الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

تفضيل عليّ عليه‌السلام على الأنبياء عليهم‌السلام لا يلزم تفضيل

غيره من الصحابة (رض) عليهم عليهم‌السلام

الوجه السابع : قوله : « ويلزم عليهم أن الأمير بل وأبا ذر وعمار وغيرهما من الصحابة أفضل من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

فيقال فيه : إن من الغباوة والجهالة أن يلزم المرء غيره بما ألزم به نفسه ، فإن هذا الإلزام مبني على ما ألزم الآلوسي به نفسه بنسبته الزلّة والعصيان إلى مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أما المسلمون فلا يلزمهم ذلك لأنهم ينزهون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن العصيان الّذي لا يليق إلاّ بمن جرتهم شقوتهم إلى تلويث نقاوة ثوب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالزلّة والمعصية ، يبتغون بذلك أن يجحدوا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أفضلية عليّ عليه‌السلام من أئمتهم ؛ لأنه إذا ما ثبت كونه عليه‌السلام أفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام ثبت كونه عليه‌السلام أفضل من الخلفاء (رض) بالأولوية القطعية ، لذا تراهم يحرصون أشدّ الحرص على رفض ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ عليه‌السلام من أفضليته عليه‌السلام عليهم ، وينبذونه وراء ظهورهم عداوة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبغضا للوصيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ظنّت سخينة أن ستغلب ربّها

فليغلبنّ مغالب الغلاّب

وكيف يجوز لمسلم عرف الله وعرف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينسب العصيان إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفاعا عن أئمته ، في حين أنه لو جاز عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك لبطل الغرض من بعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّا لوجوب الانقياد إليه وإتباعه فيما يفعله ، فإذا فعل الزلّة والمعصية لوجب إما إتباعه أو عصيانه وكلاهما باطلان ، فتنتفي بذلك فائدة البعثة من وجوب الانقياد إليه وإتباع الناس أمره ونهيه وامتثالهم قوله وفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل لو عصى لزم وجوب متابعته ووجوب عدمها ، وما يلزم من وجوده عدمه محال بالضرورة عقلا ، وذلك لوضوح عدم جواز ارتكاب الزلّة والمعصية قطعا ، فمن حيث أنه نبيّ مرسل يجب تصديقه وإتباعه ، ومن حيث أن ما فعله وأمر به معصية لا يجوز إتباعه وذلك كلّه باطل ، وأما تخصيص وجوب إتباعه في غير فعل المعصية فباطل من وجهين :

١٢١

الأول : أنه مخالف لنص آية الطاعة المطلقة الآبية عن التخصيص كلّ الإباء.

الثاني : أن المعصية وكون فعل الشيء حراما أو واجبا لا يعرف إلاّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا من غيره ، وغيره لا يعرفه لقوله تعالى : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) [ الحشر : ٧ ] وحينئذ فلا يصح الاستثناء لا في قوله ولا في فعله مطلقا ، فمتى ما فعل شيئا علمنا أنه طاعة فيجب إتباعه فيه ، ولا سبيل لنا إلى معرفة أنه معصية لنخالفه فيه لانحصار ذلك كلّه فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا في سواه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأنه لو فعل المعصية أو نسى فأمر بخلاف أمر الله تعالى لوجب الإنكار عليه ، لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللّذين علمناهما منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهو ينافي أمر الطاعة في قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) [ النساء : ٥٩ ] وشيء آخر : أن وجوب ردعه وزجره على فعل المنكر لو فعله يوجب إيذاءه ، وهو منهي عنه شرعا ومحرم معاقب صاحبه بالعذاب الأليم بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) [ التوبة : ٦١ ] فيلزم من ذلك حرمة الشيء الواحد وعدم تحريمه ، وهو معلوم بالضرورة من الدين بطلانه.

فهذه صورة صغيرة عن عصمة الأنبياء عليهم‌السلام قدمناها لك لتعرف كيف كان بحث عدو الشيعة عنهم عليهم‌السلام وكيف أنه نسب إليهم عليهم‌السلام زلاّته ، ولوّثهم بذنوبه وألصق بهم أكاذيبه وسيئات أعماله.

فإذا كان لا يسلم من قدح الآلوسي نبيّ من الأنبياء عليهم‌السلام فكيف ترجو منه أن يسلم من سبّه وقذعه أهل البيت عليه‌السلام فضلا عن شيعتهم ومواليهم عليهم‌السلام.

ليس كلّ ما يصل لأولاد آدم عليه‌السلام يصل إليه عليه‌السلام

الوجه الثامن : قوله : « فلأن آدم أبو البشر وأصل النوع فكلّ ما يحصل لأولاده فهو عائد إليه ».

فيقال فيه : أولا : إن هذا الوجه الركيك الذي أدلى به الآلوسي كسائر الوجوه ليوهن به ركن ذلك الدليل القاطع لجذور الأباطيل ، إن صح فهو غير وارد من حيث تفضيل

١٢٢

عليّ عليه‌السلام فقط على آدم عليه‌السلام أبي البشر ، بل يتعداه إلى جميع الأنبياء عليهم‌السلام حتى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال أن كلّ واحد من أنبياء الله تعالى نوح عليه‌السلام وإبراهيم عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام أفضل من آدم عليه‌السلام ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام والجميع أولاده عليهم‌السلام.

فعلى ما زعمه يكون ملتقى لجميع فضائلهم مطلقا ومنهم هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام واللاّزم باطل إجماعا وقولا واحدا ، فإن قال : إن أولي العزم فضّلوا عليه لخصوصيات أكرمهم الله تعالى بها ، فيقال له :

أولا : كذلك عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فضّله الله تعالى عليه وعلى غيره من الأنبياء عليهم‌السلام إلاّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لخصوصيات موجودة فيه عليه‌السلام متفرقة فيهم ، أكرمه الله تعالى بها فامتاز بها على جميع الأنبياء عليهم‌السلام ثم أنه إذا كانت الأمور العرضية لا دخل لها في التفضيل الذاتي ـ على حد تعبير الآلوسي ـ فكيف يزعم هنا أن كلّ ما يحصل لأولاده من الفضائل عائد إليه.

فالآلوسي إما أن يقول بأن الأمور العارضة لها دخل في التفضيل أو لا دخل لها فيه ، فإن قال بالأول ـ وهو قوله ـ بطل قوله أنه لا دخل في التفضيل ، وإن قال بالثاني ـ وهو قوله أيضا ـ بطل قوله أن كلّ ما يحصل لأولاده من الفضائل عائد إليه ، ولو لم يكن لنا إلاّ تناقضه هذا لكفى دليلا على فساد مزعمته.

