الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

الأئمة زيادة على ما عندهم من علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقتضي تفضيلهم عليهم‌السلام على الأنبياء عليهم‌السلام مطلقا.

وأما مثال الآلوسي الّذي حاول تطبيقه على ما نحن فيه ففاسد من وجوه :

مثال الآلوسي لأفضلية المتقدم مطلقا على المتأخر مطلقا

الأول : إنّا نمنع كون المتقدم مطلقا في أي فن أفضل من المتأخر لا سيما إذا وصل المتأخر بطول باعه وسعة اطلاعه إلى ما لم يصل إليه المتقدم ، ولو كان المتقدم مطلقا أفضل من المتأخر مطلقا لزم الخصم أن يقول بتفضيل الأنبياء المتقدمين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن عندهما عندهم وزيادة على ما ليس عندهم ، وهذا معلوم بالضرورة بطلانه.

الثاني : إنّ التفضيل كما مرّ صفة يلزم فيها المشاركة من جهة والمفارقة من أخرى ، فإذا قيل فلان أفضل من فلان فلا بد وأن يشتركا معا في صفة الفضل ويزداد الأفضل بصفة مفقودة في الفاضل وهي التي أوجبت أفضليته منه ، فكيف يصح للخصم أن يزعم أن المتقدم في أي فن مطلقا يكون أفضل من المتأخر في ذلك الفن مطلقا ، وإن بلغ المتأخر في العمق والإحاطة إلى ما لم يصل إليه المتقدم مع فرض أنه واجد لما عند المتقدم وزاد عليه بسعة الباع وكثرة الإطلاع والفحص والتتبع.

الثالث : إن تفضيل المتقدم في أمثال تلك الفنون على المتأخر فيها وإن زاد على المتقدم فيها بتقدير جوازه لا يتمشى في ذوات الأنبياء المتقدمين والأئمة المتأخرين عنهم عليهم‌السلام الّذين ورثوا علمهم ، وذلك لأن علم الأنبياء عليهم‌السلام من علم الله تعالى وليس هو بالتعلم من الآخرين كما في غيرهم من سائر النّاس ، وتلك قضية ما في الأمثلة المذكورة فتعليل الأفضلية بذلك فاسد وقياسه عليه باطل.

وجملة القول : إنّ الأئمة عليهم‌السلام ورثوا العلم الّذي احتوى عليه الأنبياء عليهم‌السلام وزاد هؤلاء عليهم‌السلام عليهم عليهم‌السلام بما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم الّذي هو مفقود في أولئك الأنبياء عليهم‌السلام فعلوم الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام من

٣٤١

الفيوضات الربانية والإمدادات الإلهية وليست هي مكتسبة كالتي ضرب لها من الأمثلة ، ولا يأتي سعة الباع وكثرة الفحص والتتبع في علوم الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام لأنها غير موقوفة على شيء من ذلك حتى يقال فيهم إن المتقدم منهم أفضل من المتأخر وإن بلغ هذا الأخير في سعة الباع إلى ما لم يصل إليه المتقدم كما يزعم الخصم.

ثامنا : قوله : « ولو لم يكن العلم الّذي عليه مدار الإعتقاد والعمل حاصلا للنبيّ بوجه أتم كيف يخرج عن عهدة التبليغ ».

فيقال فيه ، أولا : إنه أخص من المدّعي فلا يصلح أن يكون دليلا على صحة عموم الدعوى.

ثانيا : إنه منقوض بقصة الخضر عليه‌السلام مع موسى عليه‌السلام.

ثالثا : إنه لو كان يلزم وجود العلم في كل نبيّ على الوجه الأتم كونه أفضل لزم الخصم أن يقول بعدم إمكان تفضيل نبيّ على نبيّ مطلقا ، توضيح ذلك : إن وجود العلم في كلّ منهم لا بد أن يكون على الوجه الأتم وإلاّ لم يمكنه الخروج عن عهدة التبليغ ـ على حدّ زعمه ـ فالأتميّة بالعلم لا بدّ من حصولها في كلّ واحد من الأنبياء عليهم‌السلام فإذا كان كلّ منهم واجدا له على الأتمية لم يكن واحد منهم أفضل من الآخر ، ولا يكون نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأنبياء عليهم‌السلام لأن الأفضل لا بد وأن يكون في العلم أتمّ ، وإذا كان الفاضل أيضا مثله في العلم أتمّ كان ذلك بالنسبة إليه مساو له لا أفضل منه ، وإنما لا يكون كذلك إذا كان العلم الّذي يكون عليه غير الأفضل على وجه التمام حتّى يكون فيه أتمّ ليكون أفضل ، فتعليل الأفضلية مطلقا بالأتمية في العلم مطلقا فاسد جدا لاستلزامه المساواة بينهم جميعا ، واللاّزم باطل بالإجماع ، وكتاب الله صريح في تفضيل بعض النبيّين على بعض ، قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) [ البقرة : ٢٥٣ ] وقال تعالى : ( وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ ) [ الإسراء : ٥٥ ].

تاسعا : قوله : ( ولكن لا يلزم من كثرة العلم كثرة العلم كثرة الثواب ومدار الفضل عند الله على كثرة الثواب ).

٣٤٢

فيقال فيه :

أولا : كان البحث مبنيا على الأفضلية بالعلم وأن من كان أكثر علما كان هو الأفضل لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يؤمكم أقرؤكم ) أي أعلمكم وأفضلكم ، فعدول الآلوسي عن ذلك إلى دعوى أن الأفضلية بكثرة الثواب خروج عن الموضوع وهزيمة من ميدان النقض والإبرام وعجز عن المناجزة ، أما الأفضلية بكثرة الثواب فمرتبة أخرى لا صلة لها بمحلّ النزاع.

ثانيا : لقد عرف القارئ فيما تقدم أن مذهب الخصم الّذي يزعم هاهنا فرارا ـ ولات حين مناص ـ أن الأفضلية بكثرة الثواب فضلا عن كثرته فكيف بأكثريته حتّى يكون دليلا على الأفضلية ، لأنه لا يجب على الله أن يعطي ثوابا ولا قبح منه إذا أبدله عقابا كما يعتقده الأشعري.

