الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

الثالثة : إنّه لو كان تعالى حيّا بحياة وقادرا بقدرة لزم التعدد والاثنينية ، وذلك لأنّ كلّ صفة من هذه الصّفات ليس هو وإنما هو غيره كما يزعم الخصوم ، فإن كانت تلك الصّفات التي هي غيرة تعالى مصداقا ومفهوما حوادث لزم قيام الحوادث بالواجب القديم وهو محال ، لأن ما يخلو من الحوادث حادث غير قديم وقد ثبت أنه تعالى قديم ، وقدم الحوادث محال باطل.

فالّذي عليه أهل الإسلام أن الله تعالى عالم بما هو قادر ، وقادر بما هو حيّ ، وعالم بما هو سميع ، وبصير بما هو قادر ، وعالم بما هو حيّ بلا مغايرة جهة ، ولا تخالف ولا تعدد في شيء تعالى الله ربّ العالمين.

الرابعة : لو كانت هذه المعاني قائمة بذاته وموصوفا بها كانت حقيقته تعالى مركّبة من ذاته ومن تلك المعاني القائمة بها ، وقد ثبت بالبداهة أن كلّ مركّب مفعول يحتاج إلى فاعل يركّبه فيكون الله تعالى عن ذلك ممكنا لا واجبا ، وقد ثبت بالضرورة وجوبه فثبت بطلان كونها قائمة بذاته وحالّة فيها.

ثانيا : قوله : ( وأنت خبير بأن عقيدتهم خلاف المعقول ).

فيقال فيه : بربّك قل لي أيها العاقل العارف بالله أيّة عقيدة خلاف المعقول الّذي يقول إن الله مثله كان جاهلا فاكتسب العلم من غيره ، وميّتا مثله فصار حيّا بغيره ، وعاجزا مثله فصار قادرا بقدرة غيره ، أو الذي يقول وهو خصم الآلوسي إنّ الله تعالى هو كلّ العلم والحياة والقدرة ، عليم بما هو قدير ، وقدير بما هو خبير ، معطي الحياة للموات ، وخالق الأرضين والسّموات وجميع الكائنات ، عالم بما هو حيّ ، وحيّ بما هو سميع إلى آخر صفاته التي يعتقد أنها عين ذاته وتمام كنهه بلا تغيير ولا تبديل ، سبحانه وتعالى عمّا يقول الجاهلون علوّا كبيرا.

ثم إذا كان الله تعالى يكتسب العلم والحياة والقدرة ونحوها من صفاته من غيره فليخبرنا الآلوسي عن الفرق بينه وبين الله تعالى عن ذلك ما هو وبما ذا يمكن تميّزه عن مخلوقاته؟ وإذا كانت تلك الصّفات ليست من غيره فما بقي إلاّ إنّها منه نفسه ، ويعني هذا أنه أعطى الحياة والقدرة والعلم وغيرها من الصّفات لنفسه وهو محال لا يمكن أن يكون إطلاقا ، لأن غير الحيّ والقادر والعالم ونحوها من

٢٨١

الصّفات لا يمكن أن يعطيها للآخرين على أساس القاعدة العقلية الضرورية : ( أن فاقد الشيء لا يعطي ما فقده ) ( والمعطي غير فاقد ).

ما قاله في المشتق باطل

ثالثا : قوله : « لأن إطلاق المشتق على ذات لا يصح بدون قيام مبدأه بها ، إذ الضارب إنما يطلق على ذات قام الضرب بها ).

فيقال فيه : إن خبطه هنا وخلطه كان ناشئا عن جهله بهذا الفن ، وعدم معرفته بأنحاء التلبس الناشئة من اختلاف المواد والهيئات والمبادئ والصور ، وغير خفي على من له يدان أو يد في هذا الشأن أن المعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها تلبس الذات بالمبدأ بأي نحو من أنحاء التلبس الناشئة من إختلاف المبادئ تارة واختلاف الهيئات أخرى ، فيكون القيام والتلبس تارة صدورا كالضارب ومرة حلولا كالمؤلم وطورا وقوعا عليه أو فيه وأخرى منتزعا عنه مفهوما ومتّحدا معه خارجا كما في صفاته تعالى ، فإنه يكفي في جريان المشتق عليه المغايرة في المفهوم بين المبدأ وبين ما يجري المشتق عليه وإن كانا واحدا مصداقا ، وتلك قضية صفاته تعالى مثل العالم والقادر والحيّ وغيرها من صفاته التي هي عين ذاته مصداقا فيكون إطلاقها عليه حقيقة ، فإن المبدأ فيها وإن كان عين ذاته خارجا إلاّ أنه غيره مفهوما.

وبعبارة أوضح : أن قيام الصّفة في الشّيء على قسمين : قسم يقوم به في نفس الأمر كالعلم بالنسبة إلى زيد مثلا ، والقسم الآخر : عرض لا يقوم به كالعالم والقادر بالنسبة إليه ، فإنهما عين زيد في الخارج لصحة حملهما عليه مواطأة بالحمل الشائع الصناعي وزائدان على حقيقته ، فالصفة من القسم الأول زائدة على الله في الخارج والثاني عينه فيه ، والمراد أنّ صفاته من القسم الثاني دون الأول الزائد على الذات في الخارج وقيام المبدأ غير لازم مطلقا ، ثم أنه إن أراد من عدم صدق المشتق بدون قيام المبدأ بالذات أنه لا يصح إطلاقه عليه مطلقا فقد عرفت فساده من الاختلاف في كيفية التلبس والقيام من الحلول والصدور والوقوع ، على أن ما جاء به في المثال لا يتفق مع قوله إنه لا يصدق المشتق بدون قيام المبدأ

٢٨٢

بالذات وأنه لا يصح إطلاقه عليه بدونه ، لأن المبدأ في الضارب وهو الضرب ليس قائما بالذات التي جرى عليها المشتق وإنما هو قائم بالمضروب فما هذا العثار.

رابعا : قوله : « فلما ذكر في نهج البلاغة ».