ثانيا : من أين علم أن آدم عليه‌السلام أفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام سوى أولي العزم عليهم‌السلام فإن إثبات ذلك يحتاج إلى الدليل القطعي ، فكان عليه التدليل لإثبات هذه المزعمة التي لا يقودها سوى ما جاء به من التعليل الواهي من كونه عليه‌السلام الأصل للنوع الإنساني ، فإن هذا ما لم يستند إلى دليل شرعي لا ينهض دليلا لإثبات المدّعى ، ولا ملازمة بين كونه عليه‌السلام أصلا وبين رجوع ما لهم من الفضل إليه ، فإن إعطاء الفضائل الثابتة لهم عليهم‌السلام يحتاج إلى دليل وهو مفقود فيه ، ثم يقال له : إن تعليلك العليل على عمومه غير مستقيم ، وذلك لأن الطين هو الأصل للنوع البشري ، لقوله تعالى : ( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) [ ص : ٧١ ] وقوله تعالى : ( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ

١٢٣

لازِبٍ ) [ الصافات : ١١ ] فلا يصح لقائل أن يقول : إن الطين أفضل من آدم عليه‌السلام لأنه أصله وهو فرعه إلاّ إذا كان مدخول العقل.

ثالثا : أن عموم تعليله يقتضى طبعا رجوع كلّ ما لأولاده عليه‌السلام إليه لا خصوص فضائلهم بل حتى زلاّتهم وقبائحهم وكفر بعضهم من أولاده عليه‌السلام لوجود العلّة في الجميع ، واتحاد المناط فيهم أجمعين ، ولا يمكن تخصيصه بخصوص فضائل أولاده عليه‌السلام فضلا عن المرسلين عليهم‌السلام لاستحالة التخصيص في عموم العلّة ، ألا ترى أنه لا يصح لقائل أن يقول : إن بعض النيران غير محرقة ، فثبوت العلّة وهي كونه عليه‌السلام أصلا لهم يقتضي بطبيعة الحال رجوع كلّ ما لهم إليه عليه‌السلام سواء أكان من الفضائل أو من الرذائل ، وتلك قضية عموم العلّة ، فالمقام من هذا القبيل لأنه إنما رجعت إليه لأنه الأصل لهم ، فوجب رجوع كلّ ذلك إليه لوجود العلّة الموجبة في إرجاعها إليه عليه‌السلام فإذا كانت الأصلية موجبة لرجوع ما لهم إليه وفضائلهم عليه ـ كما يزعم ـ لزمه الكفر المتناهي في القباحة لوجود عدو الشيعة وغيره من المنافقين والكافرين في أولاده عليهم‌السلام فيجب ـ على قوله هذا ـ عود ذلك كلّه إليه وهذا هو الضلال البعيد.

أفضلية الزوجة لها دخل في أفضلية الزوج

وأما قوله : « إذ الأزواج لا دخل لهن في المفاضلة ».

فيقال فيه : إن أفضلية الزوجة لا سيّما مثل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّدة نساء العالمين لأقوى دليل على أفضلية زوجها من العالمين أجمعين إلاّ خاتم النبييّن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدلك على هذا ما أخرجه الحافظ الكبير عند أهل السّنة المتقي الهندي في : ( ص ٣١ و ٣٨ و ٣٩ ) من منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد بن حنبل ، عن ابن جرير وصححه ، وسجله محبّ الدين الطبري في الرياض النضرة : ( ص ١٨٠ ) من جزئه الثاني ، قال : ( جاء أبو بكر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقعد بين يديه ، فقال :

يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد علمت من صحبتي وقدمي في الإسلام وإني وإني ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ذاك؟ قال :

١٢٤

تزوجني فاطمة عليهم‌السلام قال : فسكت عنه ، قال : فرجع أبو بكر إلى عمر ، فقال : هلكت وأهلكت ، قال : وما ذاك؟ قال : خطبت فاطمة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعرض عنّي ، قال : مكانك حتى آتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأطلب مثل ما طلبت ، فأتى عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقعد بين يديه ، فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد علمت منّي صحبتي وقدمي في الإسلام وإني وإني ، قال : وما ذاك؟ قال تزوجني فاطمة ، فسكت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع إلى أبي بكر ، فقال : إنه ينتظر أمر الله بها ، قم بنا إلى عليّ حتى نأمره بطلب مثل الّذي طلبنا ، قال عليّ فأتياني وأنا أعالج فسيلا لي ، فقالا : إنا جئناك من عند ابن عمك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخطبة ، قال عليّ : فنبهاني لأمر فقمت أجر ردائي حتى أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقعدت بين يديه ، فقلت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد علمت قدمي في الإسلام ومناصحتي وإني وإني ، قال : وما ذاك؟ قلت : تزوجني فاطمة عليهم‌السلام قال : وما عندك؟ قلت فرسي وبزتي ، قال : أما فرسك فلا بد لك منها ، وأما بزتك فبعها ، قال : فبعتها بأربعمائة وثمانين درهما ، قال : فجئت بها حتى وضعتها في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبض منها قبضة ، فقال : أي بلال ائتنا بها طيبا ، وأمرهم أن يجهزوا ... إلى آخر الحديث ).

وأخرجه أبو حاتم ، وأحمد في المناقب من حديث أبي يزيد المدائني ، ويقول ابن جرير : إنه لما بلغ فاطمة ذلك بكت فدخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : مالك تبكين يا فاطمة؟ والله لقد أنكحتك أكثرهم علما وأعظمهم حلما وأقدمهم سلما.

ويحدثنا المحبّ الطبري أيضا في الرياض النضرة ( ص : ١٨٢ ) من جزئه الثاني في فضل عليّ عليه‌السلام عن ابن عباس ، قال :

( لما زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليه‌السلام بعليّ عليه‌السلام قالت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجتني من رجل فقير لا شيء له ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما ترضين يا فاطمة أن الله اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أباك والآخر بعلك ).

وفي ص : (١٨٣) من الرياض النضرة ، من جزئه الثاني ، قال : ( وكان تزويج عليّ عليه‌السلام بفاطمة عليها‌السلام بأمر من الله تعالى ).

