الآلوسي والتشيع

السيد أمير محمد القزويني

الآلوسي والتشيع

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٥

عليّا عليه‌السلام في كلّ يوم سبعين مرّة ، أو من معاوية ابن أبي سفيان الذي سنّ سبّ عليّ عليه‌السلام (١) على المنائر والمنابر ، وفي دبر كلّ صلاة ، وفي سائر الأوقات ، أو من عمران بن حطان الخارجي الّذي مدح ابن ملجم على قتله عليّا عليه‌السلام بقوله.

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها

إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البريّة عند الله ميزانا

أو من عكرمة الحروري (٢) أو من مقاتل بن سليمان الخارجي الكذاب (٣)

__________________

به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا له ، فأدخل عليه مروان بن الحكم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو الوزغ بن الوزغ ، الملعون ابن الملعون ، وعن عائشة في حديث أخرجه الحاكم وصححه على شرط البخاري ومسلم في ( ص : ٤٨٧ ) من مستدركه من جزئه الرابع ، قالت فيه : ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه ، قالت فمروان قصص من لعنه الله.

(١) أخرج مسلم في صحيحه ( ص : ٢٧٨ ) من جزئه الثاني في باب فضائل عليّ عليه‌السلام والترمذي في سننه عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص عن أبيه ، قال : أمر معاوية بن أبي سفيان قل لسعد : ما منعك أن تسبّ أبا تراب ، قال : أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه ، فقال له عليّ : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلّفتني مع النساء والصبيان ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنه لا نبوّة بعدي ، وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ودفع الراية له ففتح الله عليه ، ولما نزلت هذه الآية : ( نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ) دعا رسول الله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي.

(٢) يقول القاضي الجعابي في كتاب الموالي عند ذكر عكرمة : أنه دخل في رأي الحرورية من الخوارج ، وقال عليّ الأهوازي كما في ترجمة عكرمة من معجم ياقوت : إن عكرمة كان يرى رأي الخوارج ، وعن ابن أبي شيبة : أن عكرمة كذاب ، وعن ابن المسيب : أنه كذّب عكرمة.

(٣) قال الجوزجاني : كان مقاتل كذابا جسورا ، وهكذا صرح به الذهبي في ميزان الاعتدال ( ص : ٢٠٨ ) من جزئه الثاني في جرحه عكرمة ( وص : ١٩٧ ) من جزئه الثالث ، والغريب أنك ترى شيخ الحديث وأميره عند أخصام الشيعة محمّد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع المعروف عندهم يحتج بكل هؤلاء الخوارج الذين هو نفسه روى فيهم عدة أحاديث أنهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، منها ما في ( ص : ١٨٤ ) من جزئه الثاني في أواسط باب علامات النبوّة وفي بعث عليّ عليه‌السلام إلى اليمن قبل حجة الوداع ( ص : ٥٠ ) من جزئه الثالث ( وص : ١٣٠ ) من جزئه الرابع في باب قتل الخوارج والملحدين لخروجهم عن الدين ، وأما احتجاجه بهم فإنك تجده في أبواب صحيحه فراجع ( ص : ٥٢ ) من جزئه الأول في باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه ، عن عكرمة ( وص : ٦ ) من جزئه الثاني في باب أكل الربا وشاهده وكاتبه ، وقوله تعالى :

١٠١

إلى غير هؤلاء وأضعاف أمثالهم من الخوارج والنواصب من أعداء الوصي وآل النبي عليه‌السلام الّذين جعلوهم رواة حديثهم ، وأخذوا دينهم من طريقهم مما يضيق صدر هذا الكتاب عن تعدادهم ، أو يا ترى تابعوهم في انحرافهم عنهم عليهم‌السلام إلى غيرهم من الأئمة الأربعة ، فأخذوا عنهم فقههم ورجعوا إليهم في أخذ الأحكام من الحلال والحرام دون أهل البيت عليهم‌السلام إلى غير ذلك من موارد انحرافهم عن أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لو أردنا استقصاءه لملأنا به الكتب.

وإنما تلونا عليك هذا القليل من أمارات انحرافه وأخيه وغيرهما عن أهل البيت عليهم‌السلام في أحكام أفعالهم واعتقادهم لتعلم ثمة أن الرجل أراد بزعمه : ( أن أهل السنّة هم أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ) أن يدفع عن نفسه وعمن حذا حذوه ما

__________________

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا ـ يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ ) عن سمرة بن جندب ( وص : ٣١ ) من جزئه الثالث في باب غزوة الحديبية ، عن مروان بن الحكم ( وص : ٣٠ ) من جزئه الرابع في باب نقض الصور ، عن عمران بن حطان ، وغيرها من أبواب جامعه الصحيح ، ويقول ابن تيمية في آخر ( ص : ١٤٣ ) من منهاج السنّة من جزئه الرابع : وقد استراب البخاري في بعض أحاديثه ـ يعني الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ) ـ لما بلغه عن يحيى بن سعيد أن فيه كلاما فلم يخرج له ، ويقول ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب ( ص : ١٠٣ ) من جزئه الثاني في ترجمة الإمام الصادق عليه‌السلام : إن المديني سأل يحيى بن سعيد عنه ، فقال : ( في نفسي منه شيء ومجالد أحبّ إليّ منه ) على أن مجالدا هذا الّذي فضّله يحيى على الإمام الصادق عليه‌السلام ممن اشتهر بالكذب ، وأدرجه علماء أهل السنّة في عداد الضعفاء فراجع ( ص : ٤٠ و ٤١ ) من تهذيب التهذيب من جزئه العاشر ، لتعلم ثمة في أية منزلة وضع يحيى بن سعيد الخارجي الإمام الصادق عليه‌السلام وأنت ترى البخاري وابن تيمية قد بلغا في العداء لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبلغا قدّما على صادقهم جعفر بن محمّد عليه‌السلام الخوارج والنواصب والمارقين عن الدين المرتكبين للفجور الشاربين للخمور ، والقاتلين للنفوس المحترمة ، وهم يرون بأعينهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جعل عترته أهل بيته أعدال الكتاب وقدوة لأولي الألباب ، ومع ذلك كلّه يزعم الآلوسي : ( بل الحق الحقيق أن أهل السنّة هم من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ) كذبا وتمويها ، وهيهات أن تستر السّماء بالأكمام ، وشمس الضحى بالغربال ، فإن انحراف خصوم الشيعة عن أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غيرهم من الأئمة الأربعة ، وغيرهم ممن تقدم عليهم يعرفه جنّة الأرض وملائكة السّماء ، لذا ترى ابن خلدون يقول على ما سجله محمّد إسعاف النشاشيبي في ( ص : ٣٢٩ ) من إسلامه : ( وشذّ أهل البيت عليهم‌السلام بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلّها أصول واهية ) فهل يا ترى بعد هذا يصح ما زعمه الآلوسي أنهم هم من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام دون شيعتهم المقتفين أثرهم والمنحرفين عن أعدائهم كابن خلدون ، وابن تيمية ، والبخاري وأضرابهم من مناوئيهم عليهم‌السلام.

