الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

الفصل السابع

الرواية عند الشيعة

الخبر وأقسامه

قال الآلوسي ( ص : ٣٦ ) : « الباب الثاني في بيان أقسام أخبار الشيعة : اعلم إنّ أصولها عندهم أربعة : صحيح ، وحسن ، وموثق ، وضعيف ، أما الصحيح : فكلّ ما اتصل رواته بالمعصوم بواسطة عدل إمامي ، وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلا في الصحيح لعدم اتصالهما وهو ظاهر ، مع أنهم يطلقون عليهما لفظ الصحيح كما قالوا روى ابن عمير في الصحيح ، ولا يعتبرون العدالة في إطلاق الصحيح ، فإنهم يقولون برواية مجهول الحال كصحيحة كالحسين بن الحسن بن أبان فإنه مجهول الحال نصّ عليه الحلّي في المنتهى مع أنها مأخوذة في تعريفه ، وكذا لا يعتبر عندهم كون الراوي إماميا في إطلاق الصحيح فقد أهملوا قيود التعريف كلّها ، وأيضا قد حكموا بصحة حديث من دعا عليه المعصوم بقوله : أخزاه الله ، وقاتله الله ، أو لعنه الله ، أو حكم بفساد عقيدته ، أو أظهر البراءة منه ، وحكموا أيضا بصحة روايات المشبّهة والمجسّمة ومن جوّز البداء عليه تعالى ، مع أن هذه الأمور كلّها مكفّرة ورواية الكافر غير مقبولة فضلا عن صحتها ، فالعدالة غير معتبرة عندهم وإن ذكروها في تعريف الصحيح لأن الكافر لا يكون عدلا ، هذا حال حديثهم الصحيح.

أما الحسن : فهو عندهم ما اتصل رواته بالمعصوم بواسطة إمامي ممدوح من غير نصّ على عدالته ، وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلين في تعريف الحسن مع أن إطلاقه عليهما شايع عندهم ، حيث صرح فقهاؤهم بأن رواية زرارة في مفسد الحج إذا قضاه في عام آخر حسن مع أنها منقطعة ، ويطلقون لفظ

١٦١

الحسن على غير الممدوح ، حيث قال ابن المطهّر الحلّي : طريق الفقيه إلى المنذر بن جبر حسن ، مع أنه لم يمدحه أحد من هذه الفرقة.

وأما الموثّق : ويقال له القويّ ، فكلّ ما دخل في طريقه من نصّ الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته ، كالخبر الّذي رواه السّكوني.

وبكلمة واحدة يعتقد الآلوسي : أن الشيعة قد أهملوا قيود التعريف التي أخذوها في تعريف أقسام الخبر ـ إلى أن قال ـ :

فأعلم أن العمل بالصحيح واجب عندهم اتفاقا مع أنهم لا يعملون بموجبها فهم يقولون ما لا يفعلون ، ثم اعلم أن أكثر علماء الشيعة كانوا يعملون سابقا بروايات أصحابهم بدون تحقيق ، ولم يكن فيهم من يميّز رجال الإسناد ولا من ألّف كتابا في الجرح والتعديل حتى صنّف الكشي » إلى نهاية ما قاله الآلوسي وادعاءاته التي ستقف عليها.

المؤلف : والحق أنه جاهل بخصوصيات الشيعة وجاهل بأحاديثهم ولا يعرف شيئا من كلمات علمائهم ولا يفهم مصطلحاتهم ، وإنما كتب هذا وهو على غير بيّنة من معناه ولا معرفة من مغزاه بل وجده مسجلا في كتبهم فظن و : ( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) [ الحجرات : ١٢ ] أن ذلك عندهم كما أدّى إليه نظره القاصر ، وليته رجع قبل هذا في فهم مصطلحاتهم ومعاني كلماتهم إلى علماء الشيعة في عصره ليعلّموه غامض ما اشتبه عليه من أقوالهم ويبيّنوا له معاني كلماتهم ، لذا ترى على الأكثر أن الجاهلين بأقوال الفطاحل من أفذاذ الشيعة وأعلامهم يوردون عليهم ويطعنون فيهم وهم لا يفقهون شيئا من حديثهم ولا يدركون ما يهدفون إليه في أقوالهم ، فيحشرون أنوفهم فيما لا يعرفون ويجادلون بما لا يعلمون ، وهذا ما ارتكبه الآلوسي هنا ، فإن اعتراضه على علماء الشيعة أشبه باعتراض البيطار على المنجم والزارع على الفقيه من وجوه :

الأول : قوله : « إن أصول الأخبار عند الشيعة أربعة ».

فيقال فيه : إنّ الأقسام التي ذكرها أعلام الدراية في الحديث إنما كان بلحاظ لحوقها لذات الحديث مطلقا أولا وبالذات ، وتلك قضية الموضوع في كلّ علم

١٦٢

لأنه إنما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية اللاّحقة لذاته مما هو مفاد كان الناقصة بصورة عامة من غير فرق بين الحديث المتضمن للحكم الشرعي وغيره ، فإن البحث فيه عن ذات الخبر بما هو خبر لا بما هو متحمل للحكم الشرعي.

