الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

دينه الحقّ جميع الخلق؟ فهل يا ترى توقف ذلك على أن يرحل بنفسه الزكية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جميع الأقطار المسكونة ليدعوهم إلى اعتناق دينه والعمل على تطبيقه؟ أو يا هل ترى لم يكتف بنصب النائب وإرسال الداعي عنه مع علمه بعدم عصمة النائب والداعي ، أو يا هل ترى كان مقصّرا في تبليغ دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقا عند المسلمين أجمعين ، فإن قال بكفاية الواحد المعصوم وكفاية من ينصّبه عنه من النواب مع علمه بعدم عصمتهم بطل قوله بعدم كفاية الواحد المعصوم ، وبطل قوله بعدم كفاية النائب عنه مع علمه بعدم عصمته ، وإن قال بأن الله تعالى ما كان يعلم بكفاية الواحد المعصوم وما كان يعلم بكفاية نائبة غير المعصوم فقد جعل نفسه أعلم من الله ، وهو كفر صراح يكفينا مؤنة الردّ عليه.

ومن ذلك تفقه أنّ الرجل يدسّ في الدين الإسلامي من عقائد الوثنية وعبادة البقر ما تأباه الفطرة السليمة وينبذه التوحيد الخالص.

وجوب النص على الإمام

قال الآلوسي ص : (٨٥) : ( الإمام لا يلزم أن يكون منصوصا عليه من البارئ ، وقالت الإمامية لا بد أن يكون منصوصا من قبله تعالى ، وهذا مخالف للعقل والنقل ، أما الأول : فقد مرّ ، وأما الثاني : فلقوله تعالى : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً ) [ الأنبياء : ٧٣ ] ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) [ القصص : ٥ ] ولم يكن في أحد من تلك الفرق نصّ ، بل كان برأي أهل الحلّ والعقد ).

المؤلف : لقد ألمعنا فيما تقدم منا إلى أن شرط الإمامة العصمة ، وأنها من الأمور الخفية التي لا يطّلع عليها إلاّ الله تعالى وحده ، لذا وجب أن يكون النصب من قبله ، وليس هو من وظيفة الأمة وليس لها ولا لآحادها أن تشرّع أحكاما وتضع قوانين ، ومن سمّاهم الآلوسي أهل الحلّ والعقد فقد أبطل القرآن حلّهم وعقدهم بقوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) فليس لهم الخيرة في حلّ شيء أو عقده مطلقا أبدا بل ذلك لله تعالى وحده.

٣٨١

وقال تعالى : ( يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) فالأمر كلّه لله سواء في ذلك نصب الإمام أو غيره من الأمور بدلالة لفظة : ( كلّ ) الدالّة على الاستيعاب ، فبيده تعالى حلّ الأمور وعقدها لا بيد غيره ، وقال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) [ الحجرات : ١٠ ] فمن سمّاهم الآلوسي أهل الحلّ والعقد إن كانوا مؤمنين فقد حرّم الله عليهم أن يحلّوا أو يعقدوا لأن ذلك تقديم منهم بين يدي الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد نهاهم عنه أشدّ النهي وأبلغه ، فليس لهم أن ينصّبوا أحدا مطلقا لحرمته عليهم ، وقال تعالى : ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) فنصب الإمام مما قضى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، فليس لهم في نصبه حظ ونصيب إطلاقا ، فما أوجب الله هو الواجب وما حرّمه هو الحرام ، ومن نصّبه فهو المنصوب ومن عزله فهو المعزول ، دون ما أوجبه بعض النّاس أو كلّ النّاس على أنفسهم أو أنفس غيرهم ، فإنه ليس بجائز الطاعة فضلا عن وجوبها ، فإيجاب خصوم الشيعة بيعة السّقيفة على النّاس فمع أنه مما أوجبه ( الخليفة ) عمر (رض) دون غيره من أفراد الأمة ليس هو مما أوجبه الله تعالى عليهم بل منعه وحرّمه ورتّب العقاب على من ارتكبه في الدين كما أشار إليه قول مبدعها والمحرّك الكبير فيها عمر (رض) نفسه : ( إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ) فهو يعني بقوله فلته أنها زلّة وبدعة عظيمة وضلالة كبيرة يستحق فاعلها القتل لذا تراه قال (رض) : ( فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ).

وأما الآيتان اللّتان ذكرهما الآلوسي فهما من الأدلة الصريحة والحجج القوية لنا عليه لا له.

نصب الإمام من الله دون الناس

أما الأولى : فصريحة في أن جعل الأئمة من قبله تعالى لقوله تعالى : ( وَجَعَلْناهُمْ ) [ الأنبياء : ٧٣ ] فأضاف الجعل إلى نفسه لا إلى الأمة ، ولأنه لم يقل وأوكلنا أمر جعلهم إلى الناس حتّى يفهم منه أنه تعالى خولهم صلاحية جعلهم حتى يزعم الخصم خلافا لله وإنكارا عليه وجحودا لنصوص آياته أن الجاعلين لهم

٣٨٢

هم ما أسماهم بأهل الحلّ والعقد ، وكم من فرق بين إسناد الجعل إليه تعالى لهم كما هو صريح الآية وبين إسناده إلى النّاس الّذي تأباه الآية ولا تفيده إطلاقا ، بل في الآية دلالة على المنع من جعل النّاس ، وأنه ليس من وظائفهم وإنما هو من وظائفه تعالى وحده.

أما الثانية : فصريحة في أن الإرادة من قبله والجعل منه ، وما قال فيها وأوكلنا إرادة جعلهم من الناس والإرادة المقرونة بالمنّة المسندة إليه تعالى في الآية دلالة على وقوع الفعل للمراد ، فيتعيّن إرادته منه لا من سواه لا سيّما إذا لاحظنا اقتران إرادته تعالى بالمنّة فإن ذلك لا يصح من غيره.

فالآلوسي أورد الآيتين وهو يحسب أنهما دليلان له على إلزام خصمه دون أن يهتدى إلى أنهما دليلان لخصمه على فساد مذهبه ، ولو كان من الّذين يفهمون معناهما ويفهمون أنهما دلائل لخصمه عليه لا له لكفّ عن إيرادهما ، إلاّ أنه لم يزل هو وأخوه من الّذين : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ) [ البقرة : ١٧ ].

