الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

و (٣٣١) من جزئه الأول ، والسّيوطي في الدر المنثور ص : (٩٧) من جزئه الخامس ، ومحبّ الدين الطبري في الرياض النضرة ص : (١٦٨) من جزئه الثاني : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى إليه عليه‌السلام فلتراجع.

وحسبك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام عند نزول آية : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) [ الشعراء : ٢١٤ ] ( إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ) على ما سجله حفاظ أهل السنّة ومؤرخوها وأهل التفسير منهم كالطبري في تفسير سورة الشعراء ، والثعلبي ، والسّيوطي ، وابن كثير في تفسيره ص : (٣٥١) من جزئه الثالث ، غير أنه غيّر فيه وبدّل فوضع مكان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ) أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( كذا وكذا ) ليموه على النّاس الحقيقة عتوّا منه على الله وجحودا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبغضا لوصيّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسجله الطبري في تاريخ الأمم والملوك ص : (٢١٧) بطرق مختلفة من جزئه الثاني ، وأرسله ابن الأثير إرسال المسلّمات في ص : (٢٢) من كامله من جزئه الثاني ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ص : (١٣٢) من جزئه الثالث والذهبي في تلخيصه معترفا بصحته ، والخازن في ص : (١٠٥) من تفسيره من جزئه الخامس ، ومحيي السنّة عند أهل السنّة البغوي في تفسيره بهامش تفسير الخازن ص : (١٠٥) من جزئه الخامس ، وحكاه محمّد حسنين هيكل في كتابه حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ص : (١٠٤) من الطبعة الأولى وقد حذفه من الطبعة الثانية إطفاء لنور الله ، ( وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) [ التوبة : ٣٢ ].

ويقول ابن سعد في ص : (٦١) و (٦٣) من القسم الثاني من طبقاته من جزئه الثاني : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( عهد إلى عليّ عليه‌السلام أن يغسله ويجهزه ويدفنه ) وأخرجه أيضا كلّ من أبي الشيخ ، وابن النجار على ما نقله عنهما المتقي الهندي في ص : (٥٢) و (٥٤) من كنز العمال من جزئه الرابع.

وأخرج الذهبي في ميزانه عند ذكره لشريك ص : (٤٤٦) من جزئه الأول ، عن محمّد بن حميد الرازي ، عن سلمة الأبرش ، عن ابن إسحاق ، عن أبي ربيعة الأيادي ، عن ابن بريدة ، عن أبيه بريدة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( لكلّ نبيّ وصيّ

٢٤١

ووارث ، وإن وصيّي ووارثي عليّ بن أبي طالب ) ثم قال : إنه كذب ، وزعم أن شريكا لا يحتمله ، وقال : إن محمّد بن حميد الرازي ليس بثقة ).

ولكن الذهبي لم يعتدل هنا في ميزانه إذ حكم بكذب هذا الحديث دون أن يعقبه بما يكون تبريرا له عما رماه به من الكذب سوى قوله : إن شريكا لا يحتمله ، مع أن كلا من الإمام أحمد بن حنبل ، والبغوي محيي السنّة عند أهل السنّة ، وابن جرير وابن معين إمام الجرح والتعديل عندهم وغير هؤلاء من طبقتهم قد حكموا بوثاقة محمّد بن حميد ورووا عنه فهو شيخهم في الحديث ، فالرجل غير متهم بالرفض ولا بالتشيّع وإنما هو من سلف الذهبي فلا وجه لاتهامه في الحديث إلاّ بغض الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأخرج الطبراني في معجمه الكبير وهو الحديث : (٢٥٧٠) من أحاديث كنز العمال في نهاية ص : (١٥٥) من جزئه السادس ، بالإسناد إلى سلمان الفارسي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إن وصييّ وموضع سري وخير من أترك بعدي ينجز عدتي ويقضي ديني عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام )

والحديث نصّ في أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمام أمته بعده.

وأخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ، ونقله عنه ابن أبي الحديد المعتزلي في ص : (٢٥٠) من المجلد الثاني من شرح نهج البلاغة ، عن أنس قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا أنس أول من يدخل عليك هذا الباب إمام المتقين ، وسيّد المسلمين ، ويعسوب الدين ، وخاتم الوصيّين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، قال أنس : فجاء عليّ ، فقام إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستبشرا فاعتنقه ، وقال له : أنت تؤدّي عنّي ، وتسمعهم صوتي ، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه من بعدي ).

وأخرج الطبراني في معجمه الكبير بالإسناد إلى أبي أيوب الأنصاري ، وهو الحديث : (٢٥٤١) من أحاديث كنز العمال ص : (١٤٣) من جزئه السادس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( يا فاطمة أما علمت أنّ الله عزّ وجلّ اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيّا ، ثم اطّلع ثانية فاختار بعلك ، فأوحي إليّ فأنكحته واتخذته وصيّا ).

٢٤٢

وأخرج الحاكم في مستدركه ص : (١١١) من جزئه الثالث صحيحا على شرط البخاري ومسلم ، عن ابن عباس ، قال : ( لعليّ أربع خصال ليست لأحد غيره : هو أول من صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الّذي كان لواؤه معه في كلّ زحف ، وهو الّذي صبر معه يوم فرّ عنه غيره ، وهو الّذي غسّله وأدخله قبره ) وحكاه ابن عبد البر في استيعابه في ترجمته لعليّ عليه‌السلام.

وأخرج الحاكم في صحيح مستدركه على شرط الشيخين في باب فضائل عليّ عليه‌السلام : ( أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إلى عليّ بأن يبيّن لأمته ما اختلفوا فيه من بعده ).

ويقول البخاري في صحيحه ص : (٦٤) من جزئه الثالث في باب مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتاب الوصايا ، ومسلم في كتاب الوصايا ص : (١٤) من جزئه الثاني ، ( عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال : ذكر عند عائشة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى إلى عليّ ، فقالت : من قاله؟ ... الحديث.