فيقال فيه : ليس في نهج البلاغة ما يدلّ على أن الله تعالى اكتسب صفاته من غيره أو من نفسه ، وإنّما الموجود فيه أن صفاته تمام حقيقته وكمال ذاته ، فإنك تراه يقول عليه‌السلام في بعض خطبه :

( وكمال معرفته التّصديق به ، وكمال التّصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنه غير الصّفة ، فمن وصف الله فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ) إلى آخر خطبته الشريفة التي سجّلها محمّد عبده في ص : (١٥٤) من شرح نهج البلاغة فراجع ثمة حتى تعلم أنه عليه‌السلام نفى عنه معاني الصّفات ، وما ذكره الآلوسي من الصّفات عن عليّ عليه‌السلام فإنما هي عين الذات وتمام حقيقتها لا غيرها ، وكذلك ما أورده من الآيات فإنها كلّها أدلة للإمامية وحجّة لهم عليه لا له ، لأنهم لا ينكرون صفاته التي هي عين ذاته حتى يستدلّ على بطلان ذلك بما ورد من الآيات المتضمنة إثبات صفاته التي هي هو لا غيره مع الاثنينية والتعدد كما يزعم الخصوم.

ما زعمه الآلوسي في صفات الله الذاتية باطل

قال الآلوسي ص : (٥٨) : « إن صفاته الذاتية قديمة لم يزل موصوفا بها ، ثم نسب إلى بعض أولياء الله القول : بأنّ الله خلق لنفسه علما وسمعا كما خلقها لبعض المخلوقات ، فصار عالما سميعا بصيرا ومخالفة هذه العقيدة لكتاب الله أظهر من الشّمس ، فإنه وقع في كثير من مواضعه ( وكان عليما حكيما وعزيزا حكيما ). ( وسميعا بصيرا ) ومخالفة العترة ، فلما رواه الكليني عن أبي جعفر عليه‌السلام لم يكن شيء غيره ولم يزل عالما ، ومع هذا يرد عليهم أن يكون الله محلاّ للحوادث وهو باطل بالضرورة ».

٢٨٣

المؤلف : الّذي عليه العقلاء كافة وجاء التنصيص عليه من الشريعة أن الله تعالى مخصوص بالقدم ، وأنّه ليس في الأزل سواه ، وأنّ كلّ ما عداه ممكن وكلّ ممكن حادث ، ويقول القرآن : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) [ الحديد : ٣ ] ويقول هذا الآلوسي وغيره من خصوم الشيعة : إنّ مع الله تعالى معان قديمة ثمانية هي علل في الصفات ؛ كالقدرة والعلم والحياة والسّميع والبصير ونحوها ، فيلزم على هذا القول ممتنعات عقلية ومحالات ضرورية.

الأول : إثبات قديم غير الله ، والغريب أنّ هؤلاء حكموا على النّصارى بالكفر لأنهم قالوا إن الله ثالث ثلاثة فأثبتوا ثلاثة قدماء ، وخصوم الشيعة قد أثبتوا ثمانية قدماء بل تسعة مع الله تعالى عن ذلك وما حكموا بكفر أنفسهم.

الثاني : افتقاره تعالى في كونه عالما إلى إثبات معنى يكون هو العلم أو القدرة أو السّمع وغير ذلك من الصفات ما لولاها لم يكن متصفا بها ، وقد ثبت بالضرورة أنّه تعالى منزّه عن الحاجة لأن كلّ مفتقر إلى غيره ممكن والممكن حادث ، وقد علمنا بالضرورة أنه تعالى قديم.

الثالث : إنّ قول هذا الآلوسي : ( أن هذه المعاني غير الذات ولا هي نفس الذات ) غير معقول في نفسه وذلك لأن الشيء إذا نسب إلى آخر فإما أن يكون غيره أو يكون هو ، ولا يعقل سلبهما معا لاستحالة الخلوّ ولازم المحال محال باطل بالضرورة فما قاله باطل بالضرورة.

الرابع : لزوم التسلسل المعلوم بالضرورة بطلانه ، وذلك لأن العلم بالشّيء غير العلم بما عداه قطعا ، لأن من شرط العلم المطابقة للمعلوم ومن المحال عند العقل أن يطابق الشيء الواحد أمورا متغايرة متخالفة بذاتها وحقيقتها ، ولكن المعلومات بالطبع غير متناهية فيكون له علوم غير متناهية مرّات عديدة غير متناهية باعتبار كلّ علم يفرض في كلّ مرتبة من المراتب غير المتناهية.

توضيح ذلك أنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بذلك الشيء ، ثم العلم بالعلم بالشيء غير العلم بالعلم بالعلم بذلك الشيء وهلمّ جرا إلى ما لا نهاية له في كلّ واحد من هذه المراتب غير متناهية وهذا غير معقول ، فالمغايرة في صفاته غير معقولة.

٢٨٤

أما ما أورده من الآيات فإنّها صريحة في كونه عالما قادرا سميعا بصيرا حكيما ولا دلالة في شيء منها على ثبوت تلك الصّفات ووجودها قديمة في أنفسها هي غير الله تعالى عمّا يقول الضالّون علوّا كبيرا ، وعلى الجملة أنّ صدور العلم عنه تعالى يستدعي أن يكون عالما وذلك إنما يكون بعد كونه عالما فيكون الشّيء مشروطا بنفسه فيدور أو يتسلسل ، وإن شئت فقل : إنّ صدور العلم عنه موقوف على أن يكون عالما ، فلو توقف كونه عالما على صدور العلم منه لزم الدور وإن أحيل إلى غيره لزم التسلسل ، ولا يتوقف ثبوت الصّفة للموصوف على وجود الصّفة في نفسها وقيامها في الأزل بذاتها.

ولو كانت الصّفات زائدة على الذات في حقيقته تعالى لاحتاج في التكميل إلى الصّفة المغايرة له ، وكلّ ما هو مغاير له فلا شكّ في أنّه ممكن لاستحالة تعدد الواجب ، وعلى قول الخصوم يلزم ألاّ يكون مستكملا في حدّ ذاته بل محتاجا إلى الممكن في التكميل ، وقد ثبت باليقين أنه غنيّ عن العالمين ، ومعه يبطل ما زعموه من المغايرة ، فالواجب بذاته لا يفتقر في ذاته إطلاقا إلى غيره ، وليس في اتصافه بصفة كمال هي غيره من الكمال في شيء ، لأن الغيرية في الصّفة مستلزمة لافتقار الذات المستلزم للإمكان الموجب للنقص ثم الكمال بعروضه ، نعم إنّما يكون كما لا في الناقصين الجاهلين لو كانت لهم أهلية الاتصاف بالكمال دون الله الغنيّ المطلق ، فدونكها أدلة جادعة لأنوف المضلّين المزيلة لانتحال المبطلين والحمد لله رب العالمين.

