الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

مؤثر واحد واجتماع النقيضين أو لأحدهما مطلقا لزم تخلّف المعلول عن العلّة الموجبة في الأخرى ، وبالإطلاق تخلفهما جميعا وترجيح بلا مرجح في الاقتضاء واللّوازم كلّها باطلة ».

ما جاء به من الوجوه لإثبات أن الحسن والقبح شرعيان باطل

المؤلف : أولا : قوله : « فلأن فعلا واحدا ».

فيقال فيه : ويرد عليه بالنقض بأن نقول : إنّ الشيء الواحد قد يتصف بالحسن والقبح باعتبارين كجهل الإنسان بالفقه وعلمه بالنحو ، وقد اعترف الآلوسي بأنّ الحسن والقبح بمعنى النقص والكمال ، وملائمة الطبع وعدمه كالعدل والظلم مما يحكم العقل بهما ، وإذا كان كذلك فإن كانت الذات في المثال مقتضية لهما معا لزم صدور الأثرين المتضادين عن مؤثر واحد واجتماع النقيضين ، بل جميع ما ذكره من المحاذير العقلية التي زعم أن ذلك من موردها ، وكلّ ذلك باطل وما ذهب إليه أيضا باطل ، فإيراده بهذا الوجه ونحوه من الوجوه على القول بالتحسين والتقبيح العقليّين بمعنى استحقاق الذّم والمدح لو صح ورودها فليست واردة على الشيعة وحدها بل هي أيضا واردة عليه لأنه هو الآخر ممن يقول به بالمعنى المتقدم في مثاله ، فيكون قول الآلوسي موردا لإيراده بهذا الوجه وغيره ، وحينئذ فهو إمّا أن يقول بصحة هذا الإيراد بهذا الوجه ونحوه من الوجوه المذكورة ، وإما أن يقول بصحة حكم العقل بالحسن والقبح بمعنى النقصان والكمال والعدل والظلم ، فإن قال بالأول ـ وهو قوله أيضا ـ بطل قوله الثاني ، وأن قال بالثاني ـ وهو قوله أيضا ـ بطل قوله الأول ، وعلى هذا فاسحب سائر الوجوه الفاسدة التي جاء بها وظنها براهين متينة على فساد قول خصومه بلا تثبت ولا روية ، ولو كان الآلوسي ممن ينتبه إلى تناقضه وتناقض الآخرين من سلفه في بحثه ، وتفطن إلى أن آراءهم وأقوالهم تذبح بعضها بعضا وتنقض بعضها البعض من غير أن يحتاج الناقد البصير إلى التدليل بالأدلة على فسادها لسبق لسانه إلى إختيار ما ذكرنا ولعجّل بالرجوع إلى مذهبنا.

ثانيا : قوله : « فلو كان هذا الاتصاف لذات الفعل ».

٢٦١

فمدخول من وجوه :

الأول : إن اتصاف ذات الفعل بصفة من جهة واتصافه بأخرى من جهة أخرى ليس من باب استلزام صدور الأثرين المتضادين من مؤثر واحد ، ولا قائل بأن ذات الفعل من حيث هي بلحاظها أولا وبالذات تكون حسنة وقبيحة حتى يلزم منه صدور أثرين متضادين من مؤثر واحد كما توهمه الآلوسي ، وإنّما هو من صدور الأثرين المتضادّين من مؤثرين لأن المؤثر في حسنه هو ذلك الإعتبار والمؤثر في قبحه اعتبار آخر ، ومع الاختلاف في الاعتبار يكون ذلك من باب صدور الأثرين من مؤثرين ولا محذور فيه إطلاقا ، ولكن الآلوسي لما خلط بين كون الشيء حسنا باعتبار لأنه مؤثر في حسنه وقبيحا باعتبار آخر لأنه مؤثر في قبحه وبين كون الشيء الواحد بذاته يكون حسنا وقبيحا بلحاظه الأوليّ بنى على خلطه هذا البناء المنهار على رأسه.

فالقائلون بالتحسين والتقبيح العقليّين لا يقولون إن الشّيء من حيث هو يكون حسنا وقبيحا حتّى يستلزم تلك اللّوازم الباطلة في زعم الخصوم ، وإنّما يقولون إنّ العقل إذا ما أدرك حسن فعل لجهة اقتضت حسنه فإنه يحكم بحسنه ، وإذا ما أدرك قبح شيء لصفة اقتضت قبحه فإنه يحكم بقبحه ، فما هذر به الآلوسي كلّه خارج عن الموضوع يحاول به إرهاب قلوب الزعانف ليقال فيه إنه فنّد أقوال الشّيعة بأدلّة عقلية دون أن يشعر هو ويشعرون بأنه لم يأت بغير التخليط الّذي لا قوام له ولا يقوى به إلاّ على من اختلط عقله.

الثاني : إنّ ما زعمه هاهنا لا يتفق مع المثال الّذي جاء به من ضرب اليتيم ظلما وتأديبا ، وذلك لاختلاف الفعل فيه من جهتين كلّ واحدة منهما موجبة لأثرها ، لأن العقل يدرك قبح ضربه ظلما فيحكم بقبحه لهذه الجهة ويحكم بحسنه تأديبا لجهة أخرى لا صلة لها بتلك الجهة التي حكم من أجلها بقبحه ، وليس في هذا ما يقتضي أن يكون الضّرب بذاته حسنا وقبيحا ليكون منشأ جاء به من دعوى اجتماع النقيضين في واحد ، وتخلّف المعلّول عن علّته ، والترجيح بلا مرجح وغير ذلك مما هو معلوم الخروج عن الموضوع أصلا وفرعا ، نعم يلزم القول

٢٦٢

بإنكار التحسين والتقبيح العقليّين الخلوّ المحال المعلوم بالبداهة بطلانه ، وذلك لأن العقل لا يحكم بحسن شيء ولا بقبحه مطلقا ـ على حدّ زعمه ـ والشيء بلحاظ ما يعرض عليه إما أن يكون حسنا أو قبيحا ، ولا يعقل أن يكون بذلك اللّحاظ لا حسنا ولا قبيحا ، كضرب اليتيم مثلا مطلقا سواء أكان ظلما أم تأديبا ، وسواء أكان هناك شرع أم لا ليس بقبيح ولا حسن وهو محال عقلا ، لأنه على سبيل المنفصلة الحقيقية إما قبيح وإما حسن فتأمل.