وأخرج البخاري في صحيحه أيضا ص : (٨٣) من جزئه الثاني في باب الوصايا من كتاب الوصايا ، عن الأسود ، قال : ( ذكروا عند عائشة أن عليّا كان وصيّا ، فقالت : متى أوصى إليه؟ )

ولا يخفى على الفطن بأن الشيخين البخاري ومسلما أخرجا هذا الحديث في صحيحيهما دون أن يتفطنا إلى صراحته في وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عليّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلاّ لكتماه كما كتما غيره من أحاديث فضله المتواترة بعضها لفظا وبعضها معنى ، كلّ ذلك لئلاّ يتسلح بها خصومهم لهدم عروش السّقيفة لا سيّما أنّ لهم في كتمان الحديث مذهبا معروفا سجّله ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري ص : (١٦٠) من جزئه الأول في شرح حديث البخاري في باب من خص بالعلم قوما دون قوم في أواخر كتاب العلم ، فإن الذاكرين لعائشة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى إلى عليّ عليه‌السلام كانوا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو التابعين الّذين لا يبالون في مكاشفة عائشة بما لا ترغب في مكاشفتها به لأنه مناف لما قامت عليه السّقيفة ، ولا شكّ في أنّ الّذين ذكروا عندها وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عليّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكونوا خارجين

٢٤٣

عن أمته بل كانوا من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم خير القرون والّذين يلونهم عند الخصوم ، لذا فإنها قد اضطربت اضطرابا عظيما عند ما سمعت حديثهم عن الوصيّة إليه عليه‌السلام يدلك على ذلك بوضوح ردّها البارد غير الوارد.

ومن ذلك كلّه يتضح أن عليّا عليه‌السلام وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّا ، وليس لعاقل وقف على ما سجله جهابذة أهل السنّة في حفظ الحديث وإخراجه أن يجحد وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام أو يكابر فيها إلاّ إذا كان في قلبه بغض الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه لا يفيد معه ألف دليل ودليل.

عليّ عليه‌السلام أفضل النّاس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة

ما حكاه أهل السنّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وأما كونه عليه‌السلام أفضل النّاس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما أخرجه الحاكم في الصحيح (١) من مستدركه على شرط البخاري ومسلم في باب فضائل عليّ عليه‌السلام عن البيهقي ، أنه ظهر عليّ بن أبي طالب من البعد ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( هذا سيّد العرب ، فقالت عائشة : ألست سيّد العرب؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا سيّد العالمين وهو سيّد العرب ).

وأخرج أيضا صحيحا على شرطهما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( أنا سيّد ولد آدم وعليّ سيّد العرب ) وأما كونه عليه‌السلام أقرب النّاس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزلة فناهيك من آية المباهلة الصريحة في أنّ نفس عليّ كنفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفضائل والمناقب إلاّ نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفضليته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عليّ عليه‌السلام فهي وحدها تكفي لإثبات كونه عليه‌السلام أقربهم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزلة.

__________________

(١) وأخرجه ابن حجر في ص : (٧٣) في الفصل الثاني في فضائله عليه‌السلام من الباب التاسع من صواعقه ، وابن عبد البر في استيعابه ص : (٤٧٣) و (٤٧٤) من جزئه الثاني ، والمتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد ص : (٣٣) والمحبّ الطبري في ذخائره العقبى ص : (٥٨) و (٥٩) و (٧٨) وفي رياضه النضرة ص : (١٩٣) من جزئه الثاني ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ص : (٦٥) من جزئه الأول ، وغير هؤلاء من حملة الحديث عند أهل السنّة.

٢٤٤

وإن أردت المزيد فإليك ما أخرجه شيخ الحديث عند أهل السنّة البخاري في صحيحه في أواخر ص : (٧٥) في باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان من جزئه الثاني من كتاب الصلح ، وأخرجه في أواخر ص : (١٩٦) من صحيحه في باب مناقب عليّ بن أبي طالب من جزئه الثاني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعليّ : ( أنت منّي وأنا منك ) فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله لغيره مطلقا ، وحسبك هذا فإن الأحاديث في مثل ذلك من طرق أهل السنّة كثيرة متواترة لا يسع المقام تعدادها.

آية الانقلاب على الأعقاب وحديث الحوض آيتان على انقلاب الجمهور

الثالث : قوله : « واحتج على ذلك بالآيات الواردة في فضله ».

فيقال فيه : إنها لعمر الحق آيات بيّنات وحجج ودلالات تأخذ بأعناق النقاد إلى الإذعان بها والتسليم لها والنزول عند حكمها ، إذ في مخالفتها حرب الله وحرب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدونكها نصوصا واضحة على خلافته عليه‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبطلان خلافة المتقدمين عليه وقد مرّت عليك شذرة منها فراجع.

الرابع : قوله : « ولكن الصّحابة ارتدوا ».

فيقال فيه : ليس هذا القول من بطل أسطورة الآلوسي المصنوع من خياله وإنما هو من قول الله تعالى وقول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن كنت في شك من ارتداد جمهور الصّحابة وانقلابهم على أعقابهم فانظر إلى ما أنزل الله في القرآن من آية الانقلاب على الأعقاب والمرود على النفاق ، وإلى ما أخرجه حفاظ أهل السنّة وجهابذة الحديث عندهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكمه بارتدادهم ، فهذا البخاري يحدّثنا في أبواب صحيحه عن هذا الارتداد ، فمن ذلك ما أخرجه في باب الحوض في آخر ص : (٩٣) و (٩٤) من جزئه الرابع ، وفي باب قوله تعالى : ( وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ) [ النساء : ١٢٥ ] ص : (١٥٤) من جزئه الثاني من كتاب بدء الخلق ، وفي باب قوله تعالى : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ) [ المائدة : ١١٧ ] في أواخر ص (٨٥) من جزئه الثالث ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( ليردن عليّ

٢٤٥

ناس من أصحابي الحوض حتّى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّي فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم ، فأقول : إنهم منّي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول سحقا سحقا لمن بدّل بعدي ).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( بينا أنا قائم فإذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، قلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم ).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّ أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم القهقرى منذ فارقتهم ).

