الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) [ النساء : ٢٥ ] وهل يتصور عاقل أن يكون الإنسان عاجزا عن كف من بر ، ثم يشتري ويملك يمينه جارية ، ومجرد نزول هذه الآية بعد قوله : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) يكفي في تحريم المتعة ـ إلى أن قال ـ : ولو كانت متعة الشيعة حلالا لكان قوله جلّ جلاله : ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) [ النور : ٣٣ ] مهملا لا معنى له ، عبثا باطلا ليس له في الوجود صورة ، وأي معنى لقوله : ( لا يَجِدُونَ نِكاحاً ) لو حلّ التمتع بكف من بر ، وأي معنى لقوله : ( حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ ) وأي حاجة إلى الاستعفاف ، بل لو كانت متعة الشيعة حلالا في شرع القرآن لكان الله جلّ جلاله بقوله : ( وَلْيَسْتَعْفِفِ ) قد غفل في شرع القرآن الكريم ، لأن وجوب الاستعفاف عن العجز عن النكاح يناقض حلّ المتعة ».

هذا تقرير كلام موسى جار الله في وشيعته التي زعم أنّه نقد بها كتب الشيعة ، وقد ردّ عليه العلاّمة المغفول له ( السيّد محمّد مهدي الكاظمي القزويني ) بأدلّة تثلج الصدور وتنقاد لها أعناق النقاد ، زيّف بكتابة كلّ ما جاء به من السّمادير وأرجع طعناته إلى نصابها.

ونحن نقول في جوابه :

ليس من الغريب أن نقول للقارئ إن الرجل بعيد عن لغة العرب وقليل المعرفة بأسرارها ، لأنه كان يعيش في روسيا وأهلها يجهلون لغة القرآن ولا يفهمون شيئا منها ، لذا ترى موسى يلتمسها عند ما يظهر فيه عيّ عن مجابهة خصمه بالدليل العلمي والبرهان المنطقي ، فيركن إلى التمويه وقلب الحقيقة ظنا منه أن كتابه الّذي تجشأه هذا الهرم لا تناله الأيدي بالنقد والتزييف ، أو أن الناقد الخبير سيسكت عن كشف عواره فيخبط في بحثه خبط عشواء.

فإن أضرّ شيء على العلم وأهله أن يتلبس الجاهل بشيء من صبغة العلم ، ويتخطى بخطوات مرتعشة في مبادئه ، وهو لم يصل إلى الجهل المركب بحدود إدراكه ، لذلك ترى موسى يقتحم حقيقة هو يعلم خروجها عن حدّ إدراكه فيخلط الحابل بالنابل ، لأن الحكم بالتناقض والتعارض قبل إرساله موقوف على معرفة

٢٠١

الحاكم بهما ، وموسى لمّا لم يكن له نصيب من المعرفة بشيء من ذلك أخذ يكثر من خبطه وخلّطه في تأويل المعاني اللّغوية الواردة في الكتاب ، فزعم أنّ آية : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ) معارضة لآية : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ ) وهي الأخرى مناقضة لآية : ( وَلْيَسْتَعْفِفِ ).

ولكن كان عليه قبل هذا الحكم أن يراجع اللّغة في فهم معنى ( النكاح والطول ) فإن الأول ورد على عدّة معان في لغة القرآن ، منها : المهر كما في آية ( وَلْيَسْتَعْفِفِ ) ومنها : العقد ، ومنها : الوطء ، إلى غير ذلك من معانيه.

والثاني : بمعنى السّعة والغنى والقدرة دون المهر ، كما توهمه ( شيخ الإسلام ) موسى ، ولعلّ الّذي أوقعه في هذا الخطأ ـ وما أكثر خطأه ـ توهمه الفاسد من أن لفظ النكاح إذا أطلق لا يتناول إلاّ العقد الدائم ، وهو غلط فاضح يكشف عن بطلانه قوله تعالى بعد ذكر المحرّمات من النّساء : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) [ النساء : ٢٤ ] فإن الابتغاء يتناول من ابتغى المؤقت والمؤبد ، بل الأول أشبه بالمراد لتعليقه على مجرد الابتغاء ، والمؤبد لا يحلّ عند الخصم إلاّ بوليّ وشهود.

وأما اشتمال الآية على نفي الإحصان وأن الإحصان لا يكون إلاّ في الدائم عند الشيعة فباطل وغير صحيح.

أولا : لا دليل على أن الإحصان لا يكون إلاّ في العقد الدائم ، ولم تقل به الشيعة إطلاقا.

ثانيا : لو سلّمنا تنازلا فإن المراد بالإحصان في الآية التعفف لا الإحصان الّذي يثبت به الرجم ، ويعضده قوله تعالى بعدها : ( غَيْرَ مُسافِحِينَ ) فأين التعارض والتنافي بين الآيتين يا موسى.

وبعد أليس من حقنا أن نخاطبه بما خاطب به عبد الله بن عباس عبد الله بن الزبير حيث كان يرى حرمتها بقوله له : إنك لجلف جاف إنها ـ أي المتعة ـ كانت تفعل على عهد إمام المتقين ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

٢٠٢

ولا يخفى بعد هذا كلّه سقوط قول موسى جار الله : ( لم يكن في الإسلام نكاح متعة ولم ينزل في جوازها قرآن وليس بيد أحد دليل لإباحتها ) لوضوح دلالته على أن صاحبه لم يطّلع على آية من القرآن ، ولم يقف على رواية من روايات أئمته ، ولا على شيء من أحوال الصّحابة حتى يعرف كذبه وبهتانه على كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن موسى لا يهمّه في قليل ولا كثير إذا قال باطلا وتحكّم جزافا.