ثالثا : إن الأئمة من البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام حتّى في الثواب ، وذلك لثبوت عصمتهم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنّة وثبوت أعلميتهم من سائر المرسلين عليهم‌السلام في كلّ شيء ، والأعلم المعصوم لا شك في أنه أتقى ، وقد قال تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) كما في الآية : (١٣) من سورة الحجرات ، ولو لم يكن الأعلم المعصوم أفضل من غيره بالثواب لزم ألاّ يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من غيره من الأنبياء بالثواب واللاّزم باطل بالإجماع ، فأعلمية أهل البيت عليهم‌السلام من جميع الأنبياء عليهم‌السلام وعصمتهم موجبة تامة لأفضليتهم من الأنبياء في أكثرية الثواب.

عاشرا : قوله : ( فإن توريث الأئمة علم الأنبياء عليهم‌السلام وتفضيلهم عليهم بذلك التوريث يلزم أن يكون الأئمة أفضل من نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

فيقال فيه : نحن نمنع الملازمة ، وذلك فإن قيام الدليل القطعي على أفضلية نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخلق أجمعين يمنع من أفضلية الأئمة عليهم‌السلام على سيّد النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ملازمة بين كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل منهم عليهم‌السلام وبين أن يكون الأنبياء عليهم‌السلام أفضل منهم لقيام النصّ في نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تفضيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم عليه‌السلام وقيامه على تفضيل الأئمة عليهم‌السلام على الأنبياء كما مرّ تبيانه.

٣٤٣

الحادي عشر : قوله : « علم الأئمة تابع لعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرع لعلمه ، وعلم الأنبياء عليهم‌السلام أصل وأول وبالذات وما بالتبع لا يبلغ درجة ما بالذات ».

فيقال فيه : أولا : لو كان علم الأنبياء عليهم‌السلام أصلا ويوجب أعلميتهم للزم الآلوسي أن يقول بأنهم عليهم‌السلام أفضل من نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، لأن علمه أيضا تابع لعلم الأنبياء عليهم‌السلام وفرع لعلمهم لأنهم هم الأصل لتقدمهم عليه ، فعلمهم أصل وأول وبالذات وما بعدهم مطلقا فرع لعلمهم وما بالتبع لا يبلغ درجة ما بالذات ، كما يزعم الخصم الّذي لا يفهم ما يلزم زعمه من الباطل بالإجماع ، فبطل أن يكون تقدمهم في العلم موجبا مطلقا لأفضليتهم على الإطلاق ، فتعليل أفضليتهم عليهم‌السلام بتقدمهم في العلم معلوم بالضرورة بطلانه.

ثانيا : إنّ ما ورثه الأئمة علم الأنبياء عليهم‌السلام بعينه فهم ورثوا جميع علوم الأنبياء عليهم‌السلام وزادوا عليهم بعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي لا يعلمه الأنبياء عليهم‌السلام فهم قد حووا على ما يعلمه الأنبياء عليهم‌السلام وما لا يعلمونه ، ولا تتمشى هاهنا قضية الأصل والفرع ، وأن ما في الأنبياء عليهم‌السلام من العلم أصل وأول وبالذات ـ على زعم الخصوم ـ حتى يأتي عليه بأن ما بالتبع لا يصل درجة ما بالذات وذلك لعدم الفرعية والتبعية في علم الأئمة عليهم‌السلام لعلمهم عليهم‌السلام إطلاقا ، وإنما هو وزيادة على ما عندهم عليهم‌السلام عند الأئمة عليهم‌السلام لذلك كانوا عليهم‌السلام أفضل منهم عليهم‌السلام.

الثاني عشر : قوله : ( مع أن هذا الاستشهاد بالآية المذكورة أغرب لأن معناها عدم الاستواء بين العالم والجاهل كما هو الظاهر ، والأنبياء عليهم‌السلام ما كانوا جاهلين بالإجماع ).

فيقال فيه : إن أفضلية الأئمة على الأنبياء عليهم‌السلام لا يعني جهل الأنبياء عليهم‌السلام وإلاّ لزم جهل بعضهم بتفضيل الله البعض الآخر عليه بصريح قوله تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) [ البقرة : ٢٥٣ ] واللاّزم معلوم البطلان ، أما الآية فلم أجد فيما أعلم أن عالما من الشيعة استشهد بها على تفضيل الأئمة عليهم‌السلام على الأنبياء ، لأن الظاهر منها بقرينة ما قبلها وهو قوله تعالى : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ

٣٤٤

ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ) [ الزمر : ٩ ] إنها تريد نفي الإستواء بين من عرف الله تعالى فسهر ليله بعبادته وبين من لم يعرفه فلم يعبده ، فيراد من الإستواء المنفي في منطوقها نفي التساوي بين الّذين عرفوا الله وعبدوه وبين الّذين ما عرفوه فما عبدوه ، ولكن الآلوسي لا يرى من الإثم إذا كذب على علماء الشيعة فنسب إليهم ما يوجب الحطّ من قدرهم والمسّ من كرامتهم ، ولسان حالهم يقول :

وإذا أتتك مذمّتي من ناقص

فهي الشّهادة لي بأنّي كامل

ثم إنه لا حاجة إلى أن أملي عليك أكثر من ذلك بعد وضوح أفضلية الأئمة من البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع الأنبياء عليهم‌السلام بنصّ الكتاب والصحاح المحمّدية الجياد المتفق عليها بين الفريقين ، ومن جميع ذلك تعرف فساد ما تمحّله الخصم.

الأنبياء عليهم‌السلام معصومون

قال الآلوسي ص : (٧٥) : « إنّ الأنبياء عليهم‌السلام معصومون من التقوّل وقول الكذب والبهتان مطلقا عمدا وسهوا ، وقال الإمامية : يجوز عليهم ذلك من البهتان وقول الكفر ... إلخ ».