وإنما أوردنا لك ذلك كلّه لتعلم ثمة أن ارتداد جمهور الصّحابة على الأعقاب منذ فارقهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن من أقاصيص عبد الله بن سبأ المزعوم وجوده في زعم خصوم الشيعة ، ولا من أسطورته المتجسدة في أدمغتهم المخبولة كما يزعم الآلوسي غمطا للحق وتغطية لوجه الحقيقة ، وإنما هو من قول الله وقول

٢٤٦

رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللّذين حكما بأن الّذي يخلص من الصّحابة من النار : ( مثل همل النعم ) وليس الهمل في اللّغة إلاّ الضّال (١) من الإبل ، ويعني ذلك أن الّذي لا يدخل النّار منهم في قلّة الإبل الضّالة ، وهذه القلّة النّاجية هي التي عناهم القرآن في آخر آية الانقلاب بقوله : ( وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [ آل عمران : ١٦٦ ].

وبعد فإن الله يعلم وكلّ النّاس يعلمون أنه لم تحدث حادثة بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو المدلول عليه بقوله في الحديث : ( إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) سوى بيعة أهل السّقيفة التي نصّبوا فيها أبا بكر خليفة (رض) دون الله ودون رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا شيء لا يختلف في علمه الذكي والغبي ، والعالم والجاهل ، والمسلم والكافر ، فإذا كان القول بذلك يعدّ ذنبا فالمسئول عنه كتاب الله وخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تقدم منّا لأنهما قالا بذلك ، وما كان الشيعة وهم شيعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ليخالفوا الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شيء من عقائدهم وأقوالهم ، وإن ساء الآلوسي ألاّ يصغي إلى مزاعمه أحد من المسلمين فإن ذلك لا يضرّنا لا في قليل ولا كثير.

الاستدلال بما وقع بين فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر (رض) صحيح

الخامس : قوله : « وقد استدلوا على ذلك ـ أي على بطلان خلافة أبي بكر (رض) ـ فيما وقع بين فاطمة عليه‌السلام وأبي بكر في أمر فدك ».

فيقال فيه : كان اللاّزم على الآلوسي أن يذكر لنا الوجه في بطلان الاستدلال بما وقع بين فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أبي بكر (رض) ومن حيث أنه لم يأت على ذكره واقتصر على مجرد القول علمنا صحته وصوابه ، وقد مرّ عليك حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما سجّله العسقلاني في إصابته بسند صحيح ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا فاطمة إنّ الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك ).

__________________

(١) تجده في مادة همل من نهاية ابن الأثير وغيره من أهل اللّغة.

٢٤٧

وعرفت أن فاطمة عليها‌السلام ماتت وهي غضبى عليه (رض) فيما سجّله البخاري في آخر ص : (١٢٣) في باب فرض الخمس من صحيحه ، كما أنه أخرج في ص : (١٩٨) من جزئه الثاني من صحيحه في باب مناقب قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنقبة فاطمة بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني ) (١).

وأخرج أيضا في أول صفحة : (١٧٦) من صحيحه في باب ذبّ الرجل عن ابنته ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( فاطمة بضعة منّي يريبني ما يريبها ، ويؤذيني ما يؤذيها ) (٢).

وفي القرآن يقول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) [ الأحزاب : ٥٧ ] فراجع ثمة حتّى تعلم صحة موتها غضبى عليه ، فإذا كان هذا ثابتا في أصح الكتب عند خصوم الشيعة فليخبرنا الآلوسي عن برهان بطلان ما قاله خصمه الشيعي في بطلان خلافة المستخلّفين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) [ البقرة : ١١١ ].

الّذين قتلوا عثمان (رض) هم أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا غيرهم

السادس : قوله : « وجماعة ممن ضعف إيمانهم من أهل النفاق وهم قتلة عثمان وهم أتباع عبد الله بن سبأ ».

فيقال فيه : ما برح الآلوسي يضرب على طنبور ابن سبأ ، ويرينا نغمة أخرى من نغماته التي يحاول بها عبثا أن يثبت أنّ الّذين قتلوا عثمان هم أتباع تلك

__________________

(١) وأخرجه أيضا في ص : (٢٠٢) من صحيحه في باب مناقب فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المسور بن مخرمة ، وأخرجه مسلم في صحيحه ص : (٢٩٤) من جزئه الثاني في باب فضائل فاطمة بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخرجه أحمد بن حنبل في ص : (٣٢٣) من مسنده من جزئه الثالث.

(٢) وأخرجه الترمذي في سننه ص : (٢٢٧) وصححه ، وكلّ هذه الأحاديث متواترة بين الفريقين لا يخالف فيها اثنان من أهل الإسلام ، وحينئذ فلا يصح في الشرع ولا عند العقل خلافة النبوّة للمغضوب عليه من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرأيت كيف صح الاستدلال بما وقع بين فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أبي بكر (رض) على عدم صحة خلافته بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٤٨

الشخصية التي تشبه في خرافتها أقاصيص ألف ليلة وليلة وهيهات ذلك ، يا هذا إن الّذين قتلوا عثمان بن عفان (رض) هم أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المهاجرين والأنصار أهل الحلّ والعقد الّذين نصّبوه ونصّبوا من كان قبله على دست الخلافة في هذه الأمة ، بعد أن شاهدوا منه ما ترتعد لهوله فرائص أهل الدين ، وما ارتكبه في بيت مال المسلمين ، ومن تأميره قومه المنافقين أمثال معاوية ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن أبي سرح ، ومروان وغيرهم من بني عمه الأمويّين ، وإعطائه مروان بن الحكم طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس إفريقيا (١) إلى غير ذلك من أقذار المنكرات والبدع التي رآها المسلمون من عثمان ، فطلبوا منه العدل في الرعية والقسمة بالسويّة فامتنع من ذلك بعد ما وعد فغدر ، فوثبوا عليه فقتلوه وأراحوا المسلمين من سوء فعله ووبال أمره ، ويتجلّى لك بوضوح تلك الفوضى الجارفة والمفاسد المهلكة في أيام إمارته بأقل وقفة بسيطة على تأريخ حياته التي قامت بسببها تلك القيامة وهاتيك الضوضاء والطّامة التي لم تهدأ فورتها إلاّ بقتل عثمان والقضاء على حياته.

