الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

فيقال فيه : أرنا واحدا من الشيعة يعترف بروايات الغسل ، وكيف يا ترى يعترفون بها وهم قديما وحديثا لا يعتمدون في أحكامهم إلاّ على أهل البيت عليهم‌السلام ويرون أن كلّ شيء يرد عن غير طريقهم فهو جهل وضلال ، فإذا كان هذا شأنهم في أخذ الأحكام وأنهم لا يعتمدون في النقل على غير طريق شيعتهم ومواليهم ، فكيف يزعم هذا الآلوسي أنهم يعترفون بروايات الغسل وهي مخالفة للضروري من مذهب أئمتهم ، فروايات الغسل ليست من رواياتهم ولا يعرفونها مطلقا.

الحادي عشر : قوله : « وفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سالم عن المعارض بين الفريقين ».

فيقال فيه : قد عرفت من الأحاديث التي أخرجها لنا حفاظ أهل السنّة أن فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحابته الكرام كان على مسح الرجلين دون غسلهما ، وفعله هذا سالم عن المعارض باتفاق الفريقين ، لثبوت ذلك في صحاح الطائفتين ، كما ألمعنا من ذهاب الكثير من علماء أهل السنّة إلى وجوب مسح الأرجل وعدم جواز غسلهما ، وكما يقتضيه فحوى كلام الآلوسي ـ المارّ ذكره ـ من أن الغسل صار مذهبا لأكثر أهل السنّة فهو مذهب لأكثرهم دون جميعهم ، وعليه يكون المجمع على وجوبه بين الفريقين هو مسح الرجلين ، فيتعيّن الأخذ به وترك المختلف فيه لأنه المجمع عليه لا ريب فيه ، فرواية غسل الأرجل موضوعة لا أصل لها ، وذهاب الآلوسي وغيره إلى مضمونها مع مخالفتها لنصّ القرآن وفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخرجها عن الوضع والتزوير ، لا سيّما وقد أعرض أكثر المسلمين من أهل السنّة والشيعة عنها ، فلا يجوز للآلوسي وغيره من العوام أن يأخذوا بها ، وقد اختلف علماؤهم فيها فالواجب عليهم أن يأخذوا بما هو المتفق عليه بين العلماء وهو المسح ، لأنه مبرئ للذمة من التكليف الواقعي باليقين ، فإن اشتغال الذمة باليقين يستدعي اليقين بالبراءة وهو لا يحصل إلاّ بمسح القدمين لا بغيره ، لأنه هو الّذي فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذين كانوا معه من أهل بيته وأصحابه ، وهو المستفاد من ظاهر الآية لا سواه ، بل هو الّذي لا خلاف في صحة روايته بين أهل الإسلام.

الوجه الثاني عشر : قوله : « وقد روى العياشي عن أبي هريرة ».

٦١

فيقال فيه : إن أبا هريرة وغيره ممن هو مثله ليسوا من رواة الشيعة ، ولا يعتمد الشيعة على نقلهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أحد الأئمة من أهل بيته عليهم‌السلام ويكفي في ردّها على عقبها ، وأنها من وضع الأفّاكين كون الراوي لها أبا هريرة (١) ولقد فات الآلوسي أن يتمثل بقول الشاعر العربي :

أبو هريرة تصغير لهرّته

فلا تصحّ روايات البزازين

وهل يعول في فتوى على خبر

يحكى عن الهرّ ما هذا من الدّين

الوجه الثالث عشر : قوله : « روى محمّد بن النّعمان ».

فيقال فيه : أين روى هذه الرواية؟ وفي أيّ كتاب سجّلها شيخ مشايخ الإسلام المفيد (ره) إن كان يريد بمحمّد بن النعمان ، محمّد بن محمّد بن النعمان الملقب بالمفيد ، فكان اللاّزم عليه وهو يحاول أن يثبت ما يدّعيه أن يذكر لنا الرواية بسندها أو يشير إلى الكتاب الّذي نقلها عنه ، ومن حيث أنه لم يفعل ذلك وألقى الكلام مهملا ، علمنا أنه من خرصه ووضعه يريد به الإنتصار لمذهبه ، والغريب دعوى هذا الرجل أن مثل هذه الموضوعات مدوّنة في كتب الشيعة الصحيحة ، وأنه لم يتصدّ أحد منهم للطعن فيها.

فالآلوسي الجاهل يرى أنه أعلم بأحاديث الشيعة من الشيعة أنفسهم ، وكأنه لا يعلم بأن الشيعة تعلم أنها من الكذب والافتراء ، ولو أنه صاغ غيرها في غير هذا لأمكنه التمويه به على الرعاع من خصوم الشيعة وأعدائها ، ولكن أنّى يمكنه التمويه بهذا والأمر فيه أظهر من الشمس وأبيّن من الأمس ، وعند الشيعة من الأحاديث المتواترة عن أئمتهم عليهم‌السلام والثابتة أيضا من طريق خصومهم ، الموافقة لكتاب الله في وجوب مسح القدمين ما يملأ الطوامير ، على أن الرواية التي وضعها

__________________

(١) ولقد كتب الشيخ الكبير محمود أبو ريّة كتابا في أبي هريرة سمّاه : ( شيخ المغيرة ) أظهر فيه جرأة أبي هريرة المسرفة في الكذب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضع الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك كتب علاّمة جبل عامل المغفور له السيّد عبد الحسين شرف الدّين كتابا فيه سمّاه : ( أبو هريرة ) بيّن فيه ما وضعه أبو هريرة من الأحاديث التي لا يمكن لمن له عقل تصديق شيء منها ، يجدر بالباحثين الوقوف عليهما.