وأما قوله : ( ولم يكن في تلك الفرق نص ) فمردود :

بأن ظاهر الآية أن جعل الأئمة من قبله تعالى لا من سواه ، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا وجب أن يكون المجعول معصوما قطعا لاستحالة أن يكون المجعول من قبله تعالى غير معصوم ، فإذا كان الجعل الإلهي لا يتعلق إلاّ بالمعصوم وإرادته لا تتعلق بغيره لعدم أهلية غير المعصوم لتعلق إرادته بنصبه كان من القبيح في أوائل العقول تعلّق الجعل والإرادة من الله تعالى بغيره ، وإذا كانت العصمة من الأمور الخفيّة التي لا يعرفها إلاّ الله دلّ ذلك أبلغ الدلالة على أن التعيين من قبله لا من قبل النّاس مطلقا.

وجوب كون الإمام أفضل أهل زمانه

قال الآلوسي ( ص : ٨٥ ) : ( لا يلزم أن يكون الإمام أفضل أهل العصر ، والشيعة على خلاف ذلك وقد علت ردّهم ).

٣٨٣

المؤلف : أما اعتبار الأفضلية في الإمام من الرعية كافة فمما جاء به الكتاب والسنّة والعقل.

أما الكتاب ، فقوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) [ يونس : ٣٥ ] فالآية صريحة الدلالة على أن المحتاج في الهداية إلى غيره لا يصح اتباعه ولا يصلح أن يكون هاديا للآخرين ، والعقل بفطرته يحكم بأن فاقد الشيء لا يعطيه والناقص لا يكون مكملا ، فالجاهل لا يعطي العلم والمحتاج إلى الهداية لا يكون هاديا وهلمّ جرا ، ولا شك في أن الجاهل محتاج إلى العالم والمفضول محتاج إلى الفاضل فضلا عن الأفضل ، ومن القبيح أن ينسب إلى اللّطيف الخبير تقديم الجاهل أو المفضول المحتاجين إلى التكميل على العالم والفاضل الكامل.

وأما السنّة : فقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصحيح المتواتر نقله في الصحاح : ( يؤمكم أفضلكم ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يؤمكم أكثركم قرآنا ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يؤمكم أقرؤكم ) أي أعلمكم ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أعلم النّاس بعدي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ) وقال فيه : ( عليّ أقضاكم ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه : ( أكثرهم علما وأعظمهم حلما وأولهم سلما ) (١) فيتعيّن أن يكون ذلك فيه لا في غيره كما مرّ.

أمّا العقل ، فحاكم بقبح تعظيم الجاهل أو المفضول وإهانة العالم والفاضل ، وفي تقديم الجاهل أو المفضول على العالم والفاضل رفع لمرتبة الجاهل أو المفضول ، وخفض لمرتبة العالم والفاضل وذلك إهانة لهما قطعا ، وكيف يحسن عند العقل أن ينقاد الأعلم والأزهد والأتقى والأشرف حسبا ونسبا وحلما وشجاعة وكرما وتدبيرا إلى غير ما هنالك من الخصال العالية والأخلاقية الرفيعة التي هي شر أكيد في الإمام على الأمة بإجماع المسلمين ، والتي توفرت

__________________

(١) نجد هذه الأحاديث في فضائل عليّ عليه‌السلام وترجمته في كلّ من الإصابة لابن حجر العسقلاني ، والرياض النضرة للمحبّ الطبري ، والمستدرك للحاكم النيسابوري والذهبي في تلخيصه ، والمتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد ، وفي كنز العمال وغيرهم من حفاظ أهل السنّة.

٣٨٤

كلّها في سيّدها وإمامها وخليفتها الأول بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إلى من هو دونه بمراتب كثيرة : ( فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) [ يونس : ٣٥ ] ومن ثم كان الأفضل الجامع لجميع صفات الكمال حتى العصمة أولى بحفظ الحوزة على الوجه الشرعي ممن ليس كذلك بل لا تصلح لغيره إطلاقا.

العقلاء لا يقدّمون غير الأفضل

هذا كلّه إذا كان نصب الإمام من الله تعالى ، وأما إذا كان من الناس فكذلك ، وذلك لأن تقديم المبتدئ بالعلوم العربية مثلا على الفقيه الجامع لشرائط الفتوى أو التلميذ على الحائز على شهادة ( الدكتوراه ) قبيح عند كلّ إنسان له عقل ، وليس من الممكن المعقول أن من كان أعلم الناس وأشرفهم وأزهدهم وأشجعهم وأكرمهم مع كونه معصوما من الخطأ والنسيان يكون غيره أعلم منه بحفظ الحوزة على الوجه المطابق للقانون الشرعي والقرآن الإلهي ، ولكن الآلوسي لمّا قدّم غير عليّ عليه‌السلام بالخلافة عليه عليه‌السلام ولم يستطع إنكار ما لعليّ عليه‌السلام من الصفات المثلى وأعلاها علمه بجميع أحكام الشريعة ، وعصمته من كلّ خطأ ودنس ، التجأ إلى دعوى عدم اعتبار الأفضلية في الخلافة ليصحح بها خلافة المستخلّفين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلافا لكتاب الله ونصوص آياته البيّنات ، وخلافا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحاحه الجياد ، وخلافا للعقل في حكمه بقبح تقديم المفضول على الفاضل فضلا عن الأفضل.

والأقبح من ذلك دعوى أن تقديم المفضول على الفاضل كان لمصلحة رآها أهل السّقيفة فعدلوا عن عليّ عليه‌السلام وضربوا بنصّ الخلافة من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه عرض الحائط وتجاوزوا بها إلى غيره.

فخصوم الشيعة يرون أن أهل السّقيفة أعلم من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمصلحة ، أو أن الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلمان أن المصلحة في تخصيص عليّ عليه‌السلام بالخلافة دون غيره ، فهم يرون أنهم علموا ما لم يعلم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل.