ولم يكن القاتل له ( عبد الله بن سبأ وأصحابه ) الّذين لا وجود لهم في كون الحياة إطلاقا كما يزعم هذا ، وكيف يخفى على أحد قاتلوه والمسلمون كلّهم يعلمون أن الّذين قتلوه هم الّذين نصّبوه من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي طليعتهم أم المؤمنين عائشة تحرّض النّاس على قتله وهي تقول مشبهة له باليهودي : ( نعثل ) الّذي كان في المدينة : ( اقتلوا نعثلا قتله الله فقد غيّر وبدّل ) كما يحدّثنا بذلك التأريخ الصحيح وصحيح الحديث (٢) مما لا سبيل إلى إنكاره.

ثم يقال للآلوسي : لما ذا كان المقاتلون عليّا عليه‌السلام المستحلّون قتله من القاسطين والناكثين مجتهدين مخطئين ولم يكونوا منافقين بحكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) راجع ص : (٣٥) من تاريخ ابن الأثير من جزئه الثالث ، وقد ذكر ذلك كلّ من جاء على ذكره كالطبري في تاريخه ، والحلبي في سيرته ، والسيوطي في تاريخه ، وابن عبد ربه في العقد الفريد ، وغيرهم من مؤرخي أهل السنّة.

(٢) راجع ص : (٢٧) وما بعدها من الإمامة والسياسة لشيخ أهل السنّة ابن قتيبة وغيره ممن جاء على ذكره من مؤرخيهم.

٢٤٩

وكان الّذين قتلوا عثمان منافقين غير مجتهدين؟ وهل لذلك وجه غير بغض الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الّذي بذر بذرة التشيع

وأما قوله في مبدأ كلامه : « إن أسلاف الشيعة وأصول الضلالات كانوا عدّة طبقات ، الطبقة الأولى : هم الّذين استفادوا هذا المذهب بدون واسطة من رئيس المضلين إبليس اللّعين ).

فيقال فيه : إنّ أول من بذر بذرة التشيع وسقاها فأزهرت فأينعت وأثمرت فكانت الشّجرة الطيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السّماء هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا ابن حجر يحدّثنا في صواعقه في الآية الحادية عشرة من الآيات الواردة في فضائل أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الباب الحادي عشر ص : (١٥٩) من الطبعة الجديدة ، عن ابن عباس ، أنه لما نزل قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : ( هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين ويأتي عدوك ـ غضابا مقمحين ).

وقد عرفت فيما تقدم أنّ كلمة الشيعة إذا أطلقت فلا يفهم منها إلاّ من شايع عليّا عليه‌السلام وتابعه ، وهذا ما أطلقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على التابعين له عليه‌السلام دون غيره في أحاديث المتواترة بين الشيعة وأهل السنّة ، فإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول إنّ الطبقة الأولى من الشيعة هم شيعة عليّ عليه‌السلام ومقتداهم في ذلك هو الوصيّ عليه‌السلام وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنهم استفادوا هذا المذهب من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف استساغ الآلوسي أن يقول إنّ مقتدى الشيعة في ذلك هو إبليس ، وإنهم استفادوا مذهبهم من رئيس المضلّين اللّعين فيطعن في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الطعنة النّجلاء فيخرج عن دين الله بلا خلاف ولا امتراء.

٢٥٠

الفصل الثاني عشر

بحوث كلامية

النّظر في معرفة الله واجب عقلا لا نقلا

قال الآلوسي ص : (٥١) : « إنّ النظر في معرفة الله واجب بالاتفاق ، ولكن وقع الخلاف في أنّ هذا الوجوب هل هو عقلي أو شرعي ، فذهب الإمامية إلى الأول وذهب إلى الثاني أهل السنّة قائلين : إن الوجوب سمعي ، بمعنى أن النظر في المقدمة غير واجب بدون حكم الله ، وليس للعقل حكم في أمر من أمور الدين ، ومذهب الإمامية هنا مخالف للكتاب والعترة ، أما مخالفته للكتاب فلأنه قال سبحانه : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) [ الأنعام : ٥٧ ] وقال تعالى : ( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) [ الأنعام : ٦٢ ] وقال تعالى : ( لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) [ الرعد : ٤١ ] وقال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) [ المائدة : ١ ] وقال تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) [ الإسراء : ١٥ ] إذ لو كان أمرا واجبا بحكم العقل لوقع العذاب بترك ذلك الواجب قبل بعثة الرسل واللاّزم باطل فكذا الملزوم.

أما مخالفة العترة فلأنه قد روى الكليني في الكافي ، عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : ( ليس لله على خلقه أن يعرفوا ، ولا للخلق على الله أن يعرّفهم ) فلو كانت المعرفة واجبة بحكم العقل لكانت معرفته واجبة على الخلق مثل تعريفه ، وهو خلاف قول الصادق ».

المؤلف : أولا : « قوله وليس للعقل حكم في أمر من أمور الدين ».

