( وإذا فعلوا ذلك ضلّوا ).

ثم نقول لأهل القياس : إذا كان العمل به فضيلة فلما ذا يا ترى لم يعط الله تعالى هذه الفضيلة لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يأمره به ، وخصّ أهل القياس به دونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ولما ذا يا ترى نهاه عن التقوّل عليه بعض الأقاويل في دينه؟ ولما ذا نزّه نطقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الهوى ، وقال فيه : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) [ النجم : ٣ ـ ٤ ] فهل يا ترى أعطى الله هؤلاء فضيلة القياس في دينه ، والتقوّل عليه في شرعه وحرم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها؟ أو أنه تعالى أعطاهم من الفضل والفضيلة عند ما أباح لهم العمل بالقياس ولم يعط شيئا من ذلك لأحد من العالمين؟ فهل يا ترى أن بينهم

٨١

وبين الله قرابة فحباهم بالقياس في دينه دون نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودون غيره من النّاس أجمعين ، حيث يقول مخاطبا أكرم خلقه وأعزّهم عليه وأقربهم منزلة منه : ( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) [ الجاثية : ١٨ ] ولا شك في أن أهواء الّذين لا يعلمون المنهي إتباعه في منطوق الآية هو القياس والرأي والاستحسان ، لأنهم لو كانوا من الّذين يعلمون ، وكانوا متّبعين لشريعته التي جعله الله تعالى عليها ، ورجعوا إلى الّذين يعلمون ، أعدال كتاب الله وحملة علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأئمة الهداة من أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأغناهم ذلك عن القياس والوقوع في الضلال ، ولكن : ( وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) [ النمل : ٨١ ].

ما استدل به الخصم على جواز العمل بالقياس باطل

وأما استدلال الخصوم بقوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) [ النساء : ١٠٥ ] على جواز العمل بالقياس فمردود وحجّة لنا عليهم لا لهم :

أما أولا : فلظهور الآية بقرينة صدرها أنها تريد الحكم بما أنزل الله تعالى في القرآن ولا شيء من القياس مما أنزله الله في الكتاب.

ثانيا : إن كلّ ما أنزله الله تعالى في الكتاب مقطوع بأنه حقّ وأنه من وحي الله تعالى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس القياس منه لأنه ليس بحق ولا أقلّ من الشكّ فيه فلا تشمله الآية ، والتمسك ، بها لإثباته دور صريح وهو باطل وذلك مثله باطل.

ثالثا : لا يجوز الحكم بين النّاس إلاّ بما أنزل الله وما أنزل الله لا يكون إلاّ وحيا ولا شيء من القياس من وحي الله ، وفي القرآن يقول الله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) [ المائدة : ٤٤ ] وفي آية أخرى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [ المائدة : ٤٥ ] وفي ثالث : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) [ المائدة : ٤٧ ] فلو كان يريد القياس لزم نسبة الحكم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين النّاس بغير ما أنزل الله وهو باطل ، فالعمل بالقياس مثله باطل.

٨٢

رابعا : أن الرؤية في منطوق الآية إما أن يراد بها العلم أو يراد بها المشاهدة بباصرة العين ، فإن كان الأول فليس من القياس في شيء إذ لا شيء من القياس بعلم ، وإن كان الثاني فغير داخل في مفهوم القياس ولا يشمله تعريفه في أصولهم ، فأين يا ترى دلالة الآية على حجيّة القياس؟ وهو لا يفيد ظنا ولو أفاده فهو خارج عن منطوق الآية ، على أنه يستلزم أن يكون وحي الله قياسا لأن ما أراه الله تعالى لا يكون إلاّ وحيا ، والقول بأن وحي الله قياس كفر لاستلزامه نسبة الجهل إلى الله فيما أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لا يرجع إلى القياس إلاّ من كان جاهلا بحكم الله ، لذا كان نسبة الجهل إلى الله تعالى في حكمه كفرا ، ثم من أين لهذا الإنسان أن يحيط علما بخواصّ الأمور وفوائدها ومنافعها ، ومضارّها ومفاسدها ، ومصالحها لكي يعطيها حكمها نفيا أو إيجابا ، والجهل له طبيعي ، ومهما تخطّى فإلى قليل من العلم ، ومجرد إدراك المشابهة بين شيئين لا يوجب أن يكون حكمهما واحدا ، فإنه ليس بأولى من أن يكون ما بينهما من المباينة مانعا من أن يكونا واحدا حكما ، ولا جائز أن يخفى أمره على الله تعالى فلا يعطيه حكمه لو كان ثمة يشمله حكم الأصل ولا يخفي على الإنسان فيعطيه حكمه حسبما يرى ويهوى.

ويقول ابن حزم الأندلسي في كتاب ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل (١) ص (٤٢) : « قال بعضكم ـ يعني أهل القياس ـ طلاق العبد طلقتان وصيام العبد في الظهار شهر » فهلاّ تماديتم وقلتم صلاته ركعتان وصيامه نصف رمضان ووضوؤه عضوان ، وغسله نصف جسده ، فو الله لأن جاز القياس هناك ليجوزن هنا لأنه كلّه قياس وكلّه خلاف النص.

وقال أيضا في ص : (٤٨) منه : « إن الله جعل الحدّ في الزنا ولم يجعله في إتيان البهيمة وكلاهما محرّم ، وجعل الحدّ بالقذف في الزنا ولم يجعله في القذف بالكفر ، وجعل الحدّ في جرعة خمر ولم يجعله في شرب أرطال من الدم ».

__________________

(١) المطبوع بدمشق سنة ( ١٩٦٠ م ) والّذي حققه الأستاذ سعيد الأفغاني.

٨٣

وقال أيضا في ص : (٤٨) منه : « إن هذا إخراج لأحكام الله بالعقل ، وادعاء بلا برهان ولا نصّ ، وإخبار عن الله بما لم يخبر ، وتقويل لرسوله بما لم يقل ».

وقال في ص : (٤٩) منه : فأول ذنب عصي الله به التعليل لأوامر الله بلا نصّ ، وترك اتباع ظاهرها ، وذلك قول إبليس : ( ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ ) [ الأعراف : ٢٢ ] استنبط إبليس علّة النهي عن أكل الشجرة ، ولم يصح التعليل عن صحابي ، ولا قال به قط ، أي أن التعليل محرّم إذ لم ينصّ عليه الشرع ، أما إذا نصّ عليه فيكون حجّة متّبعة ».