٦٢

الآلوسي عن أبي هريرة وغيره من المنحرفين عن أهل البيت عليهم‌السلام مخالفة للضروري من مذهبهم من الأوّلين والآخرين إلى قيام يوم الدين.

وأما قوله : ( إن الحديث رواه أيضا الكليني ، وأبو جعفر الطوسي ) فآية أخرى على إفكه وزوره لأن الباحث الورع إذا أورد حديثا فاللاّزم عليه أن يذكر مصدره والكتاب الّذي يحكيه عنه ، وإلاّ فلا يجوز التصديق بثبوته بمجرد الحكاية المرسلة ، فإنها لا سيّما في باب المناظرة من الخصم لا تجدي فتيلا ولا تثبت قطميرا ، بل يكفي في ردّها والحكم عليها بالافتعال عدم إسناده لها إلى أحد كتب الطائفة التي ترجع إليها في أخذ أحكامها ، خاصة إذا كانت الرواية مخالفة للضروري من مذهبها.

وأما قوله : « فلا يمكن حملها على التقيّة ».

فيقال فيه : أنها أشبه بالسّالبة المنتفية بانتفاء موضوعها ، إذا الحمل على التقيّة منوط بثبوت هذه الرواية عند الشيعة وأنها بأسانيد صحيحة ، وقد عرفت أنها موضوعة لا أصل لها في كتبهم المعتبرة ، ولو سلّمنا جدلا وجودها في كتاب من كتبهم فهي من أظهر مصاديق التقيّة وأبيّن أفرادها ؛ لأنها موافقة لخصوم الشيعة ومخالفة للضروري من مذهبهم ، وكون السّائل من الشيعة لا يمنع حملها على التقيّة ، فإن وجود من يخاف شرّه وبطشه من الظالمين حين السّؤال في مجلس الخطاب هو الّذي يدعو الإمام عليه‌السلام إلى استعمال التقيّة وموافقة العامة في جوابه وعدم مجاهرة السّائل بخلافهم.

ونزيدك توضيحا أن كلّ حديث يرد فإن كان معارضا لأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام المعمول بها فهو باطل وضلال ، على أن الترجيح في جانب أحاديثهم عليهم‌السلام عند تعارضها ـ لو سلّمناه جدلا ـ وذلك بأحاديث الثّقلين ، والسّفينة ، والنجوم ، وباب حطّة وغيرها من المجمع عليها بين المسلمين أجمعين ، الموجبة للرجوع في أخذ أحكام الشريعة من العترة النبويّة الطّاهرة الزكيّة عليهم‌السلام لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالتمسّك بهم ، ورتّب الضّلال على المنحرفين عنهم ، كالآلوسي وغيره من الّذين يستمدون علمهم ويأخذون أحكامهم عن أمثال أبي هريرة ، وكعب الأخبار ابن

٦٣

اليهودية ، وسمرة بن جندب ، ومروان ابن الحكم من أعداء الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلّ ما ترويه الشيعة عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام واجب إتباعه ، وما يخالفه واجب طرحه خاصة إذا كان مذهبا لأكثر خصومهم وموافقا لكثيرهم.

رواية مسح القدمين ثابتة عند أهل السنّة

الرابع عشر : قوله : « وكلّ ما يروونه في هذه المسألة عن أحد أئمة أهل السنّة فهو إفك وزور ».

فيقال فيه : إن الشيعة لم ترو عن أحد أئمة أهل السنّة وجوب المسح على القدمين حتى يقول هذا العدوّ إن ذلك إفك وزور ، وإنّما الراوي له علماء أهل السنّة أنفسهم في كتبهم المعتبرة باعتراف الآلوسي : ( إن الغسل صار مذهبا لأكثر أهل السنّة ) وهو يفيد كما قدّمنا أن الكثير منهم وافقوا الشيعة فذهبوا إلى وجوب مسح القدمين والمنع من غسلهما ، فهل يا ترى يصح أن يذهب الجمع الكثير من علماء أهل السنّة إلى وجوب مسحهما وعدم غسلهما لأجل أن الشيعة رووا لهم روايات في وجوب مسحهما ، إن شيئا من ذلك لا يمكن ولا يكون وإنّما كان ذهابهم إلى وجوب مسحهما لأجل ما يروونه هم من طرقهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وجوبه وعدم جواز الغسل ، فعلى الآلوسي أن يلصق الإفك والزور بعلماء مذهبه لروايتهم وجوب مسحهما والمنع من غسلهما دون الشيعة ، ويكفيك هذا دليلا على فساد ما ذهب إليه وتناقضه فيه.

الخامس عشر : « وقد تبيّن أن هذا الكيد صار في نحورهم ».

فيقال فيه : إن كان ذلك كيدا ـ كما يزعم ـ فقد صار في نحور الكثير من علماء مذهبه الّذين ذهبوا إلى وجوب المسح وحرمة الغسل لا في نحور الشيعة ، فالآلوسي يلقي الكلام على عواهنه دون أن يهتدي إلى رجوعه إلى تناقضه والحطّ من قدر علمائه وبطلان مذهبه.

الوجه السّادس عشر : قوله : « ودلّ بمخالفتهم للنصوص القرآنية على كفرهم ».