الله تعالى قادر على كلّ مقدور

قال الآلوسي ص : (٥٨) : « إنّه تعالى قادر على كلّ شيء ، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسي ، والشّريف المرتضى وجمع كثير من الإمامية ، فإنهم قالوا : إنّ الله لا يقدر على عين مقدور العبد ، ويكذبهم قوله تعالى : ( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ البقرة : ٢٨٤ ] وهو كاف لتكذيبهم ».

المؤلف : أولا : قوله : ( خالف جمع كثير من الإمامية في ذلك ) يرشد إلى عدم مخالفة أكثر الإمامية في ذلك لخصومهم وهو من الجهل بمذهبهم ومن

٢٨٥

الافتراء عليهم ، لأنهم متفقون جميعا على أن الله تعالى قادر على كلّ مقدور لم يخالف في ذلك أحد منهم.

ثانيا : قوله : « فإنهم قالوا إنّ الله لا يقدر على عين مقدور العبد ».

فيقال فيه : إنّما قال بعدم قدرته على عين مقدور العبد جماعة من خصوم الشيعة ، وقال آخرون منهم إنّه تعالى لا يقدر على القبيح ، وقال غيرهم ـ وهم منهم ـ إنّه لا يقدر على غير مقدور العبد ، إلاّ أنّهم تناقضوا في ذلك أقبح تناقض ، فنسبوا أفعالهم كلّها إلى الله ـ تعالى عن ذلك ـ لذا ترى الآلوسي يقول : ( ويكذبهم قوله تعالى : ( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وقوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) [ الأنعام : ١٠٢ ] ويعني هذا في زعمه أنّه تعالى خالق حتّى القبائح والرذائل والفسق والفجور والعهور لأنّها شيء ، وقد ألصق الآلوسي به ذلك كلّه لأنه تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) تعالى عمّا يقول الجاهلون علوّا كبيرا.

أما إختلاف خصوم الشيعة في ذلك فقد سجّله عليهم شيخهم وكبيرهم الفضل بن روزبهان في كتابه الّذي سمّاه وما أكثر ما تكذب الأسماء : ( إبطال الباطل ) فليراجع ثمة من أراد الوقوف على أقوال أئمته في مثل ذلك ، لذا كان من اللاّزم على الآلوسي أن يقول إنه تعالى فاعل كلّ شيء من أنواع الفسوق والفجور والفواحش وأمثالها من أقذار المنكرات والقبائح ، وهي جرأة كبيرة على مقام الذات المقدّسة لا يرتكبها من له عقل أو شيء من الدين.

ويؤكد لك هذا قوله : ( بل أفعال العبد مخلوقة لله ص : (٥٣) ) فإنّه يدخل في فعل العبد شرب الخمر والزنا واللّواط والظلم والعدوان والشرك والكفر ، وقتل النفس المحرّمة والفساد في الأرض ، وأكل أموال النّاس بالباطل وغير ذلك من الجرائم ، وقد نسب في مقاله كلّ هذه المنكرات القبيحة إلى ذات الله تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ثالثا : قوله : « ويكذبهم قوله تعالى : ( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فمدخول من وجهين :

الأول : من الجائز أن يكون لفظ القدير في الآية بمعنى المقدور ، وحينئذ فلا دلالة في الآية على العموم ، لأن القدير يأتي في اللّغة بمعنى اسم المفعول ،

٢٨٦

وهو كثير الوقوع في الذكر الحكيم وفي كلام العرب العاربة ، فطروء مثل هذا الاحتمال في الآية موجب لبطلان الاستدلال بها على إرادة العموم.

الثاني : إنّ الاستدلال بالآيات إنّما يصح من عالم عرف معناها وسبر غورها ووقف على عموماتها وفهم مخصصاتها ومقيداتها ، أمّا الّذين لا يعرفون شيئا من ذلك إطلاقا فليس لهم أن يخوضوا في الآيات بغير علم ولا هدى ، وقديما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ).

أما قوله تعالى : ( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فإنّه صريح الدلالة في تعلق قدرته تعالى بكلّ مقدور ممكن في ذاته دون ما كان ممتنعا ومحالا في ذاته ، فهل يا ترى يصح للخصوم أن يستدلّوا بالآية على تعلّق قدرته بخلق شريك له في الوجود؟ أو هل يا ترى يصح لهم أن يقولوا بتعلّق قدرته تعالى على خلق ذاته؟ فالعموم لو كان موجودا في الآية لوجب تخصيصه بغير ما تقدم ذكره ، فمقتضى الآية تعلّق قدرته بالمقدور وهو الممكن الذاتي فيكون الله تعالى قادرا على جميع المقدورات ، لأنه واجب الوجود بالذات وكلّ ما عداه ممكن الوجود إلاّ ما كان ممتنعا عقلا كما قدّمنا ، ولا شك في أنّ كلّ ممكن يصدر عنه أو يصدر عمّا هو صادر عنه.

الله عالم بكلّ شيء

قال الآلوسي ص : (٥٩) : « إنّ الله تعالى عالم بكلّ شيء قبل وجوده ـ إلى أن قال ـ : وجماعة من الإثني عشرية من متقدميهم ومتأخريهم منهم مقداد صاحب كنز العرفان ، قالوا : إنّ الله تعالى لا يعلم الجزئيات قبل وقوعها ».

المؤلف : أما ما نسبه إلى بعض الإثني عشرية من القول بأنّ الله تعالى لا يعلم الجزئيات قبل وقوعها فهو كذب وافتراء لا أصل له ، فإنّ الإمامية متفقون جميعا على أنّ الله تعالى عالم بكلّ شيء ، وأن علمه بها حضور حقائقها بأجزائها وجزئياتها بين يديه ، على العكس من علمنا فإنه حضور صورها في أذهاننا ، فكيف يزعم هذا المختلق أنّ الشيعة الإثني عشرية تنفي علم الله تعالى عن الجزئيات قبل وقوعها ، وهم يعتقدون أنّه عالم بكلّ شيء ، وأنّ علمه به قبل وجوده كعلمه به بعد

٢٨٧

وجوده لا يتغير ولا يتبدّل ، نعم إنّما منع علمه بالجزئيات إطلاقا ، وحجر عليه خصوم الشيعة الّذين أشركوا مع قدمه تعالى معان تسعة قديمة موجبة لنفي العلم عنه مطلقا لا خصوص نفيه عن الجزئيات كما مرّت الإشارة إليه فتذكر فإن فيه عبرة لمن استبصر.

القرآن كلام الله لا تحريف فيه

قال الآلوسي : « إنّ القرآن كلام الله لم يتطرق فيه التحريف ، وقالت الإثنا عشرية إنّه محرّف ».