١٠٢

يترتب على انحرافهم عن أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الضلال والهلاك كما نصّت عليه أحاديث الفريقين المتواترة ، لا أنهم على الحقيقة تابعون لهم ، وقد عرفنا عدائهم لهم عليهم‌السلام والتزلّف إلى أعدائهم والوقيعة في شيعتهم ومواليهم ، واستسهاله نسبة الكفر إليهم لأنهم يوالون الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعادون معاديهم ، كما هو الظاهر الواضح بين نبرات قلمه مما لا سبيل إلى إنكاره ، ولو كان صادقا في دعوى المتابعة لهم عليهم‌السلام لكان أول الداعين إليهم والمنوهين بفضلهم والمبتعدين عن أعدائهم المقاتلين لهم عليهم‌السلام والدافعين لهم عليهم‌السلام عن مراتبهم التي رتبهم الله تعالى فيها.

بل لو صح ما زعمه من المتابعة لهم عليهم‌السلام لاهتدى بهداهم ولم ينقطع إلى سواهم من الدخلاء والأجانب ، ولما نظر إلى شيعتهم ومتابعيهم نظر العدوّ لعدوّه البغيض ، واستسهل في شأنهم كلّ شنيع وفظيع ، احتفاظا بكرامة أعدائهم ومريدي إطفاء نورهم كما تقدم البحث عنه مستوفى ، ومن حيث رأينا الأمر فيه على عكس ذلك وأنه لم يزل يسعى في كتمان فضائلهم عليهم‌السلام وإخفاء ذكرهم ، وإحياء ذكر شانئيهم كمعاوية بن أبي سفيان ، وابن النابغة عمرو بن العاص وغيرهما من القاسطين والناكثين والمارقين من أعداء أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علمنا أن ما ادعاه من الولاء لهم عليهم‌السلام كذب وانتحال لا أصل له ، إذ من المستحيل الّذي لا يمكن أن يجتمع أبدا دعوى المتابعة لهم والمتابعة لأعدائهم المنحرفين عنهم عليهم‌السلام على صعيد واحد ، ولقد فات الآلوسي أن يتمثل بقول الشاعر العربي :

تودّ عدوّي ثم تزعم أنني

صديقك إن الرأي عنك لعازب

إذ لا واسطة بين الولاية والعداوة ، كما يقول القرآن : ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ) [ البقرة : ٢٥٧ ].

ثالثا : قوله : « ولكن أين الشيعة الطغام من أولئك السّادات الكرام ».

فيقال فيه : الله يعلم وكلّ الناس يعلمون ـ سواء في ذلك العالم والجاهل ، والبر والفاجر ، والمؤمن والكافر ـ أن الشيعة الإمامية هم الّذين يهوون هوى عترة

١٠٣

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوالونهم ، ومعروفون بالانقطاع إليهم عليهم‌السلام والمتابعة لهم ، والقول بخلافتهم بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبطلان خلافة غيرهم مطلقا كما هو صريح كلّ من جاء على تعريف الشيعة من اللّغويين كتاج العروس ، ولسان العرب ، والقاموس فكيف يجوز أن يقال ذلك فيهم ، أجل إنما يصح هذا القول في الآلوسي وغيره من المنقطعين إلى سواهم والموالين لأعدائهم عليهم‌السلام والقائلين بخلافة غيرهم ، ومما يدلك بوضوح على كذب الرجل في مقاله وعدم رجوعه فيه إلى دين وعقل ما حكاه كبير علماء خصوم الشيعة ابن خلكان في ( ص : ٣٥٠ ) من وفيات الأعيان في ترجمة : ( عليّ بن جهم ) وإليك نصّ قوله : ( وكان عليّ بن جهم مع انحرافه عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وإظهار التسنن مطبوعا مقتدرا على الشعر ) وأنت ترى من خلال هذه العبارة أن معنى التسنن هو الانحراف عن عليّ وبنيه الطاهرين عليهم‌السلام فكيف يزعم هذا الخرّاص أنه هو وإضرابه من المنحرفين عن أهل البيت عليهم‌السلام طبعا من أتباع أهل البيت ، ويخالف بذلك صريح قوله وفعله وقول أئمته وفقهاء مذهبه الّذين عوّل عليهم في أخذ دينه.

أيريد الآلوسي بهذا التمويه والافتراء أن يغري العامة ويلبس عليهم الحقيقة؟

ولكن أنّى يمكن له ذلك وقد اتضح لدى العام والخاص انحرافهم عن أهل البيت عليهم‌السلام وانقطاعهم إلى غيرهم ، وأما تسمية نفسه بأهل السنّة ففي الحقيقة اسم على غير مسماه ( وتسمية الشيء باسم ضدّه ) لأن حقيقة هذه التسمية تعني متابعة السنّة النبويّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعمل على طبقها والنزول على حكمها ، وهو قد نبذها نبذا ورفضها رفضا ، وتمسّك بخلافها وأخذ بغيرها ، فالحق والحقيقة أن أهل السنّة هم الشيعة الإمامية التابعون لأهل البيت عليه‌السلام والمتمسكون بسنة جدّهم خاتم النبيّين وسيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأحاديث الثقلين ، والسّفينة ، والنجوم ، وباب حطّة المتواترة بين الفريقين ، الدالّة على وجوب انقياد الأمة بأسرها إلى أهل البيت النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرجوع إليهم في كلّ أمر ونهي وتكليف وحكم ، وأنه لا يجوز العدول عنهم إلى غيرهم أيّا كانوا ، لأن فيه أكبر محذور وهو الوقوع في الضلال والهلاك.

هذه هي عقيدة الشيعة الإمامية في أهل البيت عليهم‌السلام وهذا ما نراه واجبا عليهم من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لزوم إطاعتهم وتنفيذ أمرهم والابتعاد عن غيرهم.

١٠٤

أما الآلوسي وغيره من أعداء الشيعة فقد عدلوا عنهم عليهم‌السلام وتشبثوا بأذيال غيرهم ، ولم يكفهم هذا الانحراف حتى أوجبوا على أهل البيت الّذين قد عرفت قول الله وقول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوب انقياد الناس إليهم وامتثال أوامرهم أن يتبعوا أولئك المتقدمين على العترة النبويّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممن صفق على يده ( الخليفة ) عمر بن الخطاب (رض) وأربعة نفر من أتباعه في السّقيفة ، ومع ذلك كلّه يزعم هذا الآلوسي أنهم متّبعون لأهل البيت ، وأنهم شيعة لهم عليهم‌السلام وخصوم الشيعة أنفسهم يعلمون قطعا بانحرافهم عنهم عليهم‌السلام ورجوعهم إلى الآخرين ممن لا صلة لهم بهم ، وليسوا هم منهم عليهم‌السلام في شيء ، ولا أولئك عليهم‌السلام منهم على شيء.