٦٤

فيقال فيه : كان على الآلوسي أن يفكر في نتائج هذه الكلمة قبل أن يلقيها ، ويتبصر بها قبل أن يمليها ، ولكن من أين له التفكير وقد أسكرته العصبية حتى جعلته يفكر بغير عقل ، ويكتب بغير فهم ، وينطق بما يؤول وباله عليه ، فطفق يحفر والتراب يقع على رأسه ، يا هذا ألم تعترف بذهاب الكثير من علماء أهل السنّة إلى وجوب مسح القدمين والمنع من غسلهما مخالفين أكثرهم في وجوب الغسل؟ فإن كان ذلك منهم مخالفا للنصوص القرآنية ـ كما تزعم ـ كانوا جميعا مصداقا لقولك : ( ودلّ بمخالفتهم للنصوص القرآنية على كفرهم ) دون الشيعة لأنك عدوّهم وهم عدوّك فلا يقبلون قولك لا في قليل ولا في كثير ، بل لا يثبت عندهم طاقة حشيش ، فأنت في هذا كالباحث عن حتفه بظلفه ، والجادع مارن أنفه بكفه ، فقد أردت أن تحكم بكفر الشيعة فحكمت بكفر الكثير من علماء مذهبك من حيث تدري أو لا تدري :

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

٦٥
٦٦

الفصل الثالث

أدلّة الأحكام الشرعية

الآلوسي وتشريعهم الأحكام

قال الآلوسي ( ص : ٢٢ ) : « ومن مكايدهم أنهم يقولون : إن أهل السنّة يشرّعون أحكاما من عند أنفسهم ، كما جعلوا القياس دليلا شرعيا لثبوت كثير من الأحكام به.

والجواب : أن هذا الطعن يعود حينئذ على أهل البيت عليهم‌السلام فإن الزيدية وأهل السنّة يروون القياس عن الأئمة ، وقال أبو نصر هبة الله بن الحسين أحد علماء الإمامية بحجّية القياس ، وتبعه على ذلك جماعة ، وقد ثبت ذلك في كتبهم بطرق صحيحة ، فمن ذلك ما روى أبو جعفر الطّوسي في التهذيب ، عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر ، قال : جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما تقولون في رجل يأتي أهله ينزل؟ فقال الأنصار الماء من الماء ، وقال المهاجرون : إذا التقى الختانان وجب الغسل ، فقال عمر (رض) لعليّ عليه‌السلام : ما تقول يا أبا الحسن : فقال توجبون عليه الحدّ ولا توجبون عليه صاعا من ماء.

قال : فقاس هاهنا الغسل على الحدّ بالصراحة ، وأجاب الشيعة عن هذا القياس بأن ما قاله الأمير ليس بقياس بل هو استدلال بالأولوية ، كدلالة : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) [ الإسراء : ٢٣ ] على حرمة الضرب والشتم ، وسواء في فهمه المجتهد وغيره ، وفيه خبط لأن المساحقة موجبة للتعزير عند أهل السنّة وللحدّ عند الإمامية ، ولا توجب الغسل بالإجماع ، وكذا اللّواط إن كان بطريق الإيلاج فهو موجب للحدّ عند أهل السنّة والإمامية وموجب للتعزير عند غيرهم ولا غسل في كتب أصول أهل السنّة ».

٦٧

المؤلف : ليس في نسبة الشيعة تشريع الأحكام إلى خصومهم من الكيد ـ كما يزعم ـ الّذي لم ير شيئا من كتب أشياخه ليعلم صحة هذه النسبة وغيرها في تشريع الأحكام إليهم ، وإليك جانبا من ذلك ، فمنه :

تشريعهم الحكم بعدالة الصحابة أجمعين على ما حكاه عنهم خاتمة حفاظ أهل السنّة ابن حجر العسقلاني في الإصابة ، والسيوطي في خصائصه الكبرى ، والنووي في منهاجه ، وابن عبد البر في استيعابه ، وابن حجر الهيتمي في صواعقه ، وهذا شيء لا يختلفون فيه وقد اعترف الآلوسي بصحة هذه النسبة في بعض كلماته مع أن القرآن والسنّة لم يأتيا بتشريعه ، وفي القرآن : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ ) [ آل عمران : ١٠١ ] ويقول الكتاب مخاطبا الصحابة أنفسهم لا غيرهم : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [ آل عمران : ١٤٤ ] وقال تعالى : ( وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) [ التوبة : ٥٦ ] وقال تعالى : ( وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً ) [ الأحزاب : ١٥ ] وقال تعالى : ( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ) [ التوبة : ٤٣ ] وقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) [ النساء : ٧٧ ] وقال تعالى : ( كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) [ الأنفال : ٥ ـ ٨ ] وقال تعالى : ( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً ) [ الأحزاب : ١٣ ] وقال

٦٨

تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ) [ التوبة : ٣٨ ] وقال تعالى : ( وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) [ التوبة : ٤٥ ـ ٤٧ ].

فإن الخطاب في هذه الآيات وأضعاف أمثالها كلّه موجه للصحابة قصدا وأولا وبالذات ، وهي صريحة في وجود الكذابين والمنافقين والعصاة والمجادلين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على القتال ، والمتثاقلين عنه ، والمنكرين عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والكارهين الخروج معه ، والمصغين للفساد ، والسّامعين كلمة الكفر من المشركين ، والقاعدين عن القتال معه كما نصّت عليه هذه الآيات ، فالحكم عليهم جميعا بالعدالة تشريع محرّم وحكم بغير ما أنزل الله تعالى فيهم في القرآن.

وأما السنّة فحسبك أحاديث الحوض ، والبطانتين ، ولتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر المروية في الصحيحين (١) البخاري ومسلم وغيرهما من صحاح أهل السنّة مما لا خلاف فيه بين الأمة.

فهذا البخاري يقول في صحيحه ( ص : ١٥٠ ) في باب بطانة الإمام وأهل مشورته من جزئه الرابع ، عن أبي سعيد ، وأبي أيوب ، وأبي هريرة بأسانيدهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلاّ كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشرّ وتحضّه عليه ، فالمعصوم من عصمه الله ).

