الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

معنى التشيع ومع ذلك يتقاعد عن نصرته ويتورع عن إتباعه؟! ذلك مما لا يمكن ولا يكون أبدا.

الثالث : لا يصح للآلوسي أن يقول : إن الجماعة قائمون بمحبته وعارفون له فضله وإن قاتلوه واستحلّوا قتله ، سواء أكان ناشئا من غلب القضاء والقدر عليهم ـ كما يزعم ـ أو من عدائهم له عليه‌السلام كما هو الصحيح لقوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) [ آل عمران : ٣١ ] فإنه يفيد انتفاء المحبة والتعظيم بانتفاء المتابعة مطلقا ، والقوم لم يكتفوا بترك طاعته ومتابعته دون أن يعمدوا إلى قتاله وإرادة قتله ، فهل يا ترى من شرط المحبّ أن يقاتل حبيبه ويستحلّ دمه ، أو يا هل ترى من شرطه أن يخالفه ويعصي أمره ويتقاعد عن نصرته؟

ويقابل هذا الحكم : أن المتقاعد عن نصرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تورعا واحتياطا ، ومن غلب عليه القضاء والقدر من مشركي قريش فوقع منهم ما أدّى إلى قتال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحلال قتله كعتبة وشيبة والوليد وأضرابهم من المشركين كلّهم كانوا قائمين بمحبته وتعظيمه ، لعدم الفرق بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام في ذلك ؛ لأنه قائم مقامه وسادّ مسدّه في غير الوحي الإلهي ، لا سيما إذا لا حظنا قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصحيح المتفق عليه بين الفريقين : ( يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي ) (١).

ويقول ابن حجر الهيتمي في الحديث السّادس عشر من الفصل الثاني ، في سرد الأحاديث الواردة في أهل البيت عليهم‌السلام من الباب الحادي عشر من صواعقه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليه‌السلام : ( أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم ) وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين في باب فضائل أهل البيت عليهم‌السلام فإذا صح هذا للآلوسي صح له ذلك وهذا مناف لما أوردناه من أدلّة.

__________________

(١) المستدرك للحاكم النيسابوري : ٣ / ١٤٩ في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٢٧ ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي : ٧ / ١٢٧ ، وغيرهم من حفاظ أهل السنّة.

٢١

الرابع : إذا لم يكن قتال طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة لعليّ عليه‌السلام يوم الجمل مقصودا بل وقع من غير قصد كما يزعم ، يلزمه أن يقول إن الّذين قاتلوه عليه‌السلام يوم البصرة وعلى رأسهم طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة كلّهم كانوا مجانين أو بهائم وتلك قضية تعليله ( بأن القتال وقع عن غير قصد ) وما يقع عن غير قصد لا يكون إلاّ فعل المجانين أو فعل البهائم أو الأطفال.

فإن كانوا مجانين كما يقتضيه تعليله بطل قوله إنهم كانوا محبين له عارفين له فضله ؛ لأن ذلك لا يصح من المجانين ولا يدركونه ، وإن كانوا عاقلين فاهمين كما هو الصحيح ، كانوا قاصدين عامدين مصرّين على قتاله عليه‌السلام وعالمين بما هم قادمون عليه ، فيدخلون جميعا في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي ) ولا شك في أن حرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضلال ونفاق ، فكذلك حرب عليّ عليه‌السلام مثله ضلال ونفاق.

ليس من التورع التقاعد عن نصرة علي عليه‌السلام

الخامس : ليس من التورع والاحتياط في شيء التقاعد عن نصرة عليّ عليه‌السلام وذلك لدخول المتقاعد حينئذ في الخاذلين له عليه‌السلام فيكون مشمولا لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الغدير المتواتر نقله بين الفريقين : ( من كنت مولاه فعليّ مولاه ، أللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحبب من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ) (١) إذ لا شك في أن

__________________

(١) أخرجه ابن عقدة في كتابه عن خمس ومائة من الصحابة بخمس ومائة طريق ، وأخرجه الطبري عن خمسة وسبعين من الصحابة بخمس وسبعين طريقا ، كما أخرجه الجزري في جامع الأصول عن خمسة وستين صحابيا بخمس وستين طريقا كلّها صحيحة ، وكلّ هؤلاء علم من أعلام أهل السنّة الّذين صنّفوا كتبا خاصة في حديث الغدير.

قال ابن حجر في صواعقه ، الشبهة الحادية عشرة من شبهاته : إن الذهبي ـ مع تعنته ـ قد صحح عدّة طرق من طرق حديث الغدير ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأصحابه يوم غدير خم : ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ يكررها ثلاثا ـ فأجابوه ثلاثا : بلى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأحبّ من أحبه وابغض من أبغضه ، وأدر الحق معه حيث دار ).

٢٢

المتقاعد عن نصرته عليه‌السلام يكون خاذلا له عليه‌السلام ومن خذله عليه‌السلام ولم ينصره فقد خذله الله كما يقتضيه نصّ الحديث ، والغريب من عبد الله بن عمر (رض) أنك تراه يترك بيعة عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام حقا ويتقاعد عن نصرته تورعا واحتياطا ـ كما يزعم الآلوسي ـ ثم هو يدخل على الحجاج بن يوسف الثقفي ـ المشهور بسفك دماء الأبرياء ـ ويقول له : أخشى أن أموت ولم أكن قد بايعت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان الأموي فمد يدك حتّى أبايع ، فقال له الحجاج : إن يدي مشغولة فهاك رجلي ، فمسح على رجله ثم انصرف.

السّادس : لو كان كل من الفريقين معذورا ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ، لتعدّى ذلك إلى كلّ من الفريقين ـ فريق المشركين أعداء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفريق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكان كلّ من الفريقين معذورا ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ، وذلك لما تقدّم ثبوته بواضح الدليل أن حرب عليّ عليه‌السلام هي حرب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا صحّ عذر المحاربين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان مقبولا صح عذر المقاتلين عليّا عليه‌السلام وكان مقبولا ، وهذا كفر صراح وذلك مثله كفر صراح.

السّابع : لو كان المقاتلون عليّا عليه‌السلام يوم الجمل معذورين في قتالهم له عليه‌السلام لكان قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للزبير : « تقاتل عليّا وأنت له ظالم » (١) باطلا ، وإبطال قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مروق عن الإسلام ، وفي القرآن : ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) [ غافر : ٥٢ ].

الثامن : لو كان معاوية وأصحابه معذورين في قتال عليّ عليه‌السلام بصفين لكان قول الآلوسي وجدّه في معاوية وأتباعه أنهم من رؤساء الفرقة الباغية على عليّ عليه‌السلام باطلا لا معنى له ؛ وذلك لأنهم من الدعاة إلى النّار ، والداعي إلى النّار لا يكون معذورا قطعا ، وقد جاء التنصيص عليه في حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) أخرجه الحاكم في مستدركه : ٣ / ٩٣٣. في باب فضائل عليّ عليه‌السلام وحكاه ابن عبد البر في استيعابه ص : ٢٠٩ من جزئه الأول في ترجمة عليّ عليه‌السلام وابن قتيبة في الإمامة والسياسة في واقعة الجمل ، وابن عبد ربّه في العقد الفريد ( ص : ١٠٠ ) من جزئه الثالث من الطبعة الأولى ، فلتراجع فإنه متواتر.