المؤلف : الشيعة كافّة يعتقدون بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام ويعتقدون بعصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإطلاق في الصغر والكبر قبل البعثة وبعدها وإنما قال بعدم عصمتهم خصوم الشيعة ، فإنهم أثبتوا لهم العصيان والسّهو والنسيان في كثير من الموارد ، وأجازوا عليهم الزلاّت وارتكاب القبائح والرذائل ، وقالوا في سيّد النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهجر ، وأنه يحبّ مزمارة الشيطان في بيته ، ويحبّ الغناء الّذي قال فيه فيما مرّ : ( إنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ).

وقد اعترف الآلوسي نفسه فيما تقدم ذكره بجواز الزلاّت على الأنبياء عليهم‌السلام فجاء هنا ينقضه ويزعم أن القائلين به هم الشيعة بهتانا وزورا ، وممن صرّح بجواز الزلاّت على الأنبياء عليهم‌السلام واعترف به شيخ أعداء الشيعة وأحد أعلام خصومهم :

الفضل بن روزبهان في كتابه الّذي سمّاه وما أطول اسمه ( إبطال نهج الباطل وإهمال كشف العاطل ) وهو شبيه في طوله بكتاب الآلوسي فزعم أنه ألّفه في الردّ

٣٤٥

على كتاب : ( كشف الحقّ ونهج الصّدق ) للعلاّمة على الإطلاق وحجّة الخاصّة على العامّة سديد الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي ( رضوان الله تعالى عليه ) وقد تصدى لتزييف كتاب الفضل العلاّمة الكبير والمفكر الخطير قاضي القضاة نور الله التستري ( رضوان الله تعالى عليه ) وأسماه بـ ( إحقاق الحق وإزهاق الباطل ) وناقشه الحساب بدقة ، وأرجع كلّ طعنة من طعناته إلى نحره ، فراجع ثمة حتّى تعلم أن القول بعدم عصمة الأنبياء عليهم‌السلام هو من مقال خصماء الشيعة.

علم الأنبياء عليهم‌السلام بالأحكام كلّها مطلق

قال الآلوسي ص : (٧٥) : « إن الأنبياء عليهم‌السلام لا بد لهم من معرفة الواجبات الإيمانية قبل البعثة وبعدها ، وقد أجمع على هذه العقيدة حتى اليهود والنصارى إلاّ الإمامية ، فقالوا : لا يكون معرفة أصول العقائد حاصلة للأنبياء عليهم‌السلام ».

المؤلف : ما برح الآلوسي يكذب على الشيعة وينسب إليهم آراء سلفه ، ويقول إنها من عقائد الشيعة ، ولقد قال باطلا ونطق آثما أما وشرّ القول الكذب إنه يقول فيكذب.

إن الّذين يعتقدون بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام مطلقا وأنهم لا يعصون ولا يسهون في الصغر والكبر قبل البعثة وبعدها ، وأنهم : ( عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) هم الشيعة الإمامية وحدهم لا يدخل معهم في ذلك داخل من الدخلاء إطلاقا ، فليس يصح ما نسبه إليهم الخرّاصون الّذين لا دين لهم ولا يخافون المعاد ، فيلصقون بالمؤمنين اعتقادهم وإعتقاد من تقدمهم من أسلافهم ، فهم في ذلك كما قيل : ( رمتني بدائها وانسلّت ).

عصمة الأنبياء عليهم‌السلام من جميع الذنوب

قال الآلوسي ص : (٧٥) : « إن الأنبياء عليهم‌السلام معصومون من صدور ذنب يكون الموت عليه هلاكهم خلافا للإمامية ، فإنهم رووا في حقّ بعضهم صدور هذا الذنب ... إلخ ».

٣٤٦

المؤلف : كذب الّذين زعموا أن الشيعة تروي صدور المعصية من بعض الأنبياء عليهم‌السلام وهم يعتقدون عصمتهم على الإطلاق ، وإنما زعم هذا الزعم الباطل خصومهم ، فدونك كتاب ( منهاج السنّة ) لشيخ إسلامهم ابن تيمية الّذي يزعم أنّه ألّفه في الردّ على منهاج الكرامة للعلاّمة ، وقد تصدّى للردّ على ابن تيمية العلاّمة الكبير السيّد محمّد مهدي الكاظمي القزويني ( رضوان الله تعالى عليه ) ( بمنهاج الشريعة ) فإنه أفاد فيه وأجاد وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب ، قد زيّف جميع ما جاء به ابن تيمية من المزاعم الفاسدة والآراء الباطلة ، ووقف معه في الحساب بدقّة ، وبيّن للملإ فيه اعوجاج منهاج ابن تيمية والتوائه ، فراجع ثمة حتّى تعلم أن هذه المزاعم الفاسدة التي ألحقها هذا الآلوسي بالشيعة هي من مزاعم أوليائه المنحرفين عن أهل البيت عليهم‌السلام وليت الآلوسي دلّنا على عامّي من عوامّ الشيعة يقول بهذه المقالة ليكون تبريرا له عمّا رماهم به من البهتان ، ومن حيث أنه لم يفعل ذلك وألقى الكلام فارغا علمنا وعلم كلّ النّاس كذبه وبهتانه.

فظهر من جميع ما ذكرنا فساد ما سجّله الآلوسي في كتابه من المفتريات التي عزاها إلى الشيعة في ص : (٧٦) إلى نهاية ص : (٨٠) وناهيك بما قدمناه لك من الأدلّة لدفع تلك العلّة وإزاحة هاتيك المضلّة.