وقال ابن حزم أيضا في ردّ المستدلّين بالقياس ، بقوله تعالى : ( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ) [ الحشر : ٢ ] ، وقوله تعالى : ( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) [ يس : ٧٨ ] ما نصّه : ـ « بأن قوله تعالى : ( فَاعْتَبِرُوا ) جاء بعد قوله : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ) [ الحشر : ٢ ] فلو كان معنى اعتبروا قيسوا لكان أمر الناس بأن نخرب بيوتنا كما خرّبوا بيوتهم ، أما قوله : ( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ ) فدليل على إبطال القياس ؛ لأن الإنشاء الأول للاختبار والإنشاء الثاني للجزاء والخلود ، فالله سوّى بين هذا وذاك بالقدرة وفرّق بين أحكامها ».

وتقول الإمامية : إنما يصلح القياس في الأمور العادية والأحكام العرفية ، أما الأحكام الشرعية فلا يصح فيها القياس ؛ لأن مبنى الشرع على تفريق المجتمعات وجمع المتفرقات ، فتراه في الوضوء سوّى بين البول والغائط والنوم ، فجمع بين المختلفات وأعطاها حكما واحدا وهي كونها ناقضة للوضوء ، وتراه في الحدّ فأمر بقطع يد من سرق ربع دينار دون من غصب مئات الألوف ، وحرّم صوم يوم عيد الفطر مع أنه أمر بوجوب صوم ما قبله وندب إلى صوم ما بعده ففرق بين المجتمعات ، وهناك الكثير من هذا القبيل في أبواب الفقه ما لا يحصى ولا يعدّ.

ويقولون أيضا : إن دين الله لا يصاب بالعقول ، فليس لأيّ إنسان مهما بلغ من العقل والعلم أن يستخرج من هوى نفسه عللا وأسبابا يسندها إلى الله من غير نصّ من الشارع العالم بالأسباب الخفية والمصالح الكامنة ، لا سيّما إذا لا حظنا قوله تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) [ النساء : ١٦٠ ]

٨٤

وقوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ) [ الأنعام : ١٤٦ ] ومفهوم الآيتين واضح ، وفيهما دلالة صريحة على أن العلّة في تحريم ذلك عليهم هو عصيانهم لا وصف ثابت للمذكورات ، وحينئذ فلا يمكن الجزم بأن الجامع بين المقيس والمقيس عليه علّة للحكم لجواز أن تكون خصوصية الأصل المقيس عليه شرطا للحكم المنصوص ، أو تكون خصوصية الفرع مانعة من إلحاق غير المنصوص بالمنصوص ، أو تكون صفة المكلف هي التي أوجبت الحكم ، فهذه كلّها دلائل واضحة على بطلان إلحاق أمر غير منصوص عليه بآخر منصوص عليه في الحكم الشرعي الّذي هو القياس الباطل.

الاستدلال بالقلّة على الحقية

قال الآلوسي ( ص : ٢٣ ) : « ومن مكايدهم أنهم يقولون إن مذهب الإثني عشرية حقّ لأنهم أقلّ من أهل السنّة ، وقال تعالى : ( وَقَلِيلٌ ما هُمْ ) [ ص : ٢٤ ] ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) [ سبأ : ١٣ ].

والجواب : أنه لا يخفى على العاقل أن في هذا التقرير تحريفا لكلام الله ، فإن الله تعالى قال في أصحاب اليمين : ( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) [ الواقعة : ٣٩ ـ ٤٠ ] والثلّة الجم الغفير ، وليس في الآية الكريمة المذكورة بيان حقّية المذاهب وبطلانها ، وعلى تقدير كون القلّة والذلّة موجبة للحقيّة ، يلزم أن يكون النواصب والخوارج وغيرهم أحقّ من الإثني عشرية لأنهم أقلّ منهم ـ إلى أن قال ـ : فبان كيدهم وخسر هنالك المبطلون ».

المؤلف : أوّلا : قوله : « إنهم ـ أي الشيعة ـ يقولون إن مذهب الإثني عشرية حقّ لأنهم أقلّ من أهل السنّة ».

فيقال فيه : إن أراد أن القلّة مطلقا تلازم الحقيّة على معنى أن كلّ قليل يكون الحقّ في جانبه من كلّ كثير ، فذلك ما لا تقول به الشيعة الإثنا عشرية ، وإن أراد الملازمة بينهما في الجملة فذلك ما تقول به الإمامية ، ودليلهم على ذلك قوله

٨٥

تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) [ سبأ : ١٣ ] ولا شك في أن كل شاكر مسلم ، والإمامية مسلمون وهم قليلون بالنسبة إلى غيرهم من المسلمين ، فإذا ثبت أنهم مسلمون قطعا وثبت أنهم قليلون جزما ثبت أنهم هم الشاكرون ، فأيّ تحريف يا ترى في هذا التقرير كما يزعم الآلوسي ، فإنه لم يأت بشيء يبطل به الاستدلال بالآية على حقيّة الإمامية سوى قوله : ( إن في هذا التقرير تحريفا لكلام الله ) وعدوله إلى آية أخرى لا ربط لها بما نحن فيه مثله مثل الغريق يتشبث بالطحلب أو بأرجل الضفادع.

ومن هنا يستشرف القارئ على القطع بفساد تلفيقاته وبطلان تمويهاته التي حاول بها تحويل الحقيقة إلى الإفك والزور ليقول فيها ما يشاء ، ثم من أين لك أيها ( الشيخ ) أن الشيعة الإمامية تستدل على حقيّتها بالقلّة ، ومتى استدلّوا بذلك ، وأين استدلوا ، ومن هم المستدلون بها منهم ، ومن هم الناقلون له؟ بل لا حاجة بهم إلى الاستدلال بالآية على حقيّتهم وهي وإن كانت لعمر الله مما يصح الاستدلال بها على حقيّتهم إلاّ أنهم يستدلون عليها بالصحاح المحمدية الجياد المتفق على صحتها بين الفريقين ، فهم غير محتاجين إلى الاستدلال بالقلّة ، سواء أكان الاستدلال بها صحيحا أم غير صحيح ، وقد أغنتهم الأدلّة القاطعة لجذور الأباطيل على أنهم هم الفرقة الناجية المستثناة من بين ثلاث وسبعين فرقة هالكة في النار ، على ما حدّثنا عنها حفاظ أهل السنّة ومشاهير أعلامهم في صحاحهم ومسانيدهم ، وقد تقدم ذكره في أوائل الكتاب فلتراجع ، وهو يدلنا على نجاة فرقة واحدة ، وقد احتدم النزاع في تعيينها وأدلت كلّ فرقة بما لديها من حبال وعصي لإثبات أنها هي ، ولكنها كلّها مفككة العري مضمحلة القوى ، لم يذهبوا بها مذهب العقل السّليم ، وكلّها مصادرات ومغالطات تنقص قيمة الدليل وتذهب مزيته وتحوله إلى المشاغبة.