١٢٥

وحكى ذلك جماعة آخرون من أعلام أهل السنّة في تواريخهم وأثبتوه في مسانيدهم وسجلوه في صحاحهم ، وإنما أوردنا لك ذلك بطوله لتعلم أن قوله : إن تزويج فاطمة عليها‌السلام بعليّ ليس فيه ما يدل على أفضليته على الأنبياء عليهم‌السلام شيء ، لم يدفعه إليه إلاّ حقده على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبغضه للوصيّ عليه‌السلام فهو يريد أن يجعل ذلك الحقد دليلا يسير عليه في كتمان فضائلهم عليهم‌السلام وإخفاء مناقبهم عليهم‌السلام التي لا تحجبها الجبال فكيف تستر بالغربال ، ثم أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أما ترضين يا فاطمة أن الله اختار من أهل الأرض رجلين ـ إلى قوله ـ والآخر بعلك ) لأدل دليل على أفضليته من سائر الأنبياء عليهم‌السلام وأنه ما تزوجها إلاّ لكونه أفضل خلق الله بعد أخيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذا تراه أعرض عن كلّ من أبي بكر وعمر (رض) لمّا حاول كلّ منهما أن يتزوجها ، وما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليمتنع من تزويجها بأحدهما إلاّ لأنهما دونها في الفضل ، فهي لا كفؤ لها إلاّ عليّ عليه‌السلام أفضل الناس بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يرشد إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث : ( أكثرهم علما ، وأعظمهم حلما ، وأقدمهم سلما ) وأنهما الصفوة التي اختارها الله من أهل الأرض ، كما يومي إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إن الله اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك والآخر بعلك ) وحاصل القول إن من امتناع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزويجها بأحد الرجلين مع ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أن المؤمن كفؤ المؤمنة ) يستشرف القارئ على القطع بأنهما لم يكونا بكفئين لها ، وإلاّ لزوجها من أحدهما قطعا.

الأمور العارضة على الذات لها دخل فيها

وأما قوله : « فإن الأمور العارضة لا دخل لها في الفضل الذاتي والكمال الحقيقي ».

فيقال فيه : إن أراد أن الذات من حيث هي تكون حسنة كاملة ففساده واضح ؛ لأن الشيء من حيث هو بلحاظ ذاته لا يكون حسنا ولا قبيحا وإنما يكون كذلك بلحاظ ما يعرض على ذاته من الصفات مطلقا ، سواء أكانت حسنة أم قبيحة ، ألا ترى أنه لا يحكم على ذات الإنسان من حيث هو أنه عادل أو فاسق ، وإنما يقال فيه إنه عادل أو فاسق بعد اتصافه بهما ولحوقها لذاته ، فلا يقال ذلك

١٢٦

فيه قبله لقصور الذات من حيث هي عن تناوله بالحمل الذاتي ، وإنما يلحقه بالحمل الشائع الصناعي الّذي يعرفه العلماء.

وإن أراد أن ما يعرض على الذات بالواسطة ليس من العوارض الذاتية ففاسد أيضا ؛ لأن العوارض إذا كانت لها واسطة في الثبوت فهي أيضا من العوارض الذاتية والصفات الحقيقية ، بل وكذا العوارض إذا كانت لها واسطة في العروض ، فهي أيضا من العوارض الذاتية ، وإلاّ لم يكن الضحك العارض على الإنسان بواسطة التعجب العارض هو الآخر عليه بواسطة إدراك الكليات الّذي هو من لوازم الفصل ـ من العوارض الذاتية ـ لأن له واسطة في العروض فإن واسطة عروضه تحتاج إلى واسطة أخرى في الثبوت.

على أن قول الآلوسي هنا مناقض لما سيأتي من قوله : ( إن الأشياء لا توصف بصفة وأنها متساوية القدم في عالم الإمكان والذات ، وأنه ليس للعقل أن يحكم بحسن شيء أو قبحه ) فكيف يزعم هنا أن المناط في الفضل الأمور الذاتية والصفات الحقيقية ، والشيء عنده لا يكون متصفا بالحسن أو القبح إلاّ بحكم الشارع دون العقل ، وهل هذا إلاّ قول متناقض مبطل لا يدري ما يقول.

وأما قوله : « فتفضيل زوجة عليّ عليه‌السلام على زوجة نوح عليه‌السلام غير مستلزم لتفضيل عليّ عليه‌السلام.

فيقال فيه : مع قطع النظر عما تقدم من دليل أفضليته عليه‌السلام على نوح عليه‌السلام وغيره من الأنبياء عليه‌السلام أن تزويج عليّ عليه‌السلام بفاطمة عليها‌السلام التي هي أفضل نساء العالمين ، لأقوى دليل على أفضليته عليه‌السلام من نوح عليه‌السلام وإلاّ لجاز لنوح عليه‌السلام أن يتزوج مثلها ، فعدم تأتي ذلك له ولا لغيره من الأنبياء عليهم‌السلام لعدم وجود مثلها عليه‌السلام دليل على وجود خصوصية في عليّ عليه‌السلام يمتاز بها عليه وعلى غيره من الأنبياء عليهم‌السلام فهو بتزويجه فاطمة عليها‌السلام يكون واجدا على ما كان مفقودا في نوح عليه‌السلام فتزويج عليّ عليه‌السلام بفاطمة عليها‌السلام هو أكبر فضيلة لعليّ عليه‌السلام لم يشاركه فيها أحد ولم يساوه فيها نفر ممن تقدم أو تأخر ، فعدم مشاركة نوح لعليّ عليه‌السلام في هذه الفضيلة دليل على أفضليته منه عليه‌السلام.

١٢٧

خروج الآلوسي عن الموضوع فرار من الحجة

وأما قوله : « ألا ترى أن زوجة فرعون كانت أفضل من زوجة نوح ولوط وكذا زوجة الأمير أفضل من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا قائل بالتفضيل ».