اقتضاء الذّات لصفتين متضادتين ليس علّة تامّة في التأثير

الثالث : إن اتصاف ذوات الأفعال بصفتين متضادتين بنحو الاقتضاء لا يستلزم صدور أثرين عن مؤثر واحد لعدم كون اقتضاء الذات لهما موجبة تامة في التأثير لتوقف تأثير المقتضى على عدم المانع وثبوت الشّرط ، لأن تأثير العلّة في معلولها مطلقا منوط بتحقق شروطها ومع فقدها لأحد الشروط المعتبرة في التأثير طبعا تنتفي العلّة الموجبة ، وشروط العلّة ثلاثة : ١ ـ وجود المقتضى. ٢ ـ عدم المانع لتأثير المقتضي بمقتض آخر ، ٣ ـ الشرط لتأثير المقتضي وهو قابلية الموضوع لتأثير المقتضى فيه ، فإذا تحققت هذه الشروط وتوفرت فيه تحققت الموجبة في التأثير وإلاّ فلا ، والمقام من هذا القبيل فلأن كون الذّات مقتضية لهما معا فمع قطع النظر عن كون ذلك باعتبارين موجبين لهما كما تقدم لا يلزم منه صدور أثرين متضادين من مؤثر واحد في آن واحد ؛ لأن تأثير أحد المقتضيّين بنحو الموجبة التّامة هو مانع من تأثير المقتضى في الآخر قطعا.

وبعبارة أخرى أن الذّات المقتضية لأحدهما خاصة تكون علّة موجبة في التأثير فتمنع من تأثيره المقتضي في الآخر فيكون القوي من المقتضيّين في التأثير مانع من تأثير الضعيف ، وذلك ما لو فرضنا أنّ العقل قد أدرك حسن شيء لجهة اقتضت حسنة فيكون موجبة تامّة للحكم بحسنه ، وهذا ما يمنع علّة الحكم بقبحه لعدم توفر شروطه ومجرد الاقتضاء لا يكون موجبة تامّة في التأثير لعدم تحقق شروطه كما ألمعنا.

ومن ذلك تعرف فساد قول الآلوسي : ( وإن كانت الذات مقتضية لأحدهما مطلقا لزم تخلّف المعلوم عن العلّة الموجبة في الآخر ) لأن التخلّف الباطل إذا

٢٦٣

كان الآخر علّة موجبة للتأثير إمّا إذا كان من سنخ المقتضي فلا تكون موجبة لعدم اجتماع شروطه فلا يكون الآخر علّة موجبة للتأثير مع وجود المانع ولا يلزم من ذلك الترجيح بلا مرجح في الاقتضاء كما توهمه الخصم ، لأن المرجح لأحد المقتضيّين هو العقل بعد إدراكه جهة الترجيح في أحدهما فيمنع ذلك من الرجحان بلا مرجح ، على أنّه رجوع إلى منع إدراك العقل بدعوى الترجيح بلا مرجح وهو عين الدعوى فلا يصح أن يكون دليلا على إثبات المدّعى.

قال الآلوسي ص : (٥٢) : « وإما بطلان الثاني ـ يعني أن اقتضاء الأفعال المدح والذم لصفاتها ـ فلأنه إن كانت الصّفات لازمة للذات لزم اجتماع النقيضين مطلقا والصدور والتخلف إن كانت العلّة الموجبة لهما صفة واحدة وهو ظاهر ، وإن كانت من العرض المفارق فلأن عروضها إما لذات الفعل أو لصفة أخرى لها لا سبيل إلى الثاني لبطلان التسلسل وكذا إلى الأول لبطلان قيام العرض بالعرض أو لمجموعها فينتقل الكلام إلى عروض تلك الصّفة الأخرى فحينئذ يلزم هاهنا ما لزم ثمة ».

هاهنا تضحك الثكلى وتجهض الحبلى

المؤلف : ينبغي هاهنا أن تضحك الثكلى وتجهض الحبلى ـ فيا للحكماء والمتكلمين هكذا فليكن سحر البيان والحكمة وإلاّ فلا ، والّذي يظهر من كلمات الآلوسي أنه في الأصل لم يفهم كلام ذلك الهندي فقصد تلخيص كلماته العربية في هذا الموضع ، ولكنه لم يهتد إلى فهمها بل ولم ينتبه ذلك الهندي إلى هذيانه هاهنا ، وإنّما أورده لأنه رأى شيئا مسطورا في كتب أشياخه من غير أن يفهمه أو يدري ما هو فجاء به وهو يحسب أن مثل هذا الهذيان والهراء دليل على إبطال التحسين والتقبيح العقليّين ، ونحن لا نعذله ولا نعذل ذلك الهندي على هذيانهم لأن مسألة الحسن والقبح العقليّين لا يتحملها إلاّ ذوو العقول النيّرة والأفهام المستقيمة ، ولا يدرك مغزاها إلاّ أولوا البصائر ، ولا يصل إلى غورها إلاّ أولوا الألباب ، أما الجاهلون الّذين لا يدركون حسن الشيء وقبحه فليس لهم أن يدخلوا في أمثال هذه المسائل التي زلّت فيها أقدام كثيرين من الأعلام ، وليس من حقّهم

٢٦٤

أن يحشروا أنوفهم فيما لا يعرفون وهم يدرون ، ولكن الجاهل المغرور يتقحم فيما لا يعلم ويلج فيما لا يدري وهذا شأنهم في كلّ أمة وفي كلّ مصر ، فإنهم يضعون أنفسهم مواضع العلماء فيضعون على رءوسهم شعار أهل العلم يغرون به العوام ورجرجة الناس.

ومن المؤكد أن أولئك العامة من الأمة لو كانوا يعلمون فراغه من كلّ علم وامتلاءه بكلّ جهل لولّوا منهم فرارا ، ولألبسوهم شعار الخزي والعار والفضيحة والشنار ، ولعرفوا أنهم جاهلون وأنهم خالو الوطاب فارغوا الجراب.

أما جواب ما هذر به هاهنا فهو ـ وإن كان لعمر الله ليس جديرا بالجواب ـ إذ لا جواب للهذيان والتناقض ، ومع ذلك فإنّا نجيبه توضيحا لما ارتكبه من الهراء.

أما قوله : ( فلأنه إن كانت الصّفات لازمة للذات لزم اجتماع النقيضين ).

فيقال فيه :

أولا : ما قلناه في إيرادنا على أول الوجوه من أن صفة العدل والظّلم والنقص والكمال التي اعترف الآلوسي بأن العقل حاكم بالحسن والقبح فيها إمّا أن تكون لازمة للذات أو لا ، فعلى الأول يلزم اجتماع النقيضين والصّدور والتخلّف إلى نهاية ما زعمه واردا على هذا القول وعلى الثاني كذلك ، فهو إمّا أن يقول بصحة هذيانه هنا أو بصحة قوله هناك من حكم العقل بهما ، فعلى الأول يبطل قوله الثاني هناك وعلى الثاني يبطل قوله الأول هنا ، ولو لم يكن لنا إلاّ تناقضه هذا الدالّ بدلالته على فساد قوليه لكفانا مؤنة الردّ عليه وبطلان ما ذهب إليه.