وقد أغنانا عن الإحتجاج بشيء من ذلك في تعيينها الحديث المشهور الّذي لا ريب فيه وقد اعترف بصحته الجميع ، وقد رواه معاريف حفاظ الحديث من أهل السنّة في صحاح كتبهم ، وحكم الجلّ لو لا الكلّ منهم بصحته واشتهاره ، وقد

٨٦

اعترف الآلوسي نفسه بثبوت نقله وصحته من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ) وقد تقدم ذكره ، ولا شك في نجاة الفرقة التابعة لأهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والطائفة التي ما برحت تابعة لهم في أصولها وفروعها وعقائدها وسلوكها ، وآخذة أحكامها وسائر أعمالها منهم عليهم‌السلام هي الطائفة الإمامية الموالية لمن والوا والمعادية لمن عادوا ، دون غيرها من سائر الطوائف.

آية ثلة من الأولين وثلة من الآخرين

وأما قوله تعالى : ( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) [ الواقعة : ٣٩ ـ ٤٠ ] فعبارة أخرى عن قوله تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) وقوله تعالى : ( وَقَلِيلٌ ما هُمْ ) لا سيما إذا لا حظنا قوله تعالى قبلها : ( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) [ الواقعة : ١٣ ـ ١٤ ] على أن الثلة كما في مختار الصحاح وغيره جماعة من الناس ، وأصله القطعة من قولهم ثلّ عرشه إذا قطع ملكه بهدم سريره ، وليس كما يزعمه الآلوسي أنها الجم الغفير ، فإن هذا لم يرد في لغة العرب ، وهب جدلا أنها الجم الغفير ومع ذلك فإنها تريد الكثير المقابل للأكثر ، فالآية على هذا تريد الكثير دون الأكثر ، فهي لا تنطبق إلاّ على الشيعة الإمامية ، لأنهم مسلمون وأقلّ من غيرهم من المسلمين ، وغيرهم أكثر منهم ، فهم المعنيون حتى على قول الآلوسي ، بقوله تعالى : ( وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) فهم الثلّة من الآخرين المدلول عليهم في الآية الثانية ، وهم القليل من الآخرين المدلول عليه في الآية الأولى في سورة الواقعة ، فأهل السنّة خارجون عن منطوق هذه الآيات لكثرتهم من جهة ولأكثريتهم من جهة أخرى ، وأما غيرهم من النواصب والخوارج فخارجون عنها بوصف الكفر والخروج عن الإسلام.

وبعبارة أخرى : الشيعة هي المعنية بقوله تعالى في الآيتين : ( وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) وقوله تعالى : ( وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) لأنهم ثلّة وقلّة من الآخرين المدلول عليهما في الآيتين لا أهل السنّة ولا غيرها ، لخروج الأول بوصف الكثرة بالنسبة إلى القلّة ، وبوصف الأكثر بالنسبة إلى الكثير ـ كما يزعم الآلوسي ـ وخروج الثاني بوصف الكفر.

٨٧

ثانيا : قوله : « وليس في الآية بيان حقيّة المذاهب ».

فيقال فيه : ليس في الدين مذاهب (١) وإنما : ( الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) وإنما

__________________

(١) ونحن نسأل الآلوسي وغيره عن هذه المذاهب والتي هي أربعة عندهم فقط : أكان أهلها من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لا؟ وهل كانوا جميعا من التابعين الّذين لقوا أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعوا منهم ورووا عنهم أو لا؟ أو أنهم تكلموا فيما بعد وتعلموا العلم من الآخرين ، فتقرر إجماع المتأخرين من جمهور أهل السنّة من عهد الملك الظاهر بيبرس البندقداري في مصر سنة ( ٦٥٥ ه‍ ) إلى يومنا هذا على وجوب تقليدهم والأخذ بقول واحد منهم وحرمة ما عداها ، وأن من خالف ذلك إلى غيره لا يولّى إمامة الجماعة ولا منصب القضاء ، ولا يباع ولا يشارى ، ولا يصلّى على جنازته كما سجّل ذلك كلّه المقريزي في خططه ( ص : ١٦١ ) من جزئه الرابع عند ذكره للملك المذكور.

أما الأول والثاني : فلا بد وأن يقول في جوابهما : ( لا ) ، وأما الثالث ، فيقال له : هل في كتاب الله آية أم في السّنة النبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواية تدل على وجوب الأخذ بقول واحد منهم؟ وهل كانوا جميعا في زمان واحد؟ فلا بد أن يقول في جوابهما : ( لا ) لأنهم كانوا في أزمان متفرقة ، فقد ولد أبو حنيفة النعمان سنة ثمانين ومات سنة خمسين ومائة ، وولد مالك سنة خمس وتسعين ومات سنة تسع وسبعين ومائة ، وولد محمد بن إدريس الشافعي سنة خمسين ومائة ومات سنة مائتين وأربع ، وولد أحمد بن حنبل سنة أربع وستين ومائة ومات سنة إحدى وأربعين ومائتين ، على ما سجّل ذلك كلّه ابن خلكان في وفيات الأعيان في ( ص : ١٧ و ٢٦ و ٣٢ و ٤٢٩ و ٤٤٧ و ٤٤٨ ) من جزئه الأول ( وص : ١٦٣ و ١٦٦ ) من جزئه الثاني ، وهكذا ذكره المقريزي في خططه من جزئه الرابع.