٢٣

في عمار بن ياسر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النّار ).

ويقول ابن حجر العسقلاني في إصابته ( ص : ٢٧٤ من جزئه الرابع ) في ترجمة عمار : لقد تواتر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ) الحديث ، وأجمعوا على أنه قتل مع عليّ عليه‌السلام بصفين.

وأخرجه البخاري في صحيحه ( ص : ٩٣ ) من جزئه الثاني في باب مسح الغبار عن النّاس في السبيل من كتاب الجهاد والسير ، وأخرجه أيضا في ( ص : ٦١ ) من جزئه الأول في باب التعاون في بناء المسجد من كتاب الصلاة من صحيحه ، وحكاه الحاكم في مستدركه ( ص : ٣٨٦ من جزئه الثالث ) والذهبي في تلخيصه وحكما بصحته ، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد ( ص : ٢٤٣ من جزئه الثالث ) ولاشتهار الحديث وتواتره اعتذر معاوية عنه ، فقال : إنّما قتله من أخرجه ، يعني عليّا عليه‌السلام فأجابه عليّ عليه‌السلام بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذن يكون قاتلا لعمّه حمزة (رض) حيث أخرجه لحرب المشركين ، فكيف يا ترى يكون الباغي الداعي إلى النّار معذورا على بغيه ودعوته إلى النار كما يزعم الآلوسي المتناقض ، والله تعالى في قرآنه أمر بقتال الباغي وتدميره ، ولعن الدعاة إلى النّار ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) (١) ولا شك في أن عليّا عليه‌السلام سيّد المسلمين وأمير المؤمنين أجمعين ، فسبابه كفر كقتاله كفر بحكم هذا الحديث ، وما يأتي من حديث : ( من سبّ عليّا فقد سبّني ) وسباب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفر ومثله الوصيّ عليّ عليه‌السلام.

وحينئذ فلا يصح في منطق العقل أن يأمر الله تعالى بقتال المعذورين في شريعته بقتالهم عليّا عليه‌السلام بعد أن وصفهم نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفئة الباغية التي تدعوا إلى النّار ، ونعتهم الآلوسي نفسه بالفرقة الباغية فتناقض فيه ، فهو إما أن يقول بوجوب قتال الفئة الباغية التي تدعو إلى النّار ـ على حد تعبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ

__________________

(١) أخرجه البخاري في ص ١٢ من صحيحه من جزئه الأول ، في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ، من كتاب الإيمان.

٢٤

أو لا يقول به ، فإن قال بالأول بطل قوله إنهم معذورون في قتالهم عليّا عليه‌السلام وإن قال بالثاني فقد طعن في القرآن الآمر بقتالهم ولعنهم وطعن في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحاكم بأنهم من الدعاة إلى النار ، وطعن في نفسه وأبطل عليه قوله إنهم رؤساء الفرقة الباغية ، وأيّا كان فهو دليل على ضلاله وفساد مزعمته.

التاسع : إذا كان دخول الشبهة القويّة على المقاتل عليّا عليه‌السلام يوجب عليه قتاله لأنه بزعمه من الدين وليس من الغيّ ، ومتى كان كذلك فهو لا ينافي المحبة ـ كما يزعم جدّ الآلوسي ـ كان قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث : ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النّار ) باطلا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكمه عليهم بأنهم يدعون إلى النّار ـ والعياذ بالله ـ ظالما جائرا ، أو أنه كان جاهلا بدخول الشبهة القويّة عليهم أوجبت عليهم قتاله ، وهو عندهم من الدين لا من الغيّ الموجب دخولهم إلى النّار ، فحكم جازما بأنهم دعاة إلى النّار ، وكلّ أولئك كفر وضلال وخروج عن الإسلام.

فالآلوسي يرى أن نسبته الظلم والجهل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهون عليه من نسبته إلى عدم العذر لرؤساء الفئة الباغية في قتالهم عليّا عليه‌السلام وأن خروجه عن الإسلام وكفره بالله العظيم أولى به من قوله بخروج الفئة الباغية عن الدين بحكم الله وحكم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين أجمعين ، فجدّ الآلوسي إمّا أن يقول بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جاهلا بعدم المنافاة بين قتالهم عليّا عليه‌السلام ومحبتهم له ، وكان هو عالما به ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جاهلا بتلك الشبهة القويّة عندهم التي أوجبت عليهم قتاله وكان هو عالما بها ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلم بأن قتالهم له عليه‌السلام من الدين بسبب تلك الشبهة ، ولا يعلم بأن ذلك لا يوجب لهم البغي ودخول النّار وجدّ الآلوسي علم ذلك كلّه ، أو يقول بأن ما لفقه من العذر للفئة الباغية وما ادعاه من الشبهة القويّة لهم لا يمنع من حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم بالبغي ، وأنهم يدعون إلى النّار فيدخلون في منطوق قوله تعالى : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ) [ القصص : ٤١ ـ ٤٢ ] فإن قال بالأول كان كفرا صراحا ، وإن قال بالثاني كان قوله فيما اعتذر به عنهم باطلا وضلالا مبينا.

٢٥

العاشر : إن ما اعتذر به الآلوسي عن القاسطين من بغاة صفين ، وعن الناكثين في يوم الجمل ، وأن قتالهم عليّا عليه‌السلام لا يوجب ضلالهم وخروجهم عن الإسلام ، وأن من قتل منهم بسيف عليّ عليه‌السلام وأصحابه يومئذ يدخلون الجنّة بغير حساب ، لا يتفق مع القرآن ومناقض للسنّة ؛ أما من الكتاب فقوله تعالى : ( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ ) [ يونس : ٣٢ ] وهو يفيد أنه لا واسطة بين الحقّ والضّلال ، فإن قال : إن الحقّ مع عليّ عليه‌السلام كما هو الصحيح كان الضلال مع مقاتليه عليه‌السلام وإن قال : إن الحقّ مع مقاتليه لزمه أن يلصق الضّلال بعليّ عليه‌السلام وأصحابه ، وفي ذلك تكذيب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه الصحيح المتفق عليه : ( عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، يدور معه حيث دار ) (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشيرا إلى عليّ عليه‌السلام : ( هذا وأصحابه على الحقّ ) (٢) ولا شك في أن تكذيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مروق عن الدين.

وأما السنة فقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصحيح المتفق عليه بين الفريقين : ( من خرج عن السّلطان شبرا مات ميتة جاهلية ) أي ميتة كفر ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ، ثم مات مات ميتة جاهلية ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ليس أحد من الناس خرج من السّلطان شبرا فمات عليه إلاّ مات ميتة جاهلية ) (٣).