ثانيا : ليست الصّفات المتّصفة بها الذّات من لوازمها حتّى يستلزمها اجتماع النقيضين ، وإنما هي صفات لا حقة للذات مقتضية لحكم العقل بحسنه أو قبحه بحسب الاقتضاء كالصّدق والعدل والحياء ونحوها من الصّفات العارضة على الذوات المقتضية لحكم العقل البديهي بمدح صاحبها ، وعلى عكسه ينعكس حكمه كما لو اتّصف بالكذب والخيانة والظّلم وخبث الحصانة فإنها تقتضي حكم العقل بذمه وطرده وتبعيده وعقابه.

٢٦٥

وأما قوله : « وإن كانت من العرض المفارق فلأن عروضها إما لذات الفعل أو لصفة أخرى لها لا سبيل إلى الثاني وكذا الأول لبطلان قيام العرض بالعرض ».

فيقال فيه : نحن نختار العروض لذات الفعل فإن كانت مقتضية لحسنه حكم العقل بحسنه وإن اقتضت قبحه حكم بقبحه.

وأما قوله : ( وكذا الأول لبطلان قيام العرض بالعرض ).

فنقول فيه : أولا : إن ذلك كلّه وارد على ما اعترف به من حكمه بهما بمعنى كمال الشيء ونقصه كصفة العلم والجهل ، وبمعنى ملائمة الطبع كصفة العدل والظلم.

ثانيا : نحن لا نشك في أن الآلوسي يكتب بغير عقل ويفقه بغير قلب فيملي هذيانه لا عن شعور ولا دراية على مسامع ( محبّ الدين ) الخطيب صاحب مجلّة ( الأزهر ) الذي قام أخيرا بتجديد طبع هذا الكتاب الّذي كلّه جهل وتناقض وضلال فكشف عن سوءة مؤلفه فبان للناس فحمة ذاته.

فإنك تراه يقول : ( فلأن عروضها إما لذات الفعل أو لصفة أخرى لها ) ثم بعد هذا يقول ( لا سبيل إلى الثاني لبطلان التسلسل ) فكان من اللاّزم عليه أن يبيّن لنا الوجه في هذا التسلسل المزعوم ، لو كان يريد به توقف تلك الصّفة على صفة أخرى وهكذا فإن بطلانه واضح ، فإن لحوق صفة الصّدق مثلا للذات لا يتوقف على صفة أخرى حتى يترامى في الوجود إلى ما لا نهاية له من الصّفات لكي يلزم التسلسل على حدّ زعمه ، ولو صح لكان واردا على ما اعترف بصحته بالمعنيّين المتقدمين فما يكون جوابه هناك يكون هنا ، وإذا راعك منه هذا الخلط فانظر إلى قوله : ( وكذا الأول لبطلان قيام العرض بالعرض ) فإن قيام العرض بالعرض إنّما هو من لوازم قوله الثاني ، أعني قوله : ( أو لصفة أخرى لها ) إذ ليس في عروضها لذات الفعل الّذي هو عين قوله الأول من قيام العرض بالعرض حتّى يعلل بطلانه بقيام العرض بالعرض لعدم وجود عرض هاهنا ، وإنّما هو ذات الفعل قد عرضت عليه صفة أوجبت إما حسنه أو قبحه فأي عرض يا ترى في البين حتى يكون بعروض تلك الصّفة على الذات قائما بالعرض لا بالذات؟

٢٦٦

فالآلوسي كتب ما كتب وهو إلى هنا لا يفرق بين الذات وبين العرض ولا يعرف شيئا من أمرهما ، وإنّما نقل ذلك عن كتاب هندي بلا تعقل ولا روية وبالطبع أن ذلك الهندي أيضا التقطه من وراء كتب بعض أشياخه فنقله إلى اللّغة العربية وهو غير عارف بمعنى ما نقله سوى أنه رأى ألفاظا هندية خطّها أحد علماء سلفه حول أمثال هذه القضايا الفلسفية ، فأراد أن يظهر للناس نفسه على أساس حبّ البروز الشخصي من جهة والحقد الشخصي على الشّيعة من جهة أخرى ، وأن يبيّن للناظرين من أبناء قومه الهنود جهله وبغيه فسطّرها في كتابه على فسادها وهو غير عارف بشيء من معناها ، ومن المقرر عند أهل الفن أن المفروض بمن يريد أن يترجم أية لغة إلى لغة أخرى أن يفهم أولا تلك اللّغة جيّدا حتّى يتسنى له ترجمته إلى تلك اللّغة المطلوبة ، لذا لا يصح لمن كان هنديا لا يحسن شيئا من لغة العرب سوى الخبط في الألفاظ أن يترجم شيئا من الهندية إلى العربية ، كما لا يصح لمن يجيد العربية ولا يفهم شيئا من اللّغة الهندية أن ينقل شيئا من الهندية إلى العربية ، وكذا الحال في كافة اللّغات فإنه يجب على الناقل أن يجيد كلاّ من لغة المنقول عنه والمنقول إليه لكي تأتي الترجمة صحيحة متقنة سالمة من الغلطات اللّفظية والمعنوية.

ولكن الهندي لم يراع هذه القاعدة في ترجمته فترجم ما لا يفهم ولم يفهم ما ترجم ، وجاء ( شيخ الإسلام ) محمود الآلوسي من وراء ظهره فنقل ما سطّره الهندي في أساطيره المهملة دون أن يتفطن حين نقله إلى غلطاته فتناقض هو وإيّاه في أبحاثه أقبح تناقض.

الاعتبارات أمور غير عدمية

قال الآلوسي : « وأما بطلان الثالث ـ أي اقتضاء الأفعال المدح والذم بالاعتبارات ـ فلأن الاعتبارات أمر عدمي ولا يكفي في العليّة وجود المنشأ ، والحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه من الوجوديات ، ولا يكون علّة الوجودي اللاّوجودي ، مع أنّ ما يضاف إليه تلك الاعتبارات أفعال أيضا ، فحسنها وقبحها إن كان بالمعنى المتنازع فيه لزم الدور أو التسلسل أو بمعنى غيره ، فلا يلزم سراية الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه باعتباره في المضاف للتباين ».

٢٦٧

المؤلف : هذه صورة ثانية من فلسفة الآلوسي المقتبسة من ذلك الهندي الّذي تخبّطه الشّيطان من المسّ ، فخلط الحابل بالنابل في فلسفته العوراء ونظريته الحمقاء التي ما توهمها وأهم ولا خطرت على ذهن فاهم فكيف بالآلوسي وأخيه الهندي.

أما قوله : « فلأن الاعتبارات أمر عدمي ».

فيقال فيه : أولا : بالنقض فيما اعترف به من حكم العقل بالحسن والقبح بمعنى النقص والكمال كالعلم والجهل ، وملائمة الطبع كالظلم والعدل ، فإنه يأتي عليه كلّ ما يأتي على ذاك لو صح شيء من ذلك فما يكون جوابه هناك يكون هنا ، وكلّ ما يقوله هو فنحن نقوله.