٣٤٧
٣٤٨

الفصل الثالث عشر

في وجوب الإمامة

وجوب الإمامة كالنبوّة

قال الآلوسي ص : (٨١) : « الباب الخامس في الإمامة إنّ أوّل ما اختلف فيه من مسائل هذا الباب هو كون نصب الإمام واجبا على العباد أو على الله ، فأهل السنّة على الأول والشيعة على الثاني والفطرة شاهدة للأول ، إذ كلّ فرقة تقرر لأنفسهم رئيسا بينهم وكذا الشرع ، إذ الشارع أوضح شرائط الإمام وأوصافه ولوازمه بوجه كلّي كما هو شأنه في الأمور الجعلية كالنكاح ولوازمه ، وأيضا لا معنى للوجوب عليه تعالى بل هو مناف للألوهية ، وأيضا كلّ ما يتعلّق بوجود الرئيس العام من أمور المكلّفين من إقامة الحدود على أحد واجب عليه.

ألا ترى أن الوضوء وتطهير الثوب وستر العورة واجب على المصلّي لا عليه تعالى ، وأيضا إن تأملنا علمنا أن نصب الإمام من قبل الباري يتضمن مفاسد كثيرة لأن آراء العالم مختلفة وأهواءهم متفاوتة ، ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إلى منتهى بقاء الدنيا إيجاب لتهييج الفتن ، فمع هذا قولهم نصب الإمام لطف في غاية السّفاهة يضحك عليه ، إذ لو كان لطفا لكان بالتأيّيد والإظهار لا بغلبة المخالفين والإنتصار ، أجاب عنه بعض الإمامية : بأن وجود الإمام لطف ونصرته وتمكينه لطف آخر ، وعدم تصرف الأئمة إنما هو من فساد العباد وكثرة الفساد فإنهم خوفوهم ومنعوهم ، وإذا ترك الناس نصرتهم بسوء اختيارهم فلا يلزم قباحة في كونه واجبا عليه تعالى ، والاستتار والخوف من سنن الأنبياء فقد اختفى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار خوفا من الكفار ففيه غفلة عن المقدمات المأخوذة في الاعتراض ، إذ المعترض يقول الوجوب بشرط النصرة لطف وبدونه متضمن لمفاسد ، فالواجب التعرض لدفع لزوم المفاسد ولم يتعرض له كما لا يخفى ».

٣٤٩

إمام الأمة مثل رئيس كلّ فرقة عند الآلوسي

المؤلف : أولا : قوله : والفطرة شاهدة ، إذ كلّ فرقة تقرر لأنفسهم رئيسا ».

فيقال فيه : لقد التقط الآلوسي هذه المقالة من بعض من تقدمه من أسلافه دون أن يفكر في فساده لأنه جاهل بمعنى الإمامة ولا يدري ما هي ، لذا تراه قاس ما تفعله كلّ فرقة من تقرير رئيس لأنفسهم على الإمامة العامّة والحكومة المطلقة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن كان عليه قبل هذا القياس أن يسأل العلماء عن الفرق بين الخلافة والجلافة ، وبين ما يفعله الله تعالى وما يفعله الناس ليكون على بصيرة من أمره ، فإن الناس غالبا ما يختارون لأنفسهم رئيسا جاهلا وفاسقا فاجرا ، وقد يختارون الرضيع والطفل الصغير لأنه ابن الرئيس الهالك أو ابن عمه أو أقرب الناس إليه ، وقد يختارون زوجة الرئيس الميّت وهكذا ، فلا يفرّقون بين الأحمق الجاهل وبين الطفل الصغير في اختياره رئيسا عليهم ، وأين هذا من خلافة النبوّة ونيابة الرسالة حتى يصح قياسه عليه.

معنى الخلافة

أما الخلافة : فهي الرئاسة العامّة والزعامة الكبرى في أمور الدين والدنيا ، وهي النيابة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إقامة الحدود ، ونشر الأحكام ، ودرء الفساد ، وحفظ الشريعة ، والانتصاف للمظلوم ، وقطع دابر الشغب ، واستئصال شأفة الفتن وغير ذلك من فوائدها اللاّزمة على الوجه الشرعي والقانوني الإلهي.

وبالضرورة أن هذه الفوائد المعتبرة في الإمام شرعا لا يمكن معرفتها لكلّ أحد لأنها عبارة أخرى عن العصمة التي هي شرط أكيد في الإمام عند العقلاء ، وهي من الأمور الخفية التي لا يطّلع عليها إلاّ الله وليست هي من وظائف الناس ، فأي فطرة تستطيع إدراكها والإحاطة بها والوقوف عليها لتعيّنه في تقرير مصيرها في هذه الحياة وما يتصل بحياة الآخرة.

فإذا فقد الشخص واحدا من هذه الشروط بأن كان جاهلا بالأحكام وفاسقا متعدّ لحدود الله ، أو كان غير معصوم من السّهو والنسيان والخطأ والعصيان فلا

٣٥٠

يصلح أن يكون إماما على الأمة ونائبا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شيء ، بل يكون وجود مثله في الخلافة أو إختيار هذا اللّون من الناس ضررا على الدين وموجبا لضياع الشريعة واضمحلالها لا حفظها ورعايتها فحفظ الشريعة ورعايتها بالشكل الّذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن أن يكون إلاّ بإمام جامع لجميع صفات الكمال ، عالم بسائر الأحكام ، معصوم من الزلل والعصيان والخطأ والنسيان كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما قياس الخصوم للإمامة على الرئاسة المختارة من بعض الفرق فبأقصى مراتب السّخافة ، لأن الشروط المعتبرة شرعا في الإمام غير ملحوظة ولا معتبرة ، حتى بعضها عندهم فيمن يختارونه رئيسا عليهم ، وأكبرها كونه محيطا بجميع أحكام الشريعة وألاّ يكون عاجزا عن حلّ أيّة مشكلة من المشكلات السّياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية ونحوها ، وهذا الشرط من أهم الشروط المعتبرة في الإمام بعد العصمة.