ثم يقال للآلوسي : هل كان هؤلاء كلّهم على مذهب واحد وفتوى واحدة؟ فلا بد أن يقول : إنهم كانوا على آراء مختلفة وعقائد متضادة كما صرح به المقريزي في خططه ( ص : ١٨٦ ) من جزئه الرابع ، وغيره من مؤرخي أهل السنّة ممن جاء على ترجمتهم ـ وقد تقدم ذكر بعضها ـ وحينئذ يقال له : كيف جاز في الدين الاتفاق على وجوب الاقتداء بهم والقرآن لم يأمر به والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرخص فيه مع ما هم عليه من الاختلاف الفاحش في الفتاوى ، الأمر الّذي خرجوا به عن طريق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاتفاق وعدم الاختلاف ، وتباعدوا بذلك عن قواعد الإسلام من وحدة العقيدة واتحاد المبدأ وعدم التضاد في أحكامه من حلاله وحرامه في المجالات كلّها ، كما يقول القرآن : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) [ المائدة : ٣ ] فإذا كان الدين كاملا في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما ذا اختلف هؤلاء في حلاله وحرامه وتناقضوا في أهوائهم وتباينوا في آرائهم؟ فإن قال : إن هذا الاختلاف من الرواة الّذين رووا عنهم ، فيقال له : فقد شهدت على رواة الحديث عندك بالكذب أو الضلال وتبديل الإسلام ، فكيف يجوز الوثوق بهم والاعتماد عليهم فيما ينقلونه عنهم ، وإن قال : هذا الاختلاف من الأئمة الأربعة أنفسهم لحاجة دعتهم إلى ذلك ، أو لطلب ما ضاع والتبس عليهم من شرع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقد شهدت على نفسك بأن الدين لم يكن محفوظا ولم يترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم قيّما عليه وحافظا له من الضياع وقائما به ، فكيف يجوز الاقتداء بمن يشهد على ربّه ونبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشريعته بمثل هذه الأباطيل ،

٨٨

__________________

ثم يقال له : ما هي تلك الحاجة في أنفسهم التي دعتهم إلى هذا الاختلاف في دينهم والتضارب في آرائهم ، مع أن المفروض بهم أن يكونوا واحدا قولا وفتوى وعقيدة ، لأن هذا هو الدين الّذي أنزله الله تعالى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره أن يدعو الناس إليه ، اللهم إلاّ أن تكون تلك الحاجة التي في أنفسهم هي حبّ الظهور في مخالفة الشريعة والانحراف عن الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين أمرهم الله تعالى على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك بهم والرجوع إليهم والاقتداء بهم في كلّ أمر ونهي ، كما دلّت عليه نصوص الفريقين المتواترة ، وإن قال : إن الدين كان تاما محفوظا ، فيقال له : فأيّ شيء يا ترى ضاع منهم هو غير الدين وشريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى فتشوا عنه ووجدوا في الحصول عليه واختلفوا لأجله هذا الاختلاف؟ فإن قال : قد اختلفوا من غير حاجة بهم إلى الاختلاف ، فقد شهد عليهم أنهم أرادوا به تشويه سمعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقبيح ذكره وتزهيد الناس في اتباع شريعته الحقّة ، وأن يدخلوا في دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يكن داخلا فيه ويخرجوا ما كان داخلا فيه ، فكيف يجوز الاقتداء في الدين بمن كان متصفا بهذه الصفات ، فإن قال : إنهم أعرف بالشريعة من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن لهم أن يزيدوا فيه وينقصوا منه ويدخلوا فيه ويخرجوا منه ما شاءوا ، وأنهم أتوا بما لم يأت به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الهداية فقد خالف بذلك عقول العقلاء ، وناقض به مذاهب جميع الأنبياء عليهم‌السلام ويلزمه أن يقول : إنهم أعلم من الله بنفسه وهذا هو الكفر بعينه.

ثم يقال له : إذا كان هؤلاء الأئمة في أزمان متفرقة وعلى مذاهب مختلفة فلا يصح أن يكونوا جميعا على الحقّ والصواب ، لأن الحق والضلال لا يجتمعان في واحد ، كما يقول القرآن : ( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ ) ولما ذا لا يكونون جميعا على الباطل مع أن ترجيح واحد منها على غيره هو ترجيح بلا مرجح وهو باطل يوجب بطلان ما عداه من المذاهب الثلاثة ، ويكون الحقّ مع من كان قبلهم من الصحابة والتابعين الّذين صحبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتزموا بشريعته واتبعوا التي هي طريقة واحدة ، ولم يتعبّدوا بواحد من هذه المذاهب الأربعة المتأخرة عن عصرهم وهم خير القرون كما يزعمون.

فاتباع أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العظام عليهم‌السلام وأصحابه الكرام إن لم يكن هو المتعيّن وأحق بالاتباع فلا أقلّ من الحكم بالمساواة بينهم وبين الأربعة ، وهذا ما يوجب بطلان تعيين الرجوع إلى خصوص الأربعة وتحريم غيرها من المذاهب ، ثم يقال له : لما ذا لا تكون المذاهب لو صح وجودها في الإسلام أكثر عددا أو أقل من أربعة؟ ومن هذا الّذي حدّد هذا التحديد وجعل أئمة المذاهب أربعة لا يزيدون واحدا ولا ينقصون؟ وليس لهذا التحديد في القرآن أثر ولا في شريعة سيّد الأنام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر كما ليس في أدلة المسلمين ما يدل على اختصاص الاجتهاد واستنباط الأحكام ومعرفة الحلال والحرام بالدليل بخصوص أرباب هذه المذاهب.

وكيف يصح لمن له عقل أو شيء من الدين أن يزعم أن علوم الاجتهاد قد انمحت ودرست معالمها عند جميع المسلمين لا سيّما عصر الصحابة والتابعين الّذين لم يتدينوا بشيء من هذه المذاهب إلى السنّة المذكورة إلاّ عند هؤلاء الأربعة؟ أو يزعم أن عقول المسلمين كلّهم إيفت وأفهامهم عقمت إلاّ عقول الأربعة وأفهامهم؟ أو أن المسلمين قبل وجود أصحاب هذه المذاهب وبعد انقراضهم ليس فيهم من يعرف حكم الله بدليله ويقوم لله بحجته غير الأربعة؟ فهل يصح لعاقل أن يزعم أنهم كانوا ورثة ـ

٨٩

__________________

الأنبياء عليهم‌السلام أو ختم الله بهم الأوصياء وعلّمهم علم ما كان وما يكون ، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، فاختصت علوم الشريعة بكتابها وسنّتها بهم ، حتى صارت ملكا من أملاكهم إلاّ ما يهبه هؤلاء لغيرهم ، ولو فرضنا جدلا أن علوم الاجتهاد قد انمحت عند جميع المسلمين وخاصة أهل القرون الثلاثة ، وفرضنا أنه لا يوجد فيهم من يعرف حكم الله بدليله ما عدا الأربعة ، فكيف يا ترى كان عملهم من ذي قبل؟ بل وكيف كان عمل الأربعة قبل بلوغهم رتبة الاجتهاد؟ فما بقي إلا أنهم كانوا جاهلين بأدلة الدين في تلك القرون الكثيرة وأعمالهم كلّها كانت باطلة ، لأنهم لم يتعبدوا قطعا بشيء من هذه المذاهب ، وهذا لا يذهب إليه إلاّ مجنون.