التعريف لأقسام الخبر شامل لأفراده طردا وعكسا

فالتعريف الثابت لكلّ قسم من هذه الأقسام للخبر الّذي جاء الآلوسي على ذكره شامل لأفراده طردا وعكسا ، وينطبق عليها انطباق الكلّي على مصداقه والطبيعي على فرده ، ولا ينافيه عروض ما يحصل بسببه وقوع الاختلاف بين العلماء في تعيين بعض المصاديق الخارجية وكونها داخلة في هذا المفهوم أو غيره ، كما هو الشأن في كلّ تعريف جامع مانع ، فإنه يقع الاختلاف في فردية أحد المصاديق لأحد المفاهيم بسبب عروض ما يحصل معه الترديد والاختلاف في الصغرى لكلّ واحد منها ، لذا كان إطلاق الصحيح عند بعضهم على الضعيف عند آخرين لمكان ثبوت صحته عنده وأنه من مصاديق مفهوم ذلك التعريف ، وعلى عكس ذلك تراه عند بعضهم حسنا وهو ضعيف أو قوي عند قوم آخرين ، وذلك كلّه لا ينافي التعريف الجامع المانع لكلّ قسم من أقسام الخبر لأن الجميع متفقون على صحة الكبرى الكلّية وغير مختلفين في شيء من تعريفها وإنما اختلفوا في صغريات الكبريات ، فيرى بعضهم أن هذا الحديث صغرى لتلك الكبرى والآخر يرى عكسه ، فهذا لا يعني أنهم قد أهملوا قيود التعريف لأقسام الخبر ـ على حدّ تعبير الآلوسي ـ بل هي في مرتبتها محفوظة عندهم في جميع مراتب الاختلاف ، وإنما كان اختلافهم في ثبوت تلك القيود الثابتة باليقين للصحيح من الضعيف عند بعضهم وعدمه عند آخرين وكذا الحال في البعض الآخر ، هذا كلّه في مرحلة الثبوت أما مرحلة الإثبات ، وبعبارة أخرى مرتبة العمل بالخبر المتضمن لحكم من الأحكام الشرعية فالضابط فيه عند الشيعة هو : أن كلّ ما كان من الحديث صحيحا بأن رواه العدول ، أو كان محفوفا بالقرائن المفيدة للعلم ، أو الوثوق والاطمئنان بصدوره عن المعصوم عليه‌السلام فهو حجّة عندهم ، وكلّ ما كان ضعيف السند ولم يصل إلى هذه المرتبة ، أو صحيح السند ولكن أعرض عنه العلماء من الشيعة

١٦٣

فليس بحجّة في شيء عندهم ، لذا تراهم يقولون فيما اشتهر عنهم : إن كلّ حديث وإن كان بأعلى مراتب الصحة مع كونه بمرأى من الأصحاب ومسمع منهم وقد أعرضوا عنه فهو أجدر ضعفا من غير الصحيح.

خلاصة القول في المناط في قبول الخبر عند الشيعة

وخلاصة القول في هذا : إنّ المناط عند الشيعة في قبول الحديث هو عملهم بالحديث لا مجرد كونه صحيحا أو مرويا في كتاب من كتبهم أكثر رواياته صحيحة ، فقول الآلوسي : ( فقد أهملوا قيود التعريف ) كذب لا أصل له لما تقدم منّا أنهم لم يهملوا تلك القيود في أقسام الخبر ، وإنما أطلقوا الصحة على بعضها مع ضعفه أو إرساله أو توثيقه ، فهو إما لثبوت صحته عند بعضهم فلا يدخل عنده في الضعيف وغيره كما لا يدخل عند من ثبت عدم صحته في الصحيح ويدخل في الضعيف أو المرسل ، أو أنهم أطلقوا الصحيح على الضعيف أو المرسل والموثق باعتبار أنه معمول به عندهم ، وأطلقوا الضعيف على الصحيح لمكان إعراض العلماء عنه الموجب لضعفه ووهنه فلا يعمل به ، ومن ذلك كلّه يتضح لك عدم الملازمة بين صحة الخبر في نفسه وبين وجوب العمل به ، وعدم الملازمة بين ضعف الخبر في نفسه وعدم جواز العمل بن عندهم ، فالنسبة بين الخبر بالأقسام المذكورة وبين عملهم به عموم وخصوص من وجه ، وإطلاق بعض هذه الأقسام على بعض بلحاظ العمل مجازا لا يخرجه عن معناه الحقيقي ، فالقيود التي أخذت في تعريف كلّ قسم من أقسام الخبر مطردة ومنعكسة في تعريفه ، والعمل بالخبر لم يؤخذ قيدا في تعريف كلّ قسم من أقسامه حتى ينخرم بانخرامه.

العبرة في قبول الخبر القطع بصدوره

الثاني : قوله : « وقد حكموا بصحة حديث من دعا عليه المعصوم ».

فيقال فيه :

أولا : إن قبول الخبر عند العقلاء ليس منوطا بعدم فسق الراوي أو عدم كفره ، وإنما المعتبر في قبوله عندهم كونه محفوفا بالقرائن المفيدة للقطع بصحته

١٦٤

وثبوت مضمونه مطلقا سواء أكان مرويا عن المعصوم عليه‌السلام أو عن غيره ، إذ لا دخل لفسق الراوي وكفر الحاكي في ثبوته وصدوره إذا كان مقطوع الصدور ، ولا ملازمة بين كفر ناقل الخبر أو فسقه وبين القطع بصدور مضمونه ، وليس في العقلاء من يحكم بصحة أخبار أولئك من حيث هي أخبار صادرة عنهم ، ولا ملازمة بين قبول الخبر وبين كونه صحيحا بالمعنى الّذي اصطلحوا عليه في تعريفه ، ولا قائل منهم بصحة مثل هذه الأخبار لعدم توفر شروط الصحيح فيها.

ثانيا : من أين علم الآلوسي أن الشيعة يحكمون بصحة أخبار من لعنه المعصوم عليه‌السلام أو دعا عليه أو كان من الكافرين ، فإنه لا يوجد في الشيعة أحد يحكم بصحة أخبار هؤلاء في شيء مطلقا ، أجل إنما حكم بصحة حديث من لعنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكم بخروجهم عن الدين ومروقهم عن الإسلام خصماء الشيعة الّذين يرجعون إلى معاوية ، وابن النابغة عمرو بن العاص ، والحكم ، ومروان وأمثالهم من المنافقين الأولين والكافرين بالله العظيم ويجعلونهم طريقا في أخذ أحكامهم والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لعنهم وشدّد اللّعن عليهم كما مرّ عليك البحث عنهم مستوفي ، والشيعة أبرّ وأتقى من أن يجعلوا أولئك طريقا في أخذ أحكامهم ، وهم أشدّ الناس حريجة في الدين.