فيقال فيه :

أولا : جاء الآلوسي بهذا التمويه وهو يحسب أنه يوهن به ذلك الأساس المتين دون أن يشعر إلى أنه لم يمسه بشيء ، وإنما أوهن قرنه قبل أن يوهنه ، يا هذا لم يكن الكلام في زوجة من لا فضل فيه كفرعون وغيره من الكافرين لخروج هذا بموضوعه تخصصا عما نحن فيه ، والخروج عن الموضوع في باب المناظرة فرار من الحجّة ، وغمط للحق ، ومحاولة للباطل ، وهذا ما يتنزه عنه العلماء الّذين بيدهم أزمة الشرع وعليهم مدار حركات الحل والعقد وهم الذين يبحثون عن الحقيقة بإخلاص ، أما الرعاع والأغرار الّذين ينعقون مع كلّ ناعق ـ كما هو شأن كثيرين في كلّ ملّة ودين ـ فنحن ننبه إخواننا المسلمين بألاّ يعولوا عليهم حتى في بسيط الأشياء وساذجها ، لأنهم ينقادون إلى العصبية ويتأثرون بالعاطفة ، فلا يصلحون بوجه أن يكونوا مدارا للتميز في الأمور الدقيقة والمسائل العويصة.

ثانيا : أن زوجة الأمير عليه‌السلام وإن كانت أفضل من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن لما انعقد الإجماع على أفضلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عليّ عليه‌السلام خرج هذا عن مورد ذلك الدليل ، وهذا بخلاف ذلك في نوح عليه‌السلام فإنه لا مخرج له فلا يقاس ما قام عليه الدليل بما لا دليل عليه لوضوح بطلانه.

حديث : « لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا » غير موضوع

وأما قوله : « أما حديث : « لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا » فموضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة بين الفريقين ».

فيقال فيه : هذا قول بجهالة ، ورمي بسهام خاسئة ، ويله كأنه أعلم بما في كتب الشيعة منهم ، أو أنه يخفى عليهم كتبهم الصحيحة ليوهم على العامة عدم وجود ذلك في كتبهم الصحيحة.

١٢٨

أما الحديث فترويه الشيعة بأسانيده الصحيحة ، وأما أهل السنّة فقد أخرجه ابن حجر في صواعقه ( ص : ٧٧ ) في الفصل الثالث من الباب التاسع الّذي عقده في ثناء الصحابة عليه عليه‌السلام فراجع ثمة حتى تعلم صحة الحديث واشتهاره بين الفريقين ، وأن ما زعمه من وضعه كذب وانتحال لا أصل له ، ويشهد له ما أخرجه المتقي الهندي في ( ص : ٣٣ ) من منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد بن حنبل ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( أعلم الناس بالله عليّ بن أبي طالب ) وهو عبارة أخرى عن قوله عليه‌السلام : ( لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا ) ، ويعني هذا أنه عليه‌السلام لا يزداد علما وإيمانا بالله لبلوغه عليه‌السلام في الإيمان به منتهاه ، ووصوله فيه إلى أقصاه ، بحيث لو فرض انكشاف الغطاء لا يزيده ذلك عرفانا وعلما وإيمانا بالله تعالى على ما هو فيه من أقاصيه.

وقول الآلوسي : إن إبراهيم الخليل عليه‌السلام كان أعلى كعبا من الأمير في ذلك عين المدعى ، فكيف يجعله دليلا على ثبوت الدعوى؟ بل وكيف يكون أعلى كعبا منه في ذلك وتلك خصوصية تفرّد بها لم تكن في إبراهيم عليه‌السلام ولا في غيره من الأنبياء عليهم‌السلام إلاّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسبك شهادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكونه عليه‌السلام أعلم الناس بالله تعالى على أنه عليه‌السلام أفضل منه عليه‌السلام على أننا قد أثبتنا فيما تقدم بشهادة آية المباهلة والحديث الصحيح أفضليته عليه‌السلام من سائر الأنبياء عليهم‌السلام ما يقطع جهيرة كلّ أفاك عنيد.

حديث مبيت عليّ عليه‌السلام على فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقبل التحريف

وأما قوله : « أما حديث مبيت الأمير على فراش الرسول فلأن الأمير كان يعلم أنه صبي ، ومعاداة الكفار له ليست بالذات فلا طمع لهم في قتله ، ومع ذلك فقد أخبره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الكفار لن يضرّوه إن هو بات على فراشه ».

فيقال فيه : أما حديث مبيت عليّ عليه‌السلام على فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الهجرة فهو من الأحاديث المتواترة ، وقد اعترف هو بثبوته ، ولكن دفعه حقده وبغضه إلى تحريفه وتحويره حسبما يهوى ، ليقول فيه ما يشاء كما هو شأنه في سائر ما يرويه

١٢٩

من الأحاديث في فضل عليّ عليه‌السلام فإنه لا يحكيها كما هي مدونة في كتب أئمته بل يأخذ في تحريفها ويخون في نقلها ليسقطها عن الدلالة على أفضليته عليه‌السلام من سائر الأمة وبلا استثناء ، وقديما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من لا أمانة له لا دين له ).

وإليك نص الحديث الذي سجّله ابن عبد ربه في العقد الفريد ( ص : ٢٨٤ ) من جزئه الثالث من الطبعة الأولى في باب إحتجاج المأمون على المخالفين ، قال : ( إن الله تعالى أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمر عليّا بالنوم على فراشه ، وأن يقي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، فبكى عليّ عليه‌السلام فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يبكيك يا عليّ ، أجزعا من الموت؟ قال : لا والّذي بعثك بالحقّ نبيّا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن خوفا عليك ، أفتسلم يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نعم ، قال : سمعا وطاعة وطيبة نفس بالفداء لك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أتى مضجعه واضطجع وتسجّى بثوبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاء المشركون من قريش فحفّوا به لا يشكّون أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أجمعوا على أن يضربه من كلّ بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه.

وقد اعترف بصحة ذلك كلّه غير واحد من فحول أعلام أهل السنّة ، فمنهم : إسحاق بن إبراهيم ، وقاضي القضاة يومذاك يحيى بن أكثم ، ومنهم الشيخ محمّد بن عبد الجواد في كتابه : ( خلاصة التحقيق في أفضلية الصدّيق ) في الردّ على إحتجاج المأمون على علماء عصره ، وقد تصدّى لتفنيده علاّمة عصره وفريد دهره السيّد محمّد مهدي الكاظمي القزويني في كتابه الّذي سمّاه : ( فاضحة اللّصوص بشموس النصوص ) وناهيك ما أدلى فيه من الأدلة القاطعة والبراهين الدامغة ، زيّف فيه جميع ما جاء به من الأباطيل وناقشه الحساب بدقة.

وممن اعترف بصحته الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( ص : ١٩١ ) من جزئه الثالث عشر ، فإنه أخرجه عن ابن عباس في قوله تعالى : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ) [ الأنفال : ٣٠ ] والمحب الطبري في الرياض النضرة من جزئه الثاني في فضائل عليّ عليه‌السلام وغير هؤلاء من أهل السيرة والتاريخ من أهل السنّة.