٣٨٥

بطلان ما أورده الآلوسي في فضل الخليفة

ثم إن الآلوسي سرد بعض الآيات كعادته على غير هدى وبصيرة يحاول أن يثبت به خلافة أبي بكر (رض) التي قد عرفت غير مرّة أنها لم تكن من الدين ولا من هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا سبق لها في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما حدثت بعد التحاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلى باتفاق جماعة من أهل السّقيفة ، وكان السّابق إليها هو ( الخليفة ) عمر بن الخطاب (رض) الّذي قد عرفت قوله (رض) المتواتر فيها : ( إن بيعة أبي بكر كانت فلته وقى الله المسلمين شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ) فلو كانت لها سبق في كتاب الله أو سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن شرّا محضا يجب قتل من عاد إلى مثلها ـ على حدّ قول المحرّك الكبير فيها ـ فإن هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير محض وتلك شر محض ، ولا يصح في منطق العقل أن يجتمع الخير والشرّ على صعيد واحد ، وإنّما سبق ( الخليفة ) عمر (رض) الآخرين من أهل السّقيفة إلى بيعته ليعيدها بعد موته إليه ، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام مخاطبا عمر (رض) : ( احلب حلبا لك شطره ، شدّ له اليوم يردّه عليك غدا ).

ولم يكتف الآلوسي بسرد تلك الآيات دون أن يردفها بجملة من الروايات زعم أنها واردة في إثبات خلافته (رض) دون أن يشعر إلى أن الخصم لا يعترف بشيء منها ويراها موضوعة وضعها أولياؤه تعصبا له.

ولقد فات الآلوسي بأن ( الخليفة ) أبا بكر (رض) نفسه لا يعرف شيئا من تلك الآيات والروايات ، لذلك لم يستدلّ بشيء منها على خلافته يوم السّقيفة كما استدل به الخصم في هذا اليوم وبعد تلك السنين الطويلة ، وإنّما المتواتر عن أبي بكر (رض) أنه قال للأنصار : ( نحن الأمراء وأنتم الوزراء ) فقال حباب بن المنذر : ( والله لا نفعل منّا أمير ومنكم أمير ) فقال أبو بكر : ( لا ولكنّا نحن الأمراء وأنتم الوزراء ) وقال : ( الخلافة في قريش ) يحاول بذلك أن يدفع الخلافة عنهم.

وبعد أن طال النزاع بينهم وكادت الفتنة أن تقع بين الأوس والخزرج قال عمر لأبي بكر (رض) : أمدد يدك ، فمدّ أبو بكر (رض) يده فبايعه ثم بايعه أسيد بن

٣٨٦

حضير زعيم الأوس خوفا من سعد بن عبادة زعيم الخزرج من أن يستلم الخلافة فيأتي عليه وعلى عشيرته لما بينهما من ضغائن الجاهلية ، ثم بايعه أبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وبشير بن سعد بن عبادة فهؤلاء الأربعة هم الّذين بايعوه بعد عمر (رض) على ما سجّله أهل السير والتواريخ من أهل السنّة ممن جاء على ذكر السّقيفة كعلي بن برهان الدين الحلبي الشافعي في كتابه السيرة الحلبية ص : (٣٥٨) من جزئه الثالث ، ومحمد حسين هيكل ص : (٦٤) من كتابه في أبي بكر (رض) والبخاري في صحيحه ص (١٩١) من جزئه الثاني في باب فضل أبي بكر ، فلو كان هناك شيء مما زعمه الآلوسي لاستدلّ به على من نازعه فيها ، وهو في ذلك اليوم أحوج ما يكون إلى شبه حديث واحتمال آية نزلت فيه ليدفع به منازعيه في السّقيفة ، بل لو كان هناك رائحة حديث في أمره لقال أولياؤه في السّقيفة كعمر وغيره ممن اتفقوا سابقا على بيعته لما ذا كلّ هذا النزاع وأنتم تعلمون أن أبا بكر (رض) هو الخليفة لنزول ما زعمه الآلوسي فيه من الآيات وورود ما اختلقه فيه من الروايات؟

ومن حيث لم يقل واحد منهم شيئا من ذلك مع طول النزاع علمنا بطلان ما وضعه الآلوسي فيه تعصبا له ، ولا جائز أن يخفى أمر تلك الآيات وهاتيك الروايات على ( الخليفة ) أبي بكر (رض) أو ينساها مع قربه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يخفى أمرها على أوليائه البعيدين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا جاز أن يخفى عليه أو ينساها فلا جائز أن يخفى أمرها على أهل السّقيفة أو ينسوها مع كثرتهم فيحتدم النزاع بينهم إلى حدّ وقوع الفتنة وهم العدول عند الخصوم ، ولا يخفى ذلك على الآلوسي البعيد عنهم هذه السنين ، وإذا جاز أن يخفى أمرها عليه أو عليهم مع قربهم من الصدر الأول ولا يخفى أمرها على أوليائه كان أولياؤه أعلم منه ومنهم بالسنّة وهذا ما أجمعوا على بطلانه ، فإذا بطل هذا ثبت أن ما زعمه الآلوسي من نزول آيات وورود روايات في صدقه وفضله وأن له من الكمال ما أهّله للخلافة ، كلّه كذب وانتحال لا أصل له حتّى عند إمامة أبي بكر (رض) وغيره من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلا عن الشيعة التي لا تعترف له بشيء من ذلك إطلاقا ، فاحتجاج الآلوسي به عليهم باطل على باطل.

٣٨٧

الأدلة القطعية على خلافة عليّ عليه‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال الآلوسي ص : (٩٤) : ( اعلم أن الشيعة استدلوا على إثبات إمامة الأمير بلا فصل بدلائل ، إلى أن قال : الثالث الدلائل الدالة على إمامته بلا فصل مع سلب استحقاق الإمامة من غيره من الخلفاء ، وهذه في الحقيقة مختصة بمذهب الشيعة وهم منفردون باستخراجها ، ونحن نورد القسم الأخير بالاستيعاب والاستيفاء ، ولا يخفى أن مقدمات تلك الدلائل ومباديها لا بد وأن تكون مسلّمة الثبوت عند أهل السنّة ، إذ الغرض من إقامتها إلزامهم ، فعلى هذا إما أن تكون تلك الدلائل آيات الكتاب والأحاديث المتفق عليها ، أو الدلائل العقلية المأخوذة من المقدمات المسلّمة عند الفريقين ، أما الآيات فمنها قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) [ المائدة : ٥٥ ] تقرير الاستدلال بهذه الآية ما يقولون : إن أهل التفسير أجمعوا على نزولها في حقّ الأمير إذ أعطى السائل خاتمه في حالة الركوع ، وكلمة ( إنّما ) مفيدة للحصر ولفظ ( الولي ) بمعنى المتصرّف في الأمور ، وظاهر أن المراد هاهنا التصرف العام في جميع المسلمين المساوي للإمام بقرينة ضم ولاية الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتثبت إمامته وانتفت إمامة غيره للحصر المستفاد وهو المدّعى.