__________________

(١) أخرجه الحاكم في مستدركه ( ص : ١١٩ ) من جزئه صحيحا على شرط البخاري ومسلم ، والذهبي في تلخيصه معترفا بصحته على شرطهما.

(٢) أخرج الحاكم في مستدركه ( ص : ١٢٩ ) من جزئه الثالث صحيحا على شرط البخاري ومسلم ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( تكون بين النّاس فرقة واختلاف ، فيكون هذا وأصحابه على الحقّ ، وأشار إلى عليّ عليه‌السلام ) وهو يفيد أن عليّا عليه‌السلام أين ما كان الحقّ معه ، عموما كما هو مفاد اسم الجنس المفرد المعرّف ( بالألف واللاّم ) في كلمة الحقّ ، ومتى كان كذلك كان الضلال في جانب المقاتلين له لقوله تعالى : ( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ ) ومن كان الضلال في جانبه كان في النار ، لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وكلّ ذي ضلالة في النّار ) وأخرج السيوطي في جامعه الصغير في أول ( ص : ٦٤ ) من جزئه الأول عن أحمد في مسنده ، والنسائي ، وابن ماجة وصححه ، عن جابر قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وإن أفضل الهدى هدى محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النّار ) فمعاوية وأصحابه وغيرهم ممن قاتلوه كلّهم بحكم هذه الأحاديث في النار : ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) [ الزمر : ١٩ ].

(٣) وفي صحيح البخاري في باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( سترون بعدي أمورا تنكرونها ) ص ١٤٦ من جزئه

٢٦

وهذه الأحاديث الثلاثة أخرجها مسلم في صحيحه ( ص : ١٢٧ و ١٢٨ ) من جزئه الثاني في باب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، فهذه الأحاديث كلّها تفيد فساد ذلك الاعتذار الّذي أدلى به الآلوسي لتصحيح ما قامت به الفئة الباغية وغيرهم من القتال لعليّ عليه‌السلام بعد أن حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن من مات بعد خروجه على إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وقد أجمع الفريقان من غير جدال على أنّ عليّا عليه‌السلام كان يومئذ هو إمام المقاتلين له والخارجين عليه لا بشبر واحد بل بعشرات الألوف من الأشبار ، وقد جاء التنصيص من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه عهد إلى عليّ عليه‌السلام في قتالهم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أنت تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين من بعدي ) (١).

الاعتذار عنهم وما فيه

وأما اعتذار أوليائهم عنهم بالاجتهاد وأنه لا إثم عليهم فأشبه باعتذار أولياء إبليس عنه في امتناعه من السّجود لآدم عليه‌السلام لأنه وإن بغى وتكبّر لكنّه من المجتهدين مثل القاسطين والناكثين والمارقين ، ولعل جريمة إبليس دون جريمة الفرقتين ، فإن إبليس إنما امتنع من السّجود فخالف أمر الله ولم يسبّ نبيّا ، ولم يقاتل إماما ، ولم يهرق دما لمؤمن ، الأمر الّذي فعله الفرقتان وارتكباه من إراقة دماء الأبرار وسباب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسباب وصيّه عليّ عليه‌السلام بل كيف يصح الاجتهاد ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذابا مهينا بقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) [ الأحزاب : ٥٧ ] وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي حديثه الصحيح عند الفريقين : ( من آذى عليّا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد

__________________

الرابع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( من خرج عن السّلطان شبرا مات ميتة جاهلية ).

(١) أخرجه الحاكم في مستدركه ( ص : ١٣٩ ) من جزئه الثالث في باب فضائل عليّ عليه‌السلام وصححه على شرط البخاري ومسلم ، والمتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد بن حنبل ( ص : ٣٩ ) والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( ص : ٣٤٠ ) من جزئه الثامن ، وغيرهم من حفاظ أهل السنة.

٢٧

آذى الله ) (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه عليه‌السلام : ( من آذى عليّا بعثه الله يوم القيامة يهوديّا أو نصرانيا ) (٢).

ويقول المحبّ الطبري في الرياض النضرة ( ص : ١٧٧ ) من جزئه الثاني ، والحاكم في الصحيح من مستدركه على شرط الشيخين ( ص : ١٢٩ و ١٣٨ ) من جزئه الثالث ، وابن الصبّاغ المكّي المالكي في الفصول المهمة ( ص : ١٢٣ ) بأسانيدهم الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال في عليّ عليه‌السلام : ( أنه إمام البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصرة ، مخذول من خذله ) فلو كان مقاتلوه في يوم الجمل وصفين مجتهدين مخطئين فيكونوا بذلك معذورين في قتالهم له عليه‌السلام ولهم أجر واحد على اجتهادهم ـ طبعا ـ على زعم المخبولين ، لكان قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقاتليه إنهم مخذولون فجرة كذبا باطلا ، والقول بكذب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مروق عن الدين بإجماع المسلمين.

الحادي عشر : كيف يصح لمن له عقل أو شيء من الدين أن يزعم أن قتال القاسطين والناكثين لعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لا ينافي كونهم محبّين له عارفين فضله ـ كما يزعم ذلك الآلوسي؟ ـ وهب أن ذلك كان لشبهة قويّة عند المقاتل أوجبت عليه القتال إلاّ أن ذلك يمنع من بقاء المحبة ويمنع من تعظيمه ، الأمر الّذي أوجب عليه أن يقاتله ويستحلّ لأجله دمه ، ولو فرضنا ـ على سبيل فرض المحال ليس بمحال ـ وجود شيء من التعظيم والمحبّة له عند مقاتليه قبل ذلك ، فإنهما يزولان قطعا بالإقدام على قتاله واستحلال قتله ، وهذا شيء في الوضوح تكاد تراه بباصرة عينك إن لم تكن عليها غشاوة التعصب للباطل البغيض.

الثاني عشر : يقول أمناء الحديث والتأريخ عند أهل السنّة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا عليّ لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق ) (٣) فعلى ضوء هذا

__________________

(١) أخرجه السيوطي في جامعه الصغير ( ص : ١٣٥ ) من جزئه الثاني ، والحاكم في مستدركه ( ص : ١٢٧ ) من جزئه الثالث ، وصححه على شرط البخاري ومسلم.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ، وحكاه عنه العقيلي في ( ص : ٦٧ ) من نصائحه الكافية من جزئه الأول.