الشيعة لم تحكم بصحة روايات المشبّهة والمجسّمة بل خصومهم حكموا بها

الثالث : قوله : « وأيضا حكموا بصحة روايات المشبّهة والمجسّمة ».

فيقال فيه : إن أراد من الحكم بصحة رواياتهم أنهم يحكمون بصحة ما ورد في التشبيه والتجسيم فهو كذب وافتراء لا أصل له ، فإنهم ما برحوا يطاردون هذه الأخبار ولا يذكرونها إلاّ بالوهن والشذوذ والضلال والكفور ، وإن أراد أنهم يحكمون بصحة ما يرويه المجسّم والمشبّه فهو افتراء كسابقه في الافتراء ، فإنهم لا يحكمون بصحة أخبارهم في شيء لعدم وجدانهم القيود المعتبرة في معنى الصحيح.

نعم يعتمد الجل لو لا الكلّ من خصماء الشيعة على أحاديث المجسّمة والمشبّهة كمقاتل بن سليمان الّذي هو من أجلّ مفسري خصومهم في تفسير

١٦٥

القرآن ، فهذا ابن خلكان يحكى لنا في ترجمته من وفيات الأعيان ( ص : ١١٢ ) من جزئه الثاني ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( ص : ١٦١ ) من جزئه الثالث عشر ، عن الإمام الشافعي ، أنه قال : ( الناس كلّهم عيال على ثلاثة : على مقاتل بن سليمان ، في التفسير ... ).

ويقول أبو حاتم في ترجمة مقاتل من وفيات الأعيان ( ص : ١١٣ ) من جزئه الثاني : ( كان مقاتل يأخذ علم القرآن من اليهود والنصارى الّذي يوافق كتبهم ، وكان مشبّها يشبّه الربّ بالمخلوقين ، قال : وكان مع ذلك يكذّب بالحديث ).

وقال أبو حنيفة إمام الآلوسي في ترجمة مقاتل من ميزان الاعتدال للذهبي ( ص : ١١٩ ) من جزئه الثالث : ( وأفرط مقاتل حتى جعل الله مثل خلقه ).

وهذا مذهب جماعة من أصحاب الحديث من خصوم الشيعة يعرفون بالحشوية ، وقد ذكرهم الشهرستاني في الملل والنحل بهامش الجزء الأول من الفصل لابن حزم في الأشاعرة ( ص : ١١٩ ) وصرّح بأنهم من محدثي خصماء الشيعة ، وذكر منهم : ـ نصر ، وكهمش ، وأحمد الهجيمي وغيرهم ، في ص : (١٣٩).

وقالوا أيضا : ( إن معبودهم جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وغير ذلك ، وأنه أجوف من أعلاه إلى صدره ومصمد فيما سوى ذلك ، وأن له وفرة سوداء وشعرا قططا ، حتى قالوا إنه بكى على طوفان نوح إلى أن رمدت عيناه فعادته الملائكة ، وأن العرش ليئط من تحته كاطيط الرحل الجديد ).

ويقول الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( ص : ٥٨ ) من جزئه الثامن : ( إن الكرسي الّذي يجلس عليه الربّ ما يفضل منه إلاّ قدر أربع أصابع ، وأنه ليئط من تحته كاطيط الرحل الجديد ) ولم يحكم بضعفه ، وقد جرت سيرته على تضعيف ما هو ضعيف مما يحكيه فيه.

فالحديث الّذي لم يتعرض لضعفه إما حسن أو صحيح أو جيد أو قوي وكلّها حجّة عند أهل السنّة ، وكيف يمكنه أن يحكم بضعفه وقد أخرج بمعناه شيخهم وإمامهم في الحديث البخاري في صحيحه على ما تقدم ذكره من مجيء

١٦٦

الله تعالى يوم القيامة في صورة لا يعرفونه بها ، ثم يأتيهم بصورته التي يعرفونه بها ، حيث يكشف لهم عن ساقه فيسجدون ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فأمثال هؤلاء عند الآلوسي أولى بالاعتماد على رواياتهم من الاعتماد على روايات أهل البيت من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن ذلك يتضح فساد ما جاء به من الهذيان والهذر الّذي لا يفيد سوى الإكثار من سواد كتابه وإيضاح جهله بأئمة دينه ومحدّثي مذهبه.

الخبر الصحيح ليس واجب العمل مطلقا عند الشيعة

الرابع : قوله : « إن العمل بالصحيح واجب عندهم اتفاقا ».

فيقال فيه : لقد كشفنا فيما تقدم منا كذبه في هذه الدعوى وغيرها من مدعياته حول الشيعة ، وأنهم متفقون على عدم العمل بالخبر مطلقا وإن كان صحيحا إذا أعرض عنه العلماء ، كما اتفقوا على العمل به وإن كان ضعيفا إذا عمل به أصحابهم من علماء الدين وزعماء المسلمين رضوان الله عليهم أجمعين.

الخامس : قوله : « مع أنهم يروون بعض الأخبار الصحيحة ولا يعملون بموجبها ».

فيقال فيه : ما تقدم من عدم الملازمة بين صحة الخبر في نفسه وبين وجوب العمل به عندهم لأن الخبر وإن كان بظاهره صحيحا لكن إعراض العلماء عنه يسقطه عن درجة الصحة في مرحلة العمل فلا يكون صحيحا واقعا ، ومجرد اتصاله بالمعصوم عليه‌السلام بواسطة عدل إمامي لا يكفي في الحكم بصحته بل يعتبر في ذلك أن يكون ما في سلسلة الخبر من الرواة كلّهم عدولا شريطة أن يكون واردا لبيان الواقع لا لغيره.

قوله إن الشيعة يقولون ما لا يفعلون باطل

السّادس : قوله : ( فهم يقولون ما لا يفعلون ).