١٣٠

وأنت ترى أنه ليس في الحديث شيء مما ذكره الآلوسي من أن الأمير عليه‌السلام كان يعلم أنه صبيّ فلا طمع للكفار في قتله ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره أن الكفار لن يضرّوه ، ولا جرم أن ذلك من تحريفه الّذي يروم ترويج سلعته

الفاسدة فيقلب الوقائع التاريخية رأسا على عقب ، ويأخذ في تأويل الأحاديث النبوية كيف شاء لأنها واردة في فضل الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكيف يا ترى أن الأمير عليه‌السلام كان يعلم هذا وأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره كما يزعم ، وأنت تراه بأمّ عينك يقول : ( أفتسلم يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : نعم ، فقال له : سمعا وطاعة وطيبة نفس بالفداء لك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) وكيف يعقل أن يقول ذلك وهو يعلم أن الكفار لن يضروه ولكونه صبيا لن يقتلوه كما يزعم الآلوسي ، ولا شك في وضوح قوّة دلالته على ثبات الأمير عليه‌السلام ورسوخ إيمانه وعدم تزلزله ، وأنه ممن لا يخافون ولا يضطربون كما اضطرب وخاف وتزلزل وحزن وبكى أشد البكاء إمامه في الغار وهو يعلم أنه لا شيء عليه إطلاقا ، ولقد فات الآلوسي أن يتمثل بقول ابن أبي الحديد الحنفي المعتزلي :

فتى لم يعرق فيه تيم بن مرّة

ولا عبد اللاّت الخبيثة أعصرا

ولا كان معزولا غداة براءة

ولا عن صلاة أمّ فيها مؤخّرا

ولا كان يوم الغار يهفو جنانه

حذارا ولا يوم العريش تستّرا

فعدم خوف الأمير عليه‌السلام وعدم تزلزله ومفاداته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه الطاهرة أكبر فضيلة له يمتاز بها على موسى الكليم عليه‌السلام على أنّا قد ألمعنا فيما مضى قيام النصّ الجليّ في أفضلية عليّ عليه‌السلام على موسى عليه‌السلام وأن قول الآلوسي :

إن عليّا عليه‌السلام دونه في الفضيلة ، لم ينبعث إلاّ عن الجهل بالأحاديث تارة والإنتصار لخلفائه (رض) مرّة ، والبغض لعليّ عليه‌السلام تارة أخرى.

لا منقصة على سليمان عليه‌السلام في طلبه الملك ولا تكون سعة الملك مطلقا إعجازا

وأما قوله : « إذ لا منقصة على سليمان عليه‌السلام في طلبه الملك لأنه طلبه ليكون دليلا وإعجازا على ثبوت نبوّته ».

١٣١

فيقال فيه : لا قائل بأن طلب سليمان عليه‌السلام : ( ملكا لا ينبغي لأحد ) كان فيه منقصة عليه حتى يزعم هذا أن ذلك لا منقصة فيه ، وليس معنى تفضيل عليّ عليه‌السلام على الأنبياء عليهم‌السلام لقيام النصّ على تفضيله أن يكون ذلك نقصا فيهم ، وإلاّ لزم من تفضيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم أن يكون ذلك نقصا فيهم ، بل ويلزم أن يكون في تفضيل الله بعض الرسل على بعض نقص عليهم عليه‌السلام لقوله تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) [ البقرة : ٢٥٣ ] وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ ) [ الإسراء : ٥٥ ] وهذا ما لا يقول به ذو دين ، وإنما نقول إن تطليق الدنيا والزهد فيها مع القدرة على تحصيلها ولو بطلب ذلك من الله تعالى ـ لا سيّما من مثل عليّ عليه‌السلام مثال الإيمان والإخلاص لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخيرة التي اختارها الله من أهل الأرضين أجمعين ـ لأعظم مزية فيه تفضله على من طلبها في المباح بل في الراجح شرعا ، بل لو كان يلزم من طلب سليمان عليه‌السلام الملك ولو لأجل أن يكون معجزة على ثبوت نبوّته ـ كما يزعم ـ أن يكون أفضل ممن ليس له ذلك ، ولو كان قادرا على تحصيله بالطلب من الله لكان سليمان عليه‌السلام أفضل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ممن طلّق الدنيا وزهد فيها كما يعرف ذلك المتتبعون لسيرته وحاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يلزم أن يكون أفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام لأنهم أيضا زهدوا فيها مع أنهم قادرون على تحصيلها.

على أن طلب سعة الملك لا يمكن أن يكون معجزة على ثبوت النبوّة مطلقا ، إذ لو كان يلزم من سعة الملك واتساع نطاقه على الإطلاق أن يكون إعجازا على ثبوت النبوّة لزم أن يكون الكثير من أعداء أنبياء الله كشدّاد الّذي ملك شرق الأرض وغربها ، وفرعون الّذي دعاه سعة سلطانه واتساع سلطته وعظيم طغيانه إلى دعوى الربوبية ، وفي القرآن يقول الله تعالى : ( إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) [ القصص : ٧٦ ] ويقول الحافظ ـ عند أهل السنّة ـ السّيوطي في الدر المنثور ( ص : ١٣٦ و ١٣٧ ) من جزئه الخامس : إن مفاتيح خزائن قارون كانت تنوف على حمل أربعين بعيرا ، فليس سعة الملك أو طلب سعته من حيث هو مطلقا يكون إعجازا لإثبات النبوّة لوجودها عند كثيرين من الكافرين بالله ، وشرط الإعجاز ألاّ يكون أحد من المخلوقين قادرا عليه.

١٣٢

الخلافة صنو النبوّة وليست ملكا

وأما قوله : « على أن طلب الملك لا ينافي التطليق ، ألا ترى أن عليّا عليه‌السلام طلب الخلافة بعد ذلك وسعى لها سعيها ».