(٣) أخرجه مسلم في صحيحه ( ص : ٦٠ ) في باب الدليل على حبّ الأنصار وعليّ من الإيمان ، من جزئه الأول من كتاب الإيمان ، وابن حجر العسقلاني في إصابته ( ص : ٢٧١ ) من جزئه الرابع في ترجمته ـ

٢٨

الحديث ، إذا كان المقاتلون له عليه‌السلام محبين له عارفين له فضله ـ كما يزعم الآلوسي ـ وكانوا معذورين في قتالهم له ـ سواء أكان القتال مقصودا أم لم يكن مقصودا ـ فكيف يا ترى نستطيع أن نعرف المنافق ونميّزه عن المؤمن؟ وكيف نعرف المحبّ من المبغض؟ وليت الآلوسي دلّنا على الميزان الّذي يصح الرجوع إليه في معرفة المحبّ من المبغض ، والمؤمن من المنافق ، لنرجع إليه في معرفة العدوّ من المحبّ ، ونميز به بين المؤمن والمنافق لنرى هل هو ما عليه العقلاء أو يأخذ فيه طريقا يختلقه من طينته.

وقديما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما حكاه إمام أهل السنّة أحمد بن حنبل ، والحافظ الترمذي ، عن جابر : ( ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغضهم عليّا ) (١) ويقول كلّ من له عقل إن من أظهر مصاديق البغض والعداء هو من حشّد العساكر وجيّش الجيوش وهاجم صريحا معلنا لحرب نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

ويرى وجوب قتله ، كما لا يشك عاقل في أن هذا أقصى ما يصل إليه جهد العدوّ من الوقيعة في عدوّه ، بأن يأتي على نفسه وينزل بها من الخطب الشنيع والأمر الفظيع ، فلا يصح بعد هذا كلّه أن يزعم الآلوسي أن المقاتلين عليّا عليه‌السلام محبّون له عارفون له فضله ، بل الصحيح أنهم مبغضون له جاحدون له فضله ، وهذا أمر لا غبار عليه.

الغريب فيما ارتكبته عائشة

والغريب من أم المؤمنين عائشة كيف طفقت تتوصل إلى تمزيق أبنائها ، وكيف لم ينكسر عزمها باعتزال الزبير ومعرفة نفسه أنه ظالم لأمير المؤمنين عليه‌السلام

__________________

لعليّ عليه‌السلام وابن عبد البر في استيعابه ( ص : ٤٧٣ و ٤٧٤ ) من جزئه الأول في ترجمته لعليّ عليه‌السلام والبغوي في مصابيحه ( ص : ٢٠١ ) من جزئه الثاني ، والترمذي في سننه ( ص : ٢١٥ ) من جزئه الثاني في باب فضائل عليّ عليه‌السلام والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( ص : ٤١٧ ) من جزئه الثامن ، وغير هؤلاء من أعلام أهل السنّة ، وهو من الأحاديث المشهورة المتواترة بين الفريقين.

(١) تجده في المقصد الثالث من مقاصد الآية الرابعة عشرة من الآيات الواردة في فضائل أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الباب الحادي عشر من الصواعق المحرقة لابن حجر.

(٢) إشارة إلى آية المباهلة التي جعل الله تعالى فيها نفس عليّ عليه‌السلام كنفس نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : ( وَأَنْفُسَنا ) وقد أجمع المفسرون من أهل السنّة والشيعة على أن المراد بأنفسنا نفس عليّ عليه‌السلام.

٢٩

فهل يا ترى يجدر بها وهي أم المؤمنين التي أمرها الله بأن تقرّ في بيتها : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) [ الأحزاب : ٣٣ ] أن تخرج من بيتها تدعو إلى التفريق بين أبنائها ، وتتذرع إلى بث بذور الفتنة بينهم بكلّ ما لديها من قوّة ، حتّى انخدع بها العدد الكبير من أبنائها ممن فتنتهم بخروجها ، فبعثت بهم إلى مركز جيشها المتألب ، وعند ذلك هجمت بهم وهي في طليعتهم على سياج دين الله الأقوم ، وسرادقه الأعظم ، وكهفه الحصين ، وصراطه المستقيم لتستطيح منه عمده الرفيعة ، وتستبيح من حرمته كلّ منيع ، وحينئذ فلا تسمع من أبنائها إلاّ أصواتا خافتة ، وأنفاسا هافتة ، وهي لا تبرح بين ذلك كلّه تدعو إلى تمزيقهم وتخريقهم ، فكأنها وهي زوجة ذلك المجاهد الأكبر والمنقذ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي صدع بدينه الحنيف ، وشرعه المنيف لكي يقيل به هذا العالم من كبوته ، وينتشله من هوّنه ، وينقذه من ضلالته ، ويعيده إلى الهدى والنور ، تريد أن ترجع بأبنائها القهقرى إلى عهد الجاهلية الأولى عهد الكفر والإلحاد والجحود والعناد ، ذلك العهد المظلم بغياهب الجهل الّذي لم تنجل غبرته بنور الإسلام إلاّ بعد أن تكبد صاحبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبيل تأييده وتوطيد أركانه من النكبات ما يقصر الكلام عن تعريفه ، والقلم عن تعديده ، ولقد فات الآلوسي أن يتمثل بقول الشاعر العربي :

يوم جاءت تقود بالجمل العسكر

لا تتقي ركوب خطاها

فألحت كلاب حوأب نبحا

فاستدلّت به على حوباها (١)

يا ترى أيّ أمة لنبيّ

جاز في شرعه قتال نساها

أيّ أمّ للمؤمنين أساءت

ببنيها ففرقتهم سواها

شتتهم في كلّ شعب وواد

بئس أم عتت على أبناها

نسيت آية التّبرج أم لم

تدر أنّ الرحمن عنه نهاها

__________________

(١) يشير بذلك إلى ما أخرجه الحاكم في الصحيح من مستدركه على شرط الشيخين في ( ص : ١٢٠ ) من جزئه الثالث ، في باب فضائل عليّ عليه‌السلام وابن عبد ربه في العقد الفريد ( ص : ١٠٥ ) من جزئه الثالث في واقعة الجمل ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال مخاطبا زوجاته : ( أيتكن صاحبة كلاب الحوأب ، ثم نظر إلى عائشة ، وقال : احذري أن تكوني أنت ).

٣٠

ذكرتنا بفعلها زوج موسى

إذ سعت بعد فقده مسعاها

قاتلت يوشعا كما قاتلته

لم تخالف حمراؤها صفراها

( وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) [ الإسراء : ٧٢ ].

ثم نقول لهذا الآلوسي : إن الشيعة وإن تناولت بعض الصحابة بالقدح إلاّ أنهم محبّون لهم عارفون لهم فضلهم ، إذ ليس بين ذلك وبين قدحهم تناف ؛ لأن القدح لم يكن مقصودا فوقع ما وقع إن شاء بعضهم أو أبى ، فكلّ من القادح والمقدوح معذور وكان أمر الله قدرا مقدورا ، كما زعم ذلك في المقاتلين عليّا عليه‌السلام.

