الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

يكون الله تعالى موجبة تامة لإيجاد الحوادث وإلاّ لزم أن تكون قديمة بقدمه واللاّزم باطل فالملزوم مثله باطل ، فيحتاج إيجاده إلى حادث آخر وهكذا فيجب أن يكون كلّ حادث مسبوقا بمواد غير متناهية والاحتياج في فاعليته إليها لا يستلزم النقص فيه إطلاقا فلا يكون الاحتياج فيها إلى الأغراض مستلزما للنقص في شيء ، لأنه أيضا يحتاج في إيجاد العرض إلى وجود المحلّ وفي إيجاد الكلّ إلى وجود الجزء ، فوجود المحلّ له دخل في وجود العرض ووجود الجزء في وجود الكلّ وهو الخالق الموجد للكلّ.

تعليل أفعال الله بالأغراض مخصوص بصفاته الفعلية

ثم إن تعليل أفعاله تعالى بالأغراض إنّما يرجع إلى الصّفات الكمالية الفعلية كخالقية العوالم ورازقية العباد ، والخلوّ عن هذه في بعض الحالات ليس نقصا قطعا وإنّما النقص خلوّه عن صفات الذات كالعلم والقدرة والحياة التي هي عين ذاته.

على أنّه إذا لم يكن يفعل لغرض ولا مصلحة لزم بطلان حجيّة القياس المعتبر عند خصومنا ، لأن حجّيته فرع كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، كما أن حكم العقل بعدم خلوّ فعل العاقل المختار عن الفائدة والغرض لا سيّما إذا كان حكيما كاف في ثبوته.

ثم يقال لهم : إذا كان الله تعالى لم يفعل لغرض لزم ألاّ يكون محسنا لعباده ولا راحما ولا منعما ولا كريما وهو مخالف لكتاب الله والسنّة المتواترة وإجماع الأمة ، فإنهم متفقون على وصف الله تعالى بتلك الصّفات على نحو الحقيقة دون المجاز ، وذلك لأنه إنما يصح أن يصدق الإحسان والإنعام والإكرام وغيرها من الصّفات لو فعل المحسن نفعا لغرض الإحسان إلى المنتفع ، أما إذا فعله لا لذلك لم يكن محسنا إطلاقا لذا ترى لا يصحّ أن يقال لمن أطعم الدابة ليسمّنها حتى يذبحها أنه محسن إليها ، كما يلزمهم أن يقولوا إن جميع المنافع التي جعلها الله تعالى منوطة بالأشياء غير مقصودة ولا معلّلة بالفائدة ، وإنما خلقها ووضعها في مواضعها عبثا باطلا فلا يكون خلق الأعين لأن يبصروا بها ولا الآذان ليسمعوا بها

٣٠١

وغيرها من الأعضاء والجوارح التي خلقها لمنافع تعود على الإنسان وغيره ، وكذا الحال في الكائنات التي خلقها لمنفعة العباد ، فإذا كانت غير مقصودة ولا مخلوقة لغرض ـ كما يزعم الآلوسي ـ لزم اللّغو والعبث في ذلك كله من الله تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

الثاني : إنه لو لم يكن فعله لغرض ومصلحة لزم إبطال النبوّة رأسا وعدم القطع بصدق نبيّ منهم ، بل يحصل لنا في هذا الحال الجزم بكذبهم.

نبوّة كلّ نبيّ لا تتم إلاّ بأمرين

لأن نبوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تتم إلاّ بأمرين :

الأول : أن يكون الله تعالى قد خلق المعجزة على يده لغرض التصديق به.

الثاني : أن كلّ من حكم الله بصدقه فهو صادق قطعا.

فإذا أسقطنا القول بأحد الأمرين فقد أسقطنا دليل النبوّة وذلك لأن الله تعالى لو خلق المعجزة لا لغرض التصديق بطل أن يكون دليلا على صدق مدعي النبوّة لانتفاء الفرق بين النبيّ وبين غيره بعد أن فرضنا أن خلق المعجزة لم يكن لغرض التصديق بصاحبها ، وحينئذ فلكلّ أحد أن يدعيها ويقول إن الله تعالى صدّقني وبطلانه واضح.

ثم يقال لهم : إنّه إن لم يكن يخلق المعجزة لغرض التصديق لزم الإغراء بالجهل لأنه دالّ عليه ، لأنّا لو فرضنا أن شخصا ادّعى النبوّة وقال إنّ الله تعالى يصدّقني بأن يجري على يدي شيئا لا يقدر أحد من النّاس عليه وكان ذلك مقارنا لدعوته ، وتكرر ذلك منه عقيب تكرر دعوته ، فلا شك في أن كلّ عاقل يقطع بصدقه ، فلو لم يفعله لأجل التصديق به لكان الله تعالى بذلك مغريا بالجهل وهو قبيح على الله يستحيل نسبة صدوره إليه ، ويكون مدّعي النبوّة حينذاك كاذبا بقوله إن الله تعالى خلق المعجزة على يدي لأجل تصديقي.

فإذا كان لا يجوز أن يفعل لغرض كما يزعم الخصوم فكيف يجوز للنبيّ أن يدّعي هذه الدعوى الموجبة لتكذيبه.

٣٠٢

أما الأمر الثاني وهو : أن كلّ من حكم الله بصدقه كان صادقا فممنوع عند خصومنا ، لأنهم يقولون إن الله تعالى خالق كلّ أنواع الضّلال والشرور والمعاصي الصّادرة من الإنسان لدى العيان ، وإن إرادته عامّة لجميع ذلك فلا يمتنع عليه تصديق الكاذب لأنه لا واجب عليه ، كما سنذكره عند تقرير كلام الآلوسي الّذي تلقى تلك المزاعم ممن تقدم عليه بالقبول تقليدا وبلا تفكير في مغبتها ولا تثبت في عاقبتها ، وكان عليه في الأقل أن يطلق عقله من عقال التقليد وفكره من قيد التبعية ، وينظر بعين بصيرة إلى أدلة الطائفة الحقّة والفرقة المحقّة التابعة للوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينبلج له عمود الصبح عن محضه ويتجلّى له الحقّ بعينه ، فإنه لا يصح لمن له عقل أو شيء من الدين أن يرضى لنفسه عقيدة توجب إبطال النبوّة مطلقا ، وتحكم عليه بالمساواة بين النبيّين عليهم‌السلام وبين الكذابين أمثال مسيلمة وسجاح والعنسي.