أليس من البليّة على الإسلام وأهله أن يقول موسى : ( لم يكن في الإسلام متعة ولم ينزل في جوازها قرآن ) إلى نهاية أسطورته الغريبة وأساطيره المهملة ، ويضرب عرض الحائط كلّ ما سجّله حفّاظ أهل السنّة في صحاحهم من أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حليّة المتعة ، ويسخر من شهادة إمامه عمر (رض) واعترافه بحلّيتها في الإسلام ونزول القرآن بجوازها كما تقدم البحث عن ذلك كلّه مستوفى ، ثم أن قوله : ( ومجرد نزول هذه الآية ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) يكفي في تحريم المتعة ) يفيد أنها كانت حلالا ، ولكن ما زعمه من باطل القول صيّره حراما ، وهذا إقرار منه بالحليّة ـ كإمامه عمر (رض) ـ فيؤخذ به دون ما زعمه من التحريم ، فإنه دعوى مجردة وإقرار العقلاء على أنفسهم حجّة ، أللهم إلاّ أن يكون خارجا عنهم فيكون مجنونا وحينئذ يكون ساقط العبارة لأجل جنونه.

ما زعمه خصوم الشيعة في حرمة المتعة باطل

قالوا : « إنّ المتمتّع بها ليست مملوكة لبداهة بطلانه ، وليست زوجة لانتفاء لوازم الزوجية عنها كالعدّة ، والميراث ، والطلاق ، والنفقة ، واللّعان وغير ذلك من لوازمها ، لقوله تعالى : ( إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) فحصرت الآية أسباب حليّة الوطء بأمرين : الزوجية وملك اليمين ، وهما منتفيان في المتعة ».

فيقال لهم : أما دعوى أنها ليست زوجة فمردودة بحديث ابن مسعود : ( ورخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ) ورواية الربيع بن سبرة ، بقوله : ( فتزوجت إمرأة ) وأما دعوى أن انتفاء لوازم الزوجية عنها يثبت أنها ليست زوجة فمردودة.

٢٠٣

أولا : إنّ انتفاء بعض الأحكام كعدم الإرث لا يقتضى خروجها عن مسمّى الزوجة لا لغة ولا شرعا كما تقدم إطلاق الزوجة عليها في حديث ابن مسعود ورواية الربيع.

ثانيا : إنّ الإرث والنفقة وغيرهما من الأحكام ليست من لوازم الزوجة مطلقا ، بل هي تابعة لصفات زائدة عليها ، كعدم الانقطاع وعدم الاختلاف في الدين وغيرهما ، فهي تلازم الزوجة طردا وعكسا لسقوط الإرث بالقتل والكفر والرق وسقوط النفقة بالنشوز إجماعا وقولا واحدا ، وذلك كلّه لا يخرجها عن الزوجية.

وأما العدّة فثابتة عندنا لها بالإجماع ، بل عند كلّ من أباحها ، وأما الطلاق فليس من لوازم النكاح الدائم وذلك لتحقق الانفصال بين الزوجين بالفسخ بسبب العيوب المنصوص عليها في الشريعة وهو ليس بطلاق ، وهكذا حال التفريق بين الزوجين عند أهل السنّة فإنه ليس بطلاق ، لأن الطلاق بيد من أخذ بالسّاق ـ كما نصّ عليه الحديث ـ وليس التفريق منه في شيء ، وأما ما ادّعوه على عليّ عليه‌السلام من الرواية ، وأنه عليه‌السلام روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر

فباطل وغير صحيح ، لأن الثابت بالضرورة من مذهب عليّ عليه‌السلام والأئمة الهداة من أبنائه عليه‌السلام إباحتها وإنكار تحريمها ، فهي مردودة وغير مقبولة مطلقا.

وأما ما رووه من طريق سبرة ، عن أبيه ، أنّه قال : شكونا الغربة في حجّة الوداع ، فقال : استمتعوا من هذه النسوة ، فتزوجت إمرأة ، ثم عدوت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قائم بين الركن والباب ، وهو يقول : إنّي كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع ألا إنّ الله قد حرّمها إلى يوم القيامة ، فباطل وغير صحيح.

أمّا أولا : فلأنها ضعيفة السند ومضطربة اللّفظ وهي من آحاد الخبر لا سيّما فيما يعمّ به البلوى ، ومعارضة بما هو أقوى منها سندا وأظهر دلالة من المتفق عليه بين الفريقين ، ومثلها لا تصلح ولا تقوى على معارضة النّصوص الصحيحة الصريحة في بقاء شرعية المتعة بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير نسخ إلى يوم القيامة ، وأنها من الطيبات التي لا يجوز لأحد تحريمها إطلاقا فهي الحجّة دونها.

٢٠٤

ثانيا : إن الرواية مشتملة على إباحتها في حجّة الوداع ، وما رووه عن عليّ عليه‌السلام دالّ على تحريمها يوم خيبر ، ويعني ذلك كلّه أنها منسوخة مرتين لوضوح تأخر حجّة الوداع عن خيبر ، وهذا مع ضعفه وعدم القول به لا يصح الاستدلال به مطلقا.