فإن زعم الآلوسي قيام الإجماع من المتأخرين على هذا التحديد بالأربعة ، فيقال له : أولا : إن قيام الإجماع في العصور الأولى وما بعدها إلى السنة المذكورة على جواز الرجوع إلى غير الأربعة حتى من الأربعة هو الحجّة على من تأخر عن ذلك العصر لقربهم من عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد هؤلاء عنه فلا حجّة في إجماع المتأخرين مطلقا فكيف إذا صادمه إجماع أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتابعين وتابعيهم ، وهم أعرف بالأحكام من هؤلاء لوجودهم قرب الباب الحقيقي والينبوع الأصليّ وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثانيا : إن إجماع المتأخرين لا حجّة فيه ، لأنه لا ينطبق عليه الإجماع المعتبر شرعا وذلك فإن معناه اتفاق مجتهدي الأمة وهؤلاء المتأخرون لا مجتهد فيهم ، بل كلّهم مقلّدون للأربعة ، فإن كانوا مجتهدين فقد أبطلوا مذهبهم ، وإن كانوا غير مجتهدين فلا قيمة لإجماع العوام الجهال.

ثالثا : لو فوضنا جدلا التعارض بين الإجماعين إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى زمن الأئمة الأربعة وما بعده على جواز الاجتهاد مطلقا ، وإجماع المتأخرين جميعا على منعه بعدهم ، وقطعنا النظر عن ترجيح إجماع الصحابة بما فيهم أصحاب المذاهب لإجماعهم على حجّية إجماعهم واختلافهم في غيره ، كلّ ذلك على سبيل التساهل معهم كان نصيب الإجماعين السقوط شأن المتعارضين مع انتفاء المرجح لأحدهما المعيّن ، وحينئذ يجب الرجوع إلى غيره من أدلة المسلمين ، وقد نظرنا فيها فوجدناها حاكمة بجواز الاجتهاد مطلقا وبطلان التقليد والأخذ بقول الآخرين مع التمكن من تحصيله بالاجتهاد ، ولو لم تكن حاكمة بجوازه مطلقا لحرّم الاجتهاد على الأئمة الأربعة لا خصوص غيرهم ، وقديما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ) وإن قالوا إن المانع من الاجتهاد هو إجماع أصحاب المذاهب نفسها على تحريمه ، فيقال لهم : إن ذلك باطل من وجوه.

الأول : إن الإجماع : هو اتفاق أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مجتهدي الأمة جميعا على أمر أو أمور في وقت واحد كما صرح به الآمدي في كتاب الأحكام ، وعضد الملّة في شرحه لمختصر ابن الحاجب وغيرهما من علماء الأصول عند أهل السنّة ، وطبيعي أن الأئمة الأربعة كانوا في أزمان مختلفة وأماكن متعددة ، وخاصة إذا لاحظنا أنه لم يرد عنهم في خبر أنهم أجمعوا على تحريمه.

الثاني : لا يجوز الأخذ بفتواهم شرعا مطلقا ولا السؤال منهم أبدا ؛ وذلك لأن الله تعالى أمر بالسؤال من أهل الذكر ، بقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) كما في آية (٤٣) من سورة النحل ، وهؤلاء لم يكونوا من أهل الذكر قطعا فلا تشملهم الآية ، أما عدم كونهم من أهل الذكر فلعدم ـ

٩٠

__________________

عصمتهم إجماعا وقولا واحدا ، والآية تريد من أهل الذكر خصوص من كان معصوما ، لأنها أمرت بالسّؤال من أهل الذكر على الإطلاق ، ومن أمر الله بسؤاله على سبيل الجزم والإطلاق يجب أن يكون معصوما ، وذلك لأن وجوب السؤال يستلزم وجوب الجواب ، ووجوب الجواب يستلزم وجوب العمل ، ووجوب العمل مطلقا بقول المسئول موجب لعصمته من الخطأ ، وإلاّ وجبت الإطاعة لمن يجوز عليه الخطأ عن عمد أو سهو ، وقد ثبت بالضرورة من دين المسلمين أنه لا شيء من الخطأ بحكم الله جائز العمل به فضلا عن وجوبه ، ومن حيث أنه تعالى أمر بالعمل على سبيل الجزم مطلقا بقول المسئول علمنا أنه يريد عصمته مطلقا ، فالآية لا تنطبق على الأئمة الأربعة وليسوا من صغراها خاصة إذا لاحظنا تضاربهم في الفتوى واختلافهم فيها ، ولو سلّمنا جدلا إنهم من صغراها ولكن لا تشملهم وهم موتى وتلك قضية السؤال والجواب الموجبة للحياة الممتنعة من الأموات ، وحينئذ فلا يصح الرجوع إليهم على الإطلاق.

الثالث : لو فرضنا أنهم أجمعوا على منعه ومع ذلك فإن إجماعهم ليس بحجّة في شيء لأنه ليس من الإجماع الحجّة المصطلح عليه بين علماء المسلمين أجمعين من أنه ( اتفاق مجتهدي الأمة ) ومجتهدوا الأمة قطعا لم ينحصروا في أصحاب المذاهب الأربعة ولم ينحصر هؤلاء بهم وإلاّ بطل اجتهاد الصحابة والتابعين أجمعين ، وببطلانه يبطل كلّ إجماع أقاموه لا سيّما ما ادعوه في السّقيفة وبطلانه مما لا يقولون به بإجماعهم.

الرابع : لو فرضنا حجيّة إجماعهم فهو ساقط بإجماع على جوازه في العصور الأولى وما بعدها مطلقا.

الخامس : إن إجماعهم على منعه مخالف لحكم العقل القاطع بفساده لاستلزامه تحجير عقول المسلمين في فهم الأحكام بالأدلة من غير دليل يقرّه العقل ويشهد به الدين ، وموجب لبطلان أدلة الاجتهاد بالأحكام الثابتة باليقين عند المسلمين أجمعين ، وفي بطلانها بطلان اجتهاد الأئمة الأربعة لا خصوص من جاء بعدهم ، وهو لا يذهب إليه أحد من المسلمين.