فيقال فيه : ليس هذا واردا عليهم لأنهم لا يقولون بوجوب العمل بالخير الصحيح مطلقا وإن خالف الضروري من مذهبهم حتى يقول فيهم الآلوسي : ( إنهم

١٦٧

يقولون ما لا يفعلون ) وقد ألمعنا إلى أن عدم عمل العلماء بالصحيح ظاهرا المنكشف خلافه واقعا بإعراضهم عنه ليس من الصحيح المصطلح عليه عندهم في شيء حتى يرد عليهم قول الآلوسي الّذي يحرص أشدّ الحرص على الطعن في أعلام الشيعة الّذين بهم أسست قواعد الشريعة وبهم أقيم عمودها واتسع رواقها.

بقاء الشريعة بعلماء الشيعة بشهادة علماء أهل السنّة

وقد شهد لهم بذلك غير واحد من أعلام أهل السّنة ورجال درايتهم ، فمنهم : الذهبي في ميزان الاعتدال ( ص : ٤ ) من جزئه الأول في ترجمة أبان بن تغلب من أصحاب الإمام الصّادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام فإنه بعد أن نقل توثيقه عن جماعة من أئمة الجرح والتعديل كالإمام أحمد بن حنبل ، وابن معين ، وابن أبي حاتم ، قال :

( وقد كثر التشيع في التابعين وتابعيهم مع الثقة والديانة والصدق والأمانة ، فلو ردّ ما نقلوه لذهبت جملة الآثار النبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتهى نقل بعضه بالمعنى ، وأنت ترى هذا الناقد للمنقول من أعلام أهل السنّة مع تعصبه المتين وحقده الدفين ما استطاع أن ينكر ما للشيعة من الآثار الجميلة التي تخلّد لهم الذكر إلى أبد الدهر ، وأكبرها ثبوت قواعد الشريعة بأصولها وفروعها بسبب نقلهم لأحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قد رجع الكثير من علماء أهل السنّة وفقهائهم في علم الحديث وغيره إلى أعلام الشيعة وفقهائهم.

فهذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام الحنفية جميعا قد أخذ عن الإمام الصّادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام وقد اعترف الآلوسي بذلك ، وذاك أحمد بن حنبل إمام الحنابلة كلّهم كان شيخه في العلم والحديث محمّد بن فضيل بن غزوان الضبّي ، وقد نصّ على تشيّعه السّمعاني في كتاب الأنساب وابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب ( ص : ٤٠٦ ) من جزئه الثالث ، وذلك محمّد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح كان شيخه عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي وكان من الشيعة ، وقد نصّ عليه السّمعاني في الأنساب ، والذهبي في ميزان الاعتدال ( ص : ١٧٠ ) من جزئه الثاني ، وهؤلاء الترمذي ، وأبو داود ، وأبو

١٦٨

عروبة ، وابن خزيمة وخلائق كان شيخهم في الحديث إسماعيل بن موسى الفزاري الكوفي وكان من الشيعة نصّ على تشيّعه الذهبي في ( ص : ١١٧ ) من ميزان الاعتدال من جزئه الأول.

وأولئك العلاء بن صالح ، وصدفة بن المثنى ، وحكيم بن جبير كان شيخهم في الحديث جميع بن عميرة التميمي ـ تيم الله ـ وكان من الشيعة ، نصّ عليه الذهبي في الميزان ( ص : ١٩٥ ) من جزئه الأول ، وها هم الثوري ، ومالك بن مغول ، وعبد الله بن نمير ، وطائفة من تلك الطبقة كان شيخهم الحارث بن حصيرة الأزدي أبو النعمان الكوفي ، نصّ عليه الذهبي في ( ص : ١٩٥ ) من الميزان من جزئه الأول.

وها هم مسلم ، وأبو داود ، والبغوي وكثير من طبقتهم ، كان شيخهم في الحديث عبد الله بن عمر بن محمّد بن أبان بن صالح بن عمير القرشي الكوفي الملقب مشكدانة وكان من الشيعة ، نصّ عليه الذهبي في ( ص : ٩٥ ) من الميزان من جزئه الثاني ، فراجع ثمة حتى يتجلّى لك بوضوح طغيان الآلوسي وبغيه على الشيعة حينما رماهم بالكفر وهو يرى بأم عينيه إن لم تكن عليهما غشاوة أئمته وفقهاء مذهبه قد رجعوا إليهم في أخذ العلم والفقه والحديث.

علماء الشيعة الذين يميّزون رجال الإسناد لا خصومهم

السّادس : قوله : « على أن أكثر علماء الشيعة كانوا يعملون سابقا بروايات أصحابهم بدون تحقيق ، ولم يكن فيهم من يميّز رجال الإسناد ولا من ألّف كتابا ».

فيقال فيه : وأنت ترى الآلوسي من وراء هذه المفتريات لم يدع لعلماء الشيعة ضلعا إلاّ طحنه وذراه في الهواء ، وقد مرّ عليك أنه لو لا علماء الشيعة وعلى رأسهم إمامهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأولاده المعصومون الهداة عليهم‌السلام لما عرف أهل السّنة شيئا من الأحاديث ولا أحدا من رجالها ، بل لولاهم لانحلّت عرى الدين ولذهب عودا على بدء ، فكيف يزعم هذا الآلوسي أنه لم يكن في علماء الشيعة الّذين أحكموا أصول الشريعة وبنوا قواعدها من يميّز

١٦٩

رجال الإسناد ، ولو فرضنا جدلا أنه لم يكن فيهم من يميّز رجال الإسناد ولا من ألّف كتابا في هذا الشأن وكان ذلك موجودا ( في علماء أهل السنّة ) لما جاز على علماء الشيعة أن يقتنعوا بالجهل بأحوال الرواة وما عليه يبتني أدلة الدين في تلك القرون الكثيرة ، وليس بعزيز عليهم أن يرحلوا من جميع الأقطار إلى ( علماء أهل السنّة ) الّذين ميّزوا رجال الإسناد وألّفوا كتبا فيه ـ كالآلوسي مثلا ـ ويتلقوا منهم ما يؤهلهم لتمييز رجال الإسناد ومعرفة أحوال الرواة ، وذلك بالطبع أهون عليهم من تعليم مثل أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأمثالهما من أئمة خصومهم بأصول الحديث والفقه والحلال والحرام والأدلة والأحكام.