الثالث : لو كان الله تعالى لا يفعل لغرض لزم تكذيب القرآن العزيز ، وقد مرّت عليك عدّة آيات منه صريحة في أن أفعاله لا تكون إلاّ لغرض ومصلحة ، وأنها تتعالى عن اللّغو والعبث.

الرابع : إنه إذا لم يكن يفعل لغرض لجاز عليه تعالى أن يعذّب أعظم المرسلين كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأشدّ ألوان العذاب ، ويمنح أعظم العاصين كإبليس اللّعين بأكبر الثّواب ، لأنه إذا كان لا يفعل لكون الفعل حسنا ولا يترك لكونه قبيحا ، بل كان عابثا لاعبا لا لغرض إطلاقا ـ على زعمهم ـ لم يبق فرق بين سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبليس في الثواب والعقاب ، لأنه لا يثيب المطيع لطاعته ولا يعاقب العاصي لعصيانه ، وهذان الوصفان طبعا إذا تجردا عند الإعتبار في الانتقام والإثابة لم يكن لأحدهما أولوية الثواب ولا العقاب دون الآخر.

فبالله عليك أيّها العاقل المستعمل عقله ، والمسلم المفكر المتحلل من قيود التعصب ، والمتحرر من التقليد الأصم هل يسمح لك عقلك وفكرك ويطاوعك ضميرك ووجدانك أن تعتقد بهذه العقيدة وتعزوها إلى خالقك ، وأنت ترى بأمّ عينك لو أن عاقلا نسب الإساءة إلى من أحسن إليه وعزا الإحسان إلى من أساء

٣٠٣

إليه ، لثار وفار وباء بغضب منه ، فكيف يجوز أن ينسب إلى ربّه ما لا يرضى به أقلّ النّاس قدرا ولا يبوء بغضب من الله وعقابه.

الإنسان هو الفاعل لأفعاله وليست من خلق الله تعالى

قال الآلوسي ص : (٦٤) : « جميع ما يصدر من الإنسان أو الجنّة أو الشياطين أو غيرهم من المخلوقين ، من خير وشرّ وكفر وإيمان وطاعة ومعصية وحسن وقبح من خلق الله بإيجاده ، وليس للعبد قدرة على خلقه ، نعم له كسبه والعمل به ، وبهذا الكسب والعمل سيجزى إن شرّا فشر وإن خيرا فخير ، فهذا هو مذهب أهل السنّة ، وقالت الإمامية إن العبد يخلق أفعاله ولا دخل لله في أفعالهم الإرادية ، وهذه العقيدة مخالفة للكتاب والعترة ، أما الكتاب فقوله تعالى : ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) [ الصافات : ٩٦ ] وقوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) [ غافر : ٦٢ ] وأما العترة ، فقد روى الإمامية بأجمعهم عن الأئمة : أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ».

المؤلف : أولا : إن الضرورة العقلية قاضية بالفرق بين الحركتين الاختيارية والاضطرارية ، فإن العقلاء جميعا يفرّقون بينهما وينسبون الأول إلى الإرادة ، ويقولون في الثاني إنها خارجة عنها غير داخلة فيها ، ويقولون إن الأولى مقدورة كتحريك يده أو عضو من أعضائه اختيارا ، والثانية غير مستطاعة ولا مقدورة كحركة المرتعش ، والواقع من أعلى المنارة وغير ذلك من الموارد التي يفرّق بينهما أهل العقول ، وهذا من الأمور المشاهدة بالعيون الّذي لا يشكّ فيه اثنان منهم.

ثانيا : إنه من القبيح على الله تعالى أن يكلّف العبد بفعل الطاعة واجتناب المعصية ، وهو لا يقدر على مخالفة القديم ، وذلك لأنه إذا كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى ـ كما يزعم الخصوم ـ لم يقدر العبد على الطاعة ، لأن الله تعالى إن خلق فيه فعل الطاعة كان لازم الحصول دائما وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول أبدا ، فلو لم يكن العبد قادرا على الفعل والترك كانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات التي يحرّكها الإنسان كيفما شاء ، والضرورة العقلية

٣٠٤

قاضية بامتناع أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمه وإثابته وتعذيبه ، فعلى زعم الخصوم يجب أن يكون الأمر كذلك في فعل العبد ، لأنه تعالى يريد منه فعل المعصية ويخلقها فيه ، فكيف وهو العاجز الضعيف يستطيع أن يمانع الجبّار القوي ، ألا ترى أن المنشار الّذي بيد النجّار لا يستطيع أن يمانعه في تحريكه يمنة ويسرة فكذلك يكون الإنسان من هذا القبيل لو صح ما زعمه الخصم.

على أنه إذا طلب الله من العبد أن يفعل فعلا وهو لا يمكن صدوره منه وإنما هو صادر من الله ، كان الله تعالى ـ على زعمه ـ من العابثين اللاّعبين وكان من المكلّفين بغير المقدور القبيح الّذي يستحيل أن يفعله.

ما زعمه الآلوسي أن للعبد كسبه وعمله باطل

وأما قول الآلوسي : « إن للعبد كسبه وعمله ».

فيقال فيه : كان اللاّزم على الآلوسي أن يفكر في جملته هذه قبل أن يوردها مقلّدا للآخرين فيها ، ليعلم ثمة أن خصوم الشيعة إنما التجئوا إلى هذه الكلمة ليدفعوا بها عن أنفسهم ما يترتب على مزعمتهم من إنكار البديهيات الأولية كالواحد نصف الإثنين ، إلاّ أنهم ألقوها وهم على غير بيّنة من أمرها ولا بصيرة من معناها ، وذلك لأن أصل القدرة والإرادة وإن كانتا مخلوقتين في العبد لكن الفعل إنما يتحقق بالإرادة الجازمة الجامعة للشروط والفاقدة للموانع وهي بالطبع اختيارية.