أجاب عنه أهل السنة بوجوه ،

الأول : النقض بأن هذا الدليل كما يدل على نفي إمامة الأئمة المتقدمة كما قرر يدل على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرة ، وبذلك التقرير فيلزم أن السبطين ومن بعدهما من الأئمة الأطهار لم يكونوا أئمة ، فلو كان مذهب الشيعة هذا يصح تمسكهم بهذا الدليل لأن الاستدلال في مقابل أهل السنّة مبني على كلمة الحصر والحصر كما يضر أهل السنّة يكون مضرا للشيعة ومذهب أهل السنّة وإن بطل بذاك لكن مذهب أهل الشيعة ازداد في البطلان ، وأكثر منه فإن لأهل السنّة نقصان الأئمة الثلاثة وللشيعة نقصان أحد عشر ولا يمكن أن يقال إن الحصر إضافي إلى من تقدم لأنّا نقول إن حصر الولاية فيمن استجمع هذه الصفات لا يفيد إلاّ إذا كان حقيقيا ، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر عنه ، وإن أجابوا عن هذا النقض

٣٨٨

بأن المراد حصر الولاية في جنابه في بعض الأوقات يعني زمن إمامته لا وقت إمامة السّبطين من بعدهما ، قلنا فمذهبنا أيضا هذا أن الولاية العامة كانت محصورة فيه في وقت إمامته لا قبله وهو زمن الخلفاء ، فإن قالوا إن الأمير لو لم يكن في زمن الخلفاء الثلاثة صاحب ولاية عامة يلزمه نقص بخلاف وقت إمامة السّبطين فإنه لمّا لم يكن حيّا لم يصر إمامة غيره موجبة لنقص في حقّه ، لأن الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية قلنا هذا استدلال آخر غير ما هو بالآية لأن مبناه على مقدمتين :

الأولى : كون صاحب الولاية العامة في ولاية الآخر ولو في وقت من الأوقات نقص له.

الثانية : إن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص بأي وجه وأي وقت كان.

وهاتان المقدمتان أنى تفهمان من الآية وتسمى هذه الصنعة في عرف المناظرة فرارا بأن ينتقل من دليل إلى آخر سلّمنا ، ولكن نقول إن هذا الاستدلال منقوض بالسّبطين فإنهما في زمن ولاية الأمير لم يكونا معتقلين بالولاية بل كانا في ولاية الآخر ، وأيضا منقوض بالأمير فإنه في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كذلك فلا نقص لصاحب الولاية العامة بكونه في بعض الأوقات في ولاية الآخر.

الجواب الثاني : إن ولاية الّذين آمنوا غير مرادة زمن الخطاب البتة بالإجماع ، لأن زمن الخطاب عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمامة نيابة للنبوّة بعد الموت ، فلما لم يكن زمن الخطاب مرادا لا بد وأن يكون ما أريد به زمانا متأخرا عن موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا حدّ للتأخير سواء كان بعد أربع سنين أو بعد عشر سنين أو أكثر ، فقام هذا الدليل في غير محلّه.

إلى أن قال : ثم نمنع أولا : إجماع المفسرين على نزولها فيمن قالوا ، بل اختلف علماء التفسير في سبب نزول هذه الآية ، لأنه روى الجم الغفير نزولها في أبي بكر ، وأما رواية نزولها في عليّ فهي للثعلبي ولا يعد المحدثون من أهل السنّة روايات الثعلبي قدر شعيرة.

٣٨٩

ونقول ثانيا : إن لفظ الولي مشترك فيه المعاني الكثيرة منها المحبّ ، والناصر ، والصديق ، والمتصرف في الأمر ، ولا يمكن أن يراد من المشترك معنى معين إلاّ بقرينة خارجية ، والقرينة هاهنا في السياق تعيّن ما سبق ، وهذه الآية مؤيدة لمعنى الناصر ، وهو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ) [ المائدة : ٥٧ ].

وثالثا : إن العبرة بعموم اللّفظ لا خصوص السبب كما هي قاعدة أصولية ، وكلمة ( الذين ) من ألفاظ العموم أن مساوية لها باتفاق الإمامية ، فحمل الجمع على الواحد متعذر ، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل ، فإن قالت الشيعة إن الضرورة متحققة هاهنا إذ التصدق على السّائل في حالة الركوع لم يقع من أحد غيره ، قلنا : أين ذكرت في هذه الآية هذه القصة بحيث يكون مانعا من حمل الموصول وصلاته على العموم ، وأيّا ما فإن معنى الركوع الخشوع لا الركوع الاصطلاحي ، ولو تنزّلنا وقلنا إن هذه الآية وإن كانت دليلا لحصر الإمامة في الأمير ، ولكن يعارضها الآيات الأخر في ذلك فيجب الاعتداد بها كما يجب على الشيعة أيضا التمسك بتلك الآيات المعارضات في إثبات إمامة الأئمة الأطهار الآخرين ، والدليل إنما يتمسك به إذا سلم عن المعارض ، وتلك الآيات المعارضات هي الآيات الناصّة على خلافة الخلفاء المحررة فيما سبق » انتهى.

ولقد فات على كلّ من الآلوسي وأخيه الهندي أن يتمثل بقول الشاعر العربي :

بحبّ عليّ تزول الشّكوك

وتجلى النّفوس وتحلو الثّمار

فمهما رأيت عدوّا له

ففي أصله نسب مستعار

فلا تعذلوه على بغضه

فحيطان دار أبيه قصّار

٣٩٠

الفصل الرابع عشر

أفضلية عليّ عليه‌السلام ووجوب إمامته

آية الولاية نصّ في خلافة عليّ عليه‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل

المؤلف : أولا : « قوله الدلائل الدالّة على خلافة الأمير بلا فصل مختصة بمذهب الشيعة ».