ثالثا : إنّها معارضة بحديث الحكم المارّ ذكره الصريح في أن آية المتعة غير منسوخة ، وبما حكاه عن عليّ عليه‌السلام من قوله عليه‌السلام : ( لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي ) ، والترجيح في جانب حديث الحكم لأنه متفق عليه بين أهل السنّة والشيعة فتسقط الرواية لأجله.

آية ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) غير ناسخة لآية المتعة

ومن الغريب بعد هذا كلّه أن يستدلّوا على حرمة المتعة بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) [ المؤمنون : ٥ ] زاعمين أنها ناسخ لآية المتعة من حيث لا يعلمون أو يعلمون أنّ آية المتعة مدنية وآية : ( وَالَّذِينَ هُمْ ) مكّية ، والّذي عليه المشهور والمذهب المنصور عندهم أن المكّي ما كان نزوله بمكّة والمدني ما كان نزوله بالمدينة ، فكيف يا ترى يعقل تقدم زمان الناسخ على المنسوخ؟

آية المواريث والطلاق غير ناسخة لآية المتعة

وأغرب من ذلك ما نسبوه إلى سعيد بن جبير ، وعبد الله بن مسعود ، وعليّ عليه‌السلام من أن آية المواريث والطلاق ناسخة لآية المتعة ، لأن زوجة المتعة لا ميراث لها ولا طلاق.

والجواب ، أولا : أن النسبة غير صحيحة وباطلة ، وهم أجلّ من أن يقولوا بذلك ، وعليّ عليه‌السلام أعلى كعبا وأجلّ قدرا من أن يخالف كتاب ربّه وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يتكلم بما لا يتكلم به أدنى فقهاء المؤمنين.

ثانيا : يردّ عليه بالنقض بالزوجة الكافرة فإنها زوجة ولكنها لا ترث ، وبالزوجة المملوكة والزوجة القاتلة بغير حقّ فإنهما لا ترثان من الزوج بإجماع الخصمين.

٢٠٥

ثالثا : بأن النّسخ عبارة عن رفع الحكم الشرعي عن موضوعه الّذي علّق عليه لانقطاع استمراره ودوامه في الواقع ، أما زوجة المتعة فلم يثبت لها بأصل الشرع طلاق وميراث ، فأي شيء يا ترى ينسخ وهو من قبيل السّالبة المنتفية بانتفاء موضوعها؟ وإنّما لا ترث ولا يقع عليها طلاق بوجود النّص والدلالة دون النسخ ـ كما مرّ ـ ويدلّك على ذلك ما تقدم من حديث ابن جرير ، عن السدّي : وليس بينهما ميراث ليس يرث واحد منهما صاحبه ، وحديث ابن عباس المتقدم ذكره : وليس بينهما وراثة.

رابعا : لو كانت آية المتعة منسوخة بآية الطلاق والمواريث فتكون زوجة المتعة بهما محرّمة لكانت الآيتان ناسختين لآية النكاح الدائم ، لاستلزامه حرمة الزوجة المطلّقة مطلقا وحرمة الزوجة الكافرة أبدا ، لأن الأولى مطلّقة فتحرم مطلقا والثانية هي الأخرى لا ترث فتحرم أبدا وبطلانه واضح ، فإذا بطل هذا بطل ذاك ، ومن ذلك كلّه يظهر لك واضحا أن تحريم بعض الصحابة لها لم يكن إلاّ عن طريق الاجتهاد ، وهو فاسد في مقابل النصّ بل وإجماع الصحابة حتى من المحرّم نفسه كما مرّ عليك في حديث مسلم وما حكاه العيني في شرحه لصحيح البخاري.

فإن زعم أولياؤه أن تحريمه (رض) كان بطريق الرواية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقال لهم ، أولا : يبطله فعل الصّحابة لها في عهده كما هو صريح حديث جابر : ( استمتعنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر ) ونصّ قوله : ( كنا نستمتع الأيام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر حتى نهى عنه عمر في شأن ابن حريث ).

ثانيا : لو كان تحريمه لها بطريق الرواية كيف خفي ذلك على عامّة الصّحابة من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجميع خلافة أبي بكر (رض) وبعض خلافة المحرّم لها نفسه.

ثالثا : لو سلّمنا جدلا فإنه رجوع إلى قول صحابي وهو معارض بقول ابن عباس ، وابن مسعود وغيرهما من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومما يدلّ على أن تحريمه لها كان عن طريق الاجتهاد والنظر لا عن رواية ، وخبر قوله المشهور المتقدم

٢٠٦

ذكره : ( متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلالا أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ) فإن قالوا : إنّ مراده من قوله : ( أنا أنهى عنهما ) أي أخبركم بالنهي وأوافق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ، فيقال فيه ، أولا : ما تقدم من بطلانه بفعل الصّحابة لها في زمانه وأنّه رجوع إلى قول صحابي المعارض بقول غيره من الصحابة.

ثانيا : إنّ هذا الحمل من أفحش التأويل وأقبحه يستحى من ارتكابه ، لأنّه لم يقل أنا أخبركم بالنهي وإنما قال : ( أنا أنهى ) فلا يدلّ عليه بإحدى الدلالات الثلاث ، ولو أراد القائل أي قائل منه ذلك لعدّة العقلاء غالطا سفيها ملغزا وذلك لا يصح نسبته إليه ، ولو صح فلا يصح في المقام لأن متعة الحج مفروضة في كتاب الله فلا وجه لمنع صحة إحدى المتعتين والقول بها دون الأخرى.