ولنضرب لك مثلا تستطيع من ورائه أن تقطع بصحة ما قلناه وفساد ما زعموه ، وذلك فيما إذا علم أحدنا أن في هذا الفعل نفعا فلا شك في تعلّق إرادته على إختياره ، ولكن مجرد تعلق إرادته به وحدها لا تكفي في حصول مراده ما لم تكن جازمة محركة لعضلاته نحوه ، فلا بدّ حينئذ من انتفاء ردع النفس عنه حتى تكون إرادته جزمية موجبة تامة لفعله ، فإنّا بالوجدان قد نريد شيئا ومع ذلك نأباه ، وهذا أمر طبيعي ثابت لكلّ إنسان له عقل ، وليس من شك في أن ذلك الكفّ والمنع أمر اختياري يستند وجوده على تقدير تحققه إلى وجود الداعي المحرّك إليه ، إذ أن عدم علّة الوجود علّة العدم.

٣٠٥

فالإرادة الجازمة اختيارية لاستنادها إلى عدم الكفّ المعتبر فيها إلى الإختيار وإن لم تكن نفسها اختيارية ، ولا يلزم التسلسل المحال بدعوى توقف عدم الكفّ على عدم كفّ آخر لأنها مدفوعة بأنه من التسلسل في الأعدام وهو لا محال فيه إطلاقا ، وبعبارة أوضح أنهم إن أرادوا بالكسب الّذي أضافوه إلى العبد أن وقوع الفعل بإيجاد المكلّف وبفعله بطل قولهم : إن جميع ما يصدر من الإنسان من خلق الله وبإيجاده ، وإن أرادوا أنه ليس بإيجاد المكلّف ولا هو من فعله لزمهم أن يقولوا بجواز التكليف بغير المقدور وهو محال باطل ، وأيّا قالوا فهو دليل على بطلان القول بالكسب.

ثم كان على الآلوسي أن يوضح لنا معنى قوله : ( للعبد كسبه والعمل به ) ومعنى قوله : ( ليس للعبد قدرة على خلقه ) وعلى ما ذا يعود الضمير في قوله :

( العمل به ) وفي : ( خلقه ) فإن كان يعود إلى الكسب فلا معنى لقوله : ( والعمل به إلاّ إرادة تحصيل الحاصل ) وهو باطل ، لأن كسب العبد عمله ولا شيء غيره (١).

وإن كان يريد إعادته إلى فعل العبد فلا معنى له أيضا ، لأن فعل العبد وكسبه وعمله كلّها نظائر وهو قادر عليه فلا معنى لقوله : ( ليس للعبد قدرة على خلقه ) إلاّ إرادة تحصيل الحاصل الباطل أيضا ، ثم إنّا لا نرى في مظانّ اللّغة فرقا بين قولنا للعبد كسبه وعمله وقولنا للعبد فعله وخلقه ، وذلك لأنه إذا كان قادرا على كسبه كان قادرا على فعله وعمله وخلقه ، فإن المعنى في الجميع واحد وحكمه واحد فلا يصح سلب القدرة عنه في واحد دون الآخر بعد أن كان معنى الجميع واحدا ، ومن حيث أن الآلوسي لم يأت على توضيح مزعمته علمنا أنه ألقاها وهو لا يفهم معناها فهو فيها أشبه بقول القائل :

كأنّنا والماء من حولنا

قوم جلوس حولهم ماء

__________________

(١) والدليل على ذلك قوله تعالى : ( لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) [ البقرة : ٢٨٦ ] أي لها ثواب ما عملت من الطاعات وعقاب ما عملت من المعاصي ، وعليه يكون معنى قوله : ( وللعبد كسبه والعمل به ) هكذا وللعبد كسبه والكسب به وهو لا ينطق به عربي ، وكذا الحال في قوله : ( ليس للعبد قدرة على خلقه ) لأن خلق العبد هو فعله لا سواه ، وهو ما يتعلق بإيجاد الشيء وهكذا فعله وكسبه وهذا لا غبار عليه.

٣٠٦

فإن المعنى في البيتين واحد.

أما كلمة ( الخلق ) فلا دليل على حرمة إطلاقها على ما يصدر من العبد ، وحينئذ فلا فرق بين أن نقول خلق الخمر أو عملها وبين أن نقول فعل الخمر أو صنعها ، لأن المدلول عليه في الجميع واحد مفهوما ومصداقا للترادف بينها.

ومن هنا يتضح جليا بأن الآلوسي لما رأى المتقدمين عليه من خصوم الشيعة يقولون إن العبد مكلّف بالكسب فرارا من الممتنعات العقلية التي وقعوا فيها ـ كما ألمعنا ـ سجل تلك الكلمة في كتابه ظنا منه بأن لها معنى محصلا مقصودا ، فهو لا يدري ولا هم يدرون ما معناها ولا يعرفون مغزاها ، ولكن الناس كلّهم يعلمون أنها لا ترجع إلى معنى محصل مفهوم إلا إذا كان المقصود فعله ، ومعه يبطل قوله.

ثالثا : لو كان الخالق لأفعالنا هو الله ولسنا فاعلين شيئا لزمهم أن ينكروا بداهة العقل ، وذلك فإن العقل حاكم بالضرورة بأن مدح المحسن حسن وذمه قبيح ، وذمّ المسيء حسن ومدحه قبيح ، وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان من أهل العقل ، لذا ترى العقلاء يحكمون جازمين بحسن من يفعل الطاعات دائما ولا يفعل شيئا من المعاصي ، لا سيّما إذا أكثر في إحسانه إلى النّاس وبذل الخير لكلّ أحد وساعد الضعفاء في أمور معاشهم وما يتصل بمعادهم ، وقضى حوائجهم وسدّ حاجاتهم ، كما أنهم يحكمون جميعا بقبح ذم من كان سلوكه في فعل الطاعة وعمل الخير ، ولا يشكّون في نذالة الذام له وسفالته ويبالغون في ذمه وإهانته وتحقيره ، ويزداد حكمهم بقبحه إذا كان ذمه لأجل إحسانه وفعله الطّاعة وعمل الخير ، ولو انعكس الأمر لانعكس حكمهم.