فيقال فيه : ليست الخلافة ملكا ـ كما يزعم ـ وإنما هي صنوّ النبوّة ، وقائمة مقامها ، وسادّة مسدّها ، في غير الوحي الإلهي ، وهي خلافة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حفظ الشريعة وإقامتها ، ونشر أحكامها ، وإقامة الحدود ، ودرء المفاسد ، والانتصاف للمظلوم من الظالم على ضوء القانون الإلهي والقرآن السّماوي ، وما كان عليّ وهو أمير المؤمنين عليه‌السلام وحده ليطلب الملك كما يزعم ، وإنما طلبه وسعى له سعيه أولئك الّذين دفعوه عن حقّه ، فسارعوا إلى إقامة السّقيفة ليبعدوه عن مقامه الّذي خصّه الله تعالى به حبّا لجاه الخلافة وطمعا بالإمارة ، وقد كشف عن ذلك قول طلحة عند ما كتب الخليفة أبو بكر (رض) وصيّته لعمر (رض) بالولاية ، فإنه قال مخاطبا عمر (رض) : ( ولّيته أمس وولاّك اليوم ) وقول الأمير عليه‌السلام في إحتجاجه عليهم مخاطبا عمر (رض) : ( احلب حلبا لك شطره ، شدّ له اليوم يردّه عليك غدا ، أم والله لو لا أولئك الدافعون للخلافة عن أهلها ومحلّها ) (١) ما كان للآلوسي وغيره من أعداء الوصيّ عليه‌السلام وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلطان يعتمدون عليه ، ولولاهم ما عاث في الدين عائث ولا ظهرت في الإسلام بدعة ولا تمزق ثقلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللّذان أودعهما في الأمة ، وطالما كان يوصي بهما حتى أكّد ذلك عليهم في مرضه الّذي توفي فيه والحجرة مملوءة بهم ، بل ولو لا قول الخليفة عمر (رض) : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهجر ، وردّه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( آتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا ) لما نزغ الآلوسي وغيره فألصقوا بأهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم الوصمات إلى غير ما هنالك ، مما يدعوننا هؤلاء إلى مكاشفتهم به وحينئذ نأتيهم بما لا قبل لهم به ، وكلّ آت قريب والعاقبة الحساب.

__________________

(١) هكذا سجله ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( ص ١٠ ) من جزئه الأول وغيره من مؤرخي أهل السنّة ممن جاء على ذكره.

١٣٣

وأما قوله : « مع أن ترك الدنيا مطلقا ليس محمودا في الدين المحمّدي ».

فيقال فيه :

أولا : كان على الآلوسي أن يذكر لنا الدليل على أن ترك الدنيا مطلقا غير محمود في الدين المحمّدي ، ومن حيث أنه أهمل ذكره فقد علمنا أنه أراد بذلك أن يعيب عليّا عليه‌السلام ويصحح ما فعله أولئك الّذين تربعوا على دست الإمارة في هذه الأمة للمال الكثير والجاه العريض والغلّ الثابت في قلوب الكثير منهم للوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا تقمصوها أخذوا يقضمون مال الله قضم الإبل نبتة الربيع ، ويجرفون بأموال الأمة إلى بيوتهم وبيوت أبي معيط ، على أنه لا دخل لكثرة المال وقلّته في أمر الخلافة وإنما الخير كلّ الخير في هداية الناس إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل ، وأن ترك الدنيا مطلقا مع إمكان الحصول عليها شيء محمود حسن عند عباد الله الصالحين وأوليائه المقربين ، فهذا البخاري يقول ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : ( لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) (١).

ثانيا : لا ينتقض ذلك بالرهبان وأمثالهم حتى يقال أنه لو كان التطليق على الإطلاق موجبا للتفضيل لزم أن يكون الرهبان أفضل من سليمان عليه‌السلام وذلك لأنه إنما يكون تركها على الإطلاق موجبا للتفضيل ، إذا كان التارك لها قادرا على تحصيلها ومع ذلك تركها وزهد فيها ، أما تركها مع عدم القدرة عليها كما في الرهبان وأمثالهم فلا يلزم منه التفضيل في شيء لعدم صدق الترك لها والزهد فيها على أمثال أولئك الّذين ذكرهم ، هذا الّذي خلط هنا وهناك خلطا فاحشا ، فتراه يزعم تارة أن ترك الدنيا مطلقا غير محمود في الدين المحمّدي ، وأخرى ينتقل إلى قوله : ولو كان الترك مطلقا موجبا للتفضيل لزم تفضيل الرهبان وأمثالهم على سليمان عليه‌السلام ويوسف عليه‌السلام فأيّ صلة يا ترى بين الموضوعين ، إذ من الجائز ألاّ يكون الترك مطلقا في الشرائع السّابقة محمودا فكيف يقاس به إمام الأمة

__________________

(١) تجده في ( ص ١٩٧ ) من صحيح البخاري من جزئه الثاني في باب مناقب عليّ عليه‌السلام.

١٣٤

وخليفتها الأول في شريعتنا الّذي قد عرفت فيه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا عليّ لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) الدال بصراحة على أن المناط في التفضيل هو العلم والتقى ورسوخ الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهداية الناس إلى دينه ، وهذه فضيلة لعليّ عليه‌السلام قد امتاز بها على سليمان عليه‌السلام إضافة إلى ما تقدم من قيام البرهان على أفضليته عليه‌السلام منه عليه‌السلام.

تعزير الأمير للمغالين فضيلة غير موجودة في عيسى عليه‌السلام

ثالثا : قوله : « أما تعزير الأمير للمغالين في محبته فإنه لا يوجب تفضيله عليه‌السلام على عيسى عليه‌السلام ».

فيقال فيه : لا شك في أن المسارعة إلى إقامة الحدود والتعزير والنكاية بالكافرين والمبادرة إلى استئصالهم فضيلة لعليّ عليه‌السلام لم تكن في عيسى عليه‌السلام.

وأما قول الآلوسي : « إن عيسى عليه‌السلام قد ردّ عليهم ووبخهم غاية التوبيخ ».

فليس في الآيات ما يدلّ عليه ، ويقول الكتاب : ( وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) [ المائدة : ٧٢ ] فليس في الآية ما يدلّ على أنه عليه‌السلام وبخهم غاية التوبيخ فضلا عن التنكيل بهم ، وإنما الموجود فيها أنه أمرهم بترك ما هم عليه من دعوى تأليهه ، وبيّن لهم أن من يشرك بالله فقد حرم عليه الجنّة ومأواه النار ، فهو قد خوفهم وأرهبهم وأرعبهم باللاّزم لقولهم وشركهم بما ينالونه في الآخرة من العذاب على كفرهم وشركهم ، وأين هذا من ذاك كما لا يخفى على أولي الألباب.