ولو فرضنا كان القدح فيهم قصدا فهو بشبهة قويّة عند القادح أوجبت عليه القدح ، وهو بزعمه أنه من الدين وليس من الضلال ، ومتى كان كذلك فهو لا ينافي المحبة لهم ـ على حد تعبير جدّ الآلوسي ـ وإذا كان الأمر كذلك عند هؤلاء المخبولين فلما ذا كلّ هذا الغيّ والبغيّ من الآلوسي على الشيعة؟ ولما ذا يا ترى نشر هذا الكتاب وملأه بالسّباب والنيل من كرامتهم ونسبة الكفر والضلال إليهم؟ ولما ذا يا ترى جدد طبعه ( محبّ الدين الخطيب ) على مرأى ومسمع من علماء مصر ومثقفيها؟ والشيعة لم يأتوا بما جاءت به الفئات المقاتلة عليّا عليه‌السلام فإنهم لم يقاتلوا أحدا من الخلفاء (رض) ولم يريقوا دما لأحد من أوليائهم ، ولم يمسّوهم بسوء كما ارتكب ذلك كلّه الفئة المقاتلة عليّا عليه‌السلام وهل تجد لذلك وجها غير كونهم موالين عليّا عليه‌السلام ومعادلين لمعاوية وغيره من الفئات المقاتلة عليّا عليه‌السلام من أولياء الآلوسي ، ومن القبيح جدا أن تجرّ باؤه وباء الشيعة لا تجر.

قول جد الآلوسي وما فيه

الثالث عشر : إن قول جد الآلوسي : ( فقف عند مقدرك فما أنت وإن بلغت الثّريا إلاّ دون ثرى نعال أولئك ) يعطيك صورة واضحة من صور الضلال لاستلزام قوله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقف عند مقدره حينما حكم على معاوية وأصحابه بالبغي وأنهم من الدعاة إلى النّار ، فعلى قول جدّ الآلوسي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣١

وإن بلغ ما بلغ من العلوّ والرفعة فهو دون ثرى نعال معاوية وأصحابه الدعاة إلى النار ، وهل هناك كفر أعظم من هذا الكفر ، فالآلوسي وجدّه إما أن يقولا بعدم التوقف في الحكم على القاسطين بالبغي وأنهم دعاة إلى النار ، أو يقولا بوجوب التوقف كما يقتضيه صيغة الأمر من كلمة ( قف ) في كلامه وإلاّ كان دون ثرى نعال أولئك البغاة الدعاة إلى النار؟

فإن قال بالأول بطل قوله : إن الحاكم عليهم بالبغي والضلال دون ثرى نعال أولئك ، وإن قال بالثاني فقد صار إلى أمر عظيم ، وهو الحكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه دون ثرى نعال أولئك ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الّذي حكم ببغيهم وضلالهم ، وأنهم من الدعاة إلى النّار ، وهو الكفر بعينه ، وكان الأولى بالآلوسي ألاّ يتعرض للشيعة بشيء لئلاّ يتضح للملإ المثقف الحر ـ إن وجدناهم ـ عواره وفساد استدلاله ، وأنه يبرهن بكلامه على إطفاء شعلة ذهنه وسبات عقله : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) [ الرعد : ٣٣ ].

فالشيعة تقول كما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الفئة الباغية وسائر الطوائف العاثية في الأرض الفساد التي خرجت على عليّ عليه‌السلام زمان خلافته عليه‌السلام وتحزّبت وشايعت وبايعت على قتاله كلّهم بغاة ودعاة إلى النّار ، وكلّهم داخلون في قوله تعالى : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ) [ القصص : ٤١ ].

فإذا كان حكم الشيعة على الفئات المقاتلة عليّا عليه‌السلام بالبغي ، والضلال ودخول النار يعدّ ذنبا يؤاخذون عليه فالمسئول عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالأولى بالآلوسي أن يؤاخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكمه عليهم بذلك قبل أن يؤاخذ الشيعة في حكمهم ؛ لأن للشيعة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأسوة الحسنة.

ثم نقول للآلوسي : إن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ عليه‌السلام : ( إنه إمام البررة قاتل الفجرة ) يفيد أن الفئة المقاتلة عليّا عليه‌السلام كلّهم فجرة وليس فيهم

٣٢

بررة ، وأن الفئة التي قاتلت معه كلّهم بررة ، ويقول القرآن : ( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) [ الإنفطار : ١٣ ـ ١٤ ] فكيف يصح للآلوسي أن يساوي ـ عنادا لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بين الفريقين ، فريق الأبرار الّذين كانوا مع عليّ عليه‌السلام وفريق الفجّار الّذين قاتلوه ، ويقول باطلا آثما : ( فكلّ من الفريقين معذور وكان أمر الله قدرا مقدورا ) والله تعالى يقول في كتابه العزيز : ( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ) [ الحشر : ٢٠ ] وهو نص صريح في نفي المساواة بين الفريقين ، ولا شيء من ذلك بداخل في قوله تعالى : ( وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) [ الأحزاب : ٣٨ ] لأن قتال الفئة الباغية وغيرها عليّا عليه‌السلام لم يكن من أمر الله في شيء ولا هو منه على شيء ، بل الأمر معكوس على هذا المستدلّ لأن الله تعالى أمرهم بطاعة عليّ عليه‌السلام لا بقتاله عليه‌السلام وجعل طاعته كطاعة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( من أطاع عليّا فقد أطاعني ، ومن عصى عليّا فقد عصاني ) (١) ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من أبغض عليّا فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ، ومن أبغض الله فقد كفر ) (٢) ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من آذى عليّا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ) (٣) وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) [ التوبة : ٦١ ].

فلو كان قتالهم له عليهم‌السلام من أمر الله ـ كما يزعم ـ لبطل هذا كلّه ، ولما صح قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم أنهم بغاة ودعاة إلى النّار ، إذ لا شيء من أمر الله يدعو إلى النار.

ويزداد لديك فساد هذه المزعمة وضوحا إذا لاحظت ما قبل الآية الكريمة ، وهو قوله تعالى : ( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ

__________________

(١) أخرجه الحاكم في مستدركه ( ص : ١٢٧ ) من جزئه الثالث في باب فضائل عليّ ، وصححه على شرط البخاري ومسلم.

(٢) أخرجه السّيوطي في جامعه الصغير ( ص : ١٣٦ ) من جزئه الثاني وصححه من الطبعة الأولى ، وأخرجه الهيتمي في صواعقه ( ص : ١٢١ ) من الطبعة الأخيرة ، وهو الحديث السّابع عشر من الأحاديث التي أوردها في فضائل عليّ عليه‌السلام في الفصل الثاني من الباب التاسع وحسّنه.

(٣) أخرجه الحاكم في مستدركه ( ص : ١٢٢ ) من جزئه الثالث ، والذهبي في تلخيصه ، وقد اعترفا بصحته على شرط الشيخين.