فيقال فيه : أنظر أيّها الباحث بإخلاص إلى تناقض هذا الجاهل وتداعي أركانه ، فإنك تراه هنا يقول : ( وليس للعقل أن يحكم في أمر من أمور الدين ) وفي ص : (٣٨) من كتابه يقول : ( إن دليل العقل باطل عند الشيعة لأنهم ينكرون حجيّة

٢٥١

القياس ) ويعني هذا أن حجيّة القياس عند أهل السنّة تثبت بحكم العقل ، ولا شك في أن هذا هو الآخر أيضا من حكم العقل في أمر من أمور الدين عندهم ، وقد نفى هنا أن يكون للعقل حكم في أمر من أمور الدين ، فالآلوسي يريد أن يحتج على خصومه بالمتناقضات الباطلة على إثبات مذهبه المتناقض الباطل دون أن يهتدى إلى أن ذلك كلّه باطل.

ثانيا : قوله : « ومذهب الإمامية هنا مخالف للكتاب وللعترة ».

فيقال فيه : لا شكّ في أن من يطّلع على كتاب الآلوسي يراه يضرب أخماسا بأسداس ، ويعتمد الشّبهات وينكر البديهيات ، فإذا ما كشفنا لك عن حال زعمه هذا فستقف مستغربا حينما ترى الأمر فيه معكوسا عليه من وجهين.

بطلان ما زعمه الآلوسي أنّ وجوب النّظر شرعي من وجهين

أما الأول : فلأنه لو كان النّظر في معرفة الله واجبا بالسّمع لا بالعقل لزم الدور الصريح المعلوم بالضرورة بطلانه ، وذلك لتوقف معرفة الوجوب على معرفة الموجب ، فإذا كنّا لا نعرف الموجب بشيء من الاعتبارات فنعلم بالبداهة أنّا لا نعرف أنّه موجب ، فلو توقّف معرفته على معرفة الموجب كان دورا صريحا.

وبعبارة أوضح أنّ وجوب معرفة الله موقوف على أمره تعالى بوجوب معرفته ، فلو توقّف أمره بمعرفته على وجوب معرفته لزم الدور ، فتعليل وجوب معرفته بأمره محال باطل.

الثاني : إنّ المعرفة لو كانت واجبة بالأمر الشّرعي لكان الأمر بها إمّا أن يتوجه إلى العارف والعالم بالله تعالى أو إلى غيرهما ، والتاليان باطلان بالضرورة ، أما التالي الأول فلأنه تحصيل حاصل وهو باطل لأن الشيء لا يحصل مرتين ، وأمّا الثاني فلأن غير العارف بالله يستحيل أن يعرف أن الله تعالى أمره لأن كون الأمر من الله يتوقف على معرفته ، فلو توقفت معرفته على أمره فقد جاء الدور الصريح بل أمره في نفسه مستحيل ، وذلك لأن كون امتثال أمره واجبا يتوقف على أن يعرف أنّ الله تعالى قد أمره وأن امتثال أمره واجب ، وإذا كان من المستحيل أن

٢٥٢

يعرف أن الله أمره لأنه غير عارف به كان أمره مستحيلا وإلاّ كان تكليفا بما لا يطاق ، وكلّ ذلك معلوم بالبداهة بطلانه.

الآلوسي لم يأت على دليل الشيعة بتمامه في وجوب النّظر عقلا لا شرعا

ثم إنّ الآلوسي لم يقرر دليل الشيعة بتمامه ، على أن معرفة الله تعالى واجبة بالعقل وممتنعة بالسّمع ، وإنما ارتكب ذلك التدليس لعلمه بأنه لا يستطيع بتقريره له بتمامه أن يقوم بردّه وتفنيده ، ولا يمكنه تحريفه لجهله بمرماه وعدم إحاطته بمعناه لقصور باعه وقلّة اطلاعه ، لذا تراه أعرض عن ذكر أدلّتهم القالعة لخلطه ولغطه وأورد آيات لا صلة بينها وبين وجوب النّظر سواء أكان عقليا أم شرعيا ، بل هي أوضح دليل على ارتباكه وإزجاء بضاعته وجهله بمثل هذه المسائل العويصة والأمور الصعبة التي يقصر إدراكه عن نيل واحدة منها.

أما كون معرفة الله مستفادة من العقل ، وأنّ مجيء السّمع بقوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) [ محمد : ١٩ ] مؤكد لحكومته في مورده فيدلّ عليه وجهان :

الأول : أنّ شكر المنعم واجب بالضرورة ، ولا شكّ في أنّ آثار نعمه على النّاس أظهر من الشّمس وأبين من الأمس فيجب شكر فاعلها ، وشكره لا يحصل إلاّ بمعرفته.

الثاني : إنّ معرفة الله دافعة للخوف الحاصل من التردد والاختلاف عند النّظر في مسألة وجود الله تعالى ، وإنّ لهذه النّعم الظّاهرة منعما الأمر الّذي لا يشكّ اثنان من أهل المذاهب والأديان في كونه من أبرز أفراد محلّ الاختلاف بينهم ، ولا شكّ في أنّ دفع الخوف واجب فطري وهو لا يتحقق إلاّ بالمعرفة ، فحينئذ تكون المعرفة واجبة بالضرورة.

ما أورده الآلوسي من الآيات خارج عن موضوع وجوب النظر

ثالثا : إنّ ما ذكره الآلوسي من الآيات لا ينطبق شيء منها على موضوع وجوب النظر وإنما هي من الشواهد للشيعة على بطلان مذهب هذا الخصم ـ لو كان يشعر ـ أما قوله تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) فنقول فيه :

٢٥٣

الأول : إنّ جميع ما أورده الآلوسي من الآيات إن كانت دالّة على ذلك فهي مؤكدة لحكم العقل وهو لا نزاع فيه.

ثانيا : إنّ كون هذا الحكم من الله يتوقف على معرفة الله ، فلو توقفت معرفته تعالى على أن هذا الحكم منه لزم الدور المعلوم بطلانه.