فيقال فيه : إن دعوى اختصاص الدلائل الدالّة على خلافة عليّ عليه‌السلام بلا فصل بمذهب الشيعة من خرص الآلوسي الّذي يحاول به إسقاط الصحاح المحمّدية الجياد التي دوّنها أئمته في صحاحهم وسجّلوها في مسانيدهم الناصّة على خلافته بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير فصل ، وكيف يستطيع من له شيء من العلم أن ينكر ذلك أو يخدش فيها أو يدّعي اختصاصها بمذهب الشيعة ، وهو يرى بأمّ عينه أمناء الحديث عنده قد اهتموا بإخراجها وأثبتوا صحتها بأسانيدها الصحيحة ، أللهم إلاّ إذا تناهى به الجحود إلى إنكار دلائل النبوّة وبراهين الرسالة.

ثانيا : قوله : « كما تدل الآية على نفي إمامة الثلاثة ـ يعني أبا بكر وعمر وعثمان (رض) ـ تدل على نفي إمامة الأئمة بعده ».

فيقال فيه : أسمعت أيها القارئ مقالة الآلوسي واعترافه بدلالة الآية على بطلان خلافة الثلاثة ، فكيف إذن ساغ له إن كان مسلما أن يأخذ بخلافها ويكون حرب الله وحرب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن يكفينا دلالة الآية بمنطوقها ومفهومها على بطلان خلافتهم ، وأنها لم تكن مؤسسة على أساس شرعي وليست من الدين في شيء ، وحسبك في بطلانها أن ترى الآلوسي وهو العدوي البغيض يعترف بدلالة الآية على فسادها.

٣٩١

أما إمامة العترة الطاهرة فليس إثباتها موقوفا على خصوص هذه الآية ولا ينافيها إطلاقا ، وذلك لأن إمامة كلّ واحد من الأئمة عليهم‌السلام ليست في عرض إمامة الآخر كاستحقاق الشركاء بالنسبة إلى ما اشتركوا فيه ، وإنما كانت إمامة كلّ واحد منهم عليهم‌السلام في طول إمامة الآخر على سبيل الترتيب ، بأن يكون الإمام في كلّ عصر واحدا ويكون كلّ واحد منهم قائما مقام الآخر ، لذا فإنه يصح حصر الولاية في المرتّب عليه لرجوع ولاية المترتب إلى ولاية الأمير عليه‌السلام فيصح حصر الولاية فيه لرجوع ولاية سائر الأئمة عليهم‌السلام إلى ولايته عليهم‌السلام.

وكذا يصح حصر الولاية في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجوع ولاية الجميع إلى ولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يصح حصر الولاية في الله تعالى لأنه الأصل في الولاية وولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة مترتبة على ولايته تعالى ، وهذا بخلاف ولاية المترتب فإنه لا يصح حصر الولاية فيه لعدم رجوع ولاية المرتب عليه إلى ولايته ، ولهذا فإن الحصر لا يتم على مذهب الخصم الّذي جعل عليّا عليه‌السلام متأخرا عن خلفائه ويكون باطلا على مذهبه وفي إبطاله إبطال للقرآن ، ومن ذلك يتضح أن الحصر في الآية على مذهب الشيعة تامّ لا نقص فيه ولا بطلان يعتريه إطلاقا.

ويؤكد لك ذلك حصر الولاية في الله تعالى فإنه لو كان يوجب بطلان حصرها في المترتب عليه لزم بطلان ولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتلك قضية الحصر الموجب قصر الحكم على المحصور ونفيه عمّا عداه وهو باطل ، وبهذا ينكشف جليّا صحة حصر الولاية في الأمير عليه‌السلام والأئمة الهداة من أبنائه المعصومين عليهم‌السلام وعدم صحته بالنسبة إلى الخلفاء الثلاثة (رض).

فالآية صريحة الدلالة في اختصاص الإمامة بالأمير وبطلان خلافة المتقدمين عليه ، ولا يخفى بعد هذا عليك سقوط قول الآلوسي : ( إن ذلك يعني الحصر مضر للشيعة ) لوضوح ثبوت أن الآية من أقوى الأدلّة على بطلان خلافة الخلفاء (رض) ومناظهر الشواهد على ثبوت خلافة الأمير والأئمة من ولده عليه‌السلام مع قطع النظر عن الآيات النازلة فيهم عليهم‌السلام والأحاديث المتواترة بين الفريقين الدالّة على خلافتهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تقدم البحث عن بعضها مستوفى.

٣٩٢

الحصر على بطلان خلافة الثلاثة (رض) فقط

ثالثا : قوله : ( ولا يمكن أن يقال إن الحصر إضافي بالنسبة إلى ما تقدمه ).

فيقال فيه : إن الآية بعد أن كانت صريحة في بطلان خلافة الثلاثة (رض) كما اعترف به الآلوسي بقرينة الحصر كفى ذلك دليلا على فسادها سواء أكان الحصر فيها إضافيا أو حقيقيا ، لأن المطلوب فعلا بطلان خلافة الخلفاء (رض) لا إثبات خلافة الأئمة من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الثابتة بآياتها النيّرات وبيّناتها الواضحات التي لا ينكرها إلاّ جاحد بالضروريات ، على أنّا أوضحنا لك أن الحصر في الآية لا تضرّ خلافة الأئمة من أهل البيت ولا تضرّ شيعتهم ، وإنّما أضرّت خصومهم بنصوصيتها على بطلان خلافة أئمتهم (رض).

رابعا : قوله : ( فإن قيل إن المراد حصر الولاية في جنابه في بعض الأوقات أي وقت إمامته ، قلنا أيضا : إن الولاية العامة محصورة في وقت إمامته لا قبله وهو زمان خلافة الخلفاء ).

فيقال فيه : إن وقت إمامته عليه‌السلام هو اليوم الّذي توفى فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بعد زمان خلافة الخلفاء (رض) لثبوت بطلانها بمقتضى الحصر في الآية من جهة ، ومن جهة أخرى أنها حصرت الولاية العامة بالأمير عليه‌السلام في ذلك الوقت كما يقتضيه الحصر وتقديم غيره عليه في ذلك الوقت مخالف لنصّ الآية في حصر الولاية به عليه‌السلام.