ويقول الترمذي في صحيحه : ( إن رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر (رض) عن متعة النّساء فقال : هي حلال ، فقال إنّ أباك قد نهى عنها؟! فقال ابن عمر : أرأيت أبي كان نهى عنها وصنعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنترك السنّة ونتبع قول أبي ) وهو نص في أن هذه المتعة كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفعل وأن نهيه (رض) عنها لم يكن إلاّ عن طريق النظر.

ومن ذلك كلّه وأضعافه تستشرف على القطع بأن متعة النّساء من السنّة ، وقديما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من رغب عن سنّتي فليس منّي ) ومن جميع ما أدليناه يتضح أن ما زعمه الآلوسي من إجماع الصّحابة على حرمة المتعة كذب وانتحال لا أصل له.

٢٠٧
٢٠٨

الفصل العاشر

مباحث في الإجماع

دعواه إجماع الصّحابة كلّهم على أخذ فدك من فاطمة عليهم‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باطلة

سادسا : قوله : « وقد أجمعوا ـ أي الصحابة ـ على منع ميراث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغصب فدك من البتول ».

فيقال فيه : إن أراد من ذلك أن جميع الصّحابة أجمعوا على منع ميراث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغصب فدك من فاطمة عليهم‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فباطل وغير صحيح ؛ لأن مثل هذا الإجماع لم يتحقق من جميعهم وبلا استثناء في حال ، وإن أراد إجماع أهل الأطماع من رواد الأصفر الرّنّان فمما لا خلاف فيه بين الفريقين.

فهذا البخاري ـ وهو شيخ أهل الحديث ـ قد سجّل ذلك في باب فرض الخمس في أواخر ص : (١٢٣) من جزئه الثاني ، وفي باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نورّث ، من كتاب الفرائض من جزئه الرابع من أبواب صحيحه وقد تقدم ذكره ، وذلك شيخ الإسلام عندهم مسلم قد سجّله في باب حكم الفيء ص : (٩١) من جزئه الثاني من أبواب صحيحه ، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في ص : (٩٦) من مسنده من جزئه الأول ، وغيرهم من محدثي أهل السنّة وحفّاظهم ، فراجع ثمة حتى تعلم منعهم فاطمة عليهم‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميراثها من أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغصبهم نحلة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدك التي أعطاها إيّاها في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فهذا السّيوطي يحدثنا في الدر المنثور ص : (١٣٠) من جزئه الثاني في آخر باب ، ومن الدليل على أن الخمس لنواب المسلمين ، عن أبي يعلى ، وابن أبي

٢٠٩

حاتم ، وابن مردويه وغيرهم ، عن أبي سعيد ، قال : لمّا نزل قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) [ الإسراء : ٢٦ ] دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليهم‌السلام وأعطاها فدك.

وفيه من طريق ابن عباس : إنّه لما نزلت أقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة فدكا ) ، وقد ثبت أن تفسير ابن أبي حاتم من التفاسير المعتمدة ، وقد تابعه على ذلك جم غفير من حفاظ أهل السنّة فلا سبيل إلى الإنكار.

وكان الأحرى بهم احترامها عليهم‌السلام وإجلالها ورعاية حقّها وحرمتها لا ظلمها وهضمها ودفعها عن إرثها وطردها عن تراثها ، أفتراهم لغيرها يورّثون ولها خاصة يمنعون فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

إختلاف أهل السّقيفة في تعيين الخليفة أول اختلاف حدث في الإسلام

سابعا : قوله : « وبعد حدوث الاختلاف في الأمة وتفرقهم ».

فيقال فيه : لقد ألمعنا فيما تقدم منا أن أول إختلاف وقع في الأمة هو إختلاف أهل السّقيفة في تعيين الخليفة وقول عمر بن الخطاب (رض) البادئ في البيعة والمحرّك الكبير فيها : ( إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ) (١).

ولا شك في أن الفعل إذا استحق فاعله القتل كان من أعظم البدع في الدين وأكبر الضلال في الإسلام ، وهذا ما يثبت لنا أن البيعة التي نتجت عنها تلك الخلافة في السّقيفة لم تكن من هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلاّ لو كانت من الدين لم يحكم عمر (رض) ـ وهو أعرف الناس بها ـ بقتل من عاد إلى مثلها ، ومن حيث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم بقتل من أحدثها في الإسلام علمنا بارتكاب الرجلين ما يوجب القتل ولكن أحدا لم يعمل بموجبه فيهما ، وهذا ما عناه الله تعالى بقوله : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ

__________________

(١) سجله عليه ابن حجر الهيتمي في صواعقه في الشبهة السادسة من شبهات كتابه ، والبخاري في باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت ص : (١١٩) من صحيحه من جزئه الرابع ، ومحمّد بن عبد الكريم الشهرستاني في ص : (١٣) من الملل والنحل وهذا من المقطوع به بين الأمة.

٢١٠

انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) [ آل عمران : ١٤٤ ] وعناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث الحوض والبطانتين وإتّباع سنن من كان قبلكم شبرا شبرا كما تقدمت الإشارة إليه.

إجماع أهل البيت هو الحجّة لا سواه

ثامنا : قوله : « وبعد تفرقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع على المسائل الخلافية ».