٣٣

خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) [ الأحزاب : ٣٨ ] فإن معنى الآية : إما أنه ليس على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ضيق فيما أحلّ له من التزويج بامرأة ابن المتبنى لأن حكمه غير حكم الولد الصلبي في تحريم زوجته على أبيه ، أو أنه تعالى فرض وأوجب على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتزوج بزينب بعد طلاق زيد بن حارثة لها كما يدلّ عليه ما قبل الآية ليبطل به حكم الجاهلية في الأدعياء وأنه لا يجري المتبنى ـ بالفتح ـ في تحريم إمرأته إذا طلّقها على الأب ، ويعني قوله تعالى : بـ ( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) [ الأحزاب : ٣٨ ] إما سنّته تعالى في الأنبياء الماضين وشريعته فيهم في رفع الحرج عنهم وعن أممهم بما أباح لهم من ملاذّهم ، أو أنه تعالى أباح لهم كثرة الأزواج كما صنعه داود وسليمان عليه‌السلام فكان لداود عليه‌السلام مائة زوجة ، ولسليمان ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سرية ، أو أنه تعالى يريد بسنّته أن النكاح من سنّة الأنبياء عليهم‌السلام كما جاء التنصيص عليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : ( النكاح من سنّتي ، فمن رغب عنه فقد رغب عن سنّتي ) ويعني تعالى بقوله : ( وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) إما أن ما كان ينزّله تعالى على أنبيائه عليه‌السلام من الأمر الّذي يريده قضاء مقضيا ، أو يعني أن أمره تعالى يجري على مقدار لا تفاوت فيه من ناحية الحكمة ، أو يعني أن القدر المقدور هو ما كان على مقدار ما تقدم بلا زيادة ولا نقصان.

الآية لا تدلّ على ما يبتغيه الآلوسي

وإنما تلوناه عليك بطوله لتعلم أن الآية الكريمة لا تريد ما يبتغيه الآلوسي ولا تدلّ عليه بإحدى الدلالات المنطقية ، وشيء آخر يلزم الآلوسي أن يقول به ، وهو أن قوله تعالى : ( مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) لا معنى له وليس له في الوجود صورة ، وذلك لأن كلاّ من القاتل والمقتول معذور بعد أن كانا مشمولين لقوله تعالى : ( وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) ولا مخرج لهما عن منطوقها ، يدلك على ذلك تعليله هذا بقوله : ( فوقع ما وقع إن شاء وإن أبى أبو الحسنين ، فكلّ من الفريقين معذور ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ) فهو يفيد خروج القتل والقتال عن مشيئة كلّ من القاتل والمقتول بمقتضى تعليله العليل الموجب بطلان الدين في وعده ووعيده ، بل يوجب بطلان التكليف وبطلان بعثة

٣٤

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدم الفائدة حينئذ فيها ، إذا كان كلّ ما يرتكبه الإنسان بنفسه أو بالآخرين خارجا عن مشيئته ، وأنه يقع إن شاء أو أبى وكان أمر الله ـ في ذلك ـ قدرا مقدورا ، والقول بذلك كفر صريح نعوذ بالله منه.

فالآلوسي بهذا المنطق المفلوج والبرهان المعكوس يحاول عبثا أن يعطي بغاة صفين وغيرهم من الخارجين على عليّ عليه‌السلام صفة المحبة له ، والقيام بفضله خشية أن يدخل الفريقان المقاتلان له عليه‌السلام والمستحلاّن دمه في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما تقدم ذكره : ( يا عليّ لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي ) وفي القرآن : ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ) [ النساء : ١٤٥ ] ويقول الكتاب : ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) [ المائدة : ٣٣ ].

فكلّ هذه الأحاديث الصحيحة المسجلة في صحاح أهل السنّة ، وكلّ هذه الآيات الكريمة في القرآن دعت الشيعة الإمامية إلى الانحراف عن المقاتلين عليّا عليه‌السلام والإعتقاد فيهم غير ما يعتقده فيهم أعداء عليّ وبنيه عليهم‌السلام إذ لا يجوز للشيعة وهم مسلمون مؤمنون أن يخالفوا الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكونوا حربا لله وحربا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويريدوا غير ما يريدان ـ كما فعل ذلك الآلوسي ـ ، ويؤكد عقيدتهم في الفئة الباغية من أهل صفين قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من سبّ عليّا فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله فقد كفر ) (١) وقد ثبت بالتواتر القطعي أن رئيس الفئة الباغية معاوية وأصحابه قد سبّوا عليّا عليه‌السلام على المنابر والمنائر في الجوامع والمجامع من سنة سبع وثلاثين من الهجرة إلى سنة تسع

__________________

(١) أخرجه السيوطي في جامعه الصغير ( ص : ١٤٧ ) من جزئه الثاني وصححه ، والحاكم في مستدركه ، والذهبي في تلخيصه وصححاه على شرط البخاري ومسلم في ( ص : ١٢١ ) من جزئه الثالث ، والمتقي الهندي في منتخب كنز العمل بهامش الجزء الخامس عن مسند أحمد في باب فضائل عليّ عليه‌السلام وغير هؤلاء من حفاظ أهل السنة.

٣٥

وتسعين (١) حتى جعلوا ذلك من أورادهم اللاّزمة في مختلف الأوقات ، أللهم إلاّ أن يقول ـ الآلوسي كما قال غيره من أعداء الوصي وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إنهم مجتهدون فأدّى اجتهاد بعضهم إلى التقاعد عن نصرته وخذلانه ، وبعضهم إلى قتله وقتاله (٢) وإهراق دمه ، ومع ذلك فهم محبون له عارفون له فضله فلهم أجر واحد على اجتهادهم وإن لم يكونوا محقين وكانوا مبطلين.

كأن القوم يرون أن الاجتهاد من الدروع الحصينة التي تخول صاحبه صلاحية قتال عليّ عليه‌السلام ووجوب قتله وإن كان ذلك الاجتهاد مقتنصا من الأهواء والضلالات والكفر والنفاق ، وكان مخالفا لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما تقدم نصّه : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) بل وإن كان اجتهادهم في سبّ الله وسبّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي حربهما ، إذن فليرتكب المجتهدون ما شاءوا أن يرتكبوا من

__________________

(١) تجده في ( ص : ٢١٤ ) من سنن الترمذي ( وص : ٢٧٨ ) من صحيح مسلم من جزئه الثاني في باب فضائل عليّ عليه‌السلام و ( ص : ١٢٦ ) من الفصول المهمة لابن الصباغ المكّي المالكي ، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة بل هو معلوم حتى عند اليهود والنّصارى وسائر الملل الأخرى إلى زمن عمر بن عبد العزيز.