ويقول البخاري في ( ص : ٩٤ ) من صحيحة من جزئه الرابع ، في باب الحوض كغيره من أهل الصحاح ، بإسناده عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال :

__________________

(١) ويقول الهيتمي في الصواعق المحرقة ، في الباب الأول الّذي عقده لبيان كيفية خلافة أبي بكر ، في الفصل الأول ( ص : ٥ ) من طبعة ( ١٣٢٤ ه‍ ) ما لفظه : روى الشيخان في صحيحهما اللّذين هما أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به.

٦٩

هلمّ ، فقلت : أين؟ فقال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ، قلت : أين؟ قال إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم ، فلا أرى يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم ) وفي النهاية الهمل : الضّالّ من الإبل ، أي أن الناجي من الصحابة من النار في قلّة الإبل الضالّة.

وأخرج البخاري أيضا في ( ص : ٩٤ ) من جزئه الرابع في باب الصراط جسر جهنّم ، عن سهل بن سعد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّي فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم ، فأقول : إنهم منّي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقا لمن بدّل بعدي ).

وفي ( ص : ٩٤ ) من صحيحه أيضا من جزئه الرابع في الباب نفسه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيجلون عنه ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ).

وأخرج أيضا في أواخر ( ص : ٨٥ ) في باب وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ، من جزئه الثالث ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ).

ويقول البخاري في صحيحه ( ص : ١٧٤ ) من جزئه الرابع في باب لتتبعن سنن من كان قبلكم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود والنصارى ، قال : فمن ).

وأنت ترى هذه الأحاديث الصحيحة المتواترة عند أهل السنّة كلّها تنادي بصراحة بعدم عدالة الصحابة جميعا ، وأن فيهم بطانة الشرّ ، وفيهم المرتدين على

٧٠

أدبارهم القهقري ، وفيهم التابعين لسنن من كان قبلهم ، فالحكم عليهم جميعا بالعدالة تشريع محرّم وحكم بغير ما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم.

ومن تشريع خصوم الشيعة في الدين : حكمهم بوجوب بيعة أبي بكر (رض) وهي أول حدث وقع في الإسلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنه تتابعت الويلات على الشيعة بين آونة وأخرى ، وهي التي نقضوا بها السنن الشرعية وعفوا معالمها القيّمة ، فإن هذه البيعة التي صنعوها في السّقيفة لا سبق لها في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالحكم بوجوب إتباعها تشريع محرّم ، وحكم بغير ما نزل به القرآن الكريم وجاءت به السنّة الشريفة.

بعض الموارد التي اختلف فيها خصوم الشيعة

ومن تشريعهم : حكمهم بوجوب الرجوع إلى أربعة أئمة في فقههم مع اختلافهم (١) في الآراء ، وتضاربهم في الأحكام ، وتصادمهم في الفتاوي ، وحكم

__________________

(١) وإليك بعض الموارد التي اختلفت أهواؤهم فيها لأن الإتيان على ذكرها جميعا يحتاج إلى كتاب مستقل.

فمنها : اختلافهم في كفن الزوجة ، فبعضهم على أنه واجب على الزوج ، وبعضهم أنه غير واجب ، كما في ( ص : ١٤ ) من الفتاوي الخيرية من جزئه الثاني ، مع أن حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضية واحد لا يختلف ، فأحد المذهبين لا شك في أنه غير صحيح ، لأن حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الحجّة لا حكم غيره ، وحكم غيره إذا لم يكن من حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كفرا وظلما وفسقا ، بدليل قوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) كما في الآيات ٤٥ ـ ٤٧ من سورة المائدة.

ولدخوله في قوله تعالى : ( أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) كما في الآية (٥٠) من سورة المائدة.

ودعوى الاجتهاد فاسدة لأنه مخالف لحكم الله وحكم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّ ما كان كذلك فهو مشاقّة لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بيّن لهم حكم الله في كلّ قضيّة وهو لا تضارب فيه ، فاتباع الأهواء والضلالات في خلافه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خروج عن الدين جملة ، وفي القرآن يقول الله تعالى : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ) كما في الآية (١١٥) من سورة النساء.

ومن ذلك : اختلافهم في النكاح إذا كان بغير لفظه الدالّ عليه ، فقال بعضهم : بانعقاده ، وقال : آخرون لا ينعقد ، كما في ( ص ١٩ ) من الكتاب نفسه ، ومنها اختلافهم في المرأة إذا تزوجت غير الكفؤ بلا رضا أوليائها ، فقال الكثير منهم : أنه لا ينعقد ، وقال الأكثر : ينعقد ، كما في ( ص : ٢٥ ) منه أيضا ،

٧١

__________________

ومنها : مسّ الرجل ذكره ، فقال جماعة منهم : أنه ينقض الوضوء ، وقال : آخرون ليس بناقض ، كما في ( ص : ٣٢ ) من ( الروضة الندية شرح درر البهية ).

ومنها : قول بعضهم ببطلان الصلاة بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار أمام المصلّي ، وبعضهم أنه غير مبطل ، كما في كتاب الرحمة بهامش الجزء الأول من ميزان الشعراني ( ص : ٣٩ ) من الطبعة الثالثة سنة ( ١٣٤٤ ه‍ ).

ومنها : قول أبي حنيفة : إنه لا يجب التسليم في الصلاة ، وقول الشافعي وأحمد ومالك بوجوبه ، على ما في ( ص : ١٤٥ ) من ميزان الشعراني من جزئه الأول ، ومنها : قول بعض أئمتهم إن الستر شرط في الصلاة ، وقول بعض إنه ليس بشرط ، على ما في ص : (١٣٥) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.