فيقال فيه : إنما يرجع إلى إجماع المنقلبين على الأعقاب والمتمردين على النفاق من بغاة صفين وأمثالهم في مسائل الدين كلّ أفاك أثيم من المنحرفين عن عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أما الشيعة فيرجعون إلى إجماع أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، وقرنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن ، وجعلهم قدوة لأولي الألباب ، وشبّههم بسفينة نوح عليه‌السلام التي من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، وجعلهم باب حطّة يأمن من دخلها ، وأحد الثّقلين ، لا يضلّ من تمسك بهما ولا يهتدى إلى الله من ضلّ عن أحدهما ، وأنهم عليهم‌السلام السّبل إلى الله والهداة إلى الحقّ ، والأمان للأمة من الاختلاف ، فإذا خالفتهم قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس كما دلّ على ذلك كلّه أحاديث الفريقين المتواترة.

لذا فإن الشيعة يحكمون بحجيّة إجماع الصّحابة الكرام الّذين لا يخلوا إجماعهم من قول المعصوم من البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين قصدهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه البخاري في صحيحه ص : (١٨٨) من جزئه الثاني في باب حدثني ابن المثنى ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك ).

وما أخرجه في صحيحه ص : (١٧٤) من جزئه الرابع ، في باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ ) ، عن المغيرة بن شعبة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ).

وما أخرجه مسلم في صحيحه في آخر ص (١٤٣) من جزئه الثاني في باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خالفهم ) ،

٢١١

عن معاوية ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرّهم من خذلهم ـ أو خالفهم ـ حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون ).

فكلّ أولئك أدلّة واضحة على أن الطائفة التي ما برحت قائمة على الحقّ لا يضرّهم من خالفهم وخذلهم وانحرف عنهم هم أهل بيت النبوّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموضع الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل ، وشيعتهم الموالون لهم والمعادون لأعدائهم ، وتلك قضية تعبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم بالطائفة الظاهرة في القلّة كما يشير إليه القرآن ، بقوله تعالى : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) [ التوبة : ١٢٢ ] فهو لا ينطبق على غيرهم وغير شيعتهم فهم المنصورون بالحجج والبراهين على أعدائهم الكثيرين ، ولا يضرّهم من خذلهم من الأمويّين والعباسيّين ، ولا من خالفهم من أتباعهم الظالمين من المتقدمين والمتأخرين ، أيريد الآلوسي أن تأخذ الشيعة بمذاهب اختلقها الدخلاء واخترعها الأجانب كما صنع هو ويتركوا أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصّحابة الكرام ، كلاّ ما كان ذلك من الدين الّذي أمر الله تعالى به ودعا نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو الناس إليه.

تاسعا : قوله : « لا سيّما في المسائل الخلافية التي تحتاج إلى الاستدلال ».

فيقال فيه : ليس بالمسلمين من حاجة إلى إجماع من حكم القرآن بمروده على النفاق وانقلابه على الأعقاب ، وحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه بدخول النار في إثبات المسائل الخلافية ، وقد أغناهم كتاب الله الّذي فيه الهدى والنور لمن اتبعه الثقل الأكبر وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمين على وحيه ، وإجماع أهل البيت الثقل الأصغر الّذين من تمسّك بهم كان على الهدى ومن أخطأهم ضلّ وهوى من المنحرفين عنهم والمتمسكين بأعدائهم الّذين جدعوا أنف الحقّ جدعا ورفعوا لواء الباطل رفعا.

العقل حجّة متبعة

قال الآلوسي ص : (٣٨) : « أما العقل فهو أيضا باطل ، لأن التمسك به إما في الشرعيات أو غيرها ، فإن كان في الشرعيان فلا يصح التمسك به عند هذه الفرقة ، لأنهم منكرون أصل القياس ولا يقولون بحجيّته ، وإمّا في غير الشرعيات

٢١٢

فيتوقف تجريده عن شوائب الوهم والألفة والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب والفكر ، وهذه الأمور لا تحصل إلاّ بإرشاد إمام لأن كلّ فرقة من طوائف بني آدم يثبتون بعقولهم أشياء وينكرون أشياء أخرى ، وهم متخالفون بينهم بالأصول والفروع ولا يمكن الترجيح بالعقل فقط ، فالتمسك إذن بقول الإمام ومع ذلك لا يمكن إثبات الأمور الدينية بالعقل الصرف لأنه عاجز عن معرفتها تفصيلا بالإجماع ، نعم يمكنه معرفتها إذا كان مستمدا من الشريعة ».

حكم العقل لا يدور وجودا وعدما مدار القياس

المؤلف : أولا : « قوله : إما في الشرعيات فلا يصح التمسك بالعقل عند هذه الفرقة لأنهم منكرون حجيّة القياس ».

فيقال فيه : إن حكم العقل لا يدور وجودا وعدما مدار القياس حتى يكون إنكار حجيّته فيه إبطالا لحكم العقل مطلقا ، أما القياس فهو كالظن إن لم يكن دونه ، فلا يحكم بحجيّته في الشرعيات مطلقا من جهات مضافا إلى ما تقدم منافي بطلانه.

الأولى : فلاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما ثبت به الحلية حراما وبالعكس ، فاعتبار القياس ليس من حكمه في شيء حتى يكون إنكاره إنكارا لحكمه كما يزعم الخصم ، وإنّما التمسك به كان لأجل هوى النفس ، لأن العقل حاكم بقبحه فكيف يحكم بحجيّة ما حكم بقبحه ، وهو لا يتردد ولا يشك إطلاقا بعد إدراك مناطه.