لذلك تراهم يحكمون حكما قطعيا بقبح المدح لمن يفعل الظلم والجور والغصب والعدوان ، لا سيّما على من بالغ في ظلمه وعدوانه ، ويحكمون طبعا بسفاهة المادحين له على ظلمه واعتدائه ، ويكونون مذمومين مدحورين عندهم ، كما أنهم يحكمون بالضرورة بقبح من ذمّ إنسانا لأجل كونه طويلا أو قصيرا ، أو لأن السّماء فوقه والأرض تحته ، ولا مماراة في أنه إنما يحسن هذا المدح والذم

٣٠٧

لو كان الفعلان صادرين من الإنسان نفسه ، فإنه لو لم يصدر عنه لم يحسن مدحه وذمه ، وهذا لعمر الله من المرتكزات الفطرية والأمور الجبلّيّة التي لا يشك فيها من يميّز بين يمينه وشماله ، وأنت ترى الآلوسي يمنع هذا الحكم العقلي البديهي ، فهو يمنع حسن مدح الله على نعمه ، ويمنع حمده على آلائه الظاهرة والباطنة على عباده ويمنع شكره والثناء عليه ، ويرى من القبيح ذم إبليس ولعنه ولعن من كان مثله من المنافقين والكافرين ، فكيف يا ترى تنخدع أيها العاقل اللّبيب بهذه المزاعم التي تأباها الفطرة السليمة وينبذها التوحيد الخالص.

ثم نقول للآلوسي : إن وجود الإختيار والقدرة في الفاعل الّذي هو العبد وكسبه ومباشرته للأفعال إن كانت داخلة في إيجاده الفعل تم مطلوبنا من استناد الفعل إليه لا إلى الله تعالى ، وإن لم تكن داخلة فيه لزم الجبر الباطل مطلقا ، وذلك لأنه إذا لم يكن لقدرة العبد في إيجاد الفعل دخل لم يبق فرق بين إيجاده وعدمه ، فيكون تعذيبه حينئذ من تعذيب العبد على فعل لم يكن منه وهو قبيح عقلا وشرعا ، وفي القرآن يقول الله تعالى : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) [ الأنعام : ١٦٤ ].

رابعاً : لو لم تكن الأفعال صادرة عنّا ـ كما يزعم الخصوم ـ لزمهم أن يقولوا بجواز ما لا يجوز بالضرورة ، وذلك لأن فعلنا إنما يقع على الوجه الّذي نريده ونقصده ولا يقع على الوجه الّذي نكرهه ، وكلّنا يعلم أننا إذا أردنا الحركة إلى اليمين لم يقع منّا إلى اليسار وبالعكس لو أردنا الحركة إلى اليسار لم يقع منّا إلى اليمين ، وهذا أمر طبيعي يشعر به كلّ إنسان ، فلو كانت أفعالنا مخلوقة لله تعالى وصادرة منه تعالى وليست صادرة منّا لجاز أن تقع على عكس ما نريده ، فيجوز أن تقع الحركة إلى اليمين ونحن نريد الحركة إلى اليسار ، وأن تقع إلى اليسار ونحن نريد اليمين ، وهذا معلوم بالضرورة بطلانه.

فقدرتنا على أفعالنا إن لم تكن مؤثرة في إيجادها فليست من القدرة لنا في شيء ولا هي منّا على شيء.

خامسا : لو كان الخالق لأفعالنا هو الله تعالى دوننا ـ كما يزعمون ـ لزمهم أن يقولوا بأن الله الرءوف الرحيم أظلم الظّالمين ـ تعالى عن ذلك ـ وذلك فإنه

٣٠٨

تعالى إذا خلق فعل المعصية فينا ولم يكن لنا فيها أثر إطلاقا ثم عذبنا على فعله تعالى تلك المعصية التي خلقها فينا وعاقبنا على صدورها منه لا منّا ـ كما يزعم خصمنا ـ كان ذلك بأقصى مراتب الظلم ـ تعالى الله عمّا يصفون ـ فكيف يا ترى يرضى من له عقل أو شيء من الإيمان أن يقول في الله تعالى أنه أظلم الظالمين ، ويكذب الله فيما وصف به نفسه المقدّسة بأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، فهل يا ترى هناك راحما سواه أو كريما غيره ، أو يا هل ترى من الرحمة واللّطف والعفو والكرم أو يعذبنا على فعل صدر عنه ومعصية لم تصدر عنّا بل منه لا حيلة لنا في دفعها كما يزعم خصومنا.

سادسا : لو كانت أفعالنا صادرة عن الله تعالى لا من أنفسنا ـ كما يزعمون ـ لزمهم أن يقولوا بكذب القرآن ، وذلك لأن صراحة آياته قاضية باستناد أفعالنا إلينا وصدورها عنّا لا عن خالقنا تعالى عن ذلك.

صريح القرآن حاكم بأن أفعال العبد صادرة عنه لا عن الله تعالى

أما الآيات الصريحة في أننا فاعلون لأفعالنا وأنها صادرة عنّا لا عن الله تعالى ـ كما يزعم الآلوسي ـ فكثيرة ، وإليك قسم منها ، فمن ذلك قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) [ البقرة : ٧٩ ] وقوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَ ) [ الأنعام : ١١٦ ] وقوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) [ مريم : ٣٧ ] وقوله تعالى : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) [ يوسف : ١٨ ] وقوله تعالى : ( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) [ الطور : ٢١ ] وقوله تعالى : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) [ النساء : ١٢٣ ] وقوله تعالى : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) [ المائدة : ٣٠ ].

وقوله تعالى حكاية عن إبليس : ( ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) [ إبراهيم : ٢٢ ] وقوله تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) [ الزلزلة : ٧ ] ونحوها من الآيات الكريمة التي هي نصوص صريحة تدل على أننا فاعلون أفعالنا دون الله.

وأما التأويل بالرأي في نصوص الآيات المحكمة فهو من تحريف الكلم عن مواضعه والإضلال بكلامه على غير ما أنزل الله ، والقول على الله بغير علم ولا

٣٠٩

هدى ولا كتاب منير ، وقديما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ).

وهناك طائفة أخرى من الآيات نزلت في مدح المؤمنين على إيمانهم ووعدهم بأثواب على إطاعتهم وذم الكافرين على كفرهم ، والوعيد لهم بالعقاب على معصيتهم ، فكيف يمكن أن يجتمع هذا مع ما يزعمه الآلوسي أن أفعالنا كلّها مخلوقة لله وصادرة عنه ، لأنه لو كان كذلك لم يصح شيء من المدح ولا الذم ـ كما تقدم ذكره ـ لأنا لم نفعل شيئا نستحق عليه المدح أو الذم بعد أن كان الفاعل له غيرنا كما يدّعي الخصم.