ثالثا : إنّ الآية صريحة في بطلان القياس لأنه ليس من حكم الله بل حكم الله تعالى ببطلانه كما تقدم بيانه وصريحة في بطلان خلافة الخلفاء (رض) لأن خلافتهم لم تكن بحكم الله ولا من أمره ، وإنّما كانت بحكم أهل السّقيفة ـ وهم غير الله قطعا ـ وصريحة في بطلان المذاهب الأربعة لأنها لم تكن من حكم الله ولا من أمره ، وإنّما كانت من حكم بيبرس البنقداري وأمره ـ كما تقدمت الإشارة إليه ، إلى غير ذلك مما دان به خصوم الشيعة ـ ولم يكن من حكم الله ولا من أمره في شيء يضيق الكتاب عن تعداده.

وأما قوله تعالى : ( لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) فمعناه واضح وهو : أنّه لا رادّ لحكمه ولا ناقض لقضائه ، ومع خروجه عن موضوع وجوب النّظر فيردّ على الاستدلال به عليه ما ورد على الاستدلال بما قبله من أن كون ذلك من حكمه يتوقف على معرفته ، فلو توقفت معرفته على معرفة كونه من حكمه لزم الدور الباطل ولازم الباطل مثله باطل.

وأما قوله تعالى : ( يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) و ( يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) فيردّ على الإحتجاج به :

أولا : إنّ كونه من حكمه أو من فعله يتوقف على معرفته تعالى ، فلو توقفت معرفته عليه لزم الدور المحال.

ثانيا : أن هذه الآية ونحوها من الآيات من أظهر الأدلّة على بطلان خلافة الخلفاء (رض) وفساد المذاهب الأربعة وبطلان القياس والرأي والاستحسان وغيرها من عقائد خصومنا لأنه تعالى حكم : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) [ آل عمران : ١٩ ] وليس في القرآن آية تدلّ على أن المذاهب الأربعة من حكمه تعالى ، وكذلك خلافة الخلفاء (رض) لم تكن من حكمه ولا من فعله ، وإنّما هو من فعل

٢٥٤

عمر (رض) وحكمه والأربعة الّذين كانوا معه ، ويقول القرآن : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [ القصص : ٦٨ ] فالله تعالى هو الّذي خلق عليّا عليه‌السلام واختاره إماما بعد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون الثلاثة (رض) بنصّ هذه الآية ، وبقرينة ما تقدم من الرواية المتواترة بين الفريقين ، كما فيها دلالة صريحة على أنّ من اختار غير ما اختاره الله فقد أشرك مع الله غيره كما صنع ذلك أهل السّقيفة ، فما ارتكبوه لم يكن مختارا لله ولا كان من أمره ، وقال تعالى : ( ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) [ الأحزاب : ٣٦ ] فهي صريحة في بطلان خلافة المتقدمين عليه ، وذلك لأن خلافتهم إن كانت مما قضى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفيها فليس لأهل السّقيفة ولا لغيرهم إطلاقا إثباتها ، لأنهما قضيا بإثباتها لعليّ عليه‌السلام دونهم (رض) وإن قضيا بإثباتها فليس لهم الخيرة فيها مطلقا لا نفيا ولا إثباتا ، وأيّا كان فهو دليل واضح على بطلانها لهم وصحتها لعليّ عليه‌السلام كما دلّت عليه نصوص الفريقين المتواترة.

وأما قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ) فيرد على الاستدلال بها :

أولا : إنّ كون المبعوث رسولا من عند الله يتوقف على معرفة الله قطعا ، فلو توقفت معرفته على كونه رسولا من عنده لزم الدور الباطل.

ثانيا : إنّ هذه الآية من الأدلة المتينة على نفي العذاب شرعا على التكليف مع عدم البيان التام الواصل إلى المرتبة الفعلية والتنجز ، وهو تابع للمعرفة فلا يمكن أخذه دليلا في إثباتها ، وبعبارة أخرى أن هذا فرع ثبوت المعرفة والفرع لا يثبت قبل ثبوت أصله.

ثالثا : أن الآية موافقة لحكم العقل في غير ما استقلّ به ـ لقبح العذاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ـ على التكاليف الشرعية من الواجبات والمحرمات قبل إرسال الرسل وإقامة الحجّة ، وليس فيه ما يدلّ على وجوب المعرفة أو عدم جوازها بالعقل فهو خارج بموضوعه عن مورد الآية ، ولو علم الآلوسي استحالة ما ذهب إليه من وجوب المعرفة بالسّمع لاستلزامه الدور الصريح لعدل إلى إختيار

٢٥٥

وجوبها بالعقل ، ولكن قال هذا وهو على غير بصيرة من أمره وكذلك كان حاله في مسائله التي أوردها في كتابه وخالها أدلة لتفنيد أقوال خصمائه ، فإنّه جاء على ذكرها وهو لا يشعر بما في طيّها من المحاذير والممتنعات العقلية الباطلة.

ثم يقال للآلوسي لا ملازمة بين وجوب الشيء في نفسه ولزوم ترتب العقاب عليه مطلقا ، على أنّ في الشريعة أمورا كثيرا محرّمة ولكن لا يترتب على ارتكابها عقاب لإمكان التدارك مطلقا ، فما جاء به من التعليل عليل لا يشفى له غليل.

الشيعة غير مخالفة للعترة عليهم‌السلام في أن وجوب النّظر عقلي

رابعا : قوله : ( وأما مخالفته للعترة ).

فيقال فيه : إنّ الخبر الّذي أورده الآلوسي وعزاه إلى الشيخ الكليني ـ رضوان الله عليه ـ فمع اضطرابه في نفسه وإجماله لفظا لا دلالة فيه ، على أنّ وجوب المعرفة شرعي من وجوه :

الأول : من الجائز أن يكون المراد من قوله : ( ليس لله على خلقه أن يعرفوا ) ألاّ يعرفوا الأحكام الشرعية الصّادرة منه تعالى التي هي من متفرعات معرفته ، ويشهد لهذا ما في آخر الخبر بقوله : ( ولا للخلق على الله أن يعرّفهم ).