قول الآلوسي : إن أول من ألف في الرجال هو الكشي باطل

السّابع : قوله : « حتى صنّف الكشي وكان مختصرا لم يزد الناظر فيه إلاّ تحيّرا ».

فيقال فيه : من أين علم الآلوسي أن أول من صنف في الرجال هو الكشي (رض) ومؤلّفوا الشيعة في علم الرجال وأحوال الطبقات كثيرون جهلهم الآلوسي كما جهل غيرهم من علماء مذهبه ، فهو يريد أن يجعل جهله أصلا آخر يسير عليه في كتابه.

المؤلفون في الرجال والدراية من علماء الشيعة

فبالله عليك أيها القارئ إذا كان الآلوسي لا يعرف رجلا من علماء مذهبه ولا محدّثا من محدّثيهم ولا كتابا من كتبهم فكيف يا ترى يستطيع أن يعرف شيئا من أحوال الرواة من الشيعة أو يعرف عالما من أعلامهم أو محدّثا من محدّثيهم أو يعلم شيئا من دخيلة أمرهم ، إذن فلا تعجب وأنت تراه ينسب إليهم الإفك والزور ويتكهن في نتائج أبحاثه العقيمة وأحكامه الظالمة القاسية الأثيمة.

يا هذا ، إن أول من صنّف في علم الرجال من الشيعة هو عبيد الله بن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قال شيخنا شيخ الطائفة في فهرسته : ( له كتاب من شهد معه الجمل وصفين والنهروان من الصحابة ، وكان في المائة الأولى من الهجرة ).

١٧٠

ومنهم هشام بن محمّد بن السّائب الكلبي ، وكان في أوائل القرن الثالث من الهجرة ، وله في هذا الشأن مؤلفات كثيرة ، ومنهم محمّد بن عمر الواقدي وكان في القرن الثالث من الهجرة على ما في ( ص : ١٤٠ و ١٤٤ ) من فهرست ابن النديم ، فراجع ثمة حتى تعلم جهله وخرصه ، وأن أول من ألّف في علم الرجال ومعرفة رجال الإسناد هم الشيعة وعنهم أخذ علماء أهل السّنة ـ كما أخذوا عنهم غير هذا على ما قدمنا ـ ثم حادوا عنه إلى غيره.

أما مؤلفوا الشيعة في علم الدراية ( دراية الحديث ) فأول من تصدّى لذلك : الحاكم أبو عبد الله محمّد بن عبد الله النيشابوري المعروف بابن البيع ، صنّف فيه كتابا سمّاه ( معرفة علوم الحديث ) على ما في كشف الظنون ( ص : ١٢٩ ) من جزئه الثاني في باب العين ، وقد نصّ على تشيّعه السّمعاني في كتاب الأنساب ، والذهبي في ميزان الاعتدال ( ص : ٨٥ ) من جزئه الثالث و ( ص : ٢٦ ) من تذكرة الحفاظ من جزه الثالث فتأمل.

ومنهم : السّيد العلاّمة جمال الدين أحمد بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسيني ، ومنهم السيّد عليّ بن عبد الحميد الحسني ، ومنهم : المولى السّعيد الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن عليّ العاملي ، وغير هؤلاء من كبار أعلامهم الّذين رجع إليهم علماء أهل السّنة في أخذ علومهم ومعارفهم ثم انحرفوا عنهم.

الأدلة عند الشيعة أربعة

قال الآلوسي ( ص : ٣٨ ) : « اعلم أن الأدلة عندهم أربعة : كتاب ، وخبر ، وإجماع ، وعقل ، أما الكتاب : فهو القرآن المنزّل الّذي لم يبق حقيقا بأن يستدل به بزعمهم الفاسد لأنه لا اعتماد على كونه قرآنا إلاّ إذا أخذ بواسطة الإمام ، وليس القرآن المأخوذ من الأئمة موجودا في أيديهم ، والقرآن المعروف غير معتدّ به عند أئمتهم بزعمهم ، وأنه لا يليق بالاستدلال به لوجهين ، الأول : لما ورد عن عن جماعة من الإمامية عن أئمتهم أن القرآن المنزّل وقع فيه تحريف في كلماته عن مواضعها ، بل قد أسقط منه بعض السّور ، وأن الموجود الآن في أيدي المؤمنين

١٧١

هو مصحف عثمان الّذي كتبه ، فلا يصحّ التمسك لإثبات العام والخاص والظاهر والنص ونحوها.

الثاني : أن نقلة هذا القرآن مثل ناقلي التوراة والإنجيل ، لأن بعضهم كانوا منافقين كالصحابة العظام ـ والعياذ بالله ـ وبعضهم كانوا مداهنين في الدين كعوام الصحابة ، فإنهم يتبعون رؤساءهم طمعا في زخارف الدنيا فارتدوا عن الدين كلّهم إلاّ أربعة أو ستّة فغيّروا خطاب الله ، فكما أن التوراة والإنجيل لا يعمل بهما أصلا كذلك هذا القرآن » إلى نهاية ما قاله وبهتاته وإفكه وعدوانه.

تناقض الآلوسي في قوله الأدلة عندهم أربعة

المؤلف : أيها القارئ إذا كان الآلوسي يعترف أن الأدلة عند الشيعة أربعة فكيف يعود ويقول بعدم كون الكتاب دليلا عندهم وأنه لا يمكن الاستدلال به ، فإذا كان لا يمكن أن يستدل به عندهم فكيف يا ترى صار من الأدلة لديهم كما يزعم هذا المتناقض الذي لا يعلم بأنه سيعاقب عن كلّ ما يكتب : ( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) [ الروم : ١٠ ] وكيف لا يكون دليلا عندهم وأنت تراهم يستدلّون به على خصومهم في إثبات آرائهم وأقوالهم ، ولا يخفى بعد ذلك سقوط قوله : ( والقرآن عندهم لا يليق بالاستدلال به ) لأن الشيعة يعتقدون كما تقدمت الإشارة إليه أن القرآن الّذي هو بأيدي المسلمين اليوم هو المنزّل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينقص منه حرف ، ولم يزد فيه حرف والتحريف فيه مخالف للضروري من مذهبهم الإسلامي ، ومن نسب إليهم تحريفه فلا شك في أنه مفتر عليهم كالآلوسي الذي لا يرى محذورا ولا إثما في ارتكاب الزور والبهتان ترويجا لسلعته الفاسدة ، ونحن قد أدلينا عليك طوائف من الأحاديث مسجلة في أصح الكتب لخصومهم تنادي بصراحة على وقوع التحريف فيه والنقص منه.