ومنها : قول بعضهم بوجوب الأذان والإقامة ، وقول بعضهم إنهما سنّة غير واجبة ، على ما في ( ص : ١٣٢ ) من ميزان الشعراني من جزئه الأول ، ومنها : قول بعضهم بوجوب غسل اليدين قبل الوضوء ، وقول بعض إنه ليس بواجب ، على ما في ( ص : ١١٦ ) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.

ومنها : قول أبي حنيفة بعدم وجوب القراءة بالفاتحة في الصلاة ، وقول الثلاثة بوجوبها ، على ما ( ص : ١٤٠ ) من ميزان الشعراني من جزئه الأول ، ومنها : قول بعضهم بوجوب التّسمية عند الوضوء ، وقول بعضهم بعدم وجوبها ، على ما في ( ص : ١١٦ ) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.

ومنها : قول بعضهم بوجوب المضمضة في الوضوء ، وقول بعضهم بعدم وجوبها ، على ما في كتاب الميزان للشعراني ( ص : ١١٦ ) من جزئه الأول ، ومنها : قول مالك وأحمد : بوجوب مسح جميع الرأس في الوضوء ، وقول أبي حنيفة والشافعي بوجوب مسح البعض ، واختلفا في قدره ، كما في ميزان الشعراني ( ص : ١١٧ ) من جزئه الأول.

ومنها : قول أبي حنيفة والشافعي ومالك بعدم الاجتزاء بالمسح على العمامة في الوضوء ، وقول أحمد كفاية المسح على العمامة بدل الرأس المنصوص عليه في القرآن ، كما في ( ص : ١١٧ ) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.

ومنها : قول أبي حنيفة ، ومالك : بعدم وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء ، وقول أحمد ، والشافعي بوجوبه فيه ، على ما في ( ص : ١١٩ ) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.

ومنها : قول أبي حنيفة إنه لا يتعيّن لفظ ( الله أكبر ) بل تنعقد الصلاة بكلّ لفظ يعطي التعظيم مثل الله العظيم والجليل ، وقول الشافعي إنه يتعيّن لفظ الله أكبر فقط ، كما في ص : (١٣٧) من ميزان الشعراني من جزئه الأول ، ومنها : قول أبي حنيفة بجواز القراءة بالفارسية ، وقول الثلاثة بعدم جوازها بغير العربية ، على ما في ص : (١٤٣) من ميزان الشعراني من جزئه الأول ، إلى غير ذلك وأضعاف أمثاله من الموارد التي اختلفت آراؤهم وأنظارهم فيها.

ومن أراد المزيد فليراجع كتبهم الفقهية فإنه يجد الكثير من هذا القبيل ، والله يعلم والناس كلّهم يعلمون أن فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحد وسنّنته واحدة وقوله وتقريره واحد لا يتبدل ولا يتغير مطلقا بعد انقطاع الوحي والتحاقه بالرفيق الأعلى ، فأحد المذاهب لا شك في أنه غير صحيح ، فعلى أيّها يا ترى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبأيّها كان يعمل ، وأيّها باطل وخطأ؟ وفي القرآن يقول الله تعالى : ( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ

٧٢

الله في القضية الواحدة في حالة واحدة لا يختلف ، فالحكم بوجوب اتباعهم وحرمة الرجوع إلى غيرهم تشريع محرم مخالف لما أنزل الله تعالى في القرآن بقوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) [ آل عمران : ١٩ ] وقوله تعالى : ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً ) [ فاطر : ٤٣ ] ومخالف لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما تقدم ذكره من حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّي مخلّف فيكم الثّقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ، ولن يفترقا حتى يردّا عليّ الحوض ، فلا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تأخروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم ) فالانحراف عنهم والحكم بوجوب إتباع غيرهم حكم بغير ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر الناس باتباعه.

ومن تشريعهم : حكم الأئمة الأربعة بالاكتفاء في الوضوء للصلاة بغسل الرأس بدل المسح ، على ما في ( ص : ١١٥ ) من ميزان الشعراني من جزئه الأول ، وهو تشريع محرّم مخالف لنصّ القرآن الآمر بمسح الرءوس ، بقوله تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) ومن تشريعهم : تجويزهم المسح على الخفين بدل القدمين ، والمسح على العمامة بدل الرأس كما في ( ص : ١١٥ ) من ميزان الشعراني من جزئه الأول ، وهو مخالف لنصّ لقرآن وصريح قولهم إن سورة المائدة محكمة فالقرآن يقول : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) والجماعة يقولون : واغسلوا رءوسكم وامسحوا على خفيكم فالحكم بذلك تشريع محرّم مخالف لما نزل به القرآن.

ومن تشريعهم : تشريع أبي حنيفة استحباب تأخير صلاة الصبح والظهر وصلاة الجمعة عن أوّل أوقاتها ، وهو مخالف لنصّ القرآن الآمر بالمسارعة إلى

__________________

إِلاَّ الضَّلالُ ) أجل لا شك في أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعمل بما كان يعمل به أهل بيته الطاهرين المعصومين ، لأنهم يعملون بما كان يعمل به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بغيره كما تقول الشيعة وتعتقد ، لأن قولهم واحد وعملهم واحد وتقريرهم واحد وهداهم واحد لا يتبدل بحال ، وهو ما كان عليه جدّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيّد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذا فإن الشيعة تمسّكوا بهم وانقطعوا إليهم وانحرفوا عن غيرهم كائنا من كان.