ثانيا : إنّ الأمور الاعتبارية ليست عدمية وإنّما هي أمور وجودية بالإضافة إلى الذات ، فإن زيدا مثلا باعتبار صدقه يكون حسنا وعمرو باعتبار كذبه يكون قبيحا ، والمضاف إلى الوجودي وجودي ، فالاعتبارات منتزعة عن أمور وجودية نظير الرّقيّة والحريّة والفوقية والتحتيّة ونحوها من الأمور الاعتبارية المنتزعة عن الأمور الوجودية فهي ليست بأعدام كما توهمه الجهّال.

وأما قوله : « والحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه من الوجوديات » فيرد عليه بالنقض.

أولا : أن الحسن والقبح بمعنى النّقص والكمال وبمعنى ملائمة الطبع من الوجوديات ، فإن صح ورود هذا عليهما صح وروده عليه ووروده عليهما غير صحيح وباطل فذلك وروده عليه باطل وغير صحيح ، وكلّ ما يقوله فيهما نقوله فيه.

ثانيا : إنّ الشيء باعتبار عدم حسنه يكون قبيحا ، وباعتبار عدم قبحه يكون حسنا ، وعلى الأول باعتبار عدم حسنه يكون مذموما ، وعلى الثاني باعتبار عدم قبحه يكون ممدوحا ، فالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه أيضا أمور اعتبارية

٢٦٨

إضافية لأن عدم القبح حسن ممدوح وعدم الحسن قبح مذموم وهو عين المتنازع فيه ، ولا يخفى بعد هذا سقوط قوله : ( ولا يكون علّة الوجودي اللاّوجودي ) لأن الاعتبارات أمور وجودية مقتضية لاتصاف ما تضاف إليه بالحسن أو القبح.

وأما قوله : « مع أن ما يضاف إليه تلك الاعتبارات أفعال فحسنها وقبحها إن كان بالمعنى المتنازع فيه لزم الدور ».

فيقال فيه :

أولا : إن كان ثمة ما يلزم فيه الدور بالمعنى المتنازع فيه فإنه يلزم الدور فيه أيضا بالمعنيّين المعترف بهما من الآلوسي ، فما يكون جوابه هناك يكون هنا.

ثانيا : كان من اللاّزم عليه أن يصور لنا الدور المزعوم فيه ويبيّن لنا توقف الشّيء من الجانبين صريحا أو مضمرا ، أو التوقف على ما لا نهاية له ، ومن حيث أنه أهمل بيانه علمنا أنه نقل مقال ذلك الهندي دون أن يفهم هذيانه ، والهندي هو الآخر حكاه وهو لا يفهم ما يحكي ويحكي ما لا يفهم ، ولعلّه يريد كما قيل إن تلك الاعتبارات التي تضاف إلى الأفعال إن كان حسنها أو قبحها بمعنى ترتب الثواب أو العقاب عليها يتوقف على معرفة المدح أو الذم على الأفعال المضافة إلى تلك الاعتبارات ، فلو توقفت معرفتهما عليها لزم الدور ، فإن أراد هذا ففساده غني عن البيان ، وذلك لأن المدح أو الذم على الأفعال المضافة إلى تلك الاعتبارات لا يتوقف على معرفة المدح أو الذم لكي يلزم الدور وإنما يتوقف على حكم العقل بترتب المدح أو الذم على تلك الأفعال المضافة إليها ، وإذا اختلفت جهة الموقوف والموقوف عليه ارتفع الدور ـ لو كان ثمة دور ـ.

وإن كان يريد أنّ الحكم بحسن الفعل أو قبحه بالإضافة إلى تلك الاعتبارات إن كان بمعنى المدح أو الذم لزم أخذ ما هو متأخر طبعا وهو المدح أو الذم فيما هو المتقدم طبعا وهو الحسن والقبح وهو محال.

فجوابه واضح : وهو أن المسألة المتنازع فيها هي حكم العقل باستحقاق الذم أو المدح على فعل القبيح أو الحسن ، وإنّما يحكم جزما بترتب ذلك عليه بالإضافة إلى تلك الاعتبارات المقتضية لحسنه ، وعلى عكسه يحكم جازما بترتب

٢٦٩

الذم عليه ، فحكمه بالمدح أو الذم على ارتكاب الفعل تابع لحكمه بحسنه أو قبحه وهو غير مأخوذ فيه بالإضافة إلى تلك الاعتبارات ، فتلك الاعتبارات المضافة إلى الفعل علّة موجبة لحكم العقل بحسنه أو قبحه المستتبع لحكمه بترتب المدح أو الذم على فاعله فلا دور ولا خلف فيه إطلاقا إن أردنا من الحسن والقبح المدح والذم على تلك الأفعال المضافة إلى تلك الاعتبارات ، وإنّما يأتي الدور الصريح على القول بأنهما شرعيان كما ستقف عليه عند تقرير أدلة المذهب المنصور على مذهب الخصوم.

وأما قوله : « أو بمعنى غيره فلا يلزم سراية الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه ».

فيقال فيه :

أولا : إذا كان لا يلزم سراية الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه ، إذا كان بمعنى غيره ـ على حدّ زعمه ـ فلا يلزم سرايتهما ، كذلك أيضا إذا كان بمعنى الكمال والنقص وملائمة الطبع المعترف بحكمه بهما من الآلوسي نفسه ، فما يجيب به هناك نجيب به نحن هنا.

ثانيا : إنّ الحسن أو القبح هو بمعنى المدح أو الذم في الأفعال المضاف إليها تلك الاعتبارات لا غير ، وقد استقلّ العقل بالمدح في الأول والذم في الثاني ، كالصدق مثلا فإنه ممدوح والكذب فإنه مذموم عقلا ، وهذا يطّرد ويسري في كافة الأفعال بالوجوه والاعتبارات الواقعة عليها ، وما زعمه الخصم من عدم السّراية خلط وخبط ناشئ من عدم فهمه بمحل النزاع فيبني عليه ما يشاء.

وجملة القول : إنّ محلّ النزاع هو إعطاء العقل صلاحية الحكم بالمدح على فعل الحسن والذم على فعل القبيح ، والثواب للأول والعقاب على الثاني سواء أكانا مستندين إلى الصّفات القائمة بالأفعال أو بالوجوه والاعتبارات الواقعة عليها.

ثم إنّ الآلوسي لم يذكر أدلّة المذهب المنصور القائلين بالتّحسين والتّقبيح العقليّين ، وإنّما اقتصر على ذكر أمور فاسدة وحكاية أباطيل خارجة عن الموضوع يحاول بها تضليل العقول ، ولا شك في أنّ هذا ليس من صفات المسلم الباحث

٢٧٠

عن الحقائق للوقوف على الحقيقة والصّواب ، وليس من سمات من يريد تهذيب النفوس وتحلّيها بالعقائد الحقّة ورفع ما يختلج في أذهان النّاس من الشك والشبهة ، وإنّما هو غش وتدليس لا يرتكبهما إلاّ من يريد إماتة الدين والإتيان على آخر نفس من أنفاس الحقّ واليقين ، وقديما

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ليس منّا من غشّنا ) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ليس منّا من غشّ مسلما ).