ما نزل في القرآن في مدح المؤمنين وذمّ العاصين

فمن تلك الآيات قوله تعالى : ( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ) [ الرحمن : ٦٠ ] وقوله تعالى : ( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ النمل : ٩٠ ] وقوله تعالى : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) [ الأنعام : ١٦٠ ] وقوله تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) [ طه : ١٢٤ ] وقوله تعالى : ( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا ) [ البقرة : ٨٦ ] وقوله تعالى : ( قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ) [ آل عمران : ٨٦ ] وقوله تعالى : ( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) [ غافر : ١٧ ].

وقوله تعالى : ( وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ يس : ٥٤ ] وقوله تعالى : ( لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) [ طه : ١٥ ] وقوله تعالى : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) [ الأنعام : ١٦٤ ] وقوله تعالى : ( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) [ النجم : ٣٧ ] وقوله تعالى : ( هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) [ المطففين : ٣٦ ] وهذه الآية صريحة الدلالة ونصّ لا يقبل التأويل في نسبة الفعل إلى الكفار لا إلى الله تعالى كما يقول الإمامية.

إلى غير ما هنالك من الآيات الدالّة بصراحة على أننا فاعلون لأفعالنا لا سوانا ، فلو لم يكن ذلك باختيارنا لما حسن مدحنا ولا ذمّنا إطلاقا ، وإنّما يحسن لو كنّا فاعلين.

٣١٠

وجملة القول : إن مدح المؤمنين على إيمانهم لا يصح إلاّ إذا كانوا مؤمنين باختيارهم ، فلو لم يكونوا مختارين في إيمانهم فلا موضوع حينئذ لمدحهم على أساس إيمانهم لانتفائه بانتفاء إيمانهم ، وكذا الحال في الكافرين فإنه إنما يحسن ذمّهم وعذابهم إذا كانوا كافرين باختيارهم ، فلو لم يكونوا كافرين بسوء اختيارهم لم يبق محلّ لعقابهم لأجل كونهم كافرين ، لأن الكفر لم يكن من فعلهم بل كان من خلق الله وفعله ـ كما يزعمون ـ والقرآن يبطله بقوله : ( ما كانُوا يَفْعَلُونَ ).

آيات تنزيه الله من كون فعله مثل أفعال عباده

وهناك طائفة أخرى من الآيات تدلّ بصراحة على أن أفعال الله تعالى منزّهة من أن تكون كأفعالنا وما فيها من التفاوت والظلم والاختلاف.

فمن ذلك قوله تعالى : ( ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) [ الملك : ٣ ] وقوله تعالى : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) [ السّجدة : ٧ ] والكفر وغيره من أقذار الجرائم والمعاصي ليست حسنة فليست من خلقه ولا من فعله.

وقوله تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) [ الحجر : ٨٥ ] والشرك والظلم وغيرهما من الشرور ليست حقا فليست من خلقه ولا من فعله.

وقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) [ النساء : ٤٠ ] وقوله تعالى : ( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) [ فصلت : ٤٦ ] وقوله تعالى : ( وَما ظَلَمْناهُمْ ) [ هود : ١٠١ ] وقوله تعالى : ( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) [ النساء : ٥٩ ] وقوله تعالى : ( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ ) [ يس : ٥٤ ].

فهذه الآيات واضحة الدلالة في أن الظلم ليس من خلقه ولا من فعله وإنما هو من فعل العبيد وظلم بعضهم بعضا ، كما يقول الله تعالى : ( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) [ هود : ١٠١ ] ويقول تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [ يونس : ٤٤ ] فكيف يصح لمن يؤمن بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه أن ينسب خلق الظلم وفعله إلى الله تعالى وهو يرى هذه

٣١١

الآيات بأم عينه نسبت ذلك كلّه إلى العباد ونفته أشدّ النّفي عن الله تعالى إن امرؤ يعتام غير ما أنزل الله في القرآن لهو في ضلال مبين.

آيات ذم الكافرين

وهناك آيات أخرى تدل على ذمّ النّاس على كفرهم ، فمن ذلك قوله تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ) [ البقرة : ٢٨ ] وقوله تعالى : ( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) [ إبراهيم : ٧ ].

ولا شك في أن تهديده تعالى لنا بالعذاب الشّديد على الكفر مع عجزنا عنه لأنه تعالى هو خالقه وفاعله دوننا ـ كما يزعم الخصوم ـ محال عند العقول ، فالآلوسي يقول : إن الله تعالى خلق الكفر وأراده منّا وإن كنّا غير قادرين على غيره ومع ذلك يعذبنا عليه بأشدّ العذاب ولا يكون ذلك من الظلم في شيء ، وليته دلّنا على معنى الظلم الّذي نفاه الله عن نفسه ونسبه إلى خلقه في كثير من آياته لنرى هل هو كما نزل به القرآن أو يأخذ في معناه طريقا لا تعرفه لغة القرآن ، وإذا كان للظلم معنى آخر غير ما وضع بإزاء لفظه في اللّغة فلما ذا أهمل الآلوسي بيانه ولم يأت على ذكره في مقاله لنعرف ما هو؟ وهيهات أن يكون له معنى غير ما نفاه الله تعالى عن نفسه المقدسة وأثبته للآلوسي وغيره.

ثم إن الآية الثانية أثبتت العذاب الشّديد على الكفر ، فلو كان هو الخالق والفاعل له تعالى عن ذلك ـ كما يزعم ـ كان العذاب الشّديد عائدا عليه لا على الكافر به وهو واضح في فساده ، أللهم إلاّ إذا كان يصح عند الآلوسي أن يقول بما قاله الشاعر العربي :

ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له

إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

وهناك الكثير من آيات الكتاب نزلت في توبيخ العباد والإنكار عليهم وتهديدهم بالعقاب على ارتكاب القبائح وأسندت ذلك كلّه إليهم لا إليه تعالى عنه يضيق المقام عن تعداده.