الثانية : لو جاز العمل بالقياس في اقتناص الشرعيات من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجاز العمل به في اقتناصها من الله تعالى مباشرة لاتحاد المناط فيهما ، بل اقتناصها من الله أولى والثاني معلوم بالضرورة بطلانه إذ يلزم منه بطلان بعثة الأنبياء عليهم‌السلام إذ ما الفائدة فيها بعد جواز استلهام الأحكام من المصدر الحقيقي والينبوع الأصلي بالقياس وهو باطل قطعا وذلك مثله باطل.

الثالثة : إنّ حرمة العمل بالقياس من البديهيات الأولية عند عوام النّاس فضلا عن العلماء ، وذلك فإن من القبيح عند العقلاء أن يتكلف العبد من قبل مولاه بما

٢١٣

لم يعلم أنه صادر منه ، فالالتزام بالحكم المقتنص بالقياس على أنه من الله تعالى مع عدم العلم بأنه منه افتراء من العبد على مولاه وهو قبيح وتشريع محرم لا يجوز ، قال تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) [ النحل : ١١٦ ].

ليس العقل شريكا لله في التشريع

ثانيا : قوله : « لأن التمسك به ».

فيقال فيه : إن اعتبار حكم العقل عند الشيعة لا يعني كونه حاكما بحليّة الأشياء وحرمتها بالأصالة مطلقا ، وبعبارة أوضح ليس معناه أنه يجوز له تشريع الحلال والحرام إطلاقا كما ذهب إليه ظن الآلوسي وقد خاب ظنه وطاش سهمه وكثر جهله وذهب لبّه ، وإلاّ لزم أن يكون العقل شريكا مع الله تعالى في تشريع حلاله وحرامه وسائر أحكامه وهذا ما لا يقول به من كان من الإسلام على شيء ، نعم ذهب إلى هذا المذهب خصوم الشيعة الّذين يقولون في الدين بالرأي والهوى والقياس والاستحسان ، ويرون أنهم شركاء الله في شرعياته تعالى.

أما الشيعة فيقولون : إنّ العقل في غير ما يستقل به كقبح الظلم وحسن العدل وقبح الخيانة وحسن الأمانة وقبح الكذب مع عدم الضرورة ، وحسن الصدق ونحو ذلك متى ما قطع بموضوع أحد الأحكام الشرعية فإنه يوجب العمل به والنزول على حكمه ، كما إذا رتب الشّارع الحرمة على الخمر وقطع المكلف بخمرية شيء كان واجبا عليه ترتيب ما يلزمها من الآثار الشرعية كحرمة شربها ووجوب الاجتناب عنها وغير ذلك من لوازمها ، ولا يتوقف شيء منه على الدليل الشرعي كما سيأتي توضيحه في الوجه الثالث.

ثالثا ، قوله : ( وأما في غير الشرعيات ).

فيقال فيه : إنّ الثابت عند الشيعة أن الأدلة العقلية على قسمين ، القسم الأول : ما يتوقف على الخطاب الشرعي فيكون حكمه فيه تابعا للأحكام الشرعية

٢١٤

في مرحلة الامتثال والطاعة ، فمتى جزم به حكم به ، القسم الثاني : ما لا يتوقف على الخطاب المولوي.

مع العقل في أقسام حكمه

أما القسم الأول فهو على أنواع : الأول : كتوقف حكمه بوجوب المقدمة في الواجب المطلق على خطاب المولى به ، وكتوقف حكمه في وجوب المقدمة أو حرمتها على وجوب ذي المقدمة أو حرمته ، سواء أكان مما يتوقف عليه وجوده وصحته كالطهارة للصلاة وقطع المسافة للحج ، أو توقف العلم بوجوده عليه كتكرار الصّلاة عند اشتباه القبلة ، أو تردد الصلاة الفائتة ، أو غسل زيادة على الحدّ المنصوص قليلا في الوضوء ، أو الغسل الترتيبي ، أو العلم بنجاسة أحد الثوبين المتعيّن فيهما السّاتر للصلاة ، وترك الإنائين المعلوم نجاسة أحدهما لا بعينه وهي المسماة بالمقدمة العلمية ، والحاكم في ذلك كلّه هو العقل ، وإنّما سميت علميّة على أساس أن العلم بالتكليف المولوي ثابت فيجب الخروج عن عهدته ، ولا يحصل العلم بالخروج عنها إلاّ بذلك ، لأن اشتغال الذمة بالتكليف اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة.

الثاني : كتوقف حكمه باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه على الأمر المولوي ، وغير ذلك من الموارد لحكمه.

الثالث : دليل الخطاب ويسمى ( بالمفهوم ) كمفهوم الشرط والحصر والغاية والوصف على الخلاف في الأخير.

الرابع : حكمه عند تزاحم الواجبين أو الحرامين أو الواجب والحرام بتقديم الأهم الثابت أهميته عقلا أو شرعا بموجب آثاره على المهم ، كتزاحم حرمة قطع الصلاة أو وجوبه مع وجوب إنقاذ الغريق من ذوي النفوس المحترمة على القادرين ، وكوجوب إنقاذه على القادر بالتصرف بالمرور في أرض الآخرين بغير إذن منهم ، إلى غير ما هنالك من موارد وقوع التزاحم بين الواجبات والمحرمات.