ونحن نسأل الآلوسي عن تلك الأحاديث : أهي للشيعة أم لخصومهم؟ وهل الشيعة تذكرها إلاّ بالوهن والشذوذ ، وأنها من وضع الخرّاصين لوضوح ثبوتها في صحاح أخصامهم ، ثم لو صح ما زعمه الآلوسي من وقوع التحريف فيه لكان

١٧٢

المحرّف له ( الخليفة ) عثمان بن عفان (رض) لأنه هو الّذي أمر بجمعه وترتيبه ـ كما اعترف به في بعض كلماته على ما تقدم في أوائل الكتاب.

وأما قوله : ( وعليه فلا يصح التمسك به على مذهبهم ).

فيقال فيه : إنه إنما لا يصح التمسك به على مذهب الآلوسي الذي ثبت في صحاح أئمته لا سيما عن إمامه عمر (رض) وقوع التحريف فيه وإسقاط الكثير منه دون خصومه الّذين يعتقدون خلاف ذلك ويرون بطلانه.

وأما قوله : « لأنهم يزعمون أن نقلة هذا القرآن مثل ناقلي التوراة والإنجيل ».

فيقال فيه : إن الشيعة يقولون : إن الّذي جمع القرآن ورتبه كما أنزل الله تعالى هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وهو الموجود اليوم بأيدي المسلمين ، ولكن لما وصل إلى أيدي الآخرين كعثمان وغيره قدّموا وأخروا بعض الآيات المكّية على المدنيّة ، فلم يكن ترتيبه في جمعه حينئذ على حسب ترتيبه في النزول على ما سجل ذلك السّيوطي في إتقانه وغيره من مفسري أهل السنة وذلك لا يعني تحريفه إطلاقا.

وأما قوله : ( كالصحابة العظام فإنهم يعتقدون فيهم أنهم منافقون ).

فيقال فيه : سبحانك أللهم من هذا الافتراء ، فإن تعظيم أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العظام وصحبه الكرام وإجلال شخصياتهم كاد أن يكون من الضروري في مذهبهم ، نعم يقولون كما يقول القرآن في آيتي الانقلاب على الأعقاب والمرود على النفاق ، وتقول الأحاديث المحمديّة الصحاح (١) : إن الصحابة انقسموا على أنفسهم صنفين ، صنف المؤمنين العدول ، وصنف آخر غير مؤمن ولا عادل ، فانحازت الطائفة الأولى إلى عليّ عليه‌السلام والطائفة الأخرى إلى غيره ، فإذا كان قول الشيعة بهذا الانقسام في أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمسّكا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزولا على حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم يعدّ ذنبا فالمسئول عنه كتاب الله وخاتم

__________________

(١) وقد أشار إلى هذا الانقسام البخاري في أبواب صحيحه في أحاديث الحوض ، والبطانتين ، ولتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا ، كما مرّ عليك تبيانه فتذكر.

١٧٣

الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ هما قالا وأخبرا بتكوين ذلك الانقسام بين صفوفهم وهما أعرف بهم من الآلوسي البعيد الّذي كال لهم جميعا وبلا استثناء من المدح والثناء ما لا يستحقه منهم إلاّ القليل ، فليس للشيعة ذنب إذا قالوا بذلك الانقسام الّذي حكام الله في كتابه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنّته كما تقدم البحث عنه مستوفى ، ولكن نفسه لم تسمح له بكشف الحقيقة وبيان الصواب خشية أن ينقلع بذلك جذور ما ذهب إليه ، فإن المجاهرة بالحقائق المختبئة يقضي على أمهات عقائده بالدمار وينسف ما بناه سلفه الراحل من أساسه : ( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ التوبة : ١٣ ].

١٧٤

الفصل الثامن

بحوث في الإمامة

لا اختلاف بين الشيعة في أصل الإمامة

قال الآلوسي ( ص : ٣٨ ) : بعد أن ذكر أمورا تعدّ من المعلومات الأولية من ارتداد جمهرة الصحابة على أعقابهم بعد التحاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلى ، وعدم اعتبار الشيعة لناقلي الخبر من خصومهم المنحرفين عن أهل البيت عليهم‌السلام قال :

« وبين الشيعة إختلاف كثير في أصل الإمامة وتعيين الأئمة وعددهم ، ولا يمكن إثبات قول من أقوالهم إلاّ بالخبر ، لأن كتاب الله لا اعتماد عليه ومع ذلك فهو ساكت عن هذه الأمور ، فلو توقف ثبوت الخبر وحجيّته على ثبوت ذلك القول لزم الدور الصريح وهو محال ».

المؤلف : أولا : قوله : « وبين الشيعة إختلاف عظيم في أصل الإمامة ».

فيقال فيه : الشيعة لا يشكّون في وجوب أصل الإمامة ، لقوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [ الأنعام : ٥٤ ] ولا ريب في أن الإمام من الرحمة ، وقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) [ الليل : ١٢ ] والإمام من الهدى قطعا فيلزم ، وفي القرآن يقول الله تعالى لعباده : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) [ النساء : ٥٩ ] وهذه آية ثالثة على وجود من تجب إطاعته كإطاعة الله وإطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ زمان ، والّذي يجب إطاعته كإطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون إلاّ الإمام المعصوم عليه‌السلام وهو ثابت بنصّ كتاب الله.