المؤلف : قد عرفت غير مرّة أنّ الرجل مرجف كاذب ، لأن التحريف في القرآن منفيّ عنه بضرورة مذهبهم الإسلامي ، وأنّ القائلين بتحريفه هم خصوم الشيعة الّذين يأوي إليهم هذا الآلوسي في أخذ الأحكام دون التابعين لأهل البيت من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنهم لا يقولون بهذه المقالة ولا يعتقدون هذه العقيدة ، ويحكمون بضلال من قال به من أخصامهم.

الله مريد وما قاله الآلوسي في ذلك فاسد

قال الآلوسي ص : (٦٠) : « الله تعالى مريد ، وإرادته أزلية قديمة ، ويعتقد الإمامية خلاف ذلك ، ثم أورد عدّة آيات على عادته مما لا شاهد له فيه على شيء من ذلك ، وقال : إنّ عقيدتهم مخالفة لهذه الآيات ».

المؤلف : الشيعة تقول إنّ الله تعالى مريد كما جاء التنصيص عليه في القرآن ، ولكن لا يقولون بأن إرادته أزلية في قبال ذاته كما يزعم الخصوم لما عرفت من فساد هذه العقيدة وأنها مستلزمة لإنكار واجب الوجود بالذات الّذي لا قديم سواه ، وقد مرّ البحث عنه في باب أنّ صفاته تعالى عين ذاته بلا تعدد ولا اثنينية ولا مغايرة فلا حاجة إلى التطويل بالإعادة.

أما ما جاء به من الآيات فهي لا تفيد أن إرادته قديمة كقدمه ، وإنما هي صريحة في أن إرادته الأشياء إذا كانت تكوينية فهي فعله وإيجاده لها ، وإذا كانت تشريعية

٢٨٨

فهي تعلقها بتحديد سلوك العبد وما فيه صلاحه ، وأين هذا من الدلالة على قدمها الموجبة للشرك مع الله في القدم غيره والناسفة لتوحيده إطلاقا كما يزعم الآلوسي.

الآلوسي ص : (٦٠) : ( إنّ إرادة الله عامّة لجميع الكائنات كالشرور والمعاصي والفسوق إلى نهاية أقواله وتخرصات ذلك الهندي ).

المؤلف : أيّها القارئ إنّ من أخطر الأمور على عقل الإنسان أن يحاكي رواسب غيره من غير تمحيص وتدقيق ويتلقفها تلقف الكرة ، ويحرك عضلاته نحوها على غير بصيرة من أمرها ، وهذا ما حدث للآلوسي في كتابه فإنه أدلى بدلوه في الدلاء مع أولئك ، وقفز خلفهم كما قفزوا ، وهو لا يدري لما ذا وضع قدمه في موضع قدمهم.

ونحن قد ألمعنا أن إرادة الله تعالى إن تعلقت بالتكوين فهي تعني فعله وإيجاد كما نصّ عليه القرآن : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [ يس : ٨٢ ] وإن تعلقت بالتشريع فتعني أمره وإيجابه كما يقول كتاب الله : ( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ ) [ النساء : ٢٦ ] ( وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ ) [ الأنفال : ٧ ـ ٨ ] ( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) [ الحجرات : ٧ ] وعلى عكس ذلك إذا كره شيئا لقوله تعالى : ( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ) [ الحجرات : ٧ ] وعلى هذا الضوء فإن كلّ عاقل يعلم أنّه إذا أراد شيئا من غيره على سبيل القطع فإنه يأمره به ، وإذا كره فعله منه ينهاه عنه ، ولا يشك عاقل في أن الأمر والنهي دليلان عنده على الإرادة والكراهة إلاّ هذا الآلوسي ، فإنك تراه يزعم أن الله تعالى يريد ما يكرهه ، فإن الله تعالى نهى عن الكفر والفسق والفجور وارتكاب اللّواط والزنا ، وكره ذلك وأضعافه من المنكرات القبيحة كما جاء التنصيص عليه في القرآن ، ومع ذلك فهو يريده على زعم الآلوسي وأنّه يعاقب على ارتكابها ، وهذا ما يوجب عزل الله تعالى عن العدل وسلبه منه ووصفه بالظلم والعدوان وغير ذلك من الصّفات الناقصة الرذلة التي هي من صفات الأشقياء الّذين دعتهم عصبيتهم إلى أن نسبوا إلى الله تعالى العظائم ويعزوا إليه كلّ نقص وعيب تعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

٢٨٩

وهل قول الآلوسي في ذلك إلاّ كما قاله الشاعر العربي :

ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له

إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

ولعمر الحقّ إن استلزام الأمر والنهي للإرادة والكراهة وأنهما أمارتان عليهما يعرفه حتى الأطفال والمجانين ، فإذا كان العاقل المختار لا يأمر بشيء إلاّ وهو يريده ولا ينهى عن شيء إلاّ وهو يكرهه ، وإذا ما كان الأمر والنهي دليلين على الإرادة والكراهة عند العقلاء وأنهم ينسبون من يأمر بما لا يريد أو ما يكره وينهى عمّا لا يكره أو ينهى عما يريد إلى السّفاهة والجهالة ، فكيف استساغ الآلوسي أن ينسب ذلك إلى الله ، وكيف طاوعه ضميره ولم ينهه عن عكس القضية ، ولكن : ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) [ الفرقان : ٤٤ ].

الله لا يرضى بكفر أحد من عباده

قال الآلوسي ص : (٦٢) : « إنّ الله تعالى لم يرض بكفر أحد من عباده وضلالته لقوله تعالى : ( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) [ الزمر : ٧ ] قال الإثنا عشرية يرضى ضلالة غير الشيعة ».

المؤلف : أما القول بأنّ الله يرضى بضلالة عباده فهو من معتقدات هذا الخصم الّذي مرّ عليك زعمه أنّ الله تعالى يريد جميع الكائنات كالشرور والمعاصي والفسوق ، وأنّه خالق أفعال العبد كالكفر والشرك والضلال والنفاق ، لأنّه خالق كلّ شيء فهي داخلة في ذلك الشيء كلّه ، وأنّه تعالى هو الّذي أراد ذلك منهم ـ كما يزعمون ـ أما الشيعة فإنهم بريئون مما يقوله الخصوم مطلقا.