رابعا : قوله : « كيف لا وأبو حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء الأعلام قد أخذوا العلم من أولئك الأئمة العظام ».

فيقال فيه : إن انحراف أبي حنيفة ومالك وغيرهما من أئمة خصماء الشيعة الّذين تقرر إجماع المتأخرين من السّلف على وجوب تقليدهم والأخذ بقولهم وحرمة ما عدا ذلك مما لا يختلف فيه اثنان من أهل البصيرة ، فإن كنت في شك من ذلك فقارن بين عقائدهم وفقههم وبين عقيدة الأئمة العظام من أهل البيت عليهم‌السلام وفقههم ، فإنك تجد انحرافهم عن الأئمة الهداة من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ماثلا للعيان بأجلى المظاهر ، وأما كونهم أخذوا العلم عن أولئك الأئمة العظام فمضافا إلى أنه أعظم شهادة من خصماء الشيعة على أفضلية أهل البيت عليهم‌السلام وأن لهم الفضل كلّه على أئمته إلاّ أنهم قابلوهم بالخلاف لهم والعدول عن علومهم عليهم‌السلام حتى لقد أصحروا بالمخالفة لهم في مختلف أعمالهم بمختلف أسفارهم.

ثم إن أراد الآلوسي من قوله : ( إنهم أخذوا العلم عنهم ) أنهم أخذوا علم الأحكام الشرعية منهم عليهم‌السلام وعملوا بها في شتى مجالات حياتهم فكذبه في هذا أوضح من أن يخفى على الأغبياء ، ويشهد لذلك مخالفة أفعالهم وآرائهم لأفعال أهل البيت وأحكامهم عليهم‌السلام والشاك في ذلك مكابر متعصب مبطل ، وإن أراد أنهم تعلّموا العلم منهم وتلمذوا عليهم فهو وإن كان صحيحا إلاّ أن ذلك لا يدل

١٠٥

على إتباعهم لأولئك الأئمة العظام عليهم‌السلام لأنه أعم منه والعام لا يدل على إرادة الخاص ، لا سيما قد أعلنوا مخالفتهم لهم عليهم‌السلام في سائر شئونهم الاعتقادية والعملية ، لأن مجرد أنهم طلبوا العلم والتعلّم منهم لا يوجب كونهم متّبعين لهم في شيء بعد ثبوت انحرافهم عنهم ، واختراعهم أحكاما من عند أنفسهم حسبما يؤدي إليه آراؤهم وأهواؤهم ، زاعمين أنهم مجتهدون فيها تاركين وراءهم تلك التعاليم القيمة والأحكام العالية ، أحكام الله المتعلقة بحلّ مشكلات الدين والدنيا التي أخذوها عن صادق أهل البيت عليهم‌السلام الإمام جعفر بن محمّد عليه‌السلام ضاربين بها عرض الجدار ، ومقيمين أركان آرائهم وأحكامهم على رواية الضعفاء ، وسوانح الأقيسة والظنون ، التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد طعن الخطيب البغدادي في عقيدة أبي حنيفة وفي دينه ، على ما جاء تسجيله في تاريخ بغداد ( ص : ٣٩٣ ) إلى ما بعدها من جزئه الثالث عشر ، ويقول الغزالي كما في ( ص : ١٠٦ ) من كتاب غاية الكلام لمحمّد بشير الدين القنوجي : ( إن أبا حنيفة قلب الشريعة ظهرا لبطن ، وشوّه مسلكها ، وخرم نظامها ) فراجع ثمة حتى ترى ما سجله علماء أهل السنّة في قدح أبي حنيفة الّذي يرجع إليه الآلوسي في أخذ دينه.

الآلوسي ونهج البلاغة

قال الآلوسي ( ص : ٢٦ ) : بعد أن عزا إلى الشيعة ما من شأنه الكذب : « أنهم ـ أي الشيعة ـ ينسبون إلى الأمير من الروايات ما هو بريء منها ، ويحرفون ما ورد عنه ، فمن ذلك نهج البلاغة الّذي ألّفه الرضي وقيل المرتضى ، فقد وقع فيه تحريف كثير ، وأسقط منه العبارات حتى لا يكون به مستمسك لأهل السنّة ».

المؤلف : أولا : كان اللاّزم على الآلوسي أن يذكر لنا رواية واحدة ترويها الشيعة الإمامية عن أميرهم وإمامهم ما هو يتبرأ منه ، ومن حيث أنه لم يأت على ذكر شيء من ذلك وإنما ألقى الكلام على عواهنه مبهما ، فقد علمنا أنه كذب وانتحال لا أصل له ، ثم يقال له : أترى أنهم رووا ما سجّله مسلم في صحيحه ( ص : ٩١ ) في باب حكم

١٠٦

الفيء من جزئه الثاني : « قال عمر لعليّ عليه‌السلام والعباس (رض) فقال أبو بكر ، قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نورّث ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ، ثم توفي أبو بكر ، قلت أنا ولي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا ) وأخرجه البخاري في صحيحه في أوائل ( ص : ١٢ ) من جزئه الثالث في باب حديث بني النضير ومخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فراجع ثمة حتى يتجلّى لك بوضوح صحة نسبة سائر الخطب المروية في نهج البلاغة إلى الأمير عليه‌السلام لا سيّما الخطبة الشقشقية التي ذكر فيها تظلّمه من القوم لأخذهم حقّه ودفعهم عن مقامه الّذي أقامه الله تعالى فيه بعد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد اعترف غير واحد من أعلام أهل السنّة بصحة نسبتها إليه عليه‌السلام فمنهم : ابن أبي الحديد الحنفي المذهب المعتزلي العقيدة في شرحه ، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة في الإمامة والسياسة ( ص : ٩ ) من جزئه الأول ، وهو مات قبل أن يتولد أبو السيّد الرضي ، وأبو هلال العسكري في كتاب الأوائل ، فلا سبيل إلى الإنكار.

ثانيا : قوله : « وقد وقع فيه تحريف كثير ».