(٢) الغرابة في كون معاوية من المجتهدين ومالك بن نويرة ليس مجتهدا : يقول ابن حجر الهيثمي في خاتمه الصواعق : ( إعتقاد أهل السنّة أن معاوية كان من المجتهدين فله أجر واحد على اجتهاده ) والغريب أيها القارئ أن يكون معاوية من المجتهدين فله أجر واحد على اجتهاده في سبّ عليّ عليه‌السلام وقتاله ، ومالك بن نويرة من المرتدين وليس من المجتهدين فله أجر واحد على اجتهاده في امتناعه من دفع زكاته وزكاة قومه إلى أبي بكر (رض) لذا فإن الشيعة تقول إن مالكا لم يصنع مع أبي بكر (رض) ما صنعه معاوية مع عليّ عليه‌السلام من السّباب والقتال واستحلال قتله ، فهل يا ترى وجها لهذا الفارق بين الرجلين سوى أن مالكا خالف أبا بكر (رض) فقط ومعاوية لم يكتف بمخالفته عليّا عليه‌السلام دون أن قاتله واستحلّ سبابه وقتله ، لذا كان مجتهدا فله أجر اجتهاده ، أما مالك فكافر مرتد وليس مجتهدا وله أجر اجتهاده ، ولو كان الأمر معكوسا لانعكس الأمر عندهم فلو كان المخالف لأبي بكر (رض) والممتنع عن دفع زكاته له معاوية وأصحابه لكان معاوية عندهم كافرا مرتدا خارجا عن الإسلام ، ولما صح الاعتقاد عندهم أنه من المجتهدين فله أجر واحد على اجتهاده.

فتفريق أهل السنّة ـ على حدّ قول ابن حجر بين الرجلين ـ بين مالك بن نويرة الصحابي الكبير المحكوم عليه بالارتداد في محكمة خصوم الشيعة دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ثبوت إسلامه بشهادة كلّ من العدلين عندهم عبد الله بن عمر ، وأبي قتادة عند أبي بكر (رض) كما في الإصابة لابن حجر العسقلاني ، لأن مالكا كان مواليا لعليّ عليه‌السلام ومخالفا لأبي بكر (رض) ولا يرى له في عنقه بيعة وبين معاوية بن أبي سفيان المحكوم عليه في محكمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبغي وأنه من الدعاة إلى النّار فيما تواتر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولوصيّه عليّ عليه‌السلام ومستحلّ لحربهما وسبّهما يغني اللّبيب عن التحقيق إذا لم يكن له في العصبية من نصيب.

٣٦

أنواع الضلالات والموبقات وفعل المحرمات ما دام الاجتهاد قد خولهم صلاحية ذلك كلّه ، كما يزعم أولياء الفئة الباغية من أهل صفين تصحيحا وتصويبا لما ارتكبوه من قتل النفوس واستحلال المحرّمات ، وهتك الحرمات ، وما استحلّوه من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما حرّم الله ، وقديما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ستة لعنتهم لعنهم الله وكلّ نبيّ مجاب : الزائد في كتاب الله ، والمكذّب بقدر الله تعالى ، والمتسلّط بالجبروت فيعز بذلك من أذلّ الله ويذلّ من أعزّ الله ، والمستحلّ لحرم الله ، والمستحلّ من عترتي ما حرّم الله ، والتارك لسنّتي ) (١).

وهل يكون الطعن في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي دينه غير هذا ، ويقابل هذا الاجتهاد اجتهاد إبليس ، واجتهاد المشركين ، واجتهاد قتلة عثمان ، وذلك مع الغضّ عن كون اجتهاد الفرقتين مانعا من حبّهم عليّا عليه‌السلام ومانعا من أنهم عارفون له فضله ـ كما يزعم الآلوسي ـ لوضوح بطلان تحقق محبتهم له عليه‌السلام مع انتفاء إطاعتهم له عليه‌السلام كما تقدمت الإشارة إليه في صريح قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) [ آل عمران : ٣١ ] فإن إبليس قد اجتهد في مخالفة أمر الله كاجتهاد معاوية في مخالفة أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي استحق من أجله أن يكون من الدعاة إلى النار ، فلإبليس على زعمه أجر واحد على اجتهاده وإن لم يكن محقّا وكان مبطلا ، ولا يمنع ذلك كونه محبّا لله ، ولا ينافي كونه عارفا له قدره حقّ قدره.

وكذا الحال في مشركي قريش فإنهم اجتهدوا في قتال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجوب قتله لشبهة قويّة عند مقاتليه أوجبت عليهم أن يقاتلوه ، وذلك بزعمهم لا ينافي دينه ، ولا يمنع من كونهم محبين له عارفين له فضله ، فإن جاز مثل هذا الاجتهاد والمخالف لضرورة الدين ، والمقابل لجميع نصوصه القطعية ، والمصادم للأدلّة العقلية الفطرية عند أولياء الفرق الباغية جاز ذلك الاجتهاد لأولئك الأبالسة والشياطين من كفرة قريش وغيرهم من الكافرين ، وهذا لا يقول به ذو دين وذلك مثله لا يقول به من له دين.

__________________

(١) أخرجه السيوطي في جامعه الصغير ( ص : ٣٢ ) من جزئه الثاني عن الترمذي والحاكم عن عائشة ، والحاكم عن ابن عمر وصححه.

٣٧

لما ذا اختار الشيعة عليّا عليه‌السلام إماما بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيره

ثم إننا معاشر الشيعة إنما اخترنا عليّا وبنيه الأحد عشر عليه‌السلام أئمة لنا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون الآخرين ؛ لأن الله تعالى قد اختاره لنا إماما وهاديا ، وأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينصّ عليه بالخلافة العامة على الأمة من بعده ، وذلك لما أخرجه لنا حفاظ أهل السنّة في صحاحهم ، وأمناء الحديث عندهم في مسانيدهم المعتبرة لديهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ عليه بالإمامة بعده ، وكان يذكّرهم بذلك طيلة حياته وفي مختلف أوقاته بمختلف حالاته ، حتى في مرضه الّذي توفي فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحجرة مملوءة بأصحابه ، فقال وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الحال من شدّة المرض : ( أيّها النّاس إنّي مخلّف فيكم الثّقلين ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تأخروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ) (١).

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه ( ص : ٢٢٠ ) من جزئه الثاني عن نيف وثلاثين صحابيا ، وهو من الأحاديث المشهورة المتواترة بين الفريقين ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ( ص : ١١٠ و ١٤٨ ) من جزئه الثالث وصححه على شرطي البخاري ومسلم ، ونقله ابن حجر في صواعقه عن نيف وعشرين صحابيا في الفصل الأول من الباب الحادي عشر في فضائل أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية الرابعة ( ص : ٨٩ ) من طبعة سنة ( ١٣٢٤ ه‍ ) وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( ص : ٤٤٢ ) من جزئه الثامن ، والإمام أحمد بن حنبل في مسنده ( ص : ١٧ و ١٤ و ٢٦ و ٥٩ ) من جزئه الثالث ، وأخرجه مسلم في صحيحه ( ص : ٢٧٩ و ٢٨٠ ) من جزئه الثاني في فضائل أهل البيت عليهم‌السلام.

حديث الثقلين ودلالته على خلافة الأئمة من أهل البيت

وفي هذا الحديث من الدلالة على خلافتهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وجوه تمسّك بها الشيعة تبعا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزولا عند سنّته القطعية :

الأول : إنه نصّ في الدلالة على عدم خلو البيت النبويّ من رجل في كلّ زمان هو في وجوب التمسك به كالقرآن الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مطلقا.