آيات الهداية والضّلالة لا تريد غير ما أراده الله

أما آيات الهداية والضلالة ، فإن الهداية فيها مستعملة لغة بمعنى الدلالة والإرشاد والتوفيق ، نحو قوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) [ اللّيل : ١٢ ] كما وأنها مستعملة فيها بمعنى الفوز والنجاة ، كقوله تعالى : ( لَوْ هَدانَا اللهُ

٢٩٠

لَهَدَيْناكُمْ ) إبراهيم : ٢١ ] أي لو أنجانا الله لأنجيناكم ، ونحو قوله تعالى : ( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) [ البقرة : ٢٦٤ ] أي لا ينجيهم ، ومستعملة بمعنى الحكم والتسمية ، نحو قوله تعالى : ( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) ـ إلى قوله تعالى ـ ( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ ) [ النساء : ٨٨ ] والمعنى أتريدون أن تسموا مهتديا أو تحكموا عليه بالهداية من سمّاه الله تعالى ضالاّ وحكم عليه بالضّلال باختياره الضّلال وتقديمه له على الهدى.

وأما كلمة الضّلال الواردة في القرآن فإنها تطلق في اللّغة على معان كثيرة ، منها : الضياع نحو قوله : ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا ) [ الضحى : ٧ ] أي ضائعا كما قيل : ( عالم ضاع بين جهّال ) ومنها الهلاك ، ومنها الحكم والتسمية ، ومنها المصادفة والوجدان ، كقوله تعالى : ( وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ) [ الجاثية : ٢٣ ] أي وجده وصادفه ضالاّ ، ومنها العذاب والهلاك ، نحو قوله تعالى : ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) [ القمر : ٤٧ ] أي في عذاب وهلاك ، ومنها النسيان نحو قوله تعالى : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ) [ البقرة : ٢٨٢ ].

ومنها الإبطال نحو قوله تعالى : ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) [ محمّد : ١ ] أي أبطلها ، ومنها الإغواء وليس في القرآن ولا في السنّة من ألفاظ الضّلال بمعنى الإغواء شيء يضاف إلى الله تعالى إطلاقا ، على أنّه لم يرد في لغة العرب أن لفظة أضلّ بمعنى خلق الضّلال في الإنسان ، ولا لفظة هدى بمعنى خلق الهداية فيه.

فظهر لك من هذا كلّه أن القول بكون الله تعالى هو المغوي عن الدين ، والمضلّ عن الرشد ، وأنّ كلّ ضلالة هو فاعلها ـ تعالى عن ذلك ـ إنّما هو من مزاعم الآلوسي وغيره من خصماء الشيعة القائلين إنّ الله تعالى مريد وخالق لجميع أفعال الخلائق أجمعين ، كالكفر ، والشرور ، والمعاصي ، والعهور وغير ذلك من أنواع الفسق والفجور ، ولا شك في أنّ ذلك لو تم للخصوم لبطل كلّ أمر ونهيّ ، وسقط كلّ تكليف وفرض ، بل يبطل الإحتجاج عليهم بالكتب المنزّلة من عند الله والمرسلين المبعوثين من عنده تعالى ، ويبطل كلّ وعد ووعيد إذ لا فائدة حينئذ في

٢٩١

بعث الأنبياء عليهم‌السلام إليهم ما دام الله تعالى أراد لهم في زعم الخصوم أن يرتكبوا كلّ ألوان الفساد والكفر والزندقة والعناد ، وكلّ ذلك رجوع إلى شريعة الغاب وبه تقر عين الآلوسي وأخيه الهندي وأضرابهما.

ثم يقال لهذا الخصم : إنّ العقل حاكم بطبيعته بأنّ الله تعالى عادل حكيم لا يكلّف بغير الطاقة ولا يؤاخذ بغير ذنب ، فكيف يا ترى ينهى هو عن الإضلال والإغواء ، ثم هو نفسه تعالى عن ذلك يفعله على زعم الآلوسي ، فإن من الواضح الّذي لا شك يعتريه أنه لا يليق بأقل العقلاء أن يفعل ما ينهى عنه الآخرين ، فكيف يجوز في منطق العقل نسبة ذلك إلى الله ربّ العالمين ، وفي القرآن العربي المبين يقول الله العظيم : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [ البقرة : ٤٤ ] ولقد غفل الآلوسي وما أشدّ غفلته عن قول الشاعر العربي :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

أ ترى يرضى الآلوسي وغيره من الخصوم إذا قلنا لهم إنكم فعلتم كلّ فساد وارتكبتم كلّ موبقة وعملتم كلّ قبيح وشنيع ، وأضللتم العباد وأغويتم الغافلين وأضللتموهم عن طريق الهدى والرشاد ، وأوصدتم الباب في وجوههم أللهم كلا ، بل يطعنون فينا كلّ الطعن ويرفعون عقيرتهم علينا بالسّباب إذا نسبنا إليهم تلك الصّفات الناقصة والرذائل الفظيعة.

فإذا كانوا لا يرضون لأنفسهم صفات النقص وتشمئز نفوسهم من إضافتها إليهم فكيف يا ترى ساغ لهم أن يضيفوا ذلك كلّه إلى الله المنزّه عن كلّ نقص وعيب ، والمستحق لكلّ كمال أعلاه وأسماه إله العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ، وهم غير خائفين من سطوته وغير وجلين من غضبه بما نسبوه إليه تعالى عنه.

الآيات القرآنية دالّة على خلاف ما ذهب إليهم الخصم

ولو تعدينا ذلك إلى آيات الكتاب لوجدناها صريحة الدلالة على خلاف ما ذهب إليه الخصم ، قال تعالى : ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) [ الإنسان : ٣ ] وقال تعالى : ( وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ

٢٩٢

زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) [ الشمس : ٧ ـ ١٠ ] وقال تعالى : ( هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى ) [ البقرة : ١٨٥ ] وقال تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) [ فصلت : ١٧ ] وقال تعالى : ( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ) [ الإسراء : ٩٤ ] إلى كثير من آيات القرآن الدالة بصراحة على أنّه تعالى قد هدى النّاس جميعا وما أضلّ أحدا منهم ، وإنّما أضاف الإضلال إلى أنفسهم ، فقال تعالى : ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى ) [ طه : ٧ ] وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) [ ص : ٢٦ ] وقال تعالى فيما اقتصه من خبر إبليس اللّعين : ( وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ) [ النساء : ١١٩ ] وقال تعالى : ( وَأَضَلُّوا كَثِيراً ) [ المائدة : ٧٧ ] وقال تعالى : ( قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ) [ المائدة : ٧٧ ] وقال تعالى : ( لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) [ إبراهيم : ٣٠ ] وقال تعالى : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ ) [ البقرة : ٣٦ ] وقال تعالى : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ) [ الأنعام : ٤٣ ] وقال تعالى : ( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا ) [ الأعراف : ٣٨ ] وقال تعالى : ( رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) [ فصلت : ٢٩ ] وقال تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ) [ التوبة : ١١٧ ] وقال تعالى : ( رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) [ الأحزاب : ٦٧ ] إلى كثير من آيات الذكر الحكيم ما يضيق المقام عن تعداده ، وحسبكها برهانا قاطعا لإرجاف المرجفين ودليلا ساطعا لدفع أقوال الآلوسي.