٧٣

تحصيل ما يوجب المغفرة من الله تعالى ، والمسابقة إلى استيفاء الخير ، بقوله عزّ من قائل : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) [ آل عمران : ١٣٣ ] فالحكم بتأخيرها عن أوّل أوقاتها حكم بغير ما أنزل الله تعالى ، وهو تشريع محرّم مخالف للقرآن.

ومن ذلك : تشريع أبي حنيفة جواز افتتاح الصّلاة بأي اسم من أسمائه تعالى ، مثل : الله العظيم ، والله الجليل إلى غير ذلك ، وهو مخالف لما كان عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسّابقون الأوّلون ، ومخالف لسنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومخالف لأئمتهم الثلاثة ، فالحكم بذلك تشريع محرّم.

ومن ذلك : تشريع الشافعي جواز الزيادة على كلمة الله أكبر ، مثل الله عزّ وجلّ أكبر ، والله الجليل أكبر ، وهو مخالف لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله : ( الله أكبر ) فقط ، ويقول شارح الينابيع على ما في السنن الصحيحة : لقد جرت سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا فقط ، فالحكم بذلك تشريع محرّم.

ومنه : تشريع أبي حنيفة كفاية آية واحدة في الصلاة ولو من غير الفاتحة ، وهو مخالف للسنّة المتواترة بين الفريقين ، من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب ) فالحكم بذلك تشريع محرّم.

إلى غير ما هنالك وأضعافه مما يجده القارئ في أمهات كتبهم الفقهية (١) من التشريعات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ومن أراد المزيد فليراجع ثمة حتى يعلم صحة ما نسبه الإمامية إليهم من تشريع الأحكام في الدين ، كأنهم على ما يرون أنهم شركاء لله في تشريع أحكامه من حلاله وحرامه ، أو يرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ كان جاهلا بتشريعها وأحكامها ، فلم يأت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء مما جاء به هؤلاء من التشريعات وألصقوها بدينه ، أو أن الله تعالى كان لا يعلم بها وهم علموا بها ، وهل هناك طعن في قداسة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقداسة دينه غير هذا؟

__________________

(١) تجد كلّ هذه الآراء المخالفة لنصوص القرآن والسنّة القطعية في كتاب الميزان لمحمّد بن عبد الوهاب الشعراني ، في جزئه الأول والثاني فلتراجع.

٧٤

رواية القياس ليست من روايات الشيعة

وأما قوله : « مع أن طعنهم هذا يعود حينئذ على أهل البيت فإن الزيدية وأهل السنّة يروون القياس عن الأئمة ».

فيقال فيه : إنما يرد الطعن إذا كان ذلك ثابتا في مذهبهم ، وأما إذا كان مخالفا للضروري من دينهم ـ كما هو التحقيق ـ فليس من الطعن عليهم في شيء ، وإنما هو من الطعن على القائلين بتشريعه وهم غيرهم ، وأما قوله : ( وقد قال أبو نصر هبة الله بن الحسين أحد علماء الإمامية بحجيّة القياس ).

فيقال فيه : ليس في علماء الإمامية من يقول بحجّية القياس ولا يصح نسبة ذلك إليهم بحال ، وهو مخالف للضروري من مذهب أئمتهم ، والأخبار عنهم عليهم‌السلام في عدم حجيّته متواترة لا يشك فيها اثنان منهم ، وإنما القائلون به هم خصوم الشيعة من المنحرفين عن الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين لا يتحرجون من التقول على الله وتشريع الأحكام في الدين مما ينفيه الشرع القويم.

وأما ما حكاه عن أبي نصر هبة الله ، وزعم أنه من الإمامية ، وأنه قائل بحجيّة القياس فمدخول ؛ بأن الإمامية لا تعرف هذا الرجل وليس هو من علمائهم في شيء ـ إن صح نسبة حجيّة القياس إليه ـ وإنما هو من أكابر علماء خصومهم ، إلاّ أن الأمر قد التبس فيه على الشيخ الآلوسي كما التبس الأمر عليه في غيره فظنّه من أعلام الإمامية ، وأكبر الظن أنه الحافظ الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر ، وهو من أعاظم محدّثي أهل السنّة ، ومن أعيان فقهاء الشافعية ، كما في ( ص : ٣٣٥ ) من وفيات الأعيان لابن خلكان من جزئه الأول ، وأيّا كان فلا قائل من الإمامية بحجيّة القياس ، فدونك كتبهم في علم الأصول والفقه فإنهم صرّحوا ببطلانه ، وأن من أقوى العوامل لمحق الدين وإبطال أحكامه وتحليل حرامه وتحريم حلاله هو العمل فيه بالقياس والرأي والاستحسان والإعتبار والظنون التي ما نزل بها القرآن.

وأما قوله : « قد ثبت حجيّة القياس في كتبهم الصحيحة ، فمن ذلك ما رواه أبو جعفر الطوسي في التهذيب ».

٧٥

فيقال فيه : الرواية إن صحت فلا دلالة فيها على اعتبار القياس في شيء ، لأن قوله عليه‌السلام : ( أتوجبون عليه الحدّ ولا توجبون عليه صاعا من ماء ) مسوق لبيان الحكم الواقعي ، وأن حكم الله في هذه الواقعة هو وجوب الغسل مضافا إلى الحدّ ، ولكن لمّا أنكر القوم هذا ورتّبوا الحدّ عليه خاصة أجابهم بذلك للتنبيه ، والدلالة على ما ألزموا به أنفسهم من تجويزهم القياس في الأحكام ، فكأنه عليه‌السلام أراد بذلك أن يقول : أتراكم تجوّزون القياس في الأحكام فكيف تمنعونه هنا ، مع أنه لو جاز شيء منه لكان هذا من أظهر مصاديقه وأبين أفراده ، ومن حيث أن الآلوسي لم يهتد إلى معنى كلامه عليه‌السلام ولم يفهم شيئا من مغزاه ، ولم ينتبه إلى مرماه ، ظن أن ذلك من القياس الباطل ، وأيّ حاجة به عليه‌السلام إلى القياس وهو باب مدينة علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعديل كتاب الله ، وحامل علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي لا ينطق عن الهوى وعنده علم الكتاب ، والقياس لا شك في أنه من الهوى ولا شيء منه من عند الله.