وبعبارة أوضح : أن الآية حصرت الولاية به في وقت ولايته ، ومن حيث أن وقت الإمامة هو اليوم الّذي توفي فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقرينة الحصر إذ لا ولاية فعلية قبل وفاته ـ كما يزعم الخصوم ـ وإنما الولاية بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ثبت أن الولاية محصورة فيه بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنص الآية فثبت أن الولاية له عليه‌السلام بعد وفاته بلا فصل.

خامسا : قوله : ( هذا استدلال آخر ما هو بالآية ).

٣٩٣

فيقال فيه : ليس هذا الاستدلال إلاّ بالآية لا بشيء خارج عنها غير داخل في مفهومها ومنطوقها كما يزعم الخصم ، وذلك لأن الآية بعموم إطلاقها اللّفظي تدل صريحا على حصر الولاية العامة في عليّ عليه‌السلام في جميع أوقاته ، ومن المعلوم أن تقديم الآخرين عليه خلاف الحصر الدالّ على كمال المحصور فيه الولاية في سائر أوقاته ، إذ لا يعقل حصر الولاية العامة بغير الكامل إطلاقا ، فسلب الولاية عنه في بعض أوقاته نقص فيه وهو خلاف الآية الدالّة على كماله ، وأن له الولاية في جميع أزمانه فهو من الاستدلال بالآية لا بغيرها ، ألا ترى أن في تقديم الآخرين على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلب الولاية عنه في وقت يكون نقصا فيه ، فكذلك المعطوف في الولاية التي هي امتداد لولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتلك قضية وحدة السّياق وتساوي المتعاطفين في الحكم ، فالآية تريد أن تقول لمّا كان الله تعالى هو الوليّ المطلق كان هو الكامل المطلق ، فخصّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكمال بتخويله الولاية العامّة ثم أعطاها للأمير عليه‌السلام بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا لسواه ممن تقدم عليه لخروج المتقدمين عليه عن الآية مفهوما ومنطوقا ، فيكون تقديمهم عليه نقصا واضحا فيه ، والآية صريحة في كماله كما قدمنا فتقديمهم عليه مناف للآية ومخالف لها مطلقا ، وكلّ ما كان كذلك كان باطلا فخلافتهم (رض) باطلة بحكم الآية.

الاستدلال بالآية غير منقوض بإمامة السّبطين عليهم‌السلام

سادسا : قوله : ( إن هذا الاستدلال منقوض بإمامة السّبطين ).

فيقال فيه : إنه فاسد من وجهين :

الأول : إن شرط التناقض اتحاد الزمان ووحدة الموضوع وغيرهما من الشروط المقررة في علم المنطق وكلّ أولئك مفقود هاهنا ، ومع انتفائها لا نقض مطلقا.

الثاني : لا يلحق الحسنين عليه‌السلام نقص باعتبار كونهما في إمارة أبيهما كما لا يلحق الحسين عليه‌السلام نقص باعتبار كونه في إمارة أخيه الحسن عليه‌السلام لأن أباهما أفضل وأكمل منهما ، وهذا ما أهله للتقدم عليهما وجعل الولاية

٣٩٤

العامّة له عليه‌السلام عليهما عليهم‌السلام وعلى غيرهما ، وكذا الحال في السّبطين عليهما‌السلام وهذا بخلاف الخلفاء المتقدمين على الأمير عليه‌السلام فإنهم دون عليّ عليه‌السلام بمراتب ، فسلب الولاية العامة الثابتة له في زمانهم (رض) عنه من أكبر النقص فيه لا سيّما وله الولاية بحكم عمومها عليهم (رض) وعلى كافة أفراد الأمة كما هي لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصّ هذه الآية وغيرها من النّصوص المتواترة بين الفريقين.

سابعا : قوله : « وأيضا منقوض بالأمير فإنه في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

فيقال فيه : إنه باطل لوجهين ،

الأول : ما مرّ عليك من بطلان النقض لاختلاف الموضوع والزمان واتحادهما وغيرهما من الشروط شرط في تحققه عند العلماء لا سيّما أن الخصوم يزعمون ألاّ ولاية لأحد إلاّ بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف ينتقض هذا بذاك يا منصفون.

الثاني : إن أفضلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكمليته من عليّ عليه‌السلام تمنعان من لحوق النقص به ، وإنما يلحق النقص إذا كان من له الولاية العامّة مأموما لمن هو دونه أو أدون منه بمراتب كثيرة ، وتلك قضيّة الخلفاء (رض) مع إمامهم الشرعي بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كون ولاية الّذين آمنوا غير مرادة زمن الخطاب لا ينفع الخصم

ثامنا : قوله : ( إن ولاية الّذين آمنوا غير مرادة في زمان الخطاب ).

فيقال فيه : إنه مردود من وجهين :

الأول : إن دعوى كون ولاية الّذين آمنوا غير مرادة في زمان الخطاب منافية لصريح الآية الدالّة على إرادتها وتخصيصها بغير زمان الخطاب تخصيص بلا مخصص وهو واضح البطلان ، وإنّما ركن الخصم إلى ذلك وادّعى الإجماع عليه وما أكثر ما يدّعيه من الإجماعات التي لا وجود لها ، ولو كان لها وجود فهي لا تساوي عند خصومه فلسا لأنه يريد أن يثبت عدم جواز الخلافة في زمان