الثاني : أنه إذا لم يجب تعريفهم فلا يجب عليهم معرفته ، لأن وجوب معرفته يتوقف على أمره بالوجوب ـ كما يزعم الآلوسي ـ والخبر صريح في أنه لا يجب عليه أن يعرّفهم مطلقا ، وهذا هو مذهب الأشاعرة القائلين بأنه لا واجب عليه تعالى ولا قبح منه ، وعلى فرض التسليم جدلا فهو من آحاد الخبر لا يجدي الإحتجاج به نفعا ، ولو سلّمنا تنازلا فإن عدم وجوب تعريفهم إطلاقا كما يقتضيه صريح الخبر موجب لبطلان الاستدلال به على وجوب معرفته بالسّمع ، فيتعيّن وجوب معرفته بالعقل فيكون دليلا لنا عليه لا له.

الثالث : أن مفاد الخبر أنّه لا يجب على الخلق معرفته بحقيقته وكنهه لأن ذلك مستحيل ، وليس عليه تعالى أن يعرّفهم ذلك لأنه غير ممكن ، وحينئذ فهو لا يريد أن معرفته غير واجبة قبل تعريفه المستلزم للدور الفاسد كما يزعم الخصوم.

٢٥٦

الحسن والقبح عقليان لا شرعيان

قال الآلوسي ص : (٥١) : « واعلم أن تحقيق هذه المسألة وبيان الاختلاف فيها يتوقف على تحقيق مسألة الحسن والقبح ، فلا بدّ من بيان ذلك فنقول :

الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان ، أحدهما : كمال الشيء كالعلم ونقصانه كالجهل ، وثانيهما : ملائمة الطبع كالعدل والعطاء ومنافرته كالظلم ، ويقال لهما بهذا المعنى مصلحة ومفسدة ، وثالثهما : استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب عاجلا وآجلا.

ولا نزاع لأحد في كونهما عقليّين بالمعنيّين الأولين ، وإنّما النّزاع في كونهما عقليّين أو شرعيّين بالمعنى الثالث ، فقالت الأشاعرة : إنّ الحسن والقبح بهذا المعنى شرعيان لا غير ؛ بمعنى أن الشرع إذا قال بأن هذا الفعل حسن أي مستحق فاعله للمدح والثواب ، وذلك الفعل قبيح أي مستحق فاعله للذمّ والعقاب ، ولا يوصفان بالحسن والقبح ، إذ لا يحكم العقل مستبدا على الأفعال بهذا المعنى في خطاب الله لعدم كون الجّهة المحسّنة والمقبّحة في أفعال العباد هي عندهم مطلقا لا لذاتها ولا لصفاتها ولا لاعتباراتها فيها ، بل كلّ ما أمر به الشّارع فهو حسن وكلّ ما نهى عنه فهو قبيح ، حتّى لو انعكس الحكم لانعكس الحال كما في النسخ من الوجوب إلى الحرمة فليس للعقل حكم في حسن الأفعال وقبحها ، وإنّما الحسن ما حسّنه الشّارع والقبيح ما قبّحه الشّارع ، وتمسّكوا على ذلك بوجوه ، الأول : إنّ الأفعال كلّها سواء ليس شيء منها في نفسه يقتضي مدح فاعله وذمّه ، لأن اقتضاءها لما ذكر إما أن يكون لذاتها أو لصفاتها أو لاعتبارات فيها ، انفرادا أو اجتماعا ، تعيّينا أو إطلاقا ، فهذه ثمانية احتمالات كلّها باطلة ».

المؤلف : أولا : قوله : « فليس للعقل حكم في حسن الأفعال وقبحها بل الحسن ما حسّنه الشّارع والقبيح ما قبّحه الشارع ».

فيقال فيه : إنّ تلك الوجوه التي اعتمد عليها الآلوسي لنفي الحسن والقبح العقليّين فاسدة جدا ، لأن العقل إذا كان لا يحكم بالحسن والقبح فكيف يا ترى

٢٥٧

حكم بحسن القياس وجوازه في الأحكام عندهم؟ فالآلوسي إما أن يقول إن للعقل حكما في حسن الأفعال وقبحها أو لا ، فإن قال بالأول ـ وهو قوله ، في حجيّة القياس المستفادة لديه من حكم العقل على حد زعمه ـ هناك بطل قوله هنا ، وإن قال بالثاني ـ وهو قوله ـ بطل قوله هناك ، وكلّ ما يقوله هنا نقوله هناك لأن القياس داخل في الشّق الثالث من معان الحسن والقبح في تقسيمه ، وحسبك هذا التناقض على فساد قوليه معا.

العقلاء لا يشكّون في أن في الأفعال ما هو معلوم الحسن والقبح

ثم من الطبيعي إلى درجة البداهة عند كلّ ذي عقل سليم من أيّ ملّة ودين ومن أي صنف يكون أن في الأفعال ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل الإنساني كعلمنا بحسن الصّدق النافع وقبح الكذب الضّار ، فإن العقلاء لا يشكّون في ذلك وليس قطع العقل بهذا الحكم البديهي بأقل من حكمه بحاجة الممكن الذاتي إلى السبب المؤثّر ، كما لا شكّ في أن هناك ما لا يقدر العقل على العلم والإحاطة بحسنه أو قبحه فيستفيد ذلك بكشف الشارع عنها للملازمة بين الحكومتين كالأفعال العبادية من الصّلاة ، والصّيام ونحوهما من العبادات.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك فذهبوا إلى أن الحسن والقبح شرعيان ، فما حكم الشّارع بحسنه فهو حسن وما حكم بقبحه فهو قبيح ، ولا يحكم العقل بقبح شيء ولا بحسنه بالمرّة ، فجعلوا الأفعال سواء في نفس الأمر وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبح ، ولا يتميّز القبيح بصفة تقتضي قبحه بأن يكون هو هذا القبيح ، وكذا لا يتميّز الحسن بصفة تقتضي حسنه بأن يكون هو الحسن ، فليس العقل عندهم منشأ لحسن شيء أو قبحه ، ويعني هذا أنه لا فرق عندهم بين السّجود لإبليس والسّجود لله في نفس الأمر ، ولا بين الصّدق والكذب ، ولا بين النكاح والسّفاح ، إلاّ أن الشرع أوجب هذا وحرّم ذاك ، فمعنى كونه حسنا أنه مأمور به من الشارع وكونه قبيحا أنه منهي عنه من الشرع ، لأن منشأ قبحه كونه منهيا عنه ومنشأ حسنه كونه مأمورا به ، وصرائح العقول تحكم ببطلان ذلك كلّه ، بل الفطرة السّليمة تشهد بفساده وكتاب الله صريح في فساده ، لأن الله