وجملة القول إنه عليه‌السلام أراد بذلك أن يبيّن الحكم الواقعي ، وأن الغسل واجب عليه شرعا كوجوب الحدّ عليه ، وإنما عبّر بذلك ليلزم المنكرين عليه والمخالفين له بمثل هذا الجواب القاطع لإنكارهم ، والرافع للجاجهم ، والحاسم لنزاعهم ، ولو لم يجبهم بما هو عندهم حجّة لاختلفوا فيه ولامتنعوا عن قبوله ، لا أنه عليه‌السلام يريد القياس أو إثبات الملازمة بين الغسل ومطلق ما عليه الحدّ ، بل ولا من باب الأولوية كما نسبه إلى الإمامية إفكا وزورا.

وأما قوله : « لأن المساحقة موجبة للتعزير والحدّ ولا توجب الغسل ».

فيقال فيه : إن أراد أن ذلك لا يوجب الغسل مطلقا وإن أنزلت ففساده واضح ، وإن أراد به نفي الملازمة بين الغسل والحدّ فقد عرفت عدم دلالة الرواية على اللّزوم ، وأن كلامه عليه‌السلام كان مسبوقا لبيان الحكم الواقعي في هذه الواقعة ، على أنّا قد ألمعنا بأنه عليه‌السلام ليس ممن يحتاجون إلى القياس لأنه أحد الثقلين الّذي لا يزال مع القرآن والقرآن معه ، وإنما يحتاج إلى القياس الجاهل بالأحكام فيقول به في الدين بغير علم ممن لا حريجة له في الدين وهو غيره.

٧٦

الاستدلال بالأولوية جائز

ثم إن الاستدلال بالأولوية جائز هاهنا ولا ينتقض بما أورده ، لخروجه عن مورد الأولوية بالدليل القاطع لحكمه فيه لولاه لكان محكوما كذلك ولا محذور فيه ، وهب جدلا أن ذلك من القياس فما يجديه نفعا لوجوب الاقتصار على ما ثبت موضوعه بالدليل ولا يتعدى إلى غيره مطلقا ، وليس هذا من العمل بالقياس كما توهمه الآلوسي ، وإنما هو من العمل بالدليل الموافق للقياس في مورده وهو واضح لا غبار عليه.

قوله في دلائل تجويز القياس فاسد

وأما قوله : « وأما دلائل تجويز القياس فمذكورة في علم الأصول ».

فيقال فيه : لو كان الدليل على تجويزه نصوص القرآن فذلك ما نتلقاه بالقبول والإذعان ، وكذلك السنّة المتفق عليها بين الفريقين ، أما إذا كان الدليل على تجويزه هو القياس والاستحسان والآراء الفاسدة التي أدلوا بها في أصولهم فذلك لا يصلح أن يكون دليلا على إثبات فتيل فضلا من أن يكون دليلا على إثبات اعتبار ما به تثبت الأحكام الشرعية ، على أن صريح القرآن قاض بعدم حجيّته ، وفي القرآن : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) [ يونس : ٣٦ ] مطلقا أصلا كان أو فرعا ، وقال تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) [ الأنعام : ١١٦ ] داخل في منطوقها ولا مخرج له ، وقال تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) [ الإسراء : ٣٦ ] والقياس ليس بعلم قطعا فهو مشمول للآية ، وقال تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) [ الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦ ] ولا ريب في أن القياس من التقوّل عليه تعالى فهو داخل في منطوق الآية ، وقال تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) [ يونس : ٥٩ ].

ولا شك في أن الله تعالى لم يأذن بالقياس في دينه لكماله على عهد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة الوحي ولا شيء من الوحي بقياس ، فبطل أن يكون القياس منه ، وقال تعالى مخاطبا نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ

٧٧

أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ) [ المائدة : ٤٩ ] فلو كان القياس مما يجوز اتباعه في الشرعيات ويجوز العمل به لكانت هذه الآية باطلة لا معنى لها ؛ لأن القياس من الأهواء التي حذّر الله تعالى من أتباعها ، وليس هو مما أنزل الله في شيء ولا هو منه على شيء ، لذا تراه أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يحكم بما أنزله ونهاه عن إتباع أهواءهم ، فمفهوم هذه الآيات واضح ، وهي لا تتفق مع ما يدعيه الآلوسي من اعتبار القياس ، بل هي أدلّة قويّة على فساده وسقوطه عن الحجيّة وأنه ليس من الدين في شيء.

وخلاصة القول ، نقول لهذا الآلوسي : هل القياس من الدين أو لا؟ وهل هو من هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ليس من هداه؟ وهل هو كالقرآن والسنّة في وجوب إتباعه أو لا؟ فإن قال : إنه من الدين ـ وهو قوله ـ فيقال له : فهل بيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمته أو لا؟ فإن قال : بيّنه ، فيقال له : أين بيّنه ومتى بيّنه؟ وإذا كان بيّنه فهل عمل به أو لا؟ فإن قال : بيّنه ولم يعمل به ، كان بيانه له عبثا صرفا ولغوا باطلا ، تعالى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، إذ كيف يا ترى يكون القياس حجّة يجب العمل به كالقرآن والسنّة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعمل به؟ أفهل يجوز لمسلم أن يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الواجب حيث لم يعمل به ، ثم يقال إن ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العمل به إن كان حقا كان العمل به باطلا ، وإن كان ترك العمل به باطلا لزم إلصاق الباطل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو كفر وضلال.