٣١٢

ما نزل من الآيات في اختيار الأفعال

وأما الآيات النازلة في تعليق أفعالنا على اختيارنا وإناطة أعمالنا بمشيئتنا وإرادتنا فكثيرة ، فمن ذلك قوله تعالى : ( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) [ الكهف : ٢٩ ] وقوله تعالى : ( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [ فصلت : ٤٠ ] وقوله تعالى : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) [ التوبة : ١٠٥ ] وغيرها من الآيات الدالّة على أن أفعالنا وأعمالنا منوطة بإرادتنا ، وأننا مختارون فيها فإن شئنا فعلنا وإن شئنا تركنا كما نصّت عليه الآيتان ، وهذا لا يتفق مع ما يزعمه الخصوم من أنها مخلوقة لله والفاعل لها هو الله دوننا ، لأن ما يفعله تعالى ويخلفه منوط بمشيئته ، والآيتان صريحتان في إناطة أفعالنا وأعمالنا بمشيئتنا ، والفرق بينهما واضح يعرفه من يفهم.

الآيات التي تحثّ على الطاعة

وأما الآيات النازلة في أمر العباد بالمسارعة إلى فعل الطاعات فكثيرة أيضا ، فمن ذلك قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) [ آل عمران : ١٣٣ ] وقوله تعالى : ( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ ) [ الأحقاف : ٣١ ] وقوله تعالى :

( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ) [ الأنفال : ٢٤ ] وقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) [ الحج : ٧٧ ] وقوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ) [ الزمر : ٥٥ ].

إلى غير ما هنالك من الآيات التي تحثنا على المسارعة إلى فعل الطاعات ، وهي لا تجتمع مع زعم الآلوسي أن أفعالنا مخلوقة لله وأن الفاعل لها هو الله ، فلو صح ما زعمه خصومنا من استناد أفعالنا إليه تعالى عنها لا إلينا لكانت هذه الآيات كلّها باطلة وليس لها في الوجود صورة وبطلانها من أوضح الكفور.

استدلال الآلوسي بآية خلقكم وما تعملون

وأما الآيتان اللّتان أوردهما الآلوسي وخال أنهما دليلان على أن الخالق لأفعالنا هو الله دوننا ، فلا تدلان إلاّ على عكس ما يريد ، أما قوله تعالى :

٣١٣

( خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) [ الصافات : ٩٦ ] فإنه لم يأت على ذكر الآية بكاملها لأن في ذلك ما ينافي مبتغاه ، لذلك اقتصر على جملة : ( خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) ليوهم أن الآية تريد خلق أعمالنا كما تريد خلقنا ، ظنا منه بأن ذلك يخفى على الباحثين عن الحقيقة بإخلاص ، أو أنهم لا يهتدون إلى أنها لا تريد أفعالنا الاختيارية الصادرة عنا بالاختيار ، بدلالة ما قبل هذه الجملة التي لها الصلة الأكيدة بها ، وهي قوله تعالى : ( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) [ الصافات : ٩٥ ـ ٩٦ ] فهي تعني أن الله تعالى هو الخالق للأحجار والأخشاب التي نحتوها وعملوا لهم منها أصناما يعبدونها من دون الله ، وأين هذا من دلالة الآية على إرادة أعمالنا ، ألا تراه نسب نحتها إلى عابديها لا إليه تعالى ، ولو كانت تريد خلق أعمالهم لكان المناسب أن يقول : ( أتعبدون ما نحته الله لكم ) ولما لم يقل هذا علمنا بطلان ما زعمه الخصوم.

ويقرر هذا ويعززه كلمة ( ما ) الموصولة لغير العاقل في الجملتين ، وعطف الثانية على الأولى فإنه يفيد إرادة ما كانوا يعملون منه أصنامهم كما ألمعنا ، والشيعة لا تخالف خصومهم فيما خلقه تعالى من حجر ومدر أو حيوان وشجر.

ولكن هذا كما تراه خارج موضوعا عن أفعالنا المستندة إلينا بالاختيار كالظلم والفساد والمعاصي والشرور ، ثم أن إنكاره تعالى عليهم وتوبيخه لهم في الفقرة الأولى من الآية على عبادة ما ينحتون من الأصنام ، وقوله تعالى بعد ذلك : ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) يفيد إرادة تنبيههم وإرشادهم إلى أن الّذي يستحق العبادة هو من خلقهم وخلق تلك الحجارة دونها ، فإنها لا تغنى من جوع ولا تؤمن من خوف ولا تستحق شيئا من ذلك إطلاقا ، فالآية لا تفيد مطلقا ما يبتغيه الآلوسي للفرق الواضح بين ما يخلقه الله تعالى من الموجودات الّذي هو مفاد الآية وبين ما يفعله الناس الّذي هو بعيد جدا عن مفادها ، لذا ترى لا يصح أن يقال فيمن عمل خمرا من التمر أو العنب إنّ الله خلق الخمر لأنه خلق الكرم والتمر ، فالآية من هذا القبيل لا يصح أن يقال إن الله عمل الأصنام التي عبدوها ونحتها لهم لأنه خلق أحجارها ، فإن هذا لا يقول به من كان على شيء من العقل أو الدين.

٣١٤

استدلال الآلوسي بآية خالق كل شيء على إرادة أفعال العباد

وأما استدلال بقوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) [ الرعد : ١٦ ] فقد ألمعنا فيما تقدم أنه مخصص بدليل العقل والنقل بما عدا ذاته المقدسة وأفعال عباده ، أما النقل فقوله تعالى : ( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) [ النمل : ١٨ ] ومن حيث أن الكفر والنفاق والفسوق والفجور وجميع المعاصي ليست متقنة علمنا بالضرورة أنها ليست من صنعه.

وقوله تعالى : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) [ السجدة : ٧ ] ولمّا لم تكن المعاصي ولا عبادة الأصنام ولا عملها بحسن علمنا أنها ليست من خلقه ، وقوله تعالى : ( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) [ المؤمنون : ١٤ ] ولمّا كان الشرك والكفر ونحوهما من المعاصي ليست حسنة إطلاقا علمنا أنها ليست من خلقه في شيء.

ومن جميع ما أدليناه يستشرف القطع بفساد ما أدلى به الآلوسي في كتابه من الأباطيل والأضاليل ، وأن العقل والنقل متفقان على بطلانه.

لا قرب بين الله وعبده في المكان

قال الآلوسي ص : (٦٨) : « إن العبد ليس له اتصال مكاني ولا قرب جسماني بالله تعالى ، وقال أكثر فرق الإمامية بالقرب المكاني ويحملون المعراج على الملاقاة ، ... إلى نهاية مقولته ».