فيقال فيه : على المسلم الناقد أن يبيّن مورد ما ينتقده وإلاّ فقد قال الكافرون إن كتاب الله سحر ، وقال آخرون أساطير الأولين ، وقال خصوم الشيعة وقع فيه تحريف ، فهل يا ترى ترك المسلمون كتاب ربهم لأن الكافرين يقولون بسحره ، أو يا هل ترى أوجب ذلك وهنا في كتاب الله ، أم أنهم قوم يجهلون وهو واحد منهم ، فإنه يزعم وقوع التحريف في النهج ، فكان لزاما عليه أن يبيّن لنا ذلك بأسانيد تفيد العلم ، وإلاّ فمجرد اشتماله على ثلب أوليائه ممن لا يرضى بثلبه لا يقال إن فيه تحريفا ، لا سيّما إذا كان هناك ما يشهد لصحته من صحيح الأحاديث ، ومن حيث أنه لم يأت على شيء من ذلك علمنا أن ذلك لا أصل له.

ثالثا : قوله : « وأسقط منه العبارات حتى لا يكون به مستمسك لأهل السنّة ».

فيقال فيه : إنه مدخول من وجوه : الأول : أن دعوى أنه أسقط منه العبارات من الدعاوى المجردة التي لا يقودها شيء من البرهان ، وإلاّ كان عليه أن يبيّن لنا تلك العبارات المزعوم إسقاطها منه ، نعم لما كانت تلك العبارات التي يزعم هذا

١٠٧

سقوطها بتقدير صحة هذا الزعم لم تكن من نهجه مطلقا ، علمنا أن إسقاطها كان كسقوط ما يتمسك به لإثبات باطله.

الثاني : إن عدم وجدان جامعه لأكثر من ذلك لا يصح أن يقال فيه أنه أسقط منه العبارات ، ولو كان يوجد غير ما جمعه لعثر عليه ، لا سيّما أن الجامع له قد بذل منتهى ما في وسعه وجهده من قوة في سبيل تأليف شتاته وجمع متفرقاته ، فلم يعثر على غير ما نجده بين دفتي النهج ، فعدم وجدانه لأكثر من ذلك وإن كان لا يدل على عدم وجوده واقعا ، ولكن لا يصح أن يقال فيه إنه أسقط منه العبارات على حدّ تعبيره.

الثالث : من أين علم خصم الشيعة أن في غير ما عثر عليه جامعه دليلا ومستمسكا لتصحيح ما يبتغيه؟ أو ليس من الجائز أن يكون ذلك بعد فرض وجوده دليلا ومستمسكا لخصمه الشيعي وحجّة له عليه لا له ، ويؤيد الأخير ـ بل يعينه ـ ما ورد عنه عليه‌السلام في النهج في إبطال مذهبه وفساد خلافة من تقدم عليه ، وأنهم أخذوها من أهل البيت عليهم‌السلام غصبا ، ويدلك على هذا احتجاجه عليهم عند إبائه من البيعة فراجع ( ص : ١١ و ١٢ ) من الإمامة والسياسة لعبد الله بن مسلم بن قتيبة المطبوع بمطبعة مصر ، وغيره من أهل السير والتواريخ ممن جاء على ذكر البيعة كالطبري ، وابن الأثير في تاريخيهما ، وابن عبد ربه في العقد الفريد وغيرهم من علماء أهل السنّة ، لتعلم أن غير الموجود من كلماته الشريفة في النهج والتي لم يعثر عليها جامعه إنما يصلح دليلا ومستمسكا لخصوم الآلوسي على فساد مذهبه ، لا مستمسكا له على مذهبه في شيء لو صحت مزعمته.

رابعا : قوله : ( مع أن ذلك أمر ظاهر ).

فيقال فيه : إنك قد عرفت ظهور ذلك في خلاف ما يريد ، وأن ما جاء به معكوس عليه ، ودليل لخصمه الشيعي ، ولا شاهد له فيه على صحة مذهبه بل هو شاهد على بطلانه.

ثم أن أهل المعرفة بصياغة الكلام البليغ من ذوي الثقافة والعلم كلّهم لم يعلموا ما فيه من التحريف وإسقاط العبارات ، إلاّ هذا الآلوسي الّذي لم يعتمد في علمه إلاّ على العصبية الأثيمة المتمثلة في كلامه بأجلى مظاهرها.

١٠٨

حكاية الحجاج بن يوسف الثقفي

قال الآلوسي ص : (٢٩) : « ومن مكايدهم أنهم يذكرون في كتب التأريخ حكايات موضوعة ، ومن تلك حكاية السّعدية مرضعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنها قدمت على الحجاج الثقفي في العراق ، وجرى بينها وبينه حديث فيه تفضيلها لعليّ على الأنبياء عليهم‌السلام وقالت في بعض ما خاطبت به الحجاج : وأي فضل لأبي بكر وعمر (رض) حتى أفضّل عليّا عليه‌السلام عليهما ، وإنما أفضله على آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام فاشتدّ حينذاك غضب الثقفي ، فطلب منها أن تثبت ما ادّعت وإلاّ قطّعها إربا إربا ، ثم إنه سرد احتجاجها ، وقال : انتهت الحكاية المكذوبة والقصة الأعجوبة التي لا يخفى ما فيها من البطلان على الصبيان ».

وسنشير إلى ذلك عند تفنيدنا لمزاعم هذا الآلوسي الّذي حاول بها إبطال احتجاجها على الثقفي ، إلى أن قال الآلوسي ( ص : ٣٥ ) : « كما لا يخفى على من تصفح كتب التأريخ والسير فإنها لم تدرك زمن الخلفاء (رض) بل اختلف في أنها أدركت زمن البعثة وآمنت بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم إنّا إذا راجعنا إلى ما نسبوه إلى حليمة من الشبهات وهاتيك الدلائل الواهيات وجدناها كسراب ، وذلك من وجوه ، أما أولا : فلأن تفضيل الأمير عليه‌السلام على الأنبياء عليهم‌السلام لا سيّما على أولي العزم خلاف ما عليه العقلاء من سائر أهل الأنام ، فضلا عن ملّة الإسلام ، فإن الوليّ لا يصل إلى مرتبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ شريعة من الشرائع ، ونصوص الكتاب على تفضيل الأنبياء عليهم‌السلام على جميع خلق الله.

وأما ثانيا : فلأن تلك الإحتجاجات مبنية على ملاحظة مناقب الأمير عليه‌السلام مع زلاّت الأنبياء عليهم‌السلام ولو لوحظت مع كمالاتهم ومناقبهم لخفيت على الناظر ، ومع ذلك يلزم عليهم أن الأمير عليه‌السلام وأبا ذر ، وعمار بن ياسر ، وسلمان وغيرهم من الصحابة أفضل من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نظرنا إلى ما ورد في حقهم من الآيات المشعرة بمدحهم مع ما ورد من معاباته عليه‌السلام ( وعلى آله ) في عدة مواضع ولا يقول ذلك عاقل.