أما ثبوته بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففي الصحيح المتفق عليه بين الفريقين ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة

١٧٥

جاهلية ) (١) ـ أي ميتة كفر ـ فكيف تختلف الشيعة في أصل الإمامة وهي من الضروريات الأولية عندهم ، وقد رتب نبيّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على التخلّف عنه أكبر محذور وهو الميتة الجاهلية ، نعم إنما اختلف فيه من مات ولم يعرف إمام زمانه مثله وغيره من القاسطين والناكثين والمارقين وأضرابهم من المنافقين الّذين ماتوا وليس في عنقهم بيعة وخرجوا عن الطاعة ، وكانوا يتبصبصون حول العروش والتيجان طمعا بزخارف الدنيا وحطامها ، فلم يعترفوا بإمام الأمة من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصورهم ، وقد نصّ على إمامته عليهم كتاب الله والسّنة المتواترة بين الأمة كما يأتي.

الشيعة لم تختلف في تعيين الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام

ثانيا : قوله : « وبينهم اختلاف في تعيّين الأئمة ».

فيقال فيه : الشيعة لا يختلفون في تعيّين أئمتهم بعددهم وأسمائهم الّذين نصّ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخلافة بعده.

وقد حكى ذلك جماعة من حملة الحديث من أعلام أهل السنّة ، ودوّنوه في صحاحهم ومسانيدهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتمه عداوة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقدا على آله عليه‌السلام وجحودا لما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ناقلوا الحديث في تعيين أئمة أهل البيت من أعلام أهل السّنة

فمنهم : حافظهم المعروف ابن أبي الفوارس في أربعينه ، وهو حديث طويل نصّ فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن أئمة الهدى بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثنا عشر إماما ، أولهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وآخرهم المهديّ عليه‌السلام ، ومنهم شيخ الإسلام إبراهيم بن محمّد الحمويني في مناقبه ، ومنهم شهاب الدين بن عمر الهندي في مناقبه ، ومنهم عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب في كتابه الّذي

__________________

(١) أخرج هذا الحديث الحميدي في جمعه بين الصحيحين صحيح مسلم وصحيح البخاري ، وقد سجّلا نحوهما في صحيحيهما كما مرّ ذكره فلتراجع.

١٧٦

وضعه لبيان تاريخ تولّد أئمة أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنهم نور الدين عليّ بن محمّد المكّي المالكي المعروف بابن الصباغ في فصوله المهمة ، ومنهم حافظهم الكبير الگنجي محمّد بن يوسف بن محمّد في كتابه البيان وقد طبق ما ثبت من النصوص الموجودة في المهدي وآبائه عليهم‌السلام على ما تقول الشيعة ، ومنهم موفق ابن أحمد المكّي الحنفي في مناقبه ، ومنهم قطب العارفين الزهري في الفتوحات المكية ( ص : ١٢٨ ) من الجزء الثاني من اليواقيت والجواهر للعارف الشعراني في المبحث (٦٥) وغير هؤلاء من مشاهير حملة الحديث من أهل السنّة ، فراجع ليتجلى لك واضحا كذبه وزوره على الشيعة بنسبته الاختلاف إليهم في تعيين أئمتهم بعددهم وأسمائهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

نعم إنما خالفهم واختلف فيهم هو وغيره من المنحرفين عنهم والمنقطعين إلى أعدائهم بغضا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله عليهم‌السلام وفي الحديث الّذي أخرجه الحاكم في مستدركه ( ص : ١٤٩ ) من جزئه الثالث ، وصححه على شرط

البخاري ومسلم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة ـ اختلفوا فصاروا حزب إبليس ).

ثالثا : قوله : « ولا يمكن إثبات قول من أقوالهم بالخبر ».

فيقال فيه : أولا : « إذا كان لا يمكن إثبات قول من أقوالهم بالخبر فلا يمكن أيضا إثبات قول من أقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخبر ، فإن صح هذا صح ذلك وهذا باطل وذلك مثله باطل ».

ثانيا : إن إثبات قولهم عليهم‌السلام الّذي هو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخبر أولى من إثبات الأقوال التي ينسبها الدجالون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمثال كعب الأحبار ، ومروان بن الحكم ، ومعاوية بن أبي سفيان ويزعمون أنها أحاديث صادرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهتانا وزورا ، وكم من هؤلاء كذّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنسبوا إليه ما يتبرأ منه الدين الحنيف.

رابعا : قوله : « لأن كتاب الله لا اعتماد عليه ».

١٧٧

فيقال فيه : إن كان ثمة من لم يعتمد على كتاب الله في أحكام دينه فهم خصوم الشيعة الّذين قالوا في الدين بالرأي والهوى ، وأنكروا أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعصبا ، وضربوا بكتاب الله عرض الجدار بغير هدى ، وهذا هو الّذي فتح لهذا العدو وغيره من المضلّين باب تكفير المؤمنين الّذين لا يقبلون أهواءهم ولا ينزلون عند مدّعياتهم ، وهو الّذي دعاه إلى أن ينبز الشيعة بالكفر ويعزو إليهم النفاق ، وهو الّذي أدى إلى اعتياد الناس أن يأخذوا مسائل دينهم بدون وصلها بأصلها من كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا لعمر إلهك هو القطع الفظيع لحبل الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المؤمنين.

أما شيعة آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنهم ما برحوا يأخذون مسائل الدين وأحكام الشريعة من الثقلين كتاب الله وعترة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته ، ويواصلون أحكامهم بأصلها من حبل الله المتين وصراطه المستقيم ، ولا يرجعون إلى غيرهم في أقوالهم وأفعالهم مطلقا ، وتشهد بذلك أعمالهم في شتّى أدوارهم بمختلف أجيالهم.

خامسا : قوله : « فلو توقف ثبوت الخبر وحجيّته على ثبوت ذلك القول لزم الدور » ، فمدخول :

أولا : بالنقض ، بأن نقول : لا يمكن إثبات قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بالخبر ، فلو توقف ثبوت الخبر وحجّيته على ذلك القول لزم الدور ، فما يكون جوابه هنا يكون هناك.