٣٩٥

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو على إطلاقه باطل لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استخلف عليّا عليه‌السلام على المدينة في حياته وأعطاه (١) جميع منازل هارون من موسى عليه‌السلام إلاّ النبوّة ، ومنها الخلافة والإمامة وقد أعطاها عليّا عليه‌السلام بنص قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يعزله حتّى التحق بالرفيق الأعلى ، ولو سلم جدلا فالمنفي الإمامة الفعلية على معنى الاستقلال في التصرف في شئون الأمة مع وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون الشأنية الثابتة فعليتها عند أول آنات وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : لو فرضنا جدلا أن زمان الخطاب غير مراد فهو من الحجّة لنا على بطلان خلافة الثلاثة (رض) لأن الخصوم إنّما منعوا إرادة زمان الخطاب لزعمهم نفي الخلافة ومنع الولاية في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن فات عليهم أن هذا النفي والمنع يرتفع مباشرة بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه لا يعطي مجالا لأي ولاية تأتي بعده سوى ولاية الأمير عليه‌السلام المحصورة به لا بغيره بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتلك قضية الحصر في الآية فهو يمنع تقدم الآخرين عليه فقده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكون وقت ولاية الأمير عليه‌السلام أول أوقات وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبعبارة أوضح : لو لا وجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان الأمير عليه‌السلام هو الإمام والخليفة دون غيره مطلقا فكان المانع حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده وقد ارتفع بوفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجب ثبوت الولاية لعليّ عليه‌السلام بعده بلا فصل وتلك قضية الحصر ، وهب أن زمان الخطاب لم يكن مرادا وإنّما أريد به زمانا متأخرا ولا حدّ له كما يزعم الآلوسي ، ولكن الآية صريحة في حصر الولاية به عليه‌السلام مطلقا ، ومهما فرض ذلك فهو زمان خلافته عليه‌السلام وبطلان خلافة من تقدم عليه سواء أراد زمانا متأخرا بعيدا أو قريبا فما يجديه نفعا إطلاقا بعد أن كانت الآية بمقتضى الحصر صريحة في بطلان خلافتهم (رض) وثبوتها لعليّ عليه‌السلام دونهم (رض).

__________________

(١) حديث المنزلة من الأحاديث المتواترة بين الفريقين ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنه لا نبيّ بعدي ) وحسبك في تواتره إخراج الشيخين البخاري ومسلم له في صحيحيهما ، وغيرهما من أهل الصحاح عند أهل السنّة في باب فضائل عليّ عليه‌السلام ومناقبه.

٣٩٦

تناقض الخصوم في أن ولاية الّذين آمنوا غير مرادة زمان الخطاب

ثم إن خصوم الشيعة ومنهم هذا الآلوسي إنّما منعوا إرادة ولاية الّذين آمنوا في زمان الخطاب لزعمهم عدم جواز الإمامة في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن سرعان ما نقضوا زعمهم هذا بما سجّله ابن حجر الهيتمي في ص : (١٣) في الفصل الثالث من الباب الأول الّذي عقده لولاية أبي بكر (رض) وخلافته في الحديث السّابع من الصواعق المحرقة لابن حجر فإنه أورد صلاة أبي بكر (رض) بالمسلمين في مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزعم دلالته على إمامة أبي بكر (رض) وأنه كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى ذلك انعقاد إجماعهم (١).

فالآلوسي إما أن يقول بأن صلاة أبي بكر (رض) لو صحت لا تدل على إمامته للمسلمين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يقول بدلالتها على ذلك ، فإن قال بالأول بطل قوله إن ولاية الّذين آمنوا غير مرادة في زمان الخطاب وثبتت إرادة ولاية الّذين آمنوا في زمان الخطاب وفي ذلك ثبوت ولاية عليّ عليه‌السلام وبطلان خلافة المتقدمين عليه.

وإن قال بالثاني بطل قوله الأول وثبت بطلان خلافة أبي بكر (رض) وبطلان صلاته بالمسلمين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبطلان أهليته للخلافة وفساد قولهم وكان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبطل قوله بعدم جواز الإمامة والخلافة في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبطل ما ادّعاه من الإجماع عليه ، وهكذا يكون مصير المبطلين الّذين : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ) [ الحشر : ٢ ].

آية الولاية في عليّ عليه‌السلام خاصة دون أبي بكر (رض)

تاسعا : قوله : ( منعنا إجماع المفسرين فيما قالوا وإنما نزلت في أبي بكر ).

__________________

(١) لقد ناقشنا الهيتمي الحساب العسير في كتابنا : ( نقض الصواعق المحرقة لابن حجر ) وأظهرنا للملإ الشاعر عوار سقطاته وقبيح سيئاته ، يجدر بكل باحث متحرر من التقليد الأصمّ للآباء والأمهات يريد الوقوف على الحقائق أن يطلع عليه.

٣٩٧

فيقال فيه : ليس هذا بأول آية جحدها هذا الآلوسي من آيات ولاية عليّ عليه‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبطلان خلافة المتقدمين عليه ، بل هناك آيات كثيرة أنكرها وجحدها ، وكم من آية نزلت في ولاية عليّ وإمامته عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل قد أوّلها في تفسيره (١) وصرفها عن معناها المطابقي ، وحملها على معنى لا يتفق وروح القرآن في شيء بغضا للوصي عليه‌السلام وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومخافة أن تقضي على عروش السّقيفة بالانهدام فهو ينكر كلّ آية نزلت فيهم وفسرت بهم ، ويرفض كلّ حديث ورد فيهم وإن كان ذلك مما ترويه أئمته في صحاحهم ، بل وإن أجمع المسلمون جميعا على صحته ما دام مخالفا لما قامت عليه السّقيفة ، ومع ذلك كلّه يزعم أنه من شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ومن أتباعهم ومواليهم كذبا وزورا وكيف يجوز أن يكون من شيعتهم ومواليهم وهو ينكر ما لا يمكن لأحد أن ينكره حتّى الخوارج من أعداء عليّ وبنيه عليه‌السلام.

أما نزول آية الولاية في عليّ عليه‌السلام خاصة فقد أثبته عامّة مفسيرهم في تفاسيرهم المعتمدة وصحاحهم المعتبرة ، على أنه يكفي في تحقق إجماع المفسّرين على نزول الآية في عليّ عليه‌السلام موافقة بعض أعلام أهل السنّة للشيعة فيه فضلا عن تحقق إجماعهم حال النزول قبل ظهور المخالفين كالآلوسي وغيره من الحادثين المتأخرين بقرون عن عصر نزولها ، فهم يرومون بجحودهم لها أن يطفؤا نور الله : ( وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) كما في آية (٨) من سورة الصف.