١٠٩

وأما ثالثا : فلأن آدم عليه‌السلام أبو البشر وأصل النوع للإنسان ، فكلّ ما يحصل لأولاده من الفضائل والأعمال الصالحة فهي عائدة إليه ، نعم خرج أولو العزم لخصوصيات أكرمهم الله تعالى بها.

وأما رابعا : فلأن الأزواج لا دخل لهن في المفاضلة ، لأن الأمور العارضة لا دخل لها في الفضل الذاتي والكمال الحقيقي ، وإنما المناط بالأمور الذاتية والصفات الحقيقية ، فتفضيل زوجة عليّ عليه‌السلام على زوجة نوح عليه‌السلام غير مستلزم لتفضيل عليّ عليه‌السلام ألا ترى أن زوجة فرعون كانت أفضل من زوجة نوح ولوط عليه‌السلام وكذا زوجة الأمير عليه‌السلام أفضل من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا قائل بالتفضيل.

وأما خامسا : فلأن حديث : « لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا » موضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة عند الفريقين ، وعلى فرض تسليم صحته فهو غير مفيد للتفضيل ، لأن معناه لو رفعت الأحجبة عن وجه الواجب جلّ شأنه لازداد على اليقين الحاصل لي بوجوده وصفاته الكاملة وكمال قدرته ، وإبراهيم عليه‌السلام كان في ذلك أعلى كعبا من الأمير عليه‌السلام.

وأما سادسا : فلأن الأمير عليه‌السلام كان يعلم أنه صبي ، وعداوة الكفار له ليست بالذات ، فلا طمع لهم في قتله ، ومع ذلك فقد أخبره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الكفار لن يضروه إن هو نام على فراشه ، فزيادة إيمانه بذلك القول كان سببا لاطمئنانه ، بخلاف موسى عليه‌السلام فإنه ما كان له شيء من ذلك بل كان الغالب على ظنه حسب العادة أن فرعون يقتله.

وأما سابعا : فلأن سليمان عليه‌السلام كما صرح المرتضى في كتابه ( تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ) إنما طلب ذلك الملك ليكون له معجزة على نبوته ، وشرط المعجزة ألاّ يكون للغير قدرة عليها ، ولا مزية للأمير عليه‌السلام في تطليقه الدنيا عليه عليه‌السلام على أن طلب الملك لا ينافي التطليق ، ألا ترى أن الأمير طلب الخلافة بعد ذلك لأن مثله وأمثاله من الرجال إنما يطلبون المال والملك للجهاد في الدين ، مع أن ترك الدنيا على الإطلاق ليس محمودا في الدين

١١٠

المحمّدي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو كان على إطلاقه موجبا للتفضيل لزم أن يكون الرهبان وأمثالهم أفضل من سليمان ويوسف عليه‌السلام.

وأما ثامنا : فلأن تعزير الأمير عليه‌السلام للمغالين في محبته لا يوجب تفضيله على عيسى عليه‌السلام لأن المغالين في حبّ الأمير عليه‌السلام قد أظهروا الكفر والفسق بمرأى منه ومسمع فتمكن من الانتقام منهم ، وغلاة عيسى عليه‌السلام الّذين كانوا قائلين بالتثليث ظهروا بعد أن رفع إلى السّماء وفي القرآن : ( قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ ) [ المائدة : ٧٢ ] فردّ عليهم ما زعموه ووبخهم غاية التوبيخ.

وأما تاسعا : فإن ما ذكر في ولادة عيسى عليه‌السلام غلط محض وكذب صريح ، لأن الأصح أن مولده بيت لحم ، وقيل فلسطين ، وقيل مصر ، وقيل دمشق ولم يقل أحد من المؤرخين إن مريم عليهم‌السلام قد جاءها المخاض في المسجد الأقصى ، ولئن سلّم ذلك فمن أين علم أنها أخرجت بالوحي ، وأما القول بأنه قد أوحي إلى فاطمة بنت أسد بأن تضع في الكعبة فقول يضحك الثكلى وتضع منه الحبلى ، والصحيح في ذلك أن عادة الجاهلية أن تفتح باب الكعبة في اليوم الخامس عشر من رجب ويدخلون جميعهم للزيارة ، وكانت العادة أن النساء يدخلن قبل الرجال بيوم أو يومين ، وقد كانت فاطمة قريبة الوضع فاتفق أن ولدت هناك ، على أن ولادة الأمير عليه‌السلام في الكعبة لو أوجبت تفضيله على عيسى عليه‌السلام لأوجبت تفضيله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا قائل به ، لأوجبت تفضيل حكيم بن خزام بن خويلد ابن أخ أم المؤمنين خديجة عليهم‌السلام على سائر الأنبياء عليهم‌السلام وقد ولد في الكعبة وبطلان ذلك غير خفي ».

المؤلف : وأنت تجد أيها القارئ خلال هذه المزاعم المطلقة التي لا يقودها إلاّ القول الكذب من البغض لعليّ عليه‌السلام والجحد لفضائله وجوها من الفساد :

القصص التأريخية لا يحكم بكذبها مطلقا

الوجه الأول : قوله : « إنهم يذكرون في كتب التأريخ حكايات موضوعة وخرافات عجيبة ».

١١١

فيقال : إنما يحكم بوضع الحكايات التأريخية المدونة في كتب التأريخ والسير من أي ملّة ودين إذا خالفت قرآنا محكما ، أو سنّة قطعيّة ، أو إجماعا ثابتا ، أو دليلا عقليا قاطعا وإلاّ مجرد كونها مخالفة لهوى النفس لا يصلح دليلا للحكم على بطلانها ولا تدليلا على فسادها ، فضلا عن كونها شنيعة ـ كما يزعم وأخوه ـ والحكاية المذكورة سالمة من ذلك كلّه كما يأتي ، ومن المعلوم أن الّذي دفع الآلوسي إلى إنكار ما تضمنته هذه الحكاية التأريخية ، وحرّكت عضلاته المرتعشة ، وأثارت غضبه فجعلته يهذي هذيان المحمومين ، اشتمال هذه الحكاية على تفضيل عليّ عليه‌السلام إمام الأمة بعد أخيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أوليائه ، لذا ترى روح العداء لعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ماثلة في يراعه ومنطقه.

الوجه الثاني : قوله : « انتهت الحكاية المكذوبة والقصة الأعجوبة ».