المسئول في القيامة عما قاله بنو إسرائيل هو عيسى عليه‌السلام دون عليّ عليه‌السلام

رابعا : قوله : « ثم من أين لهم أن عيسى يسأل يوم القيامة وعليّ لا يسأل ، وقد قال تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ) [ الفرقان : ١٧ ].

١٣٥

هذا قول مدخول من وجهين :

الأول : لا شك في أن عيسى عليه‌السلام يسأل عن ذلك يوم القيامة بدليل قوله تعالى مخاطبا إيّاه : ( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ ) ـ إلى قوله ـ ( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) [ المائدة : ١١٦ ـ ١١٧ ].

وأما كون الأمير عليه‌السلام لا يسأل فيمكن أن نقول فيه إن المغالين في حبّه عليه‌السلام لم يعبدوه ولم يتخذوه إلها من دون الله وإنما وصفوه بصفات لا تليق إلاّ بالله وحده ، كالخلق والرزق والحياة والممات إلى غير ما هنالك من صفات الله العينية والفعلية ، والظاهر من حال الغلاة المفرطين في حبّه عليه‌السلام أنهم يعبدون الله ويعترفون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه مرسل من عند الله ولكنّهم غالوا في حبّه عليه‌السلام فوصفوه بما لا يجوز أن يوصف به إلاّ الله وحده بالأصالة.

الثاني : ليس في الإحتجاج المذكور ما يدل على أن الأمير عليه‌السلام لا يسأل حتى يقول : ومن أين لهم أن عيسى عليه‌السلام يسأل وعليّ عليه‌السلام لا يسأل ، فهو شيء جاء به من نفسه ليصبّ عليه رأيه الفاسد.

وأما ما أورده من الآية الكريمة واستدل به على أن الأمير عليه‌السلام يسأل فمدخول بأن المروي عن الضحاك ، وعن سيّد الآلوسي عكرمة أنها تريد الأصنام التي كانت تعبد من دون الله إذا أحياهم الله وأنطقهم ، وهو الّذي تفيده كلمة ( ما ) الموصولة التي تستعمل غالبا في اللّغة لغير العاقل.

تناقض الآلوسي في قوله بظهور الغلاة بعيسى عليه‌السلام بعد رفعه إلى السماء

وأما قوله : « إن القول بالتثليث إنما ظهر بعد رفع عيسى عليه‌السلام إلى السّماء ».

فيقال فيه : أنه إذا كان ظهور غلاة عيسى عليه‌السلام بعد رفعه إلى السّماء فكيف يزعم هذا فيما تقدم عنه أنه عليه‌السلام وبخهم غاية التوبيخ ، وهل يعقل أن يكون قد وبخهم بعد رفعه إلى السّماء ، فالآلوسي إما أن يقول بظهورهم قبل رفعه أو بعد

١٣٦

رفعه ، فإن قال بالأول ـ وهو قوله ـ بطل قوله أنهم ظهروا بعد رفعه الّذي نفى عنه الإشكال ، وإن قال أنهم ظهروا بعد رفعه ـ وهو قوله الثاني ـ بطل قوله الأول أنه وبخهم غاية التوبيخ ، ولو لم يكن لنا إلاّ تناقضه هذا لكفانا مؤنة الردّ عليه وقلع جذور أباطيله.

غلط الآلوسي في ولادة عيسى عليه‌السلام

وأما قوله : « أما ما ذكر في ولادة عيسى عليه‌السلام فغلط محض وكذب صريح ، لأن الأصح أن مولده بيت اللّحم ».

فيقال فيه : أظنك لا تعجب أيها القارئ إذا قلنا لك أن الآلوسي كتب ما كتب وهو لا يفهم ما كتب ، ولخص ما لا يفهم فساده ولا يتعقل بطلانه ، وكأنه يكتب لأمة غارقة في الجهالة والضلالة من أسفلها إلى أعلاها ، يا هذا كيف يصح لعاقل عربي فهم كلام العرب وعرف كيفية استعمالها أن يقول في شيء أنه غلط محض وكذب صريح ، ثم يعود بعد ذلك ويقول فيه إن الأصح فيه غيره ، فإن العربي لا يقول إن زيدا أعلم من بكر إذا لم يكن بكر عالما ، ولا يقول إن عمرا أقوى من خالد إذا لم يكن خالد قويا وهلمّ جرا ، أيها العربي الفطن إن في باب العربية بابا يقال له باب التفضيل ، وفي ذلك الباب أن التفضيل صفة يلزم فيها المشاركة بين شيئين من جهة والمفارقة من أخرى ، فلا يقال في المدية أنها أمضى من العصي لعدم وجود معنى المضي في العصي ، نعم يصح أن يقال مدية بكر أمضى من مدية خالد لأن المضي أخذ في مفهوم المدية وهو قابل للتفاوت.

وهذا البحث من المبادئ الملقاة على قارعة الطريق لا يمتاز به الذكي عن الغبي ، فإذا كان المذكور في ولادة عيسى عليه‌السلام شيئا غلطا محضا وكذبا صريحا ـ كما يزعم ـ فكيف يصح أن يقول فيه إن الأصح غيره لعدم وجود معنى الصحيح في الغلط المحض والكذب الصريح حتى يقول فيه أن هذا أصح منه أو أن الأصح غيره ، بل لا بد للآلوسي أن يقول إن ما ذكره في ولادته شيء صحيح ( كما هو الصحيح ) ولكن الأصح غيره ولا ينفك عنه هذا كما لا ينفك الظلام عن الأعمى ، ولست أقصد من هذا الإطناب إلاّ بيان جهله بمبادئ علوم العربية ، وأن الموقف

١٣٧

الّذي وقف فيه ليس من نصيبه في شيء وإنما هو من نصيب العلماء الّذين يكتبون وهم على بيّنة مما يكتبون ويفهمون ما يكتبون ويكتبون ما يفهمون.

نفي الآلوسي لقول المؤرخين أن مريم عليها‌السلام جاءها المخاض في المسجد

وأما قوله : « فإنه لم يقل أحد من المؤرخين أن مريم عليها‌السلام جاءها المخاض في المسجد الأقصى ».

