الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

أعبد مناف كيف ترضون ما أرى

وفيكم صدور المرهفات الأواصل

فدى لكم امّي اثبتوا وثقوا بنا

وبالنضر منّا قبل فوت المحامل

متى كانت الأحساب تعدوا ثبابكم (١)

متى قرنت تيم بكم في المحافل

يجازي بها تيم عدي وأنتم

أحقّ وأولى بالامور الأوائل

وقال أيضا :

أضحت قريش بعد عزّ ومنعة

خضوعا ليتم لا لضرب القواضب

فيا لهف نفسي للذي ظفرت به

وما زال فيها فائز بالرغائب

وقال أيضا :

بني هاشم لا تطمع الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمر إلاّ فيكم وإليكم

وليس لها إلاّ أبو حسن عليّ

أبا حسن فاشدد لها كفّ جازم

فإنّك بالأمر الذي يرتجى ملي

وقال خزيمة بن ثابت رضي‌الله‌عنه يوم السقيفة :

ما كنت أحسب هذا الأمر منتقلا

عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم

وأعلم الناس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبيّ

ومن جبريل عون له بالغسل والكفن

فما الذي ردّكم عنه فنعرفه

ها أنّ بيعتكم من أغبن الغبن (٢)

وقال خزيمة بن ثابت أيضا يخاطب عائشة :

أعائش خلّي عن عليّ وعتبه

بما ليس فيه إنّما أنت والده

وصيّ رسول الله من دون أهله

وأنت على ما كان من ذاك شاهدة

وقال نعمان بن عجلان الأنصاري في يوم السقيفة يذكر عمرو بن العاص :

وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم

عتيق بن عمر وكان خلاّ أبا بكر

__________________

(١) كذا في النسخة.

(٢) كشف الغمة : ج ١ ص ٦٧ مع اختلاف يسير ، ومنه الابيات منسوبة الى العباس بن عبد المطلب.

٤٠١

فأهل أبا بكر لها خير قائم

وأنّ عليّا كان أجدر بالأمر

وكان هوانا في عليّ وأنّه

لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري

قيل : تكلّم عمرو بن العاص قادحا في الأنصار ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فدخل المسجد وصعد المنبر وذكر فضل الأنصار وما أنزل الله تعالى من القرآن وما يجب على المسلمين من إكرامهم ومعرفة حقوقهم.

فقالوا لحسّان بن ثابت : يجب أن يذكر فضل عليّ وسبقه ويذمّوا على ما كان منهم يوم السقيفة ، فقال حسّان :

جزى الله خيرا والجزاء بكفّه

أبا حسن عنّا ومن كأبي حسن!

سبقت قريشا بالذي أنت أهله

فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنّت رجال من قريش أعزّة

مكانك هيهات الهزال من السمن

وأنت من الإسلام في كلّ موطن

بمنزلة الدلو البطين من الرسن (١)

عصبت لنا إذا قام عمرو بخصلة

أمات بها التقوى وأحيا بها الإحن

وكنت الرجاء من لؤي بن غالب

لما كان فيه والذي بعد لم يكن

حفظت رسول الله فينا وعهده

إليك ومن أولى بها منك من ومن

ألست أخاه في الهدى ووصيّه

وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن

وقال قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري في يوم صفّين :

قلت لمّا بغى العدوّ علينا

حسبنا ربّنا ونعم الوكيل

حسبنا ربّنا الذي فتح البصرة

بالأمس والحديث طويل

وعليّ إمامنا وإمام

لسوانا أتى