فيقال فيه : أولا : إن الظاهر من قول هذا الرجل ، وهو : ( أنهم يذكرون في كتب التأريخ حكايات موضوعة ومن ذلك حكاية حليمة السّعدية ) أن هذه الحكاية بما هي حكاية تاريخية مكذوبة وموضوعة ، والّذي يظهر من كلامه أخيرا أن ما فيها مكذوب ، فهي إنما صارت مكذوبة عنده وأعجوبة لديه لما فيها من تفضيل عليّ عليه‌السلام على الخلفاء الثلاثة (رض) لا من حيث تفضيلها له على الأنبياء عليهم‌السلام فإن تفضيلها له على الأنبياء عليهم‌السلام أهون عند ( الشيخ ) من تفضيلها له عليه‌السلام على خلفائه (رض) لذا تراه تصدّى لتفنيد ما فيها بوجوه تكاد إذا نفخت لها تذوب.

ثانيا : أن الظاهر المشهور بين أمناء التأريخ ثبوت هذه الحكاية عن ابنة حليمة السّعدية ـ وأظنها حرّة ـ وإنما نسب الحكاية إلى أمها ليوهن به جانب القصة ، ويحكم بوضعها بدعوى عدم وجودها في عصر الثقفي على ما حكاه من تاريخ حياتها ، وهبها لم تكن موجودة وأن الحكاية موضوعة كما يدّعي ، فلما ذا يا ترى شمّر عن ساعديه ، وبذل كلّ ما في وسعه وجهده لإبطال ما فيها؟ وجاءنا بأمور تجهض الحبلى منها ، وأقبح من ذلك وأطم أن يحسب أولئك الّذين قرضوا

١١٢

كتابه أن أبحاثه ذات قيمة ، مؤسسة على أساس رصين من الحكمة ، وهي في الحقّ ليست إلاّ شعر شعرور أو شويعر أو متشاعر (١) لا تليق إلاّ بمثل ذلك الكتاب الخارج عن الإعتبار في أعين الناس.

وعقيدتي أن الآلوسي وغيره لو عارضوا عاميّا من الشيعة بما جاء به في كتابه من الأضاليل المنكرة والمزاعم الفاسدة ، لاستطاع ذلك العاميّ على ردّها وتفنيدها بكلّ سهولة ، فكان من اللاّزم عليه قبل تحريره أن يلقي آراءه وسخافات أحلامه على عوام الشيعة ، فإن وجدهم قادرين على ردّها وتزييفها كان ذلك كاف في ردعه وتنبيهه على ألاّ يضيّع شطرا كبيرا من عمره ، وقسطا وافرا من أمواله في سبيل تحريره ونشره ، إذ ما الفائدة في مزاعم وآراء يستطيع العوام على تفنيدها ، وإلاّ فليكتب ما يشاء بأمانة وأدب كي لا يكون موضعا للسخرية والاستهزاء بين طبقات ذوي الثقافة والفضل ولا أضحوكة الدهر بينهم ، فالآلوسي لم يحافظ على هذا الأصل الأصيل في كتابه ولم يعتدل في مشيه ، وكان كمن يمشي والقيد في رجليه فجاء بخرافات التقطها من وراء بعض الدجالين الّذين يرون الركض وراء كلّ بلية كياسة ، ثم هو لم يبرهن على بطلان ما في الحكاية كما يبرهن العقلاء على بطلان الأشياء بل كلّ ما هنالك استغرابات واستبعادات ودعاو مجردة عن الدليل ، وحكايات خالية إلاّ من الإفك والسباب ، خال الاستناد عليها يكون دليلا على ردّها ، وإذا ما كشفنا لك عنها تعلم أنها كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.

الوجه الثالث : قوله : « أما أولا فلأن تفضيل الأمير على الأنبياء لا سيما على أولي العزم خلاف ما عليه العقلاء ».

فيقال فيه : وأنت لا ترى في هذه المزعمة ما يدل على بطلان تفضيله عليه‌السلام عليهم عليه‌السلام سوى دعواه كون ذلك خلاف ما عليه العقلاء ومع ذلك ، فنقول له :

__________________

(١) الشعرور بضم الشين : الشاعر الضعيف جدا ، ودونه الشويعر ، ودون الشويعر متشاعر ، هكذا سجّله الفيروزآبادي في قاموسه المحيط في ( ص : ٥٩ ) من جزئه الثاني في مادة ( شعر ).

١١٣

إن أراد من العقلاء نفسه ومن كان مثله من المخبولين فإنا لا نشك في أنهم من الجهلاء الّذين يتقحمون فيما لا يعرفون ويفسدون ولا يشعرون ، وإن أراد من العقلاء غيرهم من المسلمين فالمسلمون لا يشكّون في أن عليّا عليه‌السلام أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام إلاّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس عند العقل ما يمنع ذلك مطلقا ، ثم أن الحكم بتفضيل شيء على آخر يدور مدار المعرفة والإحاطة بفضل كلّ من الأفضل والمفضول ، وليس للإنسان أن يحكم على ما في باطن الغيب ما لم يطّلع عليه ، ولا يصح أن يبدي رأيه فيه ما لم يحط به علما ، وتفضيل بعض الأنبياء عليهم‌السلام على بعض كتفضيل بعض الأولياء على بعض الأنبياء عليهم‌السلام لا يعلمه إلاّ الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس لغير الله وغير رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبله تعالى أن يطّلع عليه أو يحيط به حتى يحكم فيه بنفي أو إثبات ، ولمّا كان أمر التفضيل راجعا إلى الله تعالى كان تعيين الأفضل من قبله ، وإن كان ثمة من هو أفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام إلاّ رسول الله محمّد بن عبد الله خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام بنصّ كتاب الله ، قال تعالى في آية المباهلة : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) [ آل عمران : ٦١ ] ولا خلاف بين الأمة في أن المراد من : ( أَنْفُسَنا ) في الآية الكريمة نفس عليّ عليه‌السلام (١) ولا جائز أن يريد أن هذه النفس هي عين تلك النفس بما هي على نحو الحقيقة لأنها قطعا هي غيرها ، وإنما يريد أن هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك ما يقضي بالمشاركة والمساواة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ شيء نزولا على حكم عموم المنزلة والمشاركة في صريح الآية ، إلاّ أننا تركنا العمل بذلك

__________________

(١) راجع ( ص : ٢٧٨ ) من صحيح مسلم من جزئه الثاني في باب فضائل عليّ عليه‌السلام وحكاه ابن حجر في صواعقه ( ص : ٧٢ ) في الفصل الأول من الباب التاسع في فضائل عليّ عليه‌السلام في الحديث الثالث ، وأخرجه جماعة آخرون من حفاظ أهل السنّة ومفسريهم ، منهم : البيضاوي في تفسيره ( ص : ٢٢ ) من جزئه الثاني ، وابن جرير الطبري في تفسيره ( ص : ١٩٢ ) من جزئه الثالث ، والخازن في تفسيره ( ص : ٣٠٢ ) من جزئه الأول ، والنيشابوري في تفسيره بهامش الجزء الثالث من تفسير ابن جرير ( ص : ٢٠٦ ) والفخر الرازي في تفسيره الكبير عند تفسيره للآية ، وابن حجر العسقلاني في إصابته ( ص : ٢٧١ ) من جزئه الرابع في ترجمته لعليّ عليه‌السلام والبغوي محيي السنّة عند أهل السنّة في ص : (٣٠٢) من تفسيره بهامش الجزء الأول من تفسير الخازن ، وجلال الدين السيوطي في الدر المنثور عند تفسيره للآية ، وقد أجمع كلّهم على أن المراد من : ( أنفسنا ) هو نفس عليّ عليه‌السلام لا غير فلتراجع فإنه متواتر.