المفسّرون من أهل السنّة الّذين فسروا آية الولاية بعليّ عليه‌السلام خاصة

وها أنا ذا أيها القارئ أذكر لك الّذين سجّلوا نزول الآية في عليّ عليه‌السلام من أعلام أهل السنّة وأكابر حفاظهم في تفاسيرهم لتستشرف على القطع

__________________

(١) للآلوسي تفسير سمّاه روح المعاني وتسمية الشيء باسم ضده ، أوّل فيه كلّ ما نزل من الآيات في ولاية عليّ وخلافته بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل بما لا يخطر على ذهن أفّاك أثيم ، يبتغي بذلك أن يغضب الله تعالى ويسخطه ويرضي به رجرجة النّاس وغثاء البشر ، ولعلّ الله يوفقنا في القريب للقيام بمناقشته وردّ عاديته وإبادة نازلته غير العادلة في كتاب مستقل ليرى النّاس أنه ينشد بذلك بغض الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن ننشد به مرضاته وفضله والولاء للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته أهل بيته عليهم‌السلام.

٣٩٨

بكذب الآلوسي وبهتانه وصدق ما قلناه بأن الآية نزلت في ولاية عليّ عليه‌السلام لا سواه.

فمنهم : الفخر الرّازي في تفسيره الكبير ص : (٤١٧) من جزئه الثالث ، وابن جرير الطبري في تفسيره ص : (١٦٥) من جزئه السّادس ، والبيضاوي في تفسيره ص : (١٦٥) من جزئه الثاني ، والزمخشري في تفسيره ص : (٢٦٤) من جزئه الأول ، والبغوي في تفسيره بهامش الجزء الثاني من تفسير الخازن ، وابن كثير في تفسيره ص : (٧١) من جزئه الثاني ، وابن حيان في تفسيره الكبير ص : (٥١٣) من جزئه الثالث ، ومحمّد عبده في تفسيره الّذي عزاه إليه تلميذه محمّد رضا صاحب المنار ص : (٤٤٢) من جزئه السّادس ، وغير هؤلاء من أفذاذ أهل السنّة وأعاظم أعلامها.

وقد أجمع كلّهم على نزول الآية في عليّ عليه‌السلام عند ما تصدّق بخاتمة على ذلك السّائل وهو راكع في صلاته بمحضر الصّحابة فراجع ثمة حتّى تعلم أن إنكار إجماع المفسّرين نزول الآية في عليّ عليه‌السلام وعدول الخصم عن ذلك وادعاؤه النزول في أبي بكر (رض) كان من مدّعيات الآلوسي ومفترياته.

وعلى فرض التسليم جدلا فهو باطل في نفسه لعدم كونه متفقا عليه فليس هو من الأصول الموضوعة بين الخصمين الّذي يرجع إليه المتخاصمان في فصل الخصومة ، وحلّ النزاع فهو شاذ لا يصح الاستدلال به على شيء بخلاف ذلك في عليّ عليه‌السلام فإنه مجمع عليه بين الفريقين فالحجّة فيه لا في غيره مطلقا.

والغريب من هذا الآلوسي أنك تراه يقول بعدم حجيّة المختلف فيه بين الطائفتين ، وهنا تراه يستدلّ برواية موضوعة وضعها الدجّالون في حقّ صاحبهم ، ويحتج بها على خصومه الّذين ينكرون عليه كلّ حديث وآية يزعمون وروده أو نزولها في إعطاء فضيلة لخلفائهم (رض) ويرون أن عامّة ما يرويه الخصوم في فضلهم مزوّر لا أصل له ، فكان اللاّزم على الآلوسي أن يستدلّ بما هو المجمع عليه من الأصول المسلّمة بين الفرقتين حتّى يكون الاحتجاج صحيحا وموجبا لنزول خصومه عنده ، وإلاّ لو صح احتجاج أحد الخصمين بما تفرّد به وحده على

٣٩٩

خصمه الآخر لصح احتجاج اليهود والنصارى وغيرهم من الكافرين بما تفرّدوا به على المسلمين أيضا.

وإذا كان ذلك ملزما لخصمه أن يأخذ به كان واجبا على المسلمين أن يقبلوا قول اليهود والنصارى وغيرهم فيما يقولون ولكان استدلالهم على المسلمين بآرائهم وأخبارهم ملزما للمسلمين أن يأخذوا بها ، ويعني هذا في زعم الآلوسي خروج المسلمين عن دينهم والتدين بغير دينهم فيكونون داخلين في قوله تعالى : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) [ آل عمران : ٨٥ ] وذلك لا يقول به من له دين أو شيء من العقل.

فاحتجاج الآلوسي على الشيعة بما تفرّد بنقله من هذا القبيل ، فلو كان ذلك ملزما للشيعة أن يأخذوا به لم يكن أولى من عكسه ، وهو أن يأخذ الآلوسي بما تفرّد الشيعة في نقله ، والأخذ بقول الشيعة هو المتعيّن على أساس قاعدة الترجيح بين المتعارضين بما مرّ عليك من أحاديث الثّقلين ، والسّفينة ، والنجوم ، وباب حطّة ، لذا كان احتجاجه على الشيعة باطلا من سائر الوجوه بخلاف احتجاجهم عليه وتفنيدهم لمزاعمه ، فإنه من الاحتجاج بما هو الحجّة عنده وعليه باعتبار أنه متفق عليه ، وقد عرفت اتفاقهم على نزول آية الولاية في عليّ عليه‌السلام فوجب عليه أن يأخذ بما اتفقوا عليه ويترك ما اختلفوا فيه ، لا سيّما أن الآلوسي يزعم أن الإجماع حافظ للشريعة ، فإذا كان حافظا لها فلما ذا يا ترى شذّ عنه ولم يأخذ بما أجمع المسلمون كلّهم عليه.

( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) [ الصف : ٣٨٥ ] ومن هذا كلّه يتضح للقارئ أن جميع ما جاء به الآلوسي من المزاعم الباطلة والمنكرات الهائلة التي حاول بها تأويل الآية وجعلها في غير أهلها لا يعتمد إلاّ على العصبية الأثيمة التي يرزح تحت جورها ويئن من ثقل قيودها.

عاشرا : قوله : ( أما رواية نزولها في عليّ عليه‌السلام فإنما تفرّد به الثعلبي ).

فيقال فيه : ما قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ

٤٠٠