٢١٥

الخامس : الاستقراء إذا كانت العلّة فيه منصوصة ، كما إذا ورد النصّ بلفظ :

( حرّمت الخمر لإسكارها ) بأن كان الملاك في حرمتها هو وجود علّة الإسكار فيها الّذي يدور الحكم مداره وجودا وعدما ، وقد وافق الشيعة في حرمة العمل بالقياس جماعة من أعلام أهل السنّة ، فمنهم : النظّام ، ويحيى الإسكافي ، وجعفر بن مبشر وأمثالهم وكثير من المعتزلة ، وقد مرّ عليك قول ابن حزم في بطلان القياس فتذكر ، فمن هذا تفهم أن ما ذكره الآلوسي من بطلان دليل العقل عند الشيعة بدليل عدم قولهم بحجيّة القياس باطل وغير صحيح.

أما ما لا يتوقف من أحكام العقل على الخطاب المولوي وإن ورد الدليل الشرعي في مورد حكمه فهو إرشادي مؤكد لحكومته للتلازم بين الحكومتين الشرعية والعقلية ، وهو أيضا على أنواع :

الأول : ما يستقلّ به العقل من الحسن أو القبح المعلومين بالبداهة ، كوجوب ردّ الوديعة ووفاء الدين والإنصاف والشفقة والصدق ونحو ذلك.

الثاني : حكمه على الأشياء فيما لا نصّ فيه من الشارع بعدم الوجوب والحرمة بعد إفراغ الوسع في البحث والفحص عن الدليل وعدم وجدانه ، وحينئذ فإنه يستقلّ بعدم وجوبه وعدم حرمته على أساس حكمه بقبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان وهي المسماة عندهم : ( بالبراءة الأصلية ).

الثالث : حكمه بإباحة المنافع.

فهذه أحكام العقل وهذه موارد حكمه وهذا هو معنى حجيّة حكم العقل عندهم لا سواه.

٢١٦

الفصل الحادي عشر

حديث العترة

الآلوسي وحديث الثقلين

قال الآلوسي ص : (٣٩) : « وهنا فائدة جليلة لها مناسبة ، وهي

قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنّي تارك فيكم الثّقلين ، إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » وهذا الحديث ثابت عند الفريقين أهل السنّة والشيعة ، وقد علم منه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا في المقدمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسك بهذين العظيمي القدر والرجوع إليهما في كلّ أمر.

فمن كان مذهبه مخالفا لهما في الأمور الشرعية اعتقادا أو عملا فهو ضالّ ومذهبه باطل وفاسد ولا يعبأ به ، ومن جحدهما فقد غوى ووقع في مهاوي الردى.

وليس المتمسّك بهذين الحبلين المتينين إلاّ أهل السنّة لأن كتاب الله ساقط عند الشيعة عن درجة الإعتبار.

ثم أورد بعض الأخبار المكررة وعزاها إلى محمّد بن يعقوب الكليني ( نوّر الله مرقده ) إلى أن قال :

وأما العترة الشريفة فهي بإجماع أهل اللغة أقارب الرجل ، والشيعة ينكرون بعض العترة كرقيّة ، وأم كلثوم بنتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يعدّون بعضهم داخلا في العترة كالعباس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولاده ، وكالزبير بن صفية بل يبغضون أكثر أولاد فاطمة ويسبونهم كزيد بن عليّ ـ إلى أن قال ـ : فقد بان لك أن الدين عند هذه الطائفة الشنيعة قد انهدم بجميع أركانه وانفلّ ما تشيّد من محكم بنيانه ... إلخ ».

٢١٧

أولاد العباس (رض) خارجون عن عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الثقلين

المؤلف : أولا : قوله : « إني تارك فيكم الثقلين ».

فيقال فيه : إن الآلوسي قد خان في نقل الحديث : ( ومن لا أمانة له لا دين له ) فإنه أسقط ما في آخر الحديث من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وقد أنبأني اللّطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم ) على ما (١) سجّل ذلك ابن حجر الهيتمي في حديث صحيح من صواعقه ص : (١٤٨) في الفصل الأول في فضائل أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الباب الحادي عشر ، وأنه وارد عن نيف وعشرين صحابيا بألفاظ مختلفة ، منها :

( إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السّماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيته ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ).

ومنها : ( إنّي أوشك أن أدعى فأجيب ، وإنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب الله حبل ممدود من السّماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّ اللّطيف الخبير أخبرني أنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا بم تخلفوني فيهما ).

ومنها : ( إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن تبعتموهما ) إلى آخر الحديث.

وهو يدل بصراحة على عدم مفارقة العترة لكتاب الله ما دامت الدنيا ، ويعني ذلك وجود من تجب طاعته كالقرآن من رجل من أهل البيت عليهم‌السلام في كلّ زمان ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون معصوما ، لأن القرآن معصوم فكذلك من لا يفارقه أبدا مطلقا يكون معصوما وتلك قضية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) وهذا ما يقتضي خروج من لم يكن مقارنا لكتاب الله وكان مفارقا له بتمامه من أولاد العباس عن العترة المعنيّة في منطوق الحديث ومفهومه لثبوت

__________________

(١) من الطبعة الجديدة التي كانت سنة ١٣٧٥ ه‍.