وإن قال : بيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمل به ، فيقال له : إن ما يعمل به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون إلاّ وحيا نازلا من عند الله ، وحينئذ يكون القياس وحيا نازلا من الله ، وهذا هو الكفر بعينه وذلك لأن العامل بالقياس لا يكون إلاّ الجاهل بحكم الله ، ولا شك في أن نسبة الجهل بالحكم إلى وحي الله كفر صراح.

وهكذا الحال لو قال : إنه من هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن هداه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون إلاّ من وحي الله ، كما يقول القرآن : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) [ النجم : ٣ ـ ٤ ] وإذا بطل أن يكون من هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان العمل به مشاقّة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله تعالى : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ

٧٨

الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ) [ النّساء : ١١٥ ] وسبيل المؤمنين هو هداه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه الّذي أوحى الله تعالى به إليه ، فليس القياس من دينه ولا من سنّته وقرآنه في شيء ، وليست هي منه على شيء ، وسيأتي المزيد من التوضيح في القريب إنشاء الله تعالى.

لا ينتقض ما قلناه في بطلان القياس بما هو ثابت الحجية

ولا ينتقض ما أدليناه عليك من بطلان القياس بخبر الواحد ـ بناء على اعتباره مطلقا ـ ولا بالاستصحاب وغيره مما هو ثابت الحجيّة إجماعا وقولا واحدا ، أما أولا :

فلأن القياس هو غير خبر الواحد وغير الاستصحاب ونحوه ، فهما مختلفان موضوعا ومحمولا ، والنقض مشروط بوحدة الموضوع وهي منتفية هنا.

ثانيا : لا دليل على خروج القياس (١) عن منطوق تلك الآيات بخلافها ، لقيام الدليل على خروجها عن منطوقها.

ثالثا : بما أخرجه البيضاوي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنّة وبرهة بالقياس ، وإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا )

وبما أخرجه الحاكم في مستدركه ( ص : ٤٣٠ ) من جزئه الرابع صحيحا على شرط البخاري ومسلم ، عن عوف بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، أعظمها فرقة يقيسون الأمور برأيهم فيحرّمون الحلال ويحللون الحرام ).

رابعا : إن قوله تعالى : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) [ الحشر : ٧ ] موجب لبطلان القياس ، لأنه إما إن يكون القياس مما أتى به

__________________

(١) لأنّا نقول إن الأصل في الأحكام الفرعية المتعلّقة بفعل المكلّفين هو جواز العمل بالظن غير القياسي عند انسداد باب العلم ، ونريد بالظن خصوص الظن الاجتهادي غير القياسي المتعلّق بالحكم الفرعي في ذلك الحال ، فيكون القياس خارجا عنه موضوعا بنحو التخصص لا التخصيص بناء على إفادته الظن ، وبه يندفع الإشكال بعدم جواز التخصيص في حكم العقل إذا كان حاكما بجوازه على فرص انسداده.

٧٩

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولا ، فإن كان الأول لعمل به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما سبقه إليه أحد من العالمين ، وقد ثبت أن ما أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون إلاّ وحيا ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعمل بغير ما أوحي إليه ، وإلاّ لزم نسبة التقول على الله إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو باطل وضلال ، ولما بطل أن يكون القياس وحيا بطل أن يكون مما أتى به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلا عن كونه مما عمل به ، وإن كان الثاني فبطلان العمل به أوضح.

خامسا : بما أخرجه البخاري في صحيحه ( ص : ٨٤ ) في باب يا أيّها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك من جزئه الثالث ، بسنده عن مرزوق ، عن عائشة ، قالت : ( من حدّثك أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتم شيئا مما أنزل الله فقد كذب ) فلو كان القياس مما أنزل الله لبيّنه لو صح أن يكون منه ، فعدمه دليل على عدم كونه مما أنزل الله.

فإن قال الآلوسي : إن موضوع الظن عام وهو شامل للقياس وغيره من أفراد الظن ، فيقال : إن ذلك باطل من وجهين :

الأول : إن كان القياس يفيد الظن فلا دليل على خروجه عن الآيات الناهية عن العمل بالظن مطلقا ، بل الدليل قائم على عدم اعتباره وسقوطه عن الحجيّة في الشرعيات كما تقدم ذكره ، وإن كان لا يفيده كان سقوطه عن الاعتبار أولى.

الثاني : نقول لهذا الآلوسي : إن موضوع الجسم الحساس المتحرك واحد فهو يشمل الآلوسي كما يشمل غيره من أفراد الجسم الحسّاس المتحرك ، فهل يصح أن يكون حكم الحمار وغيره بنظر الإعتبار واحدا لأن كلاّ منهما جسم متحرك حساس ، ودع هذا وانظر إلى الحمار فإنك تجده شبيها لك في الخلق ، فله أذنان وعينان وشفتان وغيرها مما هو يشبه الإنسان بها ، فهل يصح عنده أن نلحق به أحكام الحمار ، ثم يقال له : أن كلاّ من رأسك ورجليك ونحوهما شبيه للآخر في العضوية فهل يصح لك أن تقيس رأسك على رجليك لأن بعض أعضائك شبيه بالبعض الآخر ، وهذا لا يصح وذلك مثله لا يصح.

سادسا : أن قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) [ المائدة : ٣ ] يفيد أن الدين كان كاملا على عهد

٨٠