ما نسبه الآلوسي إلى الشيعة في معنى قولهم يجب على الله

قال الآلوسي ص : (٦٢) : « إنّ الله لا يجب عليه شيء كما هو مذهب أهل السنّة ، وقالت الشيعة واتفقوا على وجوب كثير من الأشياء عليه ، وليس هذا يلائم مرتبة الربوبية ، وقال جميع الإمامية أيضا بوجوب التكليف عليه تعالى ، بمعنى يجب عليه أن يكلف المكلفين بأن يأمرهم وينهاهم وأن يخبرهم بذلك بواسطة الرسل ، ولا يقتضي العقل أصلا أن يكلّف الكافر بالإيمان والفاجر بالطاعة.

وأيضا لو وجب التكليف لكان لا بد أن يرسل في كلّ قرية وبلدة الرسل متواليا. ولم يقع زمن الفترة ، ولم يخل قطر وناحية من الرسل ، لأن العقل لا

٢٩٣

يكفي في معرفة التكاليف بالإجماع ، والحاجة للرسل ماسّة بالضرورة ، وأيضا كان على الله تعالى أن ينصّب بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إماما غالبا غير خائف ... إلى آخر أقواله ».

المؤلف : ليس الوجوب الّذي تقول به الشيعة كما صوره الخصم ، وإنّما هو بمعنى أن الله تعالى بمقتضى حكمته وعدله أوجب على ذاته القدسية ألاّ يخلّ بالواجب ولا يفعل القبيح كما جاء التنصيص عليه في كثير من آيات القرآن الكريم ، كقوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [ الأنعام : ٥٤ ] وقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) وقوله تعالى : ( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) [ الروم : ٤٧ ] وقوله تعالى : ( قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [ الأنعام : ١٢ ] وقوله تعالى : ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) [ الحج : ٤٠ ].

ومفهوم هذه الآيات واضح ، وهو يدلّ بصراحة على أنّه تعالى كتب على نفسه وأوجب عليها نصر المؤمنين ونصر من نصره ، كما أوجب عليه الرحمة وكتبها على نفسه ، وذلك لا يعني إيجاب غيره عليه إطلاقا على خصومه ، وكم من فرق بين ما أوجبه الله تعالى على نفسه بنفسه المدلول عليه في هذه الآيات ، وبين ما يوجبه غيره عليه ، والّذي ذهب إليه الشيعة هو الأول دون الثاني فإنه لا قائل به.

وأما قول الآلوسي : ( إنّهم يقولون إنه يجب على الله أن يكلّف المكلفين ) فهو كذب لا أصل له ، لأنهم إنّما يقولون إنّ الله تعالى لم يكلّف أحدا فوق طاقته ، ولم يلزمه الإتيان بغير المقدور ، وإنّه تعالى لم يفعل شيئا عبثا ، بل إنما يفعله لمصلحة وحكمة كما جاء القرآن به ، كقوله تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) [ الأنبياء : ١٦ ] وقوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) [ المؤمنون : ١١٥ ] وقوله تعالى : ( ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : ٥٦ ] ولكن الآلوسي وغيره من خصماء الشيعة خالفوا هذه الآيات ونحوها ، وقالوا إنّه لا يجوز أن يفعل الله تعالى لغرض ولا لمصلحة ، ويجوز أن يؤلم العبد بغير غرض ولا مصلحة تعود إلى العبد.

٢٩٤

وقالت الشيعة : إنّ الله تعالى لم يفعل القبيح ، ولم يخلّ بالواجب ، وإن جميع أفعاله صواب وحكمة ليس فيها ظلم ولا عدوان ولا كفر ولا بهتان ، لأنه غنيّ عن القبيح مطلقا ، وعالم به فلا يفعله.

وقد خالف هذا الخصم فزعم أنّه تعالى يفعل القبيح ، وأنه تعالى خالق لجميع القبائح والمفاسد والشرور ، وليس ذلك من فعل الإنسان لأنه لا قبح من الله ولا واجب عليه ، بل فاعل كلّ شيء وخالق كلّ شيء ومريد كلّ شيء ، والقبائح هي الأخرى داخلة في ذلك الشيء ، كما ترشد إليه كلمات هذا الآلوسي ، ويقول القرآن : ( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) [ البقرة : ٢٠٥ ] ولا شك في أن نسبة حبّ الفساد وكونه مريدا له تكذيب لله تعالى عمّا يقول الكاذبون علوّا كبيرا.

وقالت الشيعة : إنّ الله تعالى يريد الطاعات سواء وقعت أو لا ، ويكره المعاصي سواء وقعت أو لا ، وخالف هذا الآلوسي فقال : إنّ إرادة الله عامّة لجميع الكائنات كالشرور والمعاصي ، وإنّ كلّ شيء يقع في الوجود من العبد هو مراد لله والله خالقه ، وليس العبد إلاّ آلة فيها ( كالمنشار بيد النجار ) هذا ما يقوله الآلوسي وغيره من خصوم الشيعة ، والقرآن يقول : ( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) [ غافر : ٣١ ] ويقول : ( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) [ الإسراء : ٣٨ ] ويقول : ( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) [ الزمر : ٧ ] إلى كثير من أمثال هذه الآيات الدالّة على أنّه تعالى يريد الطّاعات ويكره المعاصي.

ومن جميع ذلك يتضح لك جليّا مخالفة الآلوسي لهذه الآيات ، وأنّه من الّذين هم عن الصراط ناكبون ، ( فأين تذهبون وأنّى تؤفكون والأعلام قائمة والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون ).

ما زعمه الآلوسي في اللّطف باطل

قال الآلوسي ص : (٦٣) : ( وأيضا يعتقدون أن اللّطف واجب على الله ، ومعناه ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية ، وهذا أيضا باطل لأن اللّطف لو كان واجبا لم يكن لعاص أن يتيسر له أسباب العصيان ، ثم أورد بعض الآيات التي تشهد على جهله بمعنى اللّطف ، وأنّها لا صلة بينها وبين ما جاء به من الهذر ).