السادس : إن فتواهم بحرمة الاجتهاد موقوفة على جواز اجتهادهم شرعا ، والجائز شرعا لا يكون حراما ولا يجوز نسخه بعد انقطاع الوحي لأن : حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة الحديث المتقدم ذكره ، والجائز في أصل الشرع لا يكون جائزا لبعض وحراما على آخرين بالضرورة من الدين ، وإذا كان الاجتهاد حراما كان اجتهادهم في تحريمه حراما لأنّ حرام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرام إلى يوم القيامة كما تقدم في الحديث وهذا ما لا سبيل لهم إلى دفعه ، وتوهم اختصاص أدلة تحصيل الاجتهاد بهم من أوضح الباطل وأقبحه لعموم أدلة تحصيل الأحكام بالاجتهاد للمكلفين أجمعين في العصور الأولى وما بعدها عند ما لم يكن واحد من الأئمة الأربعة ولا أحد من آبائهم إلى يومنا هذا فيكون تخصيصها بهم ، لا سيما إذا لاحظنا عدم وجود أصحاب المذاهب زمن صدورها تخصيصا بلا مخصص وبطلانه واضح.

السابع : كيف يتسنى لمن له عقل أن يغلق باب الاجتهاد في تحصيل الأحكام الشرعية في وجوه المسلمين بعد أن كان مفتوحا على مصراعيه في القرون الثلاثة وما بعدها ، ومن هذا الّذي يرضى لنفسه من حيث يشعر أو لا يشعر أن يقول إن ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلوم والأحكام قد احتكره أئمة

٩١

اختلق المذاهب في الإسلام وابتدعها في الدين فأماتوا بها السّنن جماعة من أهل الدجل ، أما الإمامية فقد عرفت أنهم مصداق الآيات المتقدم ذكرها ـ في سورة الواقعة وسورة سبأ وسورة ص ـ وأنها لا تصدق على الآخرين ولا تريدهم مطلقا.

ثالثا : في الآية دلالة واضحة على صحة مذهب الإمامية وهي المصداق الوحيد لقوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) [ آل عمران : ١٩ ] ولو بمعونة ما ورد في صحيح الحديث في نجاتها وهلاك ما عداها من الفرق مطلقا ، ولا ريب في أن من كان من الناجين يجب أن يكون من الشاكرين وهم قليلون ، فيكونوا أفرادا للآيات وتكون دليلا على أنهم على الحق المبين وما عداهم من الفرق في خسران مبين.

__________________

تلك المذاهب لأنفسهم ، ومنعوا الآخرين من الوصول إلى شيء منها عن طريق غيرهم وأنهم حرّموا التصرف فيه على الآخرين ، ولا يصح أن يقال فيهم أنهم أو صدوا بابه وصدّوا عن سبيله واعتقلوا العقول عن إدراكه وجعلوا على أبصار الناس غشاوة عن النظر إليه ، وعلى قلوبهم أكنة من أن يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا من أن يستمعوه ، وختموا على أفواههم عن النطق به ، ووضعوا في أيديهم الحديد ، وفي أعناقهم الأغلال عن الوصول إليه ، كلاّ ثم كلاّ كلّ ذلك لم يكن ولن يكون أبدا ، ثم إنا نسأل الآلوسي عن مذهبه الّذي تبناه واختاره من بين هذه المذاهب الأربعة وآثر الرجوع إلى الأجساد البالية والعظام النخرة ، وأخلد إلى العجز ، وركن إلى الكسل ، ورضي بالحرمان ، وقنع بالجهل والتحجير على عقله ، فإن قال : إني حنفي المذهب ، فيقال له :

أولا : لم اخترت هذا المذهب دون غيره من المذاهب؟ ومن أين علمت أن الحق والصواب في هذا المذهب؟ وأي دليل من الكتاب والسنّة دلّك على أن النجاة في سلوك هذا المذهب؟ فإنك لمسئول عن هذا كلّه أمام الله تعالى يوم القيامة ، فإن قال : إنما سلكت هذا المذهب لأن أبي كان عليه ، فيقال له : كيف يجوز تقليد الآباء في الدين؟ ومن أين ظهر له أن الحق فيما سلكه الآباء؟ وهو عاجز عن إثبات شيء من ذلك بالدليل ، فقوله هذا مصادم للحجّة ومعدول به عن الدليل والبرهان ، وقد حرّم الله تعالى تقليد الآباء في الدين فذم المقلّدين لهم ووبخهم بقوله : ( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) وقال تعالى : بل قالوا ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) كما في كل من الآيات : ٢١ ـ ٢٥ ، من سورة الزخرف إلى غيرها من آيات الذكر الحكيم التي تدل بصراحة على حرمة تقليد الآباء في أخذ الدين بلا دليل وهذا ما لا يمكنه رده.

٩٢

النواصب والخوارج خارجون عن الآية وإن كانوا قلّة

رابعا : قوله : « وإن كانت الأحقية بالقلّة لكان النواصب والخوارج أحقّ من الإثني عشرية لأنهم أقلّ منهم ».

فيقال فيه : إن الظاهر من الآية اختصاص الأحقيّة بالقلّة بوصف كونهم شاكرين ، وغير المسلم لا يكون شاكرا ، فيلزم القطع بأنها تريد المسلمين ، فيخرج النواصب والخوارج وغيرهما من الفرق الكافر عن مورد الآية فلا ينطبق عليهم شيء من الآية ، فيتعيّن ذلك في خصوص الشيعة الإمامية لأنهم مسلمون وهم قليلون ، فهم الصغرى للآية فتنطبق عليهم وحدهم انطباق الكليّ على مصداقه والطبيعي على فرده.

٩٣
٩٤

الفصل الرابع

تحريف القرآن

نسبة الآلوسي تحريف القرآن إلى الشيعة

قال الآلوسي ( ص : ٢٣ ) : « ومن مكايدهم أنهم يقولون إن أهل السنّة حرّفوا القرآن ، يرومون بذلك الطعن على أبي بكر وعمر (رض) وكبار الصحابة مع أن الشيعة هم القائلون بتحريفه ».

المؤلف : أما القول بتحريف القرآن ونقصه فليس من عقائد الشيعة بل يحكمون بضلال من يقول بتحريفه ، وإنما نسب إليهم ذلك الدجالون من أعدائهم ، لأن الثابت بالضرورة من مذهبهم الإسلامي نفي التحريف عنه في الدين والعقل ، نعم هناك طائفة من الأحاديث وردت عن طريق خصوم الشيعة تدل بصراحة على تحريفه ، فمن ذلك ما أخرجه السّيوطي في إتقانه ( ص : ٥٧ ) من جزئه الأول ، وفي الدر المنثور عن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قال : كنا نسمّي سورة التوبة الفاضحة حتى ظننا أنها تأتي على آخرنا.