المؤلف : ليس في الإمامية من يقول بالقرب المكاني ولا بالجسماني مطلقا ، وإنّما القائلون به هم خصوم الشيعة وأعداؤها ، فإنهم أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة والصعود والنزول ، وأنه جالس على العرش جلوسك على الأرض ، وقد نصّ على نزوله إلى سماء الدنيا في كلّ ليلة جمعة بل في كلّ ليلة ، ذكر ذلك ابن تيمية في كتابه شرح حديث النزول.

وقال بعضهم : إن معبودهم صورة ذات أعضاء وأبعاض ، وأن المخلصين منهم يعاينونه في الدنيا والآخرة ، كما نصّ عليه شيخ الحديث البخاري في

٣١٥

صحيحه كما تقدم ، وسيمرّ عليك صريح قول الآلوسي في بابه ، وأنهم يزورونه في عرشه ، وأنه بكى على طوفان نوح عليه‌السلام حتى رمدت عيناه فعادته الملائكة ، وأن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد ، وأنه أجوف من أعلاه إلى صدره ومصمد ما سوى ذلك ، وأنّ له وفرة سوداء وشعرا قططا ، فراجع ص : (١١٩) و (١٣٩) في الأشاعرة من كتاب الملل والنحل بهامش الجزء الأول من الفصل لابن حزم الظاهري الأندلسي لتعلم ثمة أن هذه الضلالات والكفور كلّها من عقائد خصماء الشيعة وأعدائها.

ويشهد لجميع ذلك ما تقدمت حكايته عن صحيح البخاري من مجيء الله تعالى يوم القيامة بصورة لا يعرفه بها أهل المحشر ، ثم يأتيهم بصورته التي يعرفونه بساقه حيث يكشف لهم عنها ، وأنّ النّار لن تمتلئ حتى يضع رجله فيها ، وأنه خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعا ، وأنّه يضحك كما يضحك أحدنا بملئ شدقيه ، تعالى الله من أن يكون له رجل أو صورة أو جوارح أو ساق أو يجري عليه ما يجري على المخلوقين : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ) [ الكهف : ٥ ].

فبالله عليك أيها المسلم العاقل ويا أيها المسلمة العاقلة هل ترضيان باعتناق هذه السّخافات والخرافات الملتقطة من التوراة المحرّفة التي جاء بها مقاتل بن سليمان ، وأبو هريرة ، وكعب الأحبار ابن اليهودية الّذين كانوا يأخذون علم القرآن من التوراة ويدخلونه على الإسلام ليشوهوا سمعته ويزهّدوا الناس في اعتناقه ، وهل يا ترى تقبلان بمذهب هذه عقائد وأصول أركانه ، حاشا كما إن كنتما من العقلاء أن تأخذا به وأنتما تريان بأم العين ما فيه من الضلال والكفور.

رؤية الله مستحيلة عقلا ونقلا

قال الآلوسي ص : (٦٩) : ( إن رؤية الله ممكنة عقلا ، وهذا مذهب أهل السنّة وتمسّكوا على هذا المطلب بالنقل والعقل ، أمّا النقل فقوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) ووجه الاستدلال أمران :

٣١٦

الأول : أن سؤال موسى عليه‌السلام الرؤية يدلّ على إمكانها لأن العاقل فضلا عن النبيّ عليه‌السلام لا يطلب المحال ولو بتكليف الغير ولا مجال للقول بجهل موسى بالاستحالة ، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله لا يصلح للنبوّة ، إذ الغرض من النبوّة هداية الخلق إلى العقائد الحقّة ، وأيضا لا يصح أن يقال إنما سأل موسى الرؤية لتكليف القوم حيث قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وقالوا أرنا الله جهرة ، إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب عليه أن يبيّن جهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم لمّا قالوا : ( اجْعَلْ لَنا إِلهاً ) وأيضا لو كان سألها لتكليفهم لقال ربّ أرهم ينظروا إليك.

والثاني : أنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ، لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلّق عند وقوع المعلّق عليه والمحال لا يثبت على شيء ، وأيضا ما صح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( سترون ربّكم عيانا يوم القيامة كما ترون هذا القمر ) ومما يدل على الرؤية قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) [ القيامة : ٢٣ ـ ٢٤ ] والنظر المتعدي بإلى بمعنى الرؤية.

أما العقل : فإنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرهما والجواهر والطول والعرض في الجسم فلا بد لها من علّة مشتركة بينها ليكون المتعلّق الأول للرؤية ، وذلك الأمر إما الوجود أو الحدوث أو الإمكان والأخيران عدميان لا يصلحان لتعلّق الرؤية بهما فلم يبق إلاّ الوجود وهو مشترك بين الواجب والممكنات فيجوز رؤيته عقلا ، والمراد بالوجود مفهوم مطلق الوجود الحقيقي وما به الموجودية.

وبالجملة أن المعتمد في مسألة الرؤية إجماع الأمة ، وقد أنكر الرؤية جميع فرق الشيعة إلاّ المجسّمة منهم ، وقالوا : يستحيل رؤية الله ، وعقيدتهم هذه مخالفة للكتاب لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) وقوله تعالى في حق الكافرين : ( إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) [ المطففين : ١٥ ] فعلم أن المؤمنين لا يكون لهم حجاب عن ربهم.

٣١٧

الثاني : أن متمسك هؤلاء ليس إلاّ الاستبعاد وقياس الغائب على الشاهد واشتباه العاديات بالبديهيات ، في آية لا تدركه الأبصار نفي الإدراك الّذي بمعنى الإحاطة لا نفي الرؤية ولا يستلزم نفيه نفيها ، لأن الإدراك والرؤية متباينان في الحقيقة ، والإدراك في اللّغة : الإحاطة بدليل قوله تعالى : ( حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ).

« وأما العترة فقد روى ابن بابويه .. إلخ ».

الرائي لا يرى إلاّ بالحاسة

المؤلف : أولا : « قوله إن رؤية الله ممكنة ، وأن الكاذبين سيرون عذابه في أسفل درك من الجحيم ».