البرهان على أن الحسن والقبح عقليان

وها أنا ذا أيها القارئ أحرر لك ذروة من البراهين على كونهما عقليّين على سبيل الإجمال مراعاة للاختصار ، ليتجلّى لك واضحا فساد مذهب الآلوسي وانهدامه من أساسه ، ثم نعرّج بعد ذلك على تزييف مزاعمه الزائفة :

الأول : إنّ كون الحسن والقبح شرعيّين يعني ليس للعقل أن يمدح أو يذم إطلاقا ، ويلزم هذا القول إنكار كلّ ما هو بديهي ومعلوم عند جميع العقلاء من حسن الصّدق النافع والمدح عليه ، وقبح الكذب الضّار والذم عليه ، ولا ينكر هذا إلاّ السّفسطائيون الّذين ينكرون بياض النّهار وسواد اللّيل.

الثاني : ما هو ثابت بالعيان ويحكم به الوجدان من أن العاقل المختار الّذي لم يسمع شيئا عن الشّرائع ، ولم يعلم شيئا من أحكامها ، بل نشأ في إحدى البوادي الخالية عن كلّ شريعة فخيّروه بين أن يصدق في خبره ويمنح دينارا أو يكذب فيه ويعطى دينارا أيضا ، فلا شك في أنه يرجح جانب الصّدق على الكذب ، ولو لا حكم عقله بقبح الكذب وترتب الذم عليه ، وحسن الصّدق والمدح عليه لما فرّق بين الموضوعين ـ موضوع الصدق وموضوع الكذب ـ وكيف يا ترى يختار الصّدق دائما مع تساويهما في الداعي لو لا حكومة عقله بحسن الأول وقبح الثاني.

هذا بخلاف القول بأنّهما شرعيان ، وأنّ ما حسّنه الشّارع فهو الحسن ، وما قبّحه فهو القبيح ، سواء أكان قبيحا في نفسه وأمر بحسنه أو حسنا في نفسه وأمر

__________________

(١) أخرجه السيوطي في جامعة الصغيرة ص : (١١٧) من جزئه الثاني وصححه.

٢٧١

بقبحه كما هو مذهب الآلوسي من أنّه أمر بالصّدق فصار بأمره حسنا ونهى عن الكذب فصار بنهيه قبيحا ، وبالعكس يكون الحكم عكسا على نحو يجوز أن ينهى عن الصّدق مطلقا ويأمر بالكذب مطلقا ، وبطلان هذا عند عقول البشر أظهر من بطلان القول بأن الواحد ليس نصف الإثنين.

ولا جائز أن يقول الآلوسي : إنّ الصّدق والكذب قبل الأمر والنهي كانا مشتملين على جهة الحسن والقبح بمعنى النقص والكمال دون الجهة المحسّنة والمقبّحة بمعنى المدح والذم للتناقض الصريح بين قوليه ، وذلك فإن قوله أخيرا : ( إنّ الأفعال لا اقتضاء لها في نفسها بشيء من الحسن والقبح مطلقا بحيث يستحق عليه المدح والذم ، وإنما صار حسنا بأمره وقبيحا بنهيه حتّى لو انعكس لانعكس الحكم ، بأن أمر بالقبيح ونهى عن الحسن ) كما في ص : (٥٢) من مزخرفاته.

وهذا القول يعني أنها لا توصف بشيء من الحسن والقبح مطلقا وإنّما حسنها وقبحها منوطان بأمر الشّارع ونهيه ، وقوله :

( أولا باشتمال الأفعال على الحسن والقبح بمعنى النقص والكمال كالعلم والجهل وملائمة الطبع كالظلم والعدل ) يقتضي أنها توصف بشيء من الحسن والقبح ، وهل هذا إلاّ تناقض فاضح وجزاف في الحكم والتحكم على الله بغير علم ، على أنّه لا يجوز النهي عن الصّدق بالضرورة وإلاّ لزم المساواة بين الصّدق والكذب والإيمان والشرك هكذا ، والقائل بهذا لا يحسن الكلام معه لأنه ساقط العبارة ، ومنه يتضح بطلان ما ذهب إليه من أنه أمر به فصار بأمره حسنا ، وكذا الكلام في الظلم والعدل ونحوهما من التحسين والتقبيح العقليّين فإنه ليس بد من النزول على حكم العقل بهما.

الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لما حكم من ينكر الشرائع بأسرها كالبراهمة بحسن الحسن وقبح القبيح والمدح على الأول والذم على الثاني ، لأنهم لا يعتقدون بشريعة ولا يدينون بدين مطلقا مع أنهم يحكمون بالحسن والقبح اعتمادا على حكم العقل الضروري بذلك ، ولم يكن اعتمادهم على حكمه فيه إلاّ من حيث أنّ عند عقولهم قبل ورود الأمر والنهي جهة موجبة لحسن الصّدق وصفة

٢٧٢

موجبة لقبح الكذب ، ولا يلزم من إنكارهم هذا عدم معرفتهم بالثواب في الأول والعقاب في الثاني لأنهم وإن أنكروا الشّرائع كلّها إلاّ أنهم لم ينكروا شيئا من الإلهيات كي لا يعرفوا الثواب والعقاب على الأفعال ، وإنّما قالوا إنّ المعرفة بذلك غير موقوفة على إرشاد المرسلين عليه‌السلام وتعليم النبيّين عليه‌السلام لأن حكم العقل به كاف عن إرشادهم عليهم‌السلام فراجع ص : (٦٩) من الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم من جزئه الأول لتعلم ثمة بطلان ما زعمه هذا الآلوسي وصحة ما نقول.

الرابع : حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور ، كتكليف الأعمى بتنقيط المصحف ، والمقعد بالطيران إلى السّماء ، وحسن التكليف بالمقدور وحكمه الضروري بقبح ذم العلماء لعلمهم ، أو الزهاد لزهدهم وحسن مدحهم ، وحكمه بقبح مدح الجهال لجهلهم وحسن ذمهم عليه ، وحكمه بقبح العبث من العاقل ، كما لو دفع شخص لآخر في سلعة له مائة دينار في بلده ودفع إليه آخر مائة دينار في بلدة أخرى بشرط أن يحملها إليه ويتحمل عناء السّير وعناء السّفر مع تساوي القيمتين هنا وهناك فاختار الأخير ، إلى غير ما هنالك من حكمه البديهي مما لا سبيل إلى إنكاره وجحده حتّى من الصبيان الّذين لا يتأتى لهم غالبا الحصول على الضروريات إلاّ من هذا الآلوسي وأخيه الهندي وغيرهم من خصوم الشيعة وأعدائها.