وعن ابن عباس : كنا نسميها الفاضحة لنزول مثالب غالب الصحابة فيها بأسمائهم ، ويقول شيخ الحديث عند أهل السنّة البخاري في صحيحه من جزئه الرابع في أوائل ( ص : ١١٩ ) في باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت ، من كتاب الحدود ، عن ابن عباس ، عن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) في حديث طويل جاء في آخره ما لفظه :

على أن الله بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان ، أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب

٩٥

الله ، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حقّ على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ، ثم أنّا كنا نقرأ من كتاب الله : ( أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ).

ونحن نسأل الآلوسي عن هذه الأحاديث لا سيّما الحديث الأخير الّذي هو مسجل في أصح الكتب بعد كتاب الله عند خصوم الشيعة ، هل هي للشيعة أم هي من أحاديث أخصامهم؟ ثم نقول له : إنه لو جاز عليه التحريف لكان المحرّف له عثمان بن عفان ؛ لأنه هو الّذي جمعه باتفاق الأمة ، فكيف يا ترى يصح نسبة تحريف القرآن إليهم وهم أبرّ وأتقى من أن يكون ذلك من مذهبهم ، ويقول الله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) [ الحجر : ٩ ] ويقول : ( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) [ فصلت : ٤٢ ] والتحريف لا شك في أنه من الباطل فلا يأتيه مطلقا ، فظهر من ذلك أن التحريف ليس من كيدهم وإنما هو من كيده لوروده عن ثقات أعلامه.

الشيعة لا تضع الأحاديث

قال الآلوسي ص : (٢٤) : « ومن مكايدهم أن جماعة من علمائهم اشتغلوا بعلم الحديث وسمعوا الأحاديث من ثقات أهل السنّة ومن محدثيهم ، وحفظوا الأحاديث الصحيحة فأدرجوا في أثناء رواياتهم الأحاديث الصحيحة وموضوعاتهم ».

المؤلف : أولا : كان على الآلوسي أن يذكر لنا واحدا من علماء الشيعة الّذين اشتغلوا بعلم الحديث وسمعوا الأحاديث من ثقات أهل السنّة من هو؟ وأين هو؟

وما هو اسمه؟ وما هي تلك الكتب التي أدرج تلك الموضوعات فيها؟ أهي الصحاح الستة بما فيها صحيحا البخاري ومسلم اللّذان أجمعوا على أنهما أصح الكتب بعد القرآن؟ أم غيرها من مسانيدهم؟ ولمّا لم يأت على ذكر واحد منهم علمنا أن ذلك من كذبه وزوره.

٩٦

ثم كيف يا ترى يخفى ذلك على محدثي أهل السنّة وحفاظهم لا سيّما أهل الصحاح وهم الثقات عنده في جمع الحديث؟ ولما ذا لم يستخرجوا تلك الموضوعات المدرجة في أثناء رواياتهم الأحاديث الصحيحة ـ على زعمه ـ من صحاحهم؟ وهل بلغ بهم الجهل والغباوة إلى درجة لم يميّزوا بها بين الموضوعات المزعومة وبين غيرها من الصحاح؟ ولم يبلغ الجهل والغباوة بالآلوسي ذلك المبلغ فلم يخف عليه ذلك ، وإذا كان هذا شأنهم في عدم التمييز بين الغث والسّمين فكيف يصح للآلوسي أن يصفهم بالثقات ، وأنهم من علماء الحديث ، لأن من الواجب على العالم بالحديث أن يكون عارفا بصحيحه وضعيفه ، وقويّه وجيّده ، وموثّقه وحسنه ، ومقبولة وموضوعه إلى غير ذلك مما يلزم العالم بالحديث أن يكون بصيرا به وواقفا عليه لكي يصح وصفه بأنه من الثقات في علم الحديث ، ولا جائز أن يخفى أمر ذلك كلّه على علماء الحديث من أهل السنّة الّذين بذلوا وسعهم في تنقيب الأحاديث ، ووضعوا كتبا للجرح والتعديل ومعرفة طرق الحديث ورجاله ومبلغ صدقهم من كذبهم بالحديث وتميّزهم بها الصحيح من غيره ، ولا يخفى أمره على هذا الآلوسي وأخيه الهندي ، إن ذلك ليس بالممكن ولا بالمعقول أبدا.

ثانيا : لو سلّمنا جدلا أن هناك جماعة من علماء الشيعة أدرجوا الموضوعات في أثناء روايتهم الأحاديث الصحيحة وخفى أمر ذلك على حفاظ أهل السنة ، فذلك يعني سقوط صحاح أهل السنّة عن آخرها ، لتقر به عين الآلوسي وغيره ، وتلك قضية العلم الإجمالي بوجود الموضوعات في ضمن صحاحهم ، وليس هناك ما يميّزها عن صحيحها ، ولا طريق لمعرفة غثها من سمينها ؛ لأن كلّ ما فرضناه صحيحا نفرضه موضوعا لعلمنا بوجودهما في تلك الكتب ، وهذا باطل لا يصح وذلك مثله باطل.

ثالثا : لا يمكن للآلوسي أن يستر الحقيقة بمثل هذه الأكذوبة التي يعرفها حتى الأغبياء ، فإن كتب أهل السنّة مشحونة بفضائل أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآيات خلافتهم مروية من طريق أعاظم حفاظهم وثقاتهم المعول عليهم عندهم في

٩٧

علم المنقول ، الّذين أفنوا أعمارهم في جمعها وتصحيحها ما يشهد لأئمة الهدى ومصابيح الدجى من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتقدم على سائر خير أمة ، وأي شيء بقي من الفضل لم يروه علماء الحديث من أهل السنّة في جميع كتبهم المعتبرة حتى تضع الشيعة الإمامية أحاديث ملفقة في صحاحهم في فضلهم عليهم‌السلام ومن ثم فليس من الممكن المعقول أن يقول الآلوسي إن الشيعة تضع الموضوعات في كتبهم الصحيحة في فضل الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ إذا كان يريد أن يكون مجنونا أو مخبولا.