وبعبارة أخرى : إن تلك الرئاسة غير شرعية ولا دينية لعدم وجود شيء من القيود المعتبرة شرعا فيها في تلك الرئاسة وهي فاسدة بنظر الشرع ، فكيف تحكم الفطرة بقياس ما هو شرعي على ما ليس بشرعي ـ كما يزعم الآلوسي ـ ولكن الّذي فات عليه ولم يهتد إليه هو إنه أبطل بهذه الفطرة خلافة الخلفاء (رض) ولم يثبتها ؛ وذلك لأن الثابت بحكومة الفطرة ليست هي خلافة النبوّة شرعا كما اعترف به فيما يأتي من اعتبار ما لا يعتبر فيما هو الثابت بالفطرة في الخلافة الشرعية ، والآلوسي يزعم ثبوت خلافتهم (رض) بالفطرة ، والثابت بها طبعا غير شرعي على حدّ اعترافه فخلافتهم حينئذ غير شرعية ولا دينيّة ، فهي ليست من الدين : ( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : ٦٨ ].

تناقض الآلوسي

وأما قوله : ( إذ الشارع قد أوضح شرائط الإمام ).

فيقال فيه : إنه فاسد من وجهين :

٣٥١

الأول : إن القارئ ليفقه من هذه الجملة أن الشارع قد اعتبر شروطا في الإمام وهي بطبيعة الحال غير ملحوظة ولا معتبرة في أمر الرئاسة التي تقررها كلّ فرقة لأنفسهم كالإحاطة بكافة الأحكام الشرعية التي هي شرط أصيل في الإمام وليس هو بالبداهة شرطا فيمن تقرره للرئاسة على أنفسهم.

فبالله عليك إذا كان هذا الخصم يعترف أن هناك شروطا أوضحها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإمام وأنها قيود شرعية معتبرة فيه فكيف يقيس أمرها على أمر الرئاسة التي تقررها كلّ فرقة لأنفسهم فتختار من بينها من تريد مطلقا وإن كان جاهلا بالأحكام الشرعية والقوانين الإلهية ، وهل هذا إلاّ قول متناقض لا يفهم ما يقول.

الثاني : إن قول الآلوسي : ( إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوضح شرائط الإمام ) يدلّك بوضوح على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصّ على إمام بعينه ، وإنما أوضح شروطه وأوكل أمر تعيينه إليهم ، وقد عرفت فساد هذا الزعم فيما مرّ من أن أمر التعيين ليس من وظائف الأمّة لأن من أهم شروطه العصمة قطعا ، فلا يقدر أحد من أفراد الأمة أن يطّلع عليها ، فإذا تعذر عليهم الإطلاع على ما هو شرطه فلا يستطيعون تعيينه إطلاقا ، فإذا بطل تعيينه من الأمة ثبت وجوب تعيينه من الله تعالى وحده ، ثم كيف يا ترى يكون من الممكن المعقول أن يجعل أمر تعيينه إلى الأمة مع علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما هم عليه من حبّ الجاه واختلاف الأهواء والطباع ، بل فيه أعظم الفتن وإيثار الفساد ، وذلك لا يمكن صدوره من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال.

ثانيا : قوله : ( وأيضا لا معنى للوجوب عليه تعالى ).

فيقال فيه : إن كان لا معنى للوجوب عليه على حدّ زعمه فلا معنى لقوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [ الأنعام : ١٢ ] لأن الإمام من الرحمة فيجب ، ولا معنى لقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) [ الليل : ١٢ ] والإمام من الهدى أو طريقه فيلزم ، فلو لم يكن واجبا لكانت هذه الآيات مهملة لا معنى لها وليس لها في الوجود صورة وهو باطل ، وذلك مثله باطل فالوجوب متعيّن.

٣٥٢

ثم إذا كان لا معنى له ـ كما يزعم الخصم ـ فكيف أوجبه الله تعالى على نفسه؟ وهل يجوز لمسلم أن يريد خلاف ما أراد الله وخلاف ما كتبه على نفسه من الهدى والرحمة في تعيين الإمام ونصبه على عباده ، وما كان لمسلم ولا مسلمة أن يتبعا الآلوسي في مزعمته ويخالفا بذلك كتاب الله ويكونا حرب الله.

المقدمة غير واجبة إلاّ بوجوبه فيها

ثالثا : قوله : ( لأن مقدمة ما يجب على أحد واجب عليه ).

فيقال فيه : إن وجوب المقدمة فرع وجوب ذي المقدمة ، فلا يجب على المكلّف تحصيل ما يتوقف عليه الواجب من الإطاعة والامتثال والانقياد للإمام إلاّ بعد وجوبه من الله دون ما أوجبه الناس على أنفسهم من الانقياد والإطاعة لبعضهم ممن يجعلونه رئيسا على أنفسهم ، فإن ذلك حرام محرم في الشريعة مأثوم ومعاقب صاحبه بدليل قوله تعالى : ( اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) [ الأعراف : ٣ ] فهذه الآية صريحة في أن إتباع الناس لمن يجعلونه رئيسا على أنفسهم فيما توحيه إليهم أهواؤهم إتباع من دون الله أولياء ، وكلّ من اتبع من دون الله أولياء مشرك ، والأطمّ من ذلك قول الخصم : ( إنّه حيث كان تحصيل ما يتوقف الواجب عليه واجبا عليهم أن ذلك الواجب أيضا واجب عليهم ) إذ كيف يجب عليهم ما ليس بواجب من الله عليهم لوضوح أن وجوب تحصيل المقدمات يتوقف على ما أوجبه الله على الإطلاق وإلاّ فلا وجوب حيث لا يكون هناك واجب منه تعالى ، ولا يجب أبدا تحصيل مقدمات ما لا واجب منه ، وأما إيجاب الناس فلا يساوي عند الله جناح بعوضة ومخالفة إيجابهم قد أمر بها كتاب الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأطبق على وجوب مخالفتهم أهل السّماء والأرض من المؤمنين أجمعين.

رابعا : وقوله : ( ألا ترى أن الوضوء ).