ثانيا : إن ثبوت الخبر من حيث هو لا يتوقف على ذلك القول ، وإنما الموقوف عليه هو الحجيّة وهو غيره ، فحجيّة الخبر لا تتوقف على ذلك القول الّذي أشار إليه وزعم لزوم الدور فيه ، وإنما تتوقف حجيّته على الدليل القطعي من الكتاب والعقل والأخبار المتواترة والإجماع القطعي لا منه كما توهمه.

سادسا : قوله : « والأدلة عندهم كتاب وخبر ».

فيقال فيه : ليس في الشيعة من يقول بهذه المقالة ، وإنما الموجود في كتبهم ، والمصرّح به في أقوالهم المشهورة : أن الأدلة ، كتاب ، وسنّة ، وإجماع ،

١٧٨

وعقل ، فهو حرّف ذلك فوضع مكان السنّة ( الخبر ) ليوهم أن السّنة ليست من الأدلة عند الشيعة ، في حين أن السّنة عندهم هي : قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره ، أما الخبر فهو الحاكي لها وهي الأخرى غيره كما مرّ ذكره.

الإجماع وما يعتبر في حجيته عند الشيعة

قال الآلوسي ( ص : ٣٨ ) : « أما الإجماع فباطل أيضا ، لأن كونه حجّة ليس بالأصالة بل لكون قول المعصوم في ضمنه ، فمدار حجيّته على قول المعصوم لا على نفس الإجماع ، وثبوت عصمة المعصوم وتعيّينه إما بخبره أو بخبر معصوم آخر فقد جاء الدور ، وأيضا إجماع الصدر الأول أو الثاني يعني قبل حدوث الاختلاف في الأمة غير معتبر ، لأنهم أجمعوا على خلافة أبي بكر وعمر (رض) وحرمة المتعة ، وتحريف الكتاب ، ومنع ميراث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغصب فدك من البتول ، وبعد حدوث الاختلاف في الأمة وتفرقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع ولا سيّما في المسائل الخلافية المحتاجة إلى الاستدلال » إلى نهاية أساطيره.

المؤلف : أولا : قوله : « أما الإجماع فباطل ».

فيقال فيه : إن أراد من بطلانه عدم صحة إطلاق الإجماع على اتفاق الجماعة التي علم دخول المعصوم فيهم لوجود مناط الحجيّة فيه كما يعتقد الشيعة من عدم خلوّ عصر من العصور عن المعصوم عليه‌السلام وقد تقدم ثبوت ذلك من طريق خصوم الشيعة على سبيل القطع مما لا سبيل إلى إنكاره ففاسد جدا ، لصحة إطلاق الإجماع على مثل ذلك شرعا ولغة ، وفي القرآن يقول الله تعالى : ( وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ ) [ يوسف : ١٥ ] والمجمعون يومئذ هم أخوة يوسف عليه‌السلام لا غيرهم.

وفي اللّغة : أجمع القوم على الأمر اتفقوا عليه ، ويطلق على الكثير والقليل فالموضوع له ( الإجماع ) في أصل وضع اللّغة هو ما يعم الكثير والقليل لا خصوص الأخير ، وإن أراد من بطلانه عدم كونه اصطلاحيا ففاسد أيضا ، لأنه إنما يكون باطلا على مذهب مخالفي الشيعة القائلين بأن الإجماع هو اجتماع جميع

١٧٩

علماء الأمة على أمر أو أمور في وقت واحد وإن كان فيهم من لا دليل على اعتبار قوله ، بل وإن قام الدليل على عدم اعتباره بأن كان من الكاذبين أو المنافقين أمثال المنقلبين على الأعقاب والمتمردين على النفاق في المدينة ، كما دلّ عليه كلّ من آية الانقلاب على الأعقاب والمرود على النفاق ، وحديث الحوض والبطانتين المرويّين في الصحيحين وغيرهما من الصحاح عندهم.

أما في اصطلاح الأصوليّين من الشيعة فيكفي في تحققه اتفاق طائفة من علماء الشيعة على أمر ديني علم دخول قول المعصوم عليه‌السلام في أقوال المجمعين ، بحيث يكون دلالته عليه بالتضمن ، وإن أراد من بطلانه عدم حجيّته فأشدّ فسادا من سابقيه ، إذ كيف لا يكون حجّة وقد تضمن قول المعصوم عليه‌السلام الّذي لا يجوز عليه الخطأ ، وإنما لا يكون حجّة إجماع من خلا إجماعهم من قول المعصوم عليه‌السلام ودخل فيه الدجالون والمنافقون كما تقدم منا ذكره مفصلا.

عصمة الأئمة من أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثابتة بالأدلة الثلاثة

ثانيا : قوله : « وثبوت عصمة المعصوم وتعيينه إما بخبره أو بخبر معصوم آخر فقد جاء الدور ».

فيقال فيه : أما عصمة الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام فليست بأخبارهم وإن كانت لعمر الحق تكفي في إثباتها عند من عرفهم عليهم‌السلام حق معرفتهم ، ولكننا نبرهن على عصمتهم بالأدلة القاطعة والبراهين السّاطعة من المجمع عليها بين الفريقين من الكتاب والسنّة والعقل التي يجب على كلّ من الفريقين الوقوف عندها والنزول على حكمها ، ولا محيص لهما عن الأخذ بها والعمل على طبقها والتي لا يجحدها إلاّ الّذي لربّه كنود.

أما من الكتاب فآيات ، منها قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) [ النساء : ٥٩ ] فإنه يفيد عصمة أولي الأمر ، وتلك قضية وحدة السّياق وتساوي المتعاطفات في الحكم ، وذلك لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم فوجب عصمة أولي الأمر ، وأولوا الأمر في منطوقها لا ينطبقون على غير الأئمة من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم صغراها وكبراها ، فإن غيرهم

١٨٠