فإذا قال : ذلك ـ وهو قوله ـ كان ساقط القول لأجل خباله وجنونه ، فالمعقول إذن إنه يروم بهذا الزعم المعلوم البطلان أن يسقط الصحاح المحمّدية التي دوّنها علماء أهل السنّة ومحدثوهم الثّقات الدالّة على أفضلية عليّ عليه‌السلام وبنيه عليه‌السلام على سائر أفراد الأمة ، ويحاول بهذا المنطق الأهوج أن ينكر ما تواتر نقله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل عترته ، وأنهم أولى وأحقّ بإمامة الأمة من غيرهم ، على أن هناك أحاديث كثيرة واردة من طرق أهل السنّة في فضل أهل البيت عليهم‌السلام وأفضليتهم من الآخرين مما لا وجود له في كتب الشيعة الإمامية ، فلو كانت الشيعة الإمامية تضع الأحاديث في فضلهم عليهم‌السلام في كتب أهل السنّة ـ كما يزعم ـ كان الأولى بهم أن يضعوها في كتبهم ثم في كتب غيرهم ، فهو بهذا يريد أن يدخل نفسه في قوله تعالى : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) [ الصف : ٨ ].

وظنّي ـ ورب ظن يقين ـ أن الرجل لما رأى اشتهار الأحاديث في فضل أهل البيت عليهم‌السلام وتواترها بكثرة في كتب أهل السنّة الدالّة بصراحة على أنهم عليهم‌السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحقّ بإمامة الأمة من أئمة الآلوسي وخلفائه (رض) وأنه لم يرد العشر منها ولا فضيلة لهم ، ولم يجد بدا من النزول على حكمها التجأ إلى هذا الزور والبهتان والظلم والعدوان على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرين ، يحاول بذلك كتمان فضائلهم وإخفائها عن أعين المسلمين وهيهات له ذلك.

٩٨

من هم التابعون لأهل البيت النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال الآلوسي ص : (٢٥) : « ومن مكايدهم يقولون نحن أتباع أهل البيت الّذين قال الله تعالى فيهم : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) [ الأحزاب : ٣٣ ] وغير الشيعة تابعون لغير أهل البيت ، فلزم كون الشيعة هي الفرقة الناجية ، ويؤكدون ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ).

والجواب : إن هنا كلاما قد اختلط فيه الحق والباطل ، إلى أن قال : فإنا نسلّم أن أتباع أهل البيت ناجون ، وأنهم هم المصيبون ، ولكن أين الشيعة الطعام من أولئك السّادات الكرام والأئمة العظام ، لما مرّ من بيان ما لهم من الأحوال ، وذكر ما اعتقدوه من الكفر والضلال ، إلى أن قال : بل أهل السّنة هم أتباع بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأخيار ، كيف لا وأبو حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء الاعلام قد أخذوا العلم من أولئك الأئمة العظام ».

قال المؤلف : أولا : « قوله إنهم يقولون نحن أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ».

فيقال فيه : كيف لا تكون الشيعة الإمامية من أتباع أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم قد أثبتوا في مختلف أدوارهم بمختلف أعمالهم وأقوالهم أنهم يأخذون أحكام الإسلام وتشريعاته في المرحلة الاعتقادية والعملية عن أهل البيت عليهم‌السلام ولا يعتمدون على غيرهم من أئمة الضلال وبغاة صفين ، فها هي ذي كتبهم عليك بسبرها فإنك لا تجد فيها رواية واحدة يعتمدون عليها من غير طريق أهل البيت عليهم‌السلام إلاّ ما كان موافقا لروايتهم عليهم‌السلام فهم لا شك في أنهم ناجون باتّباعهم لأولئك الأئمة العظام عليهم‌السلام في أقوالهم وأعمالهم كافة على رغم آناف أعدائهم ومناوئيهم عليهم‌السلام.

ثانيا : قوله : « لما مرّ من بيان ما لهم من الأحوال وما اعتقدوه من الكفر والضلال ».

٩٩

فيقال فيه : الشيعة الإمامية مسلمون مؤمنون لما مرّ من بيان ما لهم من الأحوال في أوائل الكتاب ، وما اعتقدوه من الاعتراف لله بالوحدانية ، ولنبيّه محمّد ابن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ، وتصديقهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلّ ما جاء به من عند الله ، وما رماهم به الآلوسي من الكفر والضلال لم ينبعث إلاّ عن ضلاله لثبوت انحرافه عن القرآن وعن أعداله أئمة الدين من آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموالاته لبغاة صين وأمثالهم من الناكثين والمارقين من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام كما مرّ عليك بيانه مفصلا.

ثالثا : قوله : « بل الحق الحقيق أن أهل السنة هم أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ».

فيقال فيه : لا يصح للآلوسي أن يقول هذا القول وهو يعتقد بوجوب إتباع ما قامت عليه السّقيفة من عقد البيعة لغير أهل البيت عليه‌السلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ويرى من الواجب على إمام الشيعة الإمامية وسيّد أهل البيت عليهم‌السلام متابعة المستخلفين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه ليس له عليه‌السلام ولا لغيره من أهل البيت عليهم‌السلام أن يخالفوا لهم أمرا ، أو ينقضوا لهم حكما ، أو يعارضوهم فيما يفعلون ، فهل يا ترى من شرط التابع أن يكون متبوعا لمن يدّعي أنه تابع له؟ أو من شرطه أن يكون مطيعا لمن ثبتت إطاعته عليه؟ وما أدري وليتني كنت أدري كيف صار من الحق الحقيق أن خصوم الشيعة صاروا من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام أترى أنهم صاروا من أتباعهم عليهم‌السلام بإعطائهم الأجر والثواب لمن قاتل سيّد أهل البيت عليهم‌السلام عليّا عليه‌السلام بصفين والجمل والنهروان؟ أو يا هل ترى صاروا من أتباعهم عليهم‌السلام في أخذ أحكامهم من طريق سمرة بن جندب الخارجي (١) ، الّذي قتل الألوف من أصحاب عليّ عليه‌السلام أو من مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ (٢) طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من حريز بن عثمان الذي كان يسبّ

__________________

(١) تجده في ( ص : ٤٨٤ ) من الإستيعاب لابن عبد البر من جزئه الثاني ، و ( ص : ٣ ) من منهاج السنّة لابن تيمية من جزئه الثالث ، ويقول أحمد بن حنبل في : ( ص : ٢٥ ) من مسنده من جزئه الأول : أن سمرة بن جندب ، أحد ولاة معاوية ، وأمره في سفك دماء المؤمنين مشهور ، كان يبيع الخمر أيام عمر ، وكان عمر يقول : قاتل الله سمرة بن جندب أنه باع خمرا.

(٢) أخرج الحاكم في صحيح مستدركه ( ص : ٤٧٩ ) من جزئه الرابع : أنه كان لا يولد لأحد مولود إلاّ أتي

١٠٠