فيقال فيه : لو لا وجوب الصّلاة وتكليف الإله عباده لها لما وجب عليهم تحصيل مقدماتها من وضوء وغيره مما هو من مقدماتها شرعا ، وليس في هذا ما يدل على أن وجوب مقدماتها كان لأجل أن وجوبها من النّاس ، بل هو لعمر الحق

٣٥٣

معكوس عليه ودليل لنا عليه لا له ، لأن وجوب تحصيلها كان لأجل وجوبها من الله تعالى لا من الوثنيين الّذين يطيعون المخلوقين من دون الله تعالى.

فوجوب الانقياد للإمام ولزوم إطاعته ما هو إلاّ لوجوبه من الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد من العالمين كما يقول القرآن : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) [ الأعراف : ٥٤ ] لا لسواه من العاكفين على عبادة العجل ، فما يوجبه العبيد لا يجوز على الناس امتثاله والانقياد إليه فضلا عن وجوبه عليهم ليجب تحصيل مقدماته ، إذ لا دليل على جواز الانقياد لمن اختاره بعضهم بل كلّهم لو صح حصوله من كلّهم وجعلوه رئيسا على أنفسهم طمعا أو خيفة بل الدليل قائم على حرمته وضلاله ضلالا مبينا ، وإنّما يجب عليهم ما أوجبه الله تعالى وحده فلا قيمة في اختيارهم ولا في قولهم ، ولو كان في إختيار النّاس قيمة عند الله لكان ما اختاره بنو إسرائيل من عبادة العجل قيمة عند الله بل اختيارهم لمن يعقل أشد ضررا على العباد والبلاد من اختيارهم ما لا يعقل بدليل قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) [ الحج : ١١ ـ ١٣ ].

فالفقرة الأولى من الآية تدل بصراحة بقرينة ( ما ) الموصولة التي تستعمل غالبا لغير العاقل ، على أن إطاعة غير العاقل والدعوى إليه والعكوف على عبادته لا يدفع عن المرء ضرا ولا يجلب له نفعا ، فهي تعني الأصنام المصنوعة من الأحجار ونحوها من الجمادات.

والفقرة الثانية من الآية صريحة الدلالة بقرينة ( من ) الموصولة التي تستعمل للعاقل ( ولام التأكيد الداخلة عليها ) على أن إطاعة الأوثان البشرية وهياكلها القذرة والدعوة إليها والالتفاف حولها وتطبيق رواسب أفكارها من دون الله لأجل إختيار الناس لهم لا خير فيهم ولا نفع بل ضرّ كلّهم ومذمومون كلّهم سواء في ذلك المطيع منهم والمطاع ، بدلالة قوله تعالى : ( لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) وإن

٣٥٤

كنت في شك مما قلناه في عدم جواز إطاعة من لم يكن مختارا من الله لإمامة النّاس فهذا كتاب الله شاهد عدل على ما نقول ، قال تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) وفي هذا دلالة قوية وشهادة صريحة على أنه لا حجّة في قول من لم يقم دليل من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حجيّة قوله ، وأنه لا يجوز الأخذ بأمره ونهيه ولا يجوز الانقياد إليه ، وحينئذ فلا دليل على جواز إطاعة من إقامة بعض النّاس في السّقيفة ولا حجّة في قوله ، ولا قيمة لأمره ونهيه بل الدليل قائم على عدم اعتباره من الكتاب والسنّة كما مرّ عليك بيانه ، ولأن اعتبار قوله على أساس إمامته موقوف على اعتبار قول المختارين له ، فلو توقف اعتبار قول المختارين له على اعتبار قوله على أساس خلافته لزم الدور الصريح ، فإذا بطل أن يكون قوله حجّة بطل أن يكون إماما لانتفاء الغرض من إمامته وهو وجوب الانقياد إليه وإطاعة أمره ونهيه وغير ذلك من فوائده اللاّزمة الموقوفة على حجيّة قوله واعتبار فعله شرعا ، ولأن الإمام من تجب إطاعته والآلوسي يزعم أنه ليس بواجب على الله تعالى تعيين من يجب انقياد النّاس إليه في الأحكام وغيرها ، فإذا لم يكن واجبا من الله لم يجب على النّاس تحصيل مقدماته والمختار من النّاس لا يعتد بقوله ولا فعله إطلاقا.

وخلاصة القول : إن الناس كلّهم تابعون لتصرف الشارع بهم فليس لهم ولا لآحادهم أن يتصرفوا بأقل ما يتصور في شئون أنفسهم ، فكيف يجوز أن يتصرفوا في شئون أنفس الآخرين وفي أموالهم وأعراضهم ودمائهم ، وفي القرآن يقول الله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) فعموم نفي الخيرة لهم مطلقا من أقوى الأدلة على عدم اعتبار ما يختارونه مطلقا ، وغير المعتبر شرعا لا حجّة فيه أصلا وفرعا.

ما زعمه من المفاسد في نصب الإمام من الله في بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا

خامسا : قوله : « إذا تأملنا علمنا أن نصب الإمام من قبل الله تعالى يتضمن مفاسد كثيرة ».

فيقال فيه : إن ما زعمه هنا فاسد من وجهين :

٣٥٥

الأول : إذا كان نصب الإمام وتعيينه من الله يتضمن مفاسد كثيرة ـ كما يزعم الخصم ـ لكان أيضا بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعيينه من الله يتضمن مفاسد كثيرة ، وذلك لأن التعليل الّذي جاء به هذا الآلوسي لمنع أن يكون النصب من قبله تعالى للإمام هو أيضا موجود في بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصبه من ( إختلاف آراء العالم وتفاوت أهوائهم وتفارق نفوسهم ) فالعلة فيهما واحدة ، فيجب أن يكون حكمهما واحدا لو صح شيء من تعليله.