٢٥٨

تعالى فطر النّاس على استحسان الصّدق النافع والعدل والإحسان والعفّة والنجابة ، وفطر نواميسهم على استقباح أضدادها ، ونسبة هذا إلى مرتكزاتهم الفطرية كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم ، والرائحة الطيّبة والنتنة إلى مشامّهم ، والصوت الحسن وعدمه إلى أسماعهم على حدّ سواء ، إلى غير ما هنالك مما يفرقون بفطرتهم قبحه وحسنه ، ونفعه وضره وهذا كلّه هو القبح العقلي وحسنه.

وأما ما ذكره الآلوسي من الأقسام وأنه يعترف لحكم العقل بتحسين كمال الشيء وقبح نقصانه كالجهل ، ويعترف بحسن العدل وقبح الظلم فهو بعينه راجع إلى التحسين والتقبيح العقليّين الّذي أنكر حكمه بهما من استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب ، ونفى من أن يكون له حكم في شيء من ذلك لأن الكمال والنقص إنما يجريان في الأفعال ، والاعتراف بالحسن والقبح بهذا المعنى في الأفعال مستلزم للقول بالحسن والقبح الّذي جعله محلّ النّزاع من استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب ، لأن بداهة العقل تحكم بأنه لا يجوز على الحكيم الكامل أن ينهى عن الصّدق النافع ويجعله متعلّقا للذم والعقاب ، ولا يجوز عليه أن يأمر بالكذب الضارّ ويجعله متعلّقا للمدح والثواب ، كما زعم ذلك هذا الرجل في قضية النّسخ من الواجب إلى الحرام وبالعكس ، فإنكار هذا لا شكّ في أنه من كمال المناقضة مع الاعتراف بذلك.

ثانيا : قوله : « وتمسّكوا على ذلك بوجوه ».

فيقال فيه : إنّ تلك الوجوه التي أشار إليها هذا الآلوسي والتي أخذها تقليدا لنفي الحسن والقبح العقليّين وأنه لا حسن ولا قبح عندهم بالعقل هي بعينها واردة على ما اعترف به من القسمين الأولين الّذي زعم أنهما قسيمان للمعنى الثالث مع أن الجميع واحد في المعنى فحكمه واحد ، أما التقسيم الّذي جاء به فإنما هو من مخترعات المتأخرين من الخصوم ، حاولوا به الفرار من فساد سلعتهم وبطلان مزعمة رئيسهم الأشعري ، فإن هذا التقسيم قديما لم يكن في أقوالهم كما يتضح لمن راجع كلماتهم لا سيما كلمات الأشعري في هذا الباب ، وقد ألمعنا غير مرّة إلى وجود كمال المناقضة بين اعترافهم بحكمه بهما في الأولين من النقص

٢٥٩

والكمال والعدل والعدوان وإنكارهم لحكمه بهما في الأخير من المدح والثواب والذم والعقاب الّذي هو الآخر مستلزم لذلك وتابع للأفعال الحسنة ، وأنّه من المستحيل الّذي لا يكون أبدا أن يأمر الحكيم الكامل بالقبيح في نفسه كالكذب الضارّ ويمدح فاعله ويثيبه ، أو ينهى عن الحسن في نفسه كالصّدق النّافع ويذم فاعله ويعاقبه عليه ، وهذا شيء يدرك قبحه حتّى الجهلاء والأغبياء فكيف الحال بالعلماء.

ثم كيف يا ترى يستطيع الآلوسي بتلك الوجوه الواهية أن ينكر ما يعلمه كلّ عاقل بفطرته من حسن الصّدق النّافع وقبح الكذب الضارّ ، وهما من أظهر مصاديق حكم العقل في هذه المسألة مطلقا سواء أكان هناك شرع أم لا ، وكيف لا يستقلّ بترتب المدح على الأول والذم على الثاني والعقاب على الثاني والثواب على الأول ، ولسنا نريد من حكم العقل بترتب الثواب والعقاب في الصورتين ترتبهما بخصوصياتهما المعلومة في عرف الشّرع ، وإنّما نريد حكمه بترتب الثّواب على العبد المطيع الفاعل لما يوجب المدح فيستحقّ العطاء من سيّده العدل الحكيم ، وحكمه بترتب العقاب على العبد العاصي الفاعل لما يوجب الذمّ فيستحقّ العقاب من مولاه اللّطيف الخبير.

وبعبارة أوضح : أنّ العقل بطبيعته يحكم حكما جازما لا مرية فيه بأنّ من فعل شيئا على وفق أمر الحكيم يجزيه خيرا ، وإذا فعل خلاف نهيه يجزيه شرا ، وهذا الأمر في الوضوح إلى درجة لا يختلف العقلاء بوجوده عند أنفسهم فكيف بإله العالمين.

وإذا عرفت هذا فهلم معي لأريك الوجوه الباطلة الّتي تمسّك بها الخصوم لإثبات مذهبهم :

قال الآلوسي : « أما بطلان الأول يعني اقتضاء ذوات الأفعال للمدح والذّم والثواب والعقاب فلأن فعلا واحدا قد يتصف بالحسن والقبح معا باعتبارين كلطم اليتيم ظلما وتأديبا ، فلو كان هذا الاتصاف لذات الفعل فقط كما هو المفروض في هذا الاحتمال فإن كانت الذات مقتضية لهما معا لزم صدور الأثرين المتضادين من

٢٦٠