فيقال فيه : من أين لك أنه لم يقل بذلك أحد من المؤرخين؟ وجهلك به لا يكون علما بعدمه ، وعدم وجدانك له لا يكون دليلا على عدم وجود القائل به ، ولو كان الآلوسي ممن يتوخى الحقيقة لفتش عنها في منابتها ولكن يهون عليه أن يرتكب كلّ شيء ، ثم ليس في الإحتجاج ما يدل على أن مولده لم يكن بيت لحم أو فلسطين أو غير ذلك حتى يقال فيه إنه كذب محض ، وإنما الموجود في الإحتجاج أنه لما جاءها المخاض أمرها الله تعالى أن تخرج إلى الصحراء وتضع حملها تحت جذع النخلة وليس في هذا ما يقتضي الكذب ، وقد اقتص خبره القرآن بقوله تعالى : ( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) [ مريم : ٢٢ ـ ٢٣ ].

فعلى زعمه يلزم أن يكون القرآن جاء بالكذب الصريح وهو كفر صراح نعوذ بالله منه ، ولا منافاة بين هذا وبين كون مولده في بيت لحم إذ أن بيت لحم ـ على ما حكاه ابن كثير في ( ص : ٦٦ ) من البداية والنهاية من جزئه الثاني كغيره من مؤرخي أهل السنّة ـ موضع بنى عليه ملوك الروم فيما بعد ؛ أي فيما بعد ولادة عيسى عليه‌السلام هناك ، وهو أيضا كان في الصحراء على ما قاله الفخر الرازي في تفسيره الكبير ( ص ٥٢٦ ) من جزئه الخامس ، فراجع ثمة حتى تعلم جهل الآلوسي بالتأريخ ، وأن قوله لم يقل ذلك أحد من المؤرخين لم ينشأ في الحقيقة إلاّ عن عدم وقوفه على ما أدليناه ، وإليك ما قاله ابن كثير أحد مؤرخي علماء أهل السنّة في البداية والنهاية ( ص : ٦٣ و ٦٤ ) من جزئه الثاني.

١٣٨

( إن مريم ابنة عمران ما برحت في المسجد تعبد الله بفنون العبادة ، وكانت لا تخرج من المسجد إلاّ في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها ، ولمّا جاءها المخاض وألجأها الطلق اضطرت إلى الخروج منه والذهاب إلى جذع النخلة حيث يكون محلّ ولادتها ) ويشهد لهذا قوله في ( ص : ٦٥ ) عند قوله : ( فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا ) : أي انفردت وحدها شرقي المسجد الأقصى فيكون مجيء الطلق لها وهي كذلك ما ألجأها إلى الخروج منه إلى هنالك حيث يكون موضع وضعها.

خروج مريم عليها‌السلام من المسجد عند مخاضها كان بالوحي

وأما قوله : « وأما القول بأنه قد أوحي إلى فاطمة بنت أسد (رض) بأن تضع في الكعبة فقول يضحك الثكلى ».

فيقال فيه : إن أراد أنه لا جائز أن يوحى إليها بذلك لامتناعه عقلا ففاسد جدا لعدم امتناعه ، وإلاّ لامتنع قوله تعالى : ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ) [ القصص : ٧ ] وقوله تعالى : ( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) [ النحل : ٦٨ ] وقوله تعالى : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا ) [ المائدة : ١١١ ] وقوله تعالى مخاطبا موسى عليه‌السلام : ( إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ) [ طه : ٣٨ ] وقوله تعالى فيما حكاه عن زكريا : ( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ ) [ مريم : ١١ ] فلو كان ذلك يضحك الثكلى وتضع منه الحبلى ـ على حد تعبير الآلوسي ـ كانت هذه الآيات كلّها تضحك الثكلى ، وهو كفر صريح لا ينطق به إلاّ كافر ، وإن أراد أنه لم يثبت أنه قد أوحي إليها ففاسد أيضا ، وذلك لوروده عن أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الّذين قد عرفت غير مرّة أن كلّ ما يأتي عنهم عليهم‌السلام فهو الهدى والحق ولا محذور فيه إطلاقا ، ولعلّ الآلوسي فهم من قول القائل : وقد أوحي إلى فاطمة بنت أسد عليه‌السلام أنه يريد وحي النبوّة الممتنع بعد ختم النبوّة بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذا حكم جاهلا بأنه يضحك الثكلى دون أن يهتدي إلى أن هذا الوحي إليها هو كالوحي إلى أم موسى عليه‌السلام لا وحي النبوّة لوضوح بطلانه عند من فهم ووعي.

١٣٩

وأما ما نسبه إلى كتب الشيعة أنه لم يوح إليها بذلك فكان عليه أن يذكر لنا ذلك الكتاب الّذي نقله عنه لنرى صحته من فساده وإلاّ فمجرد الحكاية عن كتبهم ـ لا سيّما من مثل الآلوسي الذي قد عرفت غير مرّة خيانته في النقل مطلقا ـ لا يكون دليلا على صدق الناقل ، ومن حيث أنه أهمل ذكره علمنا أنه كذب لا أصل له.

خلاصة القول في ولادة عليّ عليه‌السلام

وخلاصة القول في ولادته عليه‌السلام ما ثبت في التأريخ الصحيح وصحيح الحديث : أن فاطمة بنت أسد عليه‌السلام دخلت المسجد الحرام مبتهلة إلى الله تعالى بكلمات ملؤها الإيمان بعظمة الله ، متوسلة إليه أن يسهّل ولادتها ، وييسّر لها ما تعسر من أمرها ، متمسكة بأستار الكعبة وهي تقول : ( ربي إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل عليه‌السلام وأنه بنى البيت العتيق ، فبحق الّذي بنى هذا البيت وبحق المولود الّذي في بطني لما يسّرت عليّ ولادتي ) ، فاستجاب الله دعاءها وأمرها أن تدخل الكعبة لتضع مولودها ، فقال من حضر : رأينا البيت قد انشق ودخلت فاطمة عليها‌السلام ومكثت هناك ثلاثة أيام ، ثم خرجت وعلى يديها ذلك المولود السّعيد ، وكان أبو طالب عليه‌السلام يدعو الله متوسلا إليه بالوليد المبارك ، وهو يقول :

أدعوك ربّ البيت والطّواف

بالولد المحفوف بالعفاف

وكان يقول أيضا :

أطوف للإله حول البيت

أدعوك بالرغبة محيّي الميّت

بأن تريني الشّبل قبل الموت

غرّ نور يا عظيم الصّوت

فولادته عليه‌السلام في بيت الله الحرام فضيلة من فضائله الخاصة التي تفرد بها وامتاز بها على من سواه ممن كان قبله ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة ، وقد أجمع المؤرخون وأهل السير على أنه لم يولد في الكعبة مولود في الجاهلية أو في الإسلام غير أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

١٤٠