وبعبارة أوضح : إن ما تأمله الآلوسي وتفكّر فيه ، أو على الأصح ما قلّد غيره فيه بلا تأمل ولا تفكير فأنتج هذا الرأي الذي ينبذه دين الله ويرفضه كتابه هو بعينه جار في نصب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعيينه من إختلاف الطباع والأهواء والآراء والأذواق ، بل لو صح ما زعمه من دعوى الفساد في تعيين الله تعالى ونصبه لكان تعيين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعثه من قبله أشدّ فسادا من تعيين الإمام ونصبه من قبله؟ وذلك لأن فيه إضافة على زعمه من لزوم المفاسد إذا كان التعيين من قبله تعالى ( اختلاف أديانهم وتباين مذاهبهم ) فهو يريد أن يدعو إلى دين جديد ويمنعهم عن العكوف على ما هم عليه من الدين السّخيف الّذي ما برحوا عاكفين عليه مدّة من الزمن حتى شغفهم حبّه وتعصّب الناس لأديانهم وعقائدهم والتفاني في سبيل الحفاظ عليها ، ومناجزة من يحاول النيل منها بشيء أمر لا ينكر ، وتلك قضية الأنبياء عليهم‌السلام مع أممهم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع هذه الأمة ، فإذا جاز أن يكون في تعيين الإمام ونصبه من الله مفاسد كثيرة ـ كما يزعم ـ جاز أيضا أن يكون في تعيين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعثه من قبل الله مفساد كثيرة بل أكثر ، والمنع فيه حينئذ يكون أولى وهذا ما لا يقول به من كان له دين أو شيء من العقل ، أترى يقول من له دين فضلا من أن يكون من المسلمين إن الله تعالى أراد بإرساله الرسل وتعيينه خلفائهم كثرة الفساد وشدّة الفتن ـ على حد زعم الخصم ـ فإذا بطل هذا وذاك وجب أن يكون النصب والتعيين من قبله تعالى لا من سواه.

الثاني : إن التعيين من قبل النّاس يتضمن أكبر المفاسد وأعظمها إضاعة الشريعة ، وتعطيل الحدود ، وإعانة الظالم ، وقتل النفس المحرّمة ، وصرف أموال

٣٥٦

بيت المسلمين في الأهواء والأغراض كما هو المعلوم من سيرة أمراء بني أمية وبني العباس وغيرهم من أمراء الجور وأئمة الضلال الّذين انتخبهم النّاس وجعلوهم أئمة على أنفسهم وأعانوهم على أن يظهروا في الأرض الفساد ، وقد ارتكب عثمان بن عفان (رض) المنصوب من قبل النّاس في أيام خلافته من تأميره بني عمومته على رقاب المؤمنين وعلى تخويله لهم السّلطة على بيت المال ، الأمر الّذي كان من أقوى العوامل المؤدية إلى فشله وقتله ، ولم يكن ذلك كلّه إلاّ لأن الّذي عيّنه الناس لم يكن معصوما فوقع منه هذا الفساد.

وهب أنا قلنا جدلا إنه من المجتهدين ولكن لا يمنع اجتهاده من أن يصرف الأموال في أغراض نفسه باجتهاد أنه فيما يجب صرفها فيه ، ويقيم الحدود في غير محلّها باجتهاد أنه مظلوم ، ويوقع المفاسد باجتهاد أنها مصالح ، والمجتهدون طبعا لا يستطيعون أن يحفظوا أنفسهم من الوقوع في الخطأ فكيف يستطيعون أن يحفظوا الشريعة من الضياع ، فإن غير المعصوم يخطئ ويجوز أن يقع منه الفساد خطأ ، فمن يا ترى يرفع فساده ويرجعه إلى الصّواب إن لم يكن ثمة إمام معصوم فينتفي الغرض من نصبه والحاجة إلى جعله.

وهذا بخلاف التنصيص من الله تعالى عليه فإن فيه أكبر المصالح وأعظمها عصمة الإمام القائم مقام نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نشر الأحكام ( أحكام الله المتعلّقة بأمور الدين والدنيا ) على الوجه الّذي أمر الله تعالى به ، والاجتهاد من الإمام لا يجوز كما لا يجوز من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لأن الإمامة صنو النبوّة وقائمة مقامها وسادّة مسدّها غير أن الإمام لا يوحى إليه كما يوحى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع الاجتهاد لو صح منه لا يحصل القطع بالحكم الإلهي ، وأن ما يقوله هو من عند الله ، لجواز أن يكون من رأيه وقد ورد النهي عن الأخذ بما ليس من الله وفي القرآن : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) [ يونس : ٥٩ ] والاجتهاد ـ كما مرّ ـ لا يغني صاحبه من الخطأ فبالأولى لا يغني من حفظ الشريعة من الضياع ، ولأنه لا يكون من نشر الأحكام وإقامة الحدود على الوجه الّذي أمر الله تعالى به لجواز خطأه ، ولأن المجتهد يمكن إفحامه فللمكلّف أن يقول له إني اجتهدت فأدّى نظري إلى عدم

٣٥٧

قبول قولك هنا أو هناك ، فأيّ حجّة تجدها لله على الناس بعد هذا وأي فوضى أقبح من هذا.

وأما قبول قوله فلا يجب إلاّ على العوامّ الّذين لا يستطيعون تحصيل الأحكام بالاجتهاد على فرض تعذر العلم وانسداد بابه ، أما المستطيع لا سيّما في عصر الصّحابة فإن الجميع بحمد الله ( مجتهدون وليس فيهم جاهل بحكم من الأحكام الشرعية ) كما يزعم الخصوم فلا يجب عليهم أن يقبلوا قول أبي بكر (رض) وغيره من ( المجتهدين ) في شيء لعدم حجيّة قول المجتهد على مجتهد آخر ، فمالك بن نويرة وقومه من بني يربوع كانوا من المجتهدين فأدّى اجتهادهم إلى ألاّ يعطوا أبا بكر (رض) شيئا من زكاة أموالهم ، فإلزام أبي بكر (رض) إيّاهم على ذلك وقتله لهم كان قتلا للمجتهدين المخالفين له في اجتهاده وذلك غير جائز في الشريعة قطعا ، وإن منعوا اجتهادهم منعنا اجتهاد غيرهم من الّذين استحلّوا قتلهم وقتالهم فيكون الأمر في ذلك على الخصوم أشدّ جرما وأعظم مخالفة للدين ، وكون أبي بكر (رض) مصيبا في ذلك الاجتهاد ليس بأولى من عكسه ، ولو سلّمنا جدلا فلا يوجب ذلك قتلهم وهم مسلمون مؤمنون لأن قتال المجتهد المخطئ غير جائز إطلاقا.