٢٩٥

المؤلف : اللّطف عبارة أخرى عن قوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) وقوله تعالى : ( وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) [ الشمس : ٨ ـ ٩ ] وقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) فإنّه تعالى أوجب على نفسه بمقتضى حكمته أن يبيّن لعباده طرق السّعادة والنّجاة وطرق الشقاوة والهلاك ، ويدعوهم إلى الأول وينهاهم عن الثاني ، وليس ذلك علّة تامة لعدم العصيان أو علّة تامة لفعل الطاعة كما توهمه الخصم ، وفي القرآن يقول الله تعالى لعباده : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) [ المائدة : ٣ ] ويقول : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) [ البقرة : ٨٣ ] ويقول : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) [ آل عمران : ٩٧ ] ويقول : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) [ الإسراء : ٣٢ ] ونحو ذلك من الآيات المتضمنة للأحكام الواجبة والمحرّمة فليس معناها أنها قاهرة للمكلّف ومجبرة له على فعل الطاعة وترك المعصية ، فإن ذلك لا يقول به ذو عقل ولا يفهمه من قولهم من له ذرّة من الفهم ، لأن اللّطف الّذي يقولون به هو ما كان من سنخ المقتضي الموقوف تأثيره على إختيار طاعة المكلّف فعل الواجب وترك الحرام ، وليس معنى الواجب ما لا يمكن لأحد تركه ، وليس معنى الحرام ما لا يمكن لأحد فعله.

وبعبارة أخرى أن الأمر والنهي إذا تعلّقا بفعل المكلّف فإنّما يراد بهما الإرادة التشريعية الممكن تخلّفها وليست هي من الإرادة التكوينية التي لا يمكن تخلّفه عنها إطلاقا ، لذا لم يكن فعل المكلّف من لوازم الواجب المأمور به والمحرّم المنهي عنه بحيث لا يمكنه التخلّف عنهما أبدا ، ألا ترى إلى الآلوسي فإنّ الله تعالى قد حرّم عليه الغش والتدليس والظلم والعدوان والكذب والبهتان والقذع والسباب بغير حق ، وأوجب عليه العدل والإنصاف وقبول قول الحقّ ، ومع ذلك تراه قد ارتكب تلك المحرّمات وترك تلك الواجبات ، فلو كان كلّ من الأمر والنهي علّة تامة للترك والفعل لاستحال عليه التخلّف عنهما.

ومن غريب تناقض الآلوسي أنّك تراه يزعم تارة أنّ إرادة الله عامّة لجميع الكائنات كالشرور والمعاصي والفسوق والكفور ، وأخرى يقول إنّ الله تعالى لا يريد الكفر لعباده ولا يرضى لهم الضّلالة أبدا ، ولا شك في أنّ كلّ متناقض مبطل.

٢٩٦

فعل الأصلح واجب

قال الآلوسي : « وأيضا يعتقدون ـ أي الشيعة ـ وجوب الأصلح عليه وهذا باطل ، ولو كان الأصلح واجبا لما يسلّط الشيطان على بني آدم وهو عدوهم ».

المؤلف : إنّ الله تعالى لم يسلّط الشّيطان ، وإنّما اتبع الشيطان وعبده من تابع هواه فأعمى بصره وبصيرته ، والله تعالى قد حذره ونهاه عن متابعة هواه بقوله تعالى : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) [ يس : ٦٠ ] وقوله تعالى : ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) [ الحجر : ٤٢ ] وقوله تعالى : ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) [ النحل : ٩٩ ـ ١٠٠ ] ونحوها من الآيات الصريحة في وجوب الابتعاد عن مسالكه وحرمة إتباع خطواته.

فالله تعالى لم ينه عن الركون إليه ولم يأمرهم باجتنابه والكفر به إلاّ رحمة بعباده ، وقد كتبها على نفسه وأوجبها على ذاته بذاته ليتميّز الخبيث من الطيّب ، والضالّ من المهتدي ، والمبطل من المحق فكيف يزعم هذا الخرّاص أنّ ذلك خلاف الأصلح دون أن يصغي إلى قول الله تعالى ، ويعرف به فساد ما ذهب إليه.

ثم أن المراد من الأصلح في علمه وحكمته هو أنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، وقد كتب ذلك على نفسه كما تقدمت الإشارة إليه في غير واحد من آيات كتابه ، وأما تعليل الآلوسي بطلان وجوب الأصلح بتسليط الشيطان على بني آدم وهو عدوّهم ـ على حدّ تعبيره ـ فباطل وغير صحيح بدليل ما تقدم من الآيات الكريمة الدالّة على أنّه ليس له سلطان على الّذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكلون ، وإنّما سلطانه على الّذين اتبعوه وتولّوه والّذين هم به مشركون ، فكان سلطانه عليهم ناشئا عن سوء اختيارهم لقيادته وإتباعهم خطواته فأعطوه المقادة فسلك بهم سبيل الغواية فأوردهم النّار وبئس القرار.

ثم لا يخفى على الفطن أن كلمة الشيطان صفة تنطبق على الإنس والجن لا خصوص الجن كما يعتقده الجهال ، وإن كان الشيطان الأول من الجن وذلك

٢٩٧

بدليل قوله تعالى : ( شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) [ الأنعام : ١١٢ ] وقوله تعالى : ( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ) [ البقرة : ١٤ ] والشيطان في أصل معناه اللّغوي مأخوذ من شطن ، وهو كلّ عات متمرد ظالم مجتاز لحدود الله من الإنس والجنّ معا.

الأعواض على الألم واجبة

قال الآلوسي ص : (٦٤) : « ويعتقدون أيضا أن الأعواض واجبة عليه تعالى ، وعقيدتهم هذه بعد دراية ما بين العبد وربّه من علاقة المالكية والمملوكية باطلة ، إذ العوض يجب فيما إذا تصرّف في ملك المالك ولا ملك في العالم لغيره تعالى ، ونعيم الجنّة تفضّل منه ... إلى نهاية أقواله ».

المؤلف : الّذي يعتقد الشيعة في الله تعالى أنّه لم يفعل شيئا عبثا ، وإنما يفعله لغرض وحكمة ، وهذا هو الّذي يعترف العقلاء به من أهل الملل والنحل جميعا ولا يختلف فيه اثنان منهم ، وليس هناك أحد من الشيعة يقول بوجوب العوض على الله كما يزعم الخصم ، وإنّما يقولون إنّ ما ينتاب الإنسان في هذه الحياة من الآلام مع قدرته تعالى على دفعها وعدم حاجته إليها لأنه الغنيّ المطلق لا يجري عليه ما يجري على المخلوقين ، فلا يخلو من وجهين :

الأول : أن يكون على وجه الانتقام والعقوبة المستحقّة لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) [ البقرة : ٦٥ ].