١١٤

العموم في حق النبوّة والفضل بالنسبة إلى خصوص سيّد الأنبياء عليه‌السلام لقيام الدليل القطعي على أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان نبيّا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ عليه‌السلام لم يكن كذلك ، ولانعقاد الإجماع القطعي على أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أفضل من عليّ عليه‌السلام فيبقى ما عدا ذلك من العموم معمولا به ، ومن ذلك ما ثبت بإجماع الفريقين أن نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من نفوس جميع الأنبياء عليهم‌السلام والمرسلين عليهم‌السلام فيجب أن يكون نفس عليّ عليه‌السلام أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام نزولا على عموم ذلك الحكم فيما عدا ما خرج عن عمومه من الفضل والنبوّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة.

فلو لم يكن عليّ عليه‌السلام أفضل منهم عند الله ، لما جعل الله نفسه عليه‌السلام كنفس نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآتاه من الفضل ما لم يؤت أحدا من العالمين بعد نبيّه وصفيّه خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعمري إن هذه الآية من أقوى الأدلة على أفضليته عليه‌السلام منهم عليه‌السلام وهي تكفي لقلع جذور إنكار الآلوسي تفضيله عليه‌السلام عليهم عليه‌السلام.

استلزام قول الآلوسي الكفر

الوجه الرابع : قوله : « فإن ذلك خلاف ما عليه العقلاء ».

فيقال فيه : إن الآلوسي يكتب ولا يدري ما يكتب ، فهو يكتب بدافع من عصبيته البغيضة ، لذا تراه أورد هذه الكلمة دون أن يشعر بما تنطوي عليه من الكفر والنفاق ، لأنه إن كان ثمة من يقول بأفضلية عليّ عليه‌السلام من سائر الأنبياء عليه‌السلام بعد كتاب الله هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلى زعمه أن أعقل العقلاء وأفضل الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ ما كان من العقلاء حينما فضّله عليه‌السلام عليهم عليه‌السلام في حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي يرويه المؤالف والمخالف ـ وهو من الأحاديث المقبولة عند الفريقين ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحا في طاعته ، وإبراهيم في خلّته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب ) (١) وهو نص لا يقبل التأويل في أن عليّا عليه‌السلام كان

__________________

(١) أخرج هذا الحديث جماعة من أعلام أهل السنّة وثقاتهم ، منهم الفخر الرازي في تفسيره الكبير ( ص : ٤٧٢ ) من جزئه الثاني عند تفسير آية المباهلة ، ومنهم محبّ الدين الطبري في الرياض النضرة ـ

١١٥

جامعا لجميع الفضائل المتفرقة فيهم عليهم‌السلام وذلك أقوى دليل وأمتن برهان لمن لم يتسربل بسربال العصبية ، ولم يزل عقله بتيار الجهل والعمى على أفضلية عليّ عليه‌السلام من جميع الأنبياء عليهم‌السلام والفخر الرازي مع ما اشتهر عنه من التشكيك في الأمور البديهية حتى سمي : سيّد المشككين ) لم يناقش في صحة هذا الحديث ولم يناقش في دلالة الآية على ذلك ، ولكن زعم انعقاد الإجماع على : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل ممن ليس بنبيّ ، وأجمعوا على أن عليّا ما كان نبيّا ، فيلزم القطع بأن عليّا ليس بأفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام هذا تقرير كلام الرازي.

ولكن كان على الرازي أولا : أن يحكي لنا ذلك الإجماع على صحة كبرى قياسه بأسانيد تفيد العلم ، كما هو الشرط المعتبر في حجيّة الإجماع عند علماء الأصول ، وإلاّ فمجرد دعوى الإجماع على ذلك لا يثبت فتيلا. ثانيا : أن دعوى الإجماع على هذه الكلية من أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإطلاق يكون أفضل ممن ليس بنبيّ لا سند له لا من الكتاب ولا من السنّة ، فهي أشبه بدعوى الإجماع على خلافة أبي بكر (رض) التي لا سند لها لا في القرآن ولا في سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذا فإن الشيعة لا تعرف هذا الإجماع وتنكره. ثالثا : أن الحديث المتقدم سابق على الإجماع المدّعى لوضوح دلالته على بطلان تلك الكلية فيتعين الأخذ به ، فنحن لا نرفع اليد عن عموم الآية ودلالتها القوية على أفضلية عليّ عليه‌السلام من جميع الأنبياء عليهم‌السلام بما فيهم أولو العزم ـ كما يقتضيه صريح الحديث ـ ولا نعدل عنه لأجل الدعاوى المجردة ، ألّلهم إلاّ إذا رجعوا في تخصيص عموم الآية إلى بغض الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قول محمّد عبده في آية المباهلة وفساده

نعم يقول محمّد عبده فيما حكاه عنه تلميذه محمّد رضا صاحب منار الخوارج : إن الروايات متفقة على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة

__________________

( ص : ٢١٨ ) من جزئه الثاني ، عن جماعة من الصحابة ، وأخرجه أيضا في ذخائر العقبى من الطبعة الأولى بمصر القاهرة ، عن جماعة من حملة العلم والحديث من أهل السنّة ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ( ص : ١٤٦ ) من جزئه الثالث ، والذهبي في تلخيصه وصححاه على شرط البخاري ومسلم ، وغيرهم من حفاظ أهل السنّة.

١١٦

وولديهما عليهما‌السلام ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف ، ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية ، فإن كلمة : ( نساءنا ) لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ، ولا يفهم هذا من لغتهم ، وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا عليّ.

ونحن نقول في جوابه : ألا هلمّ فاستمع أيها الناقد البصير ـ وما عشت أراك الدهر عجبا ـ فإن تعجب فعجب قول محمّد عبده : ( ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية وأن مصادرها الشيعة ) لأنك قد عرفت أن مصادرها حفاظ أهل السنّة وكبار مفسريها المعول عليهم في الحديث والتأريخ والتفسير ، تجاهل عنها محمّد عبده وتلميذه ليبنيا على تجاهلهما هذا الرأي السخيف ، وما ذنب الشيعة إذا قصدوا بذلك نشر الحقيقة التي أخفاها الدجالون تبعا للعصبية الجاهلية فغيروا دين الله بأمور تافهة ، وكتموا حقائق شريعته ، وفي القرآن يقول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ) [ البقرة : ١٦٠ ].