وقد رتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على ذلك أكبر محذور فقال فيما تواتر عنه : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) فإذا كان لا يجوز قتال المسلم وأن قتاله فضلا عن قتله كفر ـ على حدّ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فكيف الحال فيما إذا كان المسلم المقتول مجتهدا مصيبا في اجتهاده ، والفرقة التي قاتلته وقتلته مخطئة إن لم نقل فيها إنه لا نصيب لها من الاجتهاد إطلاقا لعدم الدليل عليه إلاّ ما يزعمه الخصوم فيهم تعصبا لهم.

وإذا كان لم يجب قبول قوله وامتثال أمره بالاجتهاد على خلافه بطل أن يكون إماما لانتفاء الغرض والفائدة من إمامته ـ كما ألمعنا ـ ثم لا يجوز الاجتهاد مع إمكان تحصيل الأحكام بالعلم ، كما لا يجوز مع وجود النصّ على ما سيجيء توضيحه إنشاء الله.

٣٥٨

فساد ما زعمه من تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة

سادسا : قوله : « ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إيجاب لتهييج الفتن ».

فيقال فيه : لقد فات على الآلوسي قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا يزال الدين قائما حتى قيام السّاعة ويكون عليهم إثنا عشر إماما كلّهم من قريش ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يكون بعدي إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يكون بعدي إثنا عشر أميرا كلّهم من قريش ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ).

وفي هذه الأحاديث المتواترة دلالة صريحة على أن الأئمة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثنا عشر كلّهم من قريش لا تعيين واحد لتمام العالم في جميع الأزمنة كما يزعم الآلوسي ليبني عليه قوله الفاسد ( إن فيه إيجابا لتهيّيج الفتن ) فالشيعة تقول كما يقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه لا يخلو زمان من إمام يجب على أهل كلّ زمان أن يعرفوه ويتبعوه ويؤمنوا به ويعينه كما تقدم ذكره من حديث الثقلين ، الّذي جاء فيه التنصيص على عدم خلوّ البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رجل في كلّ زمان هو كالقرآن في وجوب التمسّك به ، وقد آمن به الشيعة وكفر به خصومهم.

قول الآلوسي موجب لبطلان نبوّة كلّ نبيّ

ثم لو فرضنا أن الله تعالى عيّن رجلا واحدا لتمام العالم في جميع الأزمنة ، وهذا الفرض وإن كنا لا نقول به إلاّ على سبيل التساهل مع الآلوسي ، ومع ذلك فإنه لا يوجب شيئا من تهييج الفتن إطلاقا ، لأنه لو كان يوجبه لأوجبه في تعيين رجل واحد لزمان واحد ، وذلك لأن تهييج الفتن لا يحصل إلاّ من ناحية اختلاف الناس في الأهواء والطباع والميول والاتجاهات والأذواق والأفكار ، وحينئذ فلا فرق في ذلك بين أن يكون في زمان واحد أو في كلّ الأزمنة لوحدة المناط ، فكما يوجب تعيينه تهييج الفتن لأجل ذلك في كلّ الأزمان يوجبه في زمان واحد لاشتراك الجميع في العلّة الموجبة فيكون حكمه واحدا ، وهو معلوم البطلان

٣٥٩

لاستلزامه بطلان نبوّة كلّ نبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ زمان ، فلو كان التعيين تابعا لأهواء النّاس ورغباتهم وميولهم واتجاهاتهم ، وأن كلّ ما يرغبه الناس في كلّ زمان أو في الأزمان كلّها يفعله الله تعالى وما لا يرغبونه لا يفعله ، لزم بطلان نبوّة جميع الأنبياء عليهم‌السلام في كلّ الأزمان ، فيلزم منه خراب الدنيا وفسادها وهذا ما يبتغيه الخصوم : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ ) [ المؤمنون : ٧١ ].

لا سفاهة في اللّطف

سابعا : قوله : « فمع هذا قولهم نصب الإمام لطف في غاية السفاهة ».

فيقال فيه :

قد ألمعنا فيما تقدم منّا أن اللّطف عبارة أخرى عن قوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فأوجب تعالى على نفسه بما اقتضته حكمته أن ينصّب خلفاء بعد أنبيائه ليقوموا مقامهم في نشر شرائعهم وحفظها ، وذلك من أعظم نعم الله تعالى على عباده ، ولا يضرهم كفر من كفر بها وجحد من جحدها ، وإنما أضرّوا أنفسهم بجحودهم وكفرهم بتلك النعمة العظيمة التي أسبغها الله تعالى عليهم منّة منه ورحمة.

لذا ترى أن من كفر بالصّلاة وجحد الزكاة وأنكر الحج والجهاد في سبيل الله ونحوها من الفرائض والواجبات لم يكن كفره موجبا لوهنها ولا رافعا لوجوبها ، فإذا كان إعراض النّاس بسوء اختيارهم عن فعل الطاعات وإقبالهم على ارتكاب المحرّمات وجحد الضروريات وإنكار الواجبات التي فرضها الله تعالى عليهم وألزمهم بها كلّ ذلك لا يقضي بسقوطها وعدم الأمر بها وعدم تشريعها كان إعراضهم بسوء اختيارهم وخبث حصانتهم عن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام وخذلانهم لهم وعصيانهم لأوامرهم وقتلهم الأنبياء عليهم‌السلام وتخويفهم أهل بيت نبيّهم عليهم‌السلام وسعيهم في قتلهم الأمر الذي ألجأهم إلى الاستتار والاختفاء مخافة القتل والاستئصال أيضا لا يقضي بعدم وجوب نصبهم ولا بجواز مخالفتهم والانحراف عنهم والركون إلى النماردة والفراعنة.

٣٦٠