٢١٨

انحرافهم عن القرآن بأفعالهم السّيئة المخالفة لروح الشريعة من ارتكاب الفسوق والفجور وشرب الخمور وهتك الحرمات وقتل النفس المحرّمة بل النفوس الزكية الطّاهرة من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والآلوسي إنّما أسقط أواخر الحديث ليقول : ( إن الشيعة يبغضون أولاد العباس (رض) مع أنهم من العترة وقد أوجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التمسك بالعترة لا بغضهم وسبّهم وتكفيرهم ) فيخدع بذلك نفسه ، ويغري العامة بتمويهه دون أن يشعر إلى أن المسلمين أبعد غورا وأكثر انتباها من أن تنطلي عليهم هذه التمويهات والترهات ، فالمسلمون إذن لا يشكّون في خروج أولئك الظالمين المفسدين في الأرض بالتخصص موضوعا من العترة ذاتا وأنهم ليسوا من العترة في شيء وليست هي منهم على شيء في منطوقه بالمرّة.

وما أشدّ ما تعجب من هذا الآلوسي فإنك تراه هنا يقول : ( إن الرجوع إلى غيرهم في كلّ أمر سواء أكان اعتقادا أم عملا فهو ضلال وباطل ، ومن جحدهم فقد غوى ووقع في مهاوي الردى ) وهو لم يعمل مطلقا بما قاله هاهنا ، لأن من الواضح في عقيدته وسلوكه انحرافه عن العترة عليهم‌السلام ولم يكفه ذلك الانحراف عنهم حتى أنه أوجب على عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته أن يرجعوا إلى خلفائه ويطيعوا أمراءه في كلّ ما يأمرون به وينهون عنه ، وأن عليهم أن يصلّوا خلف أئمته ويتمسكوا ببيعتهم التي قد عرف العام والخاص فلتتها وزلّتها على حد تعبير المحرّك الكبير فيها كما تقدم بحثنا عنه فاستوفيناه.

فالآلوسي بهذا قد حكم على نفسه بالغواية والوقوع في مهاوي الردى من حيث يدري أو لا يدري ، وزاد على ذلك الطعن فيمن أسقط خلافة خلفائه (رض) من حسابه ولم يعتقد شرعيتها ولم يقل بصحتها كالشّيعة الذين تمسّكوا بعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته عليهم‌السلام ورجعوا إليهم خاصة في اعتقادهم وأعمالهم ، ورفضوا الآخرين من أن يكونوا خلفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إطلاقا ، والأقبح من ذلك التناقض القبيح أنك تراه يزعم في أوائل كتابه : وقدّمته ـ أي الكتاب ـ لأعتاب خليفة الله في أرضه ونائب رسوله في إحياء سنّته وفرضه ـ إلى قوله ـ : وهو أمير المؤمنين

٢١٩

الواجب طاعته على الخلق أجمعين سلطان البرّين وخاقان البحرين السّلطان ابن السّلطان السّلطان عبد الحميد ) ، وهاهنا تراه يقول إن الرجوع إلى غيرهم في كلّ أمر سواء أكان اعتقادا أم عملا ضلال وباطل ، وهل هذا إلاّ قول متناقض مبطل؟!

مدح الآلوسي لعبد الحميد السّلطان العثماني

وظنّي ، وربّ ظن يقين ، أنّ الآلوسي لم يغال في عبد الحميد هذا الغلوّ الّذي كاد بسببه أن يدّعي فيه النبوّة لو لا الألوهية ، ولم يعطه تلك الألقاب الضخمة كرما إلاّ وهو على ثقة من أنه سيصله بشيء من الأصفر الرنّان أو يمنحه وظيفة القضاة والحكام ، لذا تراه باع آخرته بدنياه وتفانى في سبيله وبذل كلّ ما كان في استطاعته من حيلة ومكر وخديعة وألفاظ معسولة ليتزلّف بها إليه ليسدل عليه بشيء من حطام الدنيا ، الأمر الّذي ترك الآلوسي يفرط بواجباته الدينية والدنيوية لأجله ، فهو إذ يحكم على الشيعة بالكفر والضلال لا يرتكز إلاّ على تحصيله الدرهم والدينار لأنه على يقين أن أميره الّذي أعطاه إمرة المؤمنين من خصماء الشيعة وأعدائها لثبوت انحرافه عن عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته عليهم‌السلام فإذا ما طعن فيهم ونسب إليهم المخازي والمرديات على مسمع منه فلا شك في أنه يستطيع من وراء ذلك أن يتزلّف إليه ويستدر عواطفه ويتقرب من ساحته ، وهكذا كان علماء السّوء وروّاد المنافع في كلّ عصر من العصور يفعلون ، فإنهم كانوا يتزلفون في تلك العصور المظلمة المتشبعة بروح الاستبداد إلى أمراء الجور بما يبيح لأولئك الظالمين أن يرتكبوا من شيعة الوصيّ عليه‌السلام وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كانوا يرتكبوا من أنواع العذاب والنكال.

عبد الحميد العثماني لا يصلح لخلافة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ثم كيف يا ترى صار عبد الحميد التركي خليفة الله في أرضه ونائب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ومتى يا ترى استخلفه الله تعالى في أرضه واستنابه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أجل وبأي شيء صار أمير المؤمنين وواجبا طاعته على الخلق أجمعين؟ وليس في كتاب الله آية ولا في سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواية تدل عليه ، وكيف يصح أن يستخلفه الله في أرضه ويستنيبه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن نسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( الخلافة في

٢٢٠