الثاني : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل عترته أحد الثقلين أو الخليفتين ، وحكم بأنهما لن يفترقا ما دامت الدنيا ؛ لأن لن لنفي المستقبل عند أهل العربية فهو يفيد عدم افتراقهما في المعنى أبدا حتى يردا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض ، وهو دليل على عصمتهم لعصمة القرآن فيتعين عصمة أعداله ، والمعصوم أحقّ بالإمامة بل لا تصلح إلاّ له ، والآخرون لم يكونوا معصومين إجماعا وقولا واحدا.

الثالث : إن الحديث نصّ صريح في أن عندهم علم القرآن ، وهو دليل على أفضليتهم من جميع

٣٨

__________________

الأمة ، والأفضل لا يجوز أن يكون مأموما للفاضل فضلا عن المفضول لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أحقكم بالإمامة أقرؤكم ) أي أفضلكم ، على ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ( ص : ٣ و ٥١ و ٨٤ ) من جزئه الأول ، ويقول ابن حجر في ( ص : ١٠ ) من صواعقه في الفصل الثالث من الباب الأول ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) أي أعلمهم بالقرآن ، ويقول البخاري في ( ص : ٤٣ ) من جزئه الثالث في باب وقال اللّيث : حدثني يونس ، من كتاب المغازي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ليؤمكم أكثركم قرآنا ) وأخرج مسلم في صحيحه ( ص : ٢٣٦ ) من جزته الأول في باب من أحقّ بالإمامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( أحقهم بالإمامة أقرؤهم ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فأعلمهم بالسنّة ).

ولأن إمامة المفضول للفاضل فضلا عن الأفضل قبيحة عقلا لذا لا يصح عند العاقل تقديم المبتدئ بالعلوم العربية على الفقيه الجامع لشروط الفتوى ، وتقديم الحائز على شهادة الثانوية العامة على الحائز لشهادة الدكتوراه.

الرابع : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل عترته أعدال القرآن بنصّ حديثه وهو واجب الاتباع ، فكذلك يجب إتباعهم في كلّ أمر ونهي وهو لازم الإمامة ، وهذا معنى وجوب التمسك بهم.

الخامس : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رتب الضلال على تركهما معا والهدى على التمسك بهما جميعا ، فالأخذ بأحدهما دون الآخر لا يغني من الحق شيئا ، بل التمسك بأحدهما دون الآخر لا يكون من الأخذ بأحدهما في شيء ، فكما أن المتخلّف عن القرآن لا يصيبه إلاّ الضلال فكذلك المنحرف عن عترته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصيبه إلاّ الضلال ، وهذا هو معنى لا علم ولا هدى إلاّ ما كان من طريقهم ، ولا سعادة ولا نجاة إلاّ في سلوك مذهبهم.

السادس : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن التقدم على عترته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ شيء ، ورتب الهلاك على المتقدمين عليهم والمتأخرين عنهم أيّا كانوا ، فهو نصّ صريح لا يقبل التأويل في هلاك المتقدمين عليهم من الغرباء والمتأخرين عنهم من الأجانب ، ولقد فات الآلوسي أن يتمثل بقوم الإمام الشافعي :

ولمّا رأيت النّاس قد ذهبت

بهم مذاهبهم في أبحر الغيّ والجهل

ركبت على اسم الله في سفن النّجا (١)

وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل

وأمسكت حبل الله (٢) وهو ولاؤهم (٣)

كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل

إذا افترقت في الدين سبعون فرقة (٤)

ونيّف كما قد جاء في محكم النقل

ولم يك ناج منهم غير فرقة

فقل لي بها يا ذا الرجاحة والعقل

أفي الفرق الهلاّك آل محمّد

أم الفرقة اللاّتي نجت منهم قل لي

فإن قلت في الناجين (٥) فالقول واحد

وإن قلت في الهلاّك حفت عن العدل

فخلّ عليّا لي إماما ونسله

وأنت من الباقين في أوسع الحلّ

(١) يشير إلى حديث السفينة المشهور بنى الفريقين والمتفق على صحته بين الطائفتين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ـ وفي آخر هلك ـ وفي ثالث

٣٩

وهناك غير هذا كأحاديث السفينة ، والنجوم ، وباب حطّه ، وحديث : ( من أراد أن يحيى حياتي ، ويموت ميتتي ، فليتولّ عليّا وذريته من بعدي ، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم باب ضلالة ) فكيف يجوز على شيعتهم أن يرجعوا إلى غيرهم ، ويعدلوا بالخلافة عنهم إلى الآخرين ممن لم يمتّ إليهم بنسب ولم يتصل بهم بسبب ، ويكونوا حرب الله وحرب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكونوا داخلين في قوله تعالى : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ) [ النساء : ١١٥ ] كما دخل فيها غيرهم من المنحرفين عنهم إلى أعدائهم.

لهذا كلّه وأضعاف أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي رواها لنا أعلام أهل السنّة الناصّة على إمامة الأئمة من البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيرهم ، تجد الشيعة لا تأخذ أحكام الشريعة إلاّ منهم ، ولا تصغي إلى مقالة غيرهم أيّا كانوا ، ولا تعتدّ بمزاعم المنحرفين عنهم مهما كبروا في أعين النّاس ، وغثاء البشر تمسكا منهم بسنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامتثالا لأمره ، وفرارا عما رتبه من الهلاك والضلال على المنحرفين عنهم والمتمسكين بغيرهم ، وكيف ينقطعون إلى غيرهم كما صنع هذا الآلوسي وصاحبه الهندي وأضرابهما ممن ثبت انحرافهم عن الوصيّ وآل

__________________

هوى ـ ). وقد اعترف الآلوسي بثبوت صحته في صحاح قومه كما تأتي الإشارة إليه.

(٢) يشير إلى ما سجّله ابن حجر الهيتمي في ( ص : ٩٠ ) من صواعقه في الفصل الأول في الآيات الواردة فيهم عليهم‌السلام في الباب الحادي عشر في الآية الخامسة ، عند قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) فقال إنهم عليهم‌السلام هم حبل الله الّذي يجب التمسك به.

(٣) يشير إلى ما أخرجه ابن حجر في الآية الثامنة من الباب الحادي عشر في الفصل الأول ، في فضائل أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصواعق المحرقة عند قوله تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) أي اهتدى إلى ولاية أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) يشير إلى الحديث الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية والباقية في النار ) وقد أخرجه السيوطي في جامعه الصغير ص (٤٢) من جزئه الأول ، وصححه ، والحاكم في مستدركه ، والذهبي في تلخيصه ( ص : ١٢٨ ) من جزئه الثاني بطريقين ، قالا : وهذه أسانيد تقوم بها الحجّة ، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد ( ص : ٣٠٧ ) من جزئه الثالث عشر ) والإمام أحمد بن حنبل في مسنده : ٤ / ١٠٢.

(٥) يشير إلى حديث السفينة المارّ ذكره.

٤٠