الخامس : لو كان الحسن والقبح شرعيّين وليس للعقل فيهما حكم لما قبح من الله شيء كما يعتقد الخصوم من أنه لا قبح منه ولا واجب عليه ، لذلك أسندوا جميع الأفعال إليه تعالى سواء أكانت حسنة أم قبيحة بنظر العقل ، فجوّزوا على الله أن يظهر المعجزات وخوارق العادات على أيدي الكاذبين ، وتجويز ذلك على الله من أقوى العوامل على سدّ باب معرفة النبوّة وغلق باب الرسالة ، وذلك لأن كلّ نبيّ لو أظهر المعجزة بعد ادعائه النبوّة فلا يمكن الحكم بصدقه مع جواز إظهار المعجزة على يد الكذابين في دعوى النبوّة وتلك قضية كونهما شرعيّين ، على أنّ من الواضح قبح الحكم عقلا بعدم قباحة صدور القبائح المعلوم قبحها بالبداهة العقلية من الله تعالى ، فكيف يحكم هؤلاء بعدم قباحة صدورها من الحكيم الكامل الغني المطلق.

٢٧٣

وأما زعم الآلوسي : « أنّ عدم إظهاره تعالى المعجزة على يد الكذّابين ليس لكونه قبيحا بل لعدم جريان عادة الله على إظهار المعجزات على أيدي الكذابين ».

فهذا شيء التقطه من وراء أشياخه دون أن يفكر في عدم صحته ، وذلك فإنه إذا كان : ( لا واجب عليه تعالى ولا قبح منه ) كما يقول الخصم فلا يجب عليه إجراء تلك العادة ، وحينئذ فلا يوجب إظهارها القطع بصدق دعوى النبوّة ، ثم إنّ عدم جريان عادة الله على إظهار المعجزات على أيدي الكاذبين ـ كما يقول الخصوم ـ موقوف على العلم بجريان عادته على عدم إظهاره المعجزة على يد الكاذب ، فلو توقف العلم بجريان عادته على عدم إظهار المعجزة على يد الكاذب لزم الدور الصريح وهو باطل ، وما يتوقف على الباطل باطل.

السادس : لو كان كلّ من الحسن والقبح شرعيّا ولا قبح من الله ولا واجب عليه لكان من الحسن أن يأمر الله تعالى بالكفر وعبادة الأصنام والسّجود للأوثان وتكذيب الأنبياء عليهم‌السلام والسّرقة والزنا ونحوها من أقذار القبائح العقلية ولحسن منه تعالى أن ينهى عن العبادة الواجبة كما يزعم الآلوسي في ص : (٥٢) من كتابه بقوله : ( وكلّ ما نهى عنه فهو قبيح حتّى لو انعكس الحكم لانعكس الحال كما لو نسخ الوجوب إلى الحرمة ) ويعني هذا تحريم العبادة الواجبة لأن تلك الجرائم والمنكرات غير قبيحة في نفسها وإنّما حسنها وقبحها بأمر الله ونهيه.

وحينئذ فلا فرق بينها وبين الأمر بالإطاعة ، فشكر المنعم مثلا والصّدق والأمانة والعدل ليست حسنة في نفسها ، فلو نهى الله تعالى عنها لصارت قبيحة ، ولكن بالصّدفة أنه أمر بهذه الحسنات بلا حكمة ولا غرض فصارت حسنة كذلك ، وبالصدفة أنه نهى عن تلك السيّئات فصارت قبيحة لعدم الفرق قبل تعلّق الأمر والنهي بينهما في نفس الأمر ، والواقع كما يزعم الخصم من أن الأفعال في نفس الواقع متساوية في عدم اقتضاء شيء منها الحسن والقبح مطلقا ، على أن هذه الصّدفة أو قولهم جري العادة أو اتفق أنّه تعالى أمر بتلك ونهى عن هذه كلّها أيضا محتاجة إلى مثلها في الوجود ، فالصّدفة تحتاج إلى صدفة وهكذا العادة والاتفاق ، فإما أن تتسلسل أو تدور على نفسها وبطلان ذلك كلّه واضح ، ولا شك في أن من

٢٧٤

جرّه عقله إلى الإعتقاد بمثل هذه المزاعم المعلوم بالبداهة فسادها لا يصح في منطق العقل والوجدان عدّه من أهل التمييز والعرفان ، لذا تراها أثّرت على ذهن الهندي فاتصل أثرها بعقل أخيه الآلوسي من خصوم الشيعة وأعدائها.

السابع : لو كان الحسن والقبح سمعيّين لبطل وجوب معرفة الله تعالى الواجبة بالضرورة ، وذلك لأن شكر النعمة واجب بالضرورة عقلا ، وإنّما صار واجبا لحكم العقل بحسنه والمدح عليه فيجب قطعا شكر فاعلها ، وهو لا يحصل إلاّ بمعرفته فتتوقف معرفته على أمره بشكر نعمته الّذي يكون حسنا بأمره ، لأنه ليس حسنا عقلا على مذهب الخصوم ، فلو توقف أمره بشكر نعمته على معرفته لزم الدور المعلوم بالبداهة عقلا بطلانه.

الثامن : لو كان اعتبار الحسن والقبح مستفادا من السّمع لزم منه توقف وجوب سائر الواجبات على ذهاب الشّريعة ، وهو ما يؤدي إلى إفحام جميع الأنبياء عليه‌السلام.

وتقريبه أن الأنبياء عليه‌السلام إذا جاءوا إلى المكلفين وأمروهم بتصديقهم وإتباعهم لم يجب ذلك عليهم إلاّ بعد أن يعلموا بصدقهم وأنهم مرسلون من عند الله تعالى ، لأن مجرد الدعوى لا تثبت صدقهم بل ولا مجرد إظهار المعجزة على أيديهم ما لم ينضم إلى ذلك أمران ، الأول : أن تكون هذه المعجزة من عند الله ، فعلها لغرض التصديق بأنبيائه عليهم‌السلام ، الثاني : أن كلّ من حكم الله بصدقه فهو صادق ، وكلّ ذلك يتوقف على الأمر والأمر موقوف عليه فيدور ، ولما كان علمنا بصدقهم موقوفا على هذين الأمرين لم يكن ضروريا بل نظريا لتوقفه على أمر الشّارع.

وحينئذ فللمكلفين أن يقولوا لا نعرف صدقهم إلاّ بالنظر والنظر لا نجريه ولا نعمله إلاّ إذا وجب علينا وعرفنا وجوبه وإلاّ فلا حجّة في قولهم عليهم‌السلام علينا ، وأما معرفتنا لهذا الوجوب فلا يكون إلاّ بقولهم وقولهم ليس بحجّة إلا بعد علمنا بصدقهم ، وصدقهم لا يكون إلاّ بأمرهم ، وحينئذ تنقطع بذلك حجّتهم عليه‌السلام وتنتفي فائدة إرسالهم ، والله تعالى يقول : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ

٢٧٥

الرُّسُلِ ) [ النّساء : ١٦٥ ] إذ معه لا يحصل الانقياد إليهم والإطاعة لقولهم عليهم‌السلام ويكون المخالفون لهم معذورين في مخالفتهم فلا حجّة بعد ذلك تبقى لهم إطلاقا.