فيقال فيه : أجمع العقلاء كافة على أن الرائي لا يرى إلاّ بالحاسة ، والرائي بالحاسة بالضرورة لا يرى إلاّ ما كان مقابلا كالجسم ، أو حالاّ في المقابل كاللّون ، أو في حكم المقابل كالوجه في المرآة ، ومن حيث أن الله تعالى لم يكن جسما ولا حالاّ في المقابل ولا في حكم المقابل علمنا استحالة رؤيته مطلقا ، وخالف هذا الخصم محتجا ببعض الخرافات المقتبسة من التوراة المحرّفة التي تلقاها أعداء الإسلام بالقبول فنسبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إفكا وزورا ، ومن الطبيعي إذا كانت مقدمات الدليل هي الخرافات والأباطيل التي كان يدلى بها عقول هؤلاء فلا تكون النتيجة إلاّ خرافات وأباطيل.

فساد إمكان رؤية الله

وإذا ما كشفنا لك عنها فإنك تعرف أنها مزاعم لم يرجعوا فيها إلى منطق العقل وإنما تلقوها من الآخرين بلا تفكير ولا تمحيص.

ثانيا : قوله : « إن سؤال موسى الرؤية يدل على إمكانها ».

فيقال فيه : إن مجرد السؤال لا يدل على إمكان المسئول عنه ، وذلك فإن قوله تعالى : ( لَنْ تَرانِي ) [ الأعراف : ١٤٣ ] أوضح دليل على امتناع رؤيته إطلاقا ، وتلك قضية : ( لن ) التي تفيد نفي التأبيد عند أهل اللّغة ، وهذه القرينة في الآية من

٣١٨

أظهر الشواهد على نفي رؤيته في المستقبل مطلقا ، فلا بدّ للآلوسي من أن يدلي بدليل على إمكان جوازها أو وقوعها في المستقبل بحيث يصلح أن يكون مخصّصا لعموم النفي في الآية ، وأنّى له بذلك فإن دون إثباته خرط القتاد (١).

ثالثا : قوله : « فإن العاقل فضلا عن النبيّ لا يطلب المحال ».

فيقال فيه : أيّها القارئ إنّ في علم المعاني والبيان بابا يقال له باب تجاهل العارف ، وهو تنزيل العالم بالشيء نفسه منزلة غير العالم ، وتتمثل العربية : ( وكم سائل عن أمره وهو عالم ) وهو من محاسن الكلام العربي المبين ، وقد نزل به القرآن في كثير من آياته ، واستعمله العرب العاربة مما يضيق المقام عن تعديده.

فسؤال موسى عليه‌السلام كان من هذا القبيل ، ومن قبيل قوله تعالى فيما اقتصّه من قول سليمان عليه‌السلام : ( ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ) [ النمل : ٢٠ ] وقوله تعالى : ( ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ) [ طه : ١٧ ] فلم يكن سيمان عليه‌السلام جاهلا بغيبة الهدهد ولا الجليل جلّ وعلا كان جاهلا بما في يمين موسى عليه‌السلام فكذلك موسى عليه‌السلام لم يطلب المحال بسؤاله ، وإنما سأل متجاهلا مع عرفانه عدم إمكان المحال.

وهكذا الحال فيما حكاه الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه‌السلام بقوله : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) [ البقرة : ٢٦٠ ] فلا يصح أن يقال إن إبراهيم عليه‌السلام بسؤاله كان جاهلا بقدرة الله على إحياء الموتى ، أو أنه طلب المحال من تحصيل ما هو حاصل لديه من العلم بعظيم قدرته على مثل ذلك مطلقا.

ثم من المعلوم أن سؤال موسى عليه‌السلام مع عرفانه كان لأجل إصرار قومه عليه وطلبهم ذلك منه وتكليفهم له إيّاه ، فأراد بسؤاله أن يؤكد لهم تطبيقيا امتناعه وعمليا عدم إمكانه بقرينة قوله تعالى : ( لَنْ تَرانِي ) وأنه يمتنع رؤيته مطلقا ، وتلك قضية صيرورة الجبل ترابا وزواله أصلا.

__________________

(١) القتاد شجر له شوك.

٣١٩

إسقاط الآلوسي للآيتين

ثم إن الآلوسي لم يأت على ذكر قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) [ البقرة : ٥٥ ] ولم يذكر قوله تعالى : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) [ النساء : ١٥٣ ].

ولتكن أيها القارئ على يقين من أن الآلوسي إنما أسقط هاتين الآيتين من حسابه وأهمل ذكرهما في مورد الإحتجاج خشية أن ينكشف بذكرهما فساد ما جاء به ، وذلك لأن رؤيته تعالى لو كانت ممكنة ـ كما يزعم الخصم ـ لكان من المحال على الله تعالى أن يعذّب قوم موسى عليه‌السلام بإنزال الصّاعقة عليهم لأنهم طلبوا منه ما يمكن وقوعه ، بدليل قوله تعالى : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) [ النساء : ١٥٣ ] لأنّا نعلم بالضرورة من الدين أن الله لا يرضى بعذاب أمة علّقوا إيمانهم على أمر ممكن وجائز الوقوع وطلبوه منه واعترفوا بأنهم يؤمنون بعد وقوعه كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) [ البقرة : ٥٥ ] فلو كانت رؤيته ممكنة كما يزعم الخصوم لأخبرهم بإمكانها لا بإنزال الصّاعقة عليهم لا سيّما بعد ملاحظة قوله تعالى : ( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) [ الضحى : ١٠ ] وقوله تعالى حكاية عنهم : ( ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) [ الأعراف : ١٣٤ ـ ١٣٦ ] فإنهم علّقوا إيمانهم على كشف الرجز عنهم وهو أمر ممكن الوقوع ، لذا كان الانتقام منهم بعد كشفه عنهم وهذا بخلاف الآية ، فإن الصّاعقة نزلت عليهم بمجرد أنهم طلبوا رؤيته ، فلو كانت رؤيته ممكنة لأجابهم إلى طلبهم فإن نكثوا بعد ذلك كانوا مستحقّين لإنزال الصّاعقة عليهم ، كما كان الحال في كشف الرجز عنهم ومن حيث أنهم استحقوا العذاب لأنهم طلبوا الرؤية التي علّقوا عليها إيمانهم فلم يجبهم إليه ، وأجابهم إلى كشف الرجز الذي علّقوا إيمانهم عليه علمنا أن الأول وهو الرؤية ممتنعة وأن الثاني وهو

٣٢٠