الثاني : أن يكون على وجه الابتلاء ، وهو لا يحسن فعله من الله تعالى ولا التخلية بينه وبينها إلاّ بشرطين على أساس أن جميع فعله حكم وصواب منزه عن التشهي والعبث والمحاباة والمجون ، الشرط الأول : أن يكون مشتملا على المصلحة إما للمتألم أو لغيره ، وهو نوع من العطف والمنّة لأنه لو خلا عن ذلك كان مجونا عبثا والله تعالى لا يكون عابثا لاعبا إطلاقا ، الثاني : أن يكون في مقابله عوض للمتألم يزيد على الألم بحيث لو عرض على المتألم الألم والعوض لاختار

٢٩٨

الألم لضخامة العوض وإلاّ لزم الظلم من الله على عبده تعالى عن ذلك ، لأن إيلام الكائن الحيّ أو تعذيبه بغير ذنب ولا فائدة تصل إليه ولا لغيره ظلم واضح ، فلا يجوز نسبته إلى الله تعالى في حال.

ولكن الخصم يرى من الجائز على الله تعالى أن يؤلم عبده بأنواع الألم من غير ذنب ولا جريمة وبلا غرض ولا غاية ولا فائدة إطلاقا ولا عوض أبدا ، فهو يرى من الجائز عليه تعالى أن يعذب الأطفال والمجانين والأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام من غير فائدة ولا مصلحة ولا يعوضهم على ذلك بشيء مطلقا ، مع انّا نعلم بالضرورة أن من فعل هذا من النّاس كان عند العقلاء قاطبة ظالما جائرا سفيها سفّاكا للدماء ، فكيف يا ترى يجوز لهذا الظالم أن ينسب إلى الله الرحيم بعباده مثل هذه النقائص والعظائم التي تكاد السّماوات يتفطرن منها وتخرّ الجبال هدّا ولا يخشى عقابه وحسابه : ( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) [ الزمر : ٦٠ ].

ليس العوض على الألم استحقاقا حقيقيا

ومن ذلك كلّه يتضح جليا أنّا لا نريد من استحقاق العبد العوض على الألم هو الاستحقاق الحقيقي لكي يأتي عليه بأن ذلك باطل بعد دراية ما بين العبد وربّه من علاقة المالكية ـ على حدّ زعمه ـ الجاهل بمعنى العوض الّذي تقول الشيعة بوجوبه ، وإنّما تريد به بمعنى التفضّل من الله تعالى والمنّة منه والرحمة التي كتبها على نفسه ، ومن حيث أنّه تعالى كتبها على ذاته القدسية في كثير من آيات كتابه ـ كما ألمعنا ـ علمنا بوجوب العوض منه لينتفي الظلم والعبث من فعله.

أما خصوم الشيعة فقد خالفوا ذلك كلّه فزعموا أنّه لا يجوز أن يفعل الألم لغرض من الأغراض ولا لمصلحة من المصالح ، بل يؤلم العبد بغير فائدة ولا مصلحة إطلاقا ، ويجوز أن يخلق خلقا ويدخلهم النّار مخلّدين فيها أبدا من غير أن يكون قد عصوا أمرا أو خالفوا نهيا ، وهذا هو الظلم عينه الّذي أشار إليه تعالى في كثير من آيات كتابه ، قال تعالى : ( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) [ غافر : ٣١ ] وقال تعالى : ( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) [ فصلت : ٤٦ ] وقال تعالى : ( وَما ظَلَمْناهُمْ ) [ هود : ١٠١ ]

٢٩٩

ونحوها من الآيات القاضية باستحالة ذلك منه ، وإذا جاز عليه أن يخلّد العبد في النار من غير موجب ولا عصيان لم يكن على زعم الخصم عادلا حكيما بل يكون ـ والعياذ بالله ـ جائرا ، تعالى الله عمّا يصفون.

اللّوازم الباطلة في قوله الخصم بنفي الغرض في فعل الله تعالى

ثم إذا كان لا يجوز على الله تعالى أن يفعل الألم لغرض ولا لمصلحة تعود على العبد بأكبر النفع ـ كما يزعم الخصوم ـ لزمهم على ذلك أمور ممتنعة ومحاذير قبيحة.

الأول : يلزمهم أن ينسبوا إلى الله تعالى فعل العبث ولا معنى للعابث اللاّعب غير أنّه يفعل لا لغرض ولا مصلحة ، وقد حكم القرآن بفساد هذه العقيدة ، فقال تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) [ الدخان : ٣٨ ] وقال تعالى : ( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) [ آل عمران : ١٩١ ] ولا شك في كون الفعل باطلا إذا لم يكن لفاعله غرض فيه ، وليس الغرض عائدا إليه لكي يلزم منه استكماله به وإلاّ لزم استكماله بوجوب الشّكر له تعالى في قوله : ( اشْكُرْ لِي ) [ لقمان : ١٤ ] وقوله تعالى : ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) [ إبراهيم : ٧ ] فيكون هو تعالى مكملا لوجود ذلك الفعل ولا يشك من له عقل في أن الغرض كالإحسان ونحوه أولى وأرجح عند الله تعالى من عدمه والأنفع أرجح في نفس الأمر وهو عالم قطعا بأرجحيته في الواقع ، فلو انعكس الأمر لزم عدم علمه بكونه أنفع فيكون نقصا فيه تعالى عنه ، على أنه من الجائز أن يكون فعله لغرض يعود إليه ولا يلزم أن يكون نقصا فيه قبل حصوله لإمكان أن يكون حصول ذلك الغرض في أمثال تلك الأزمان كمالا فلا يلزم منه أن يكون الواجب قبل حصوله ناقصا ولا أن يكون خاليا عن صفة الكمال ، بل اللاّزم أن يكون خاليا عن شيء لم يكن كمالا إلى ذلك الوقت.

ثم إن احتياج الفاعل في الفاعلية إلى الغير لا يوجب النقص فيه لأنه تعالى محتاج في اتصافه بالصّفات الفعلية إلى مخلوقاته ، فإن كونه خالقا يحتاج إلى مخلوق ورازقا إلى مرزوق وهكذا الحال في جميع صفات أفعاله التي يدخلها التخصيص في حال ولا يمكن سلبها عنه في كلّ حال ، وليس في الإمكان أن

٣٠٠