وأما قوله : فإن كلمة : ( نساءنا ) ( لا يقولها العربي ويريد بها بنته ) فدليل الجاهل أو المتجاهل بلغة العرب الّذي لم يعرف شيئا من لغتهم وموارد استعمالاتهم وذلك لصدق النساء على البنات في لغتهم ، وإليك قول الله العربي المبين : ( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) [ النساء : ١١ ] فإنه يريد البنات بالإجماع لأنهن من أفراد النساء ، فعلى زعم محمّد عبده وتلميذه أن القرآن ليس عربيا ، وأن الله تعالى لا يعرف لغة العرب فأطلق ما لا يفهمون وكلف ما لا يعرفون ، وهم عرفوا ذلك فأنكروا عليه هذا الإطلاق ، نعوذ بالله من الكفر والهذيان ، وبغض الوصيّ وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ويقول الكتاب : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [ يوسف : ٢ ] فمن أنكر عربية القرآن فقد خرج عن الإسلام.

وأما قوله : ( وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا نفس عليّ ) فكلمة لا ينبغي صدورها ممن ترعرع قليلا عن رتبة العوام ، ألم تعلم أيها ( الشيخ ) أن هذا الاستعمال مما شاع وذاع في كلام العرب ، كما يقول قائلهم لمحبوبه : ( أنت

١١٧

نفسي ) فإنه يريد أنه أحبّ الناس إليه وأقربهم منه منزلة وأكثرهم عنده جاها ، ولكن قاتل الله العصبية العصبية البغيضة والحقد المقيت فإنها تجعل صاحبها لا يبصر بعينه ولا يفكر بعقله ولا يفقه بقلبه ، وما أدلى به هذا ( الشيخ وتلميذه ) هنا يدلك بوضوح على صدق ما قلناه.

١١٨

الفصل الخامس

تفضيل عليّ عليه‌السلام

قوله الوليّ لا يصل إلى مرتبة النبيّ فاسد

الوجه الخامس : قوله : « إن الوليّ لا يصل إلى مرتبة النبيّ ».

فيقال فيه : من أراد أن يعرف الدعاوى المجردة والمزاعم الفاسدة فلينظر إلى مزاعمه التي أودعها كتابه ، فإنك تراه لم يعتمد فيها على غير الهوى والعصبية العمياء ، وإلاّ فمن أين علم أن الوليّ لا يصل إلى مرتبة النبيّ عليه‌السلام في كلّ ملّة ، وليس في كتاب الله آية ولا في السنّة رواية ما يصلح أن يكون مستندا له.

وبعد فإن أراد أن الوليّ لا يصل إلى مرتبة النبيّ أنه لا يصير نبيّا فله صورتان :

الأولى : أن الوليّ لا يصل إلى مرتبة النبيّ بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الأنبياء عليه‌السلام فإن أراد هذا فهو متين لا نزاع فيه ولا كلام لنا فيه.

الثانية : أن الوليّ لا يصل إلى مرتبة النبيّ قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن أراد هذا فهو ممنوع على إطلاق أشدّ المنع ؛ لأن هارون عليه‌السلام كان خليفة موسى عليه‌السلام ولو كان باقيا بعده لكان نبيّا ، فكان اللاّزم عليه ألاّ يطلق المنع إلاّ بعد العلم بأن الولي مطلقا لا يصل إلى مرتبة النبيّ ، وإن أراد من أن الولي لا يصل إلى مرتبة النبيّ في الفضل ففاسد جدا ؛ لأنا نرى أن الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فضلا عليّا عليه‌السلام على جميع الأنبياء عليهم‌السلام بما ألمعنا.

فقول الآلوسي : إن الوليّ لا يصل إلى مرتبة النبيّ من خرصه الّذي يريد به كما ضلّ هو أن يضل الناس بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، فيأتي بمزاعم يختلقها من طينته فيحسبها قذائف تهدم حصون الدين ، وتزعزع أركان الشرع

١١٩

المبين ، ولعل صاحب الكتاب اعتمد على ظن أن كتابه هذا لا يصل إلى أيدي العلماء من شيعة عليّ وبنيه عليه‌السلام فيكشفون للملإ الشاعر عواره وقبيح تشنيعاته وفساد تهاويله ، ويرجعون كلّ كيد من مكايده إلى نحره ، ويكيلون له بصاعه ، ويضعون كلّ سهم من سهامه في محلّه ، لأنه كتب ذلك وهو في بلدة من بلاد الهند وأهلها عاكفون على عبادة البقرة والأوثان والحجر ، فهم لا يفرقون بين الحجر والبقر فكيف يرجى منهم أن يفرّقوا بين الحق والباطل والهدى والضلال ، وكيف أنهم يستطيعون الوقوف على هذيان صاحب الكتاب وهذره وفساد آرائه وسوء تفكيره ، ومن كان هذا شأنهم فلا شك في أنهم جديرون بأن يتلقوا أباطيله بالقبول ويحسبوها أدلة الباحث الخبير.

الوجه السادس : قوله : « ونصوص الكتاب تنادي على تفضيل الأنبياء على جميع خلق الله ».

فيقال فيه : إن هذا العبارة إن صح خروجها فإنما تصح من فم عالم يفهم معاني الآيات ويميّز بين عموماتها ومخصصاتها ، ومطلقاتها ومقيداتها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكماتها ومتشابهاتها ، ولكنهما ما برحا من طبقة من يقرءون القرآن على غير بصيرة من أمره ، وأصحاب هذه الطبقة طبعا لا يدخلون في حساب علماء الشريعة وإن وضعوا على رءوسهم شعار أهل العلم وجلسوا مجلس العلماء بين الناس.

يا هذا إن عموم آيات تفضيل الأنبياء عليهم‌السلام على جميع خلق الله على تقدير وجوده مخصص بالدليل القاطع من الكتاب والسّنة في غير عليّ عليه‌السلام والخاص يقضي على العام ويخصصه عند العلماء ، فالأخذ بالعمومات مع وجود المخصصات لا يجوز عند علماء الدين أجمعين.

فمن المخصصات آية المباهلة التي قد عرفت صراحتها في أفضلية عليّ عليه‌السلام من سائر الأنبياء عليه‌السلام ومن السنّة ـ في الحديث المتواتر المار ذكره ـ فيكون على هذا معنى الآيات تفضيل الأنبياء عليهم‌السلام على جميع خلق الله إلاّ عليّا عليه‌السلام فإنه أفضل منهم ما عدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصريح الآية ونصّ الرواية.

١٢٠