والخلاصة في هذا الوجه : أنه إذا كان الحسن والقبح عقليّين فبالبداهة نعلم أن مدرك وجوب النّظر عقلي ، لأن ترك النّظر موجب للخوف على أساس أنّ العاقل يحتمل بغريزة الفطرة أنّ له إلها واجب الإطاعة يؤاخذه إذا جهله ويعذبه إذا ترك النظر في معرفته ، وحينئذ فلا شكّ في كونه دافعا للخوف ، ودفع الخوف حسن واجب فالنظر حسن واجب بالضرورة عقلا ، فالنظر إذا لم يكن موجبا للقطع الّذي يأمن معه المكلّف من العقاب فلا أقلّ من أن يكون موجبا للأمان من جهله ، لذا كان النّظر غاية ما يقدر عليه ، وكان في تركه والإخلال به يحصل الخوف بالضرورة ولا يزول ذلك إلاّ به ، فعلى هذا لو جاء رجل موصوف بالكمال ومعه ما يعجز الإنسان على الإتيان بمثله ، فقال : أنا نبيّ مرسل من عند الله ولديّ من المعجزات ما يشهد بصحة دعواي ، فلا شك في أن من كان له عقل سليم ينقدح في ذهنه الخوف من المخالفة ، ودفع الخوف بديهي أولي واجب عقلا فتصديقه واجب بالضرورة ، وهذا بخلاف ما إذا كانا شرعيّين فيكون وجوب النّظر شرعيا فإنه لا واجب حينئذ إلاّ بعد ثبوت الأمر الشرعي ، وهذا ما يدعو المكلّف إلى أن يقول لمدّعي النبوّة : اثبت لنا إنّك نبي ثم ادعنا إلى امتثال أمرك ولزوم إطاعة قولك فأيّ حجّة تبقى له بعد هذا ، على أنه قد تقدم منّا أن كونه نبيّا يتوقف على الأمر الشرعي بكونه نبيّا ، فلو توقف الأمر بنبوّته على نبوّته لزم الدور المحال فمذهب الآلوسي محال.

التاسع : إن الإنسان العاقل يفرق بفطرته بين من أحسن إليه دائما وبين من أساء إليه دائما ، فيرى حسن المدح للأول والذم للثاني ، وما ذاك إلاّ لحكومة عقله ومن شك في ذلك فقد خولط في عقله وكابر وجدانه وطعن فيه.

قول الآلوسي إنّ العبد غير مستبد في إيجاد فعله وما فيه

قال الآلوسي ص : (٥٣) : ( إنّ العبد غير مستبدّ في إيجاد فعله ، بل أفعاله مخلوقة لله تعالى ، فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثّواب والعقاب ).

٢٧٦

المؤلف : إن أراد الآلوسي من عدم استبداد العبد في إيجاد فعله أن الله تعالى لم يخلق فيه القوة والقدرة على إيجاد أفعاله الصّادرة عنه بالاختيار ، وأنّه تعالى لم يعطه شيئا من ذلك إطلاقا حتّى يستطيع القيام به على إيجاد أفعاله بل هي منه لا من الله تعالى فذلك ما لا يقول به ذو عقل ، وإن أراد أن أفعاله الاختيارية من حركاته وسكونه الصادرة عنه بالوجدان في الخارج بالإرادة مخلوقة لله تعالى كما يقتضيه قوله : ( بل أفعاله مخلوقة لله تعالى ) فهو ضلال وإضلال لا يحتمله إنسان له عقل أو شيء من الدين ، وذلك لأن كلّ عاقل لا يشك في الفرق بين حركاته الاختيارية والاضطرارية ، وهو من المرتكزات العقلية الموجودة عند عقل كلّ عاقل ، بل هو ثابت في المجانين والأطفال ألا ترى أن الطفل إذا ضربه غيره بحجارة تؤلمه فإنه بطبيعته يدين الرامي له دون الحجارة ، ولو لا ارتكاز ذلك الأمر الفطري في قلبه من كون الرامي فاعلا دون الحجارة لما استحسن ذم الرامي دونها ، ولعلّ ثبوته في الحيوانات أمر لا ينكر فكيف يا ترى جاز للآلوسي أن يزعم أن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى وخلافه جبلّيّ فطري في كافة الكائنات الحيوانية من حميرها وبقرها ونحوها من البهائم.

آيات نفي التعذيب مع عدم البيان أجنبية عن المقام

قال الآلوسي ص : (٥٣) : ( الرابع : لو كان حسن الفعل وقبحه عقليّين لزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد الشرع أم لا ، واللاّزم باطل لقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) [ الإسراء : ١٥ ] ).

المؤلف : أورد الآلوسي عدّة آيات بذلك المضمون وخالها دليلا على صحّة مذهبه ، وهي كلّها لا مستمسك له بها على مبتغاه لخروجها موضوعا وحكما عن محلّ النزاع ، وهكذا استمر في كتابه يحتج بأمور هي بعيدة بمراحل عن الموضوع ولا تتفق معه بوجه من الوجوه.

وخلاصة المقال : إنّ الآلوسي جاء بتلك الآيات وهو على غير بيّنه من أمرها ولا يفهم شيئا من معناها ولا مدلولها ولا يعرف مورد ما تنطبق عليه ، فهو يحاول

٢٧٧

بهذا الأسلوب من الاستدلال أن يثبت الشيء بغير دليل ويقصد من وراء سردها هنا وهناك الإغواء والتضليل ، وطبيعي أن العامّي من أهل مذهبه لا يعرف شيئا عن تلك الآيات ولا مواقع الإحتجاج بها ولا يهتدى إلى أنه يوردها في غير موردها ، وكلّ ما يعرفه هو أنها خرجت من رجل وضع على رأسه شعار أهل العلم ويعتقد فيه أنه من العلماء الربانيّين ، وأن ما يورده من الآيات والأحاديث للإحتجاج بها على الخصماء كلّها أدلّة واردة في موردها ، وبذلك أضلّوا كثيرا وضلّوا عن سواء السّبيل ، وحذرا من أن يتسلّق ذلك أذهان نفر ينصتون لها على غير هدى نلقي عليك كلمة صغيرة تقف من خلالها على خروج تلك الآيات بأسرها عمّا وقع فيه النزاع ، ولتعلم أن جميع الآيات الواردة في نفي التعذيب مع عدم البيان الواصل إلى مرتبة التنجّز ـ بالنسبة إلى الواجبات والمحرّمات الشرعية ـ موافقة لحكم العقل في غير ما استقلّ به ( لقبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ) عقلا كما تقدم ذكره ولا شيء مخالفا لحكمه إطلاقا.

وأما قول الآلوسي « بأن الحسن والقبح لو كانا عقليّين لزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام ، سواء ورد الشرع أم لا واللاّزم باطل لقوله : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ، فيقال فيه :

أولا : إن أراد بطلان الملازمة في معلوم الحرمة بإدراك العقل لقبحه كالظّلم والكذب والشرك ومعلوم الوجوب كالصّدق والعدل والتوحيد فالملازمة ممنوعة ، لأنّ الآية نصّ في نفي التعذيب مع عدم البيان وعدم العلم بالمحرّمات والواجبات ، أما مع العلم بها فيكون العذاب مع البيان والمؤاخذة مع البرهان كما هو الحال في المستقلاّت العقلية المتقدم ذكرها ، فيخرج ما وقع النزاع فيه بموضوعه عن مورد الآيات كلّها ولا شيء منها يدلّ عليه بإحدى الدلالات.

وإن أراد لزوم العذاب على ما لا يدرك العقل حسنه ولا قبحه كالعبادات ونحوها والمحرمات الشرعية فهو خارج موضوعا عن محلّ النّزاع ، لأن القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين لا يقولون بترتب العذاب أو الثواب على ما لا يدرك العقل حسنه أو قبحه ولا على ما لا يجزم بهما ، وإنّما يقولون كما مرّ ذكره : إنّ

٢٧٨

في الأفعال ما يعلم حسنه كالصدق والعدل والتوحيد فيحكم بترتب الثواب والمدح عليه ، ومنها ما يعلم قبحه كالكذب والظلم والشرك فيحكم بقبحه وترتب الذم والعقاب عليه ، أمّا ما لا يدرك حسنه ولا قبحه فيدركه بكشف الشريعة عنه للملازمة بين الحكومتين الشرعية والعقلية ، وهذا الأخير هو مورد الآيات الدالّة على نفي التعذيب مع عدم بيانه بيانا يستطيع به المكلّف على الامتثال والإطاعة لخروجه عن إدراكه فلا يحكم قبله في بشيء مطلقا.

ثانيا : إنّ المراد من الرسول في الآية الأنبياء عليهم‌السلام وقد ثبت فيما مضى أن القول بكون الحسن والقبح شرعيّين يقتضي تكذيب الأنبياء عليهم‌السلام فثبوت كونهما شرعيّين يتوقف على ثبوت كون أولئك الرسل أنبياء عليهم‌السلام أرسلهم الله ، فلو توقف ثبوت نبوّتهم عليهم‌السلام على كونهما شرعيّين لزم الدور الباطل ، فيجب تخصيص عموم الآيات بغير المستقلاّت العقلية ، فيخرج ذلك كلّه عن مورد الآية ونحوها مما هو بمضمونها بالدليل القطعي ، أو تكون الآيات مؤكدة لحكم العقل فيما استقلّ به كما ألمعنا.

ثالثا : إنّ المراد من الرسول ما يعمّ البيان العقلي والنقلي ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المبلّغ وهو يعمّ العقل لأنه أيضا مبلّغ ، فالآية صريحة في نفي فعلية التعذيب مع عدم المبلّغ بالواجب والحرام ، أما مع المبلّغ وهو حكم العقل بالقبح أو الحسن ، فلا يكون من التعذيب مع عدم البيان والتبليغ ، ويؤكد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّ لله حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، أما الحجّة الظاهرة فالرسل ، وأمّا الحجّة الباطنة فالعقل ).

رابعا : إنّ صريح الآية وقوع التعذيب سابقا بعد البحث والتنقيب كما يدلّ عليه إتيانه بصيغة الماضي ، وحينئذ فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السّالفة في الأجيال الماضية دون العذاب الأخروي فتأمل ، ومن جميع ذلك تعرف فساد ما جاء به الآلوسي في ص : ( ٥٣ ـ ٥٧ ) من الأباطيل والأضاليل التي تبطل نفسها بنفسها ، وتبرهن بدلالتها على ضلالتها ، وتخبر بفرعها عن سوء أصلها ، وحسبك واحدا من الأدلّة التي أدليناها عليك في قلع جذور ما ذهب إليه.

٢٧٩

ما زعمه الآلوسي في صفات الله تعالى

قال الآلوسي ص : (٥٨) : « الثاني : إنّ الله حيّ بالحياة ، وعالم بالعلم ، وقادر بالقدرة ، وعلى هذا القياس صفاته ثابتة له كما يطلق الأسماء على الذات ، وقالت الإمامية ليست لله صفات ولكن يطلق على ذاته الأسماء المشتقة من تلك الصّفات ، وأنت خبير بأن عقيدتهم هذه مع كونها خلاف المعقول ، لأن إطلاق المشتق على ذات لا يصح بدون قيام مبدأ بها ، إذ الضارب إنّما يطلق على ذات قام الضرب بها وبدون قيامه لا يحمل ولا يطلق ـ مخالفة للثقلين ، أما الكتاب فأورد منه آيات على عادته مما لا صلة له بمحلّ النزاع ، كقوله تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ) [ البقرة : ٢٦٤ ] وقوله تعالى : ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) [ النساء : ١٦٦ ] وقوله تعالى : ( وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ) [ الأعراف : ١٥٦ ] وأما العترة فلما ذكر في نهج البلاغة من خطب الأمير عليه‌السلام في أكثر المواضع من هذه الصفات ».

المؤلف : ويرد عليه :

أولا : أما قوله : « إنّه تعالى حيّ بحياة وقادر بالقدرة إلى نهاية قوله » فمدخول من جهات :

الأولى : إنّه لو فرضنا أن الله تعالى حيّ بحياة وقادر بقدرة لزم احتياجه تعالى إلى معاني تلك الصّفات القائمة بذاته ، ولا شك في أنّ الحاجة من صفات الحادث الفاني دون القديم الباقي ، وحينئذ فلا يكون قديما غنيا مطلقا وبطلانه واضح.

الثانية : إنّه إن أراد بذلك أنه تعالى يكتسب هذه الصّفات من غيره ، على معنى أنّه حيّ بحياة غيره ، وقادر بقدرة غيره ، وعالم بعلم غيره إلى آخر صفاته التي هي عند المسلمين عين ذاته وتمام حقيقته نقلنا الكلام إلى ذلك الغير ، فإن كانت صفاته أيضا مكتسبة من غيره فإن عاد إلى سابقه لزم الدور ، وإن أحيل إلى لاحقه لزم التسلسل وهما باطلان وما يتوقف عليهما مثلهما باطل ، على أنه يستلزم أن يكون فاعلا قابلا ومحلا لآثاره والتوالي كلّها باطلة ، فلا بد وأن ينتهي ذلك إلى ذات علم كلّه وقدرة كلّه وحياة كلّه بل هو كلّ العلم والحياة والقدرة بلا تعدد ولا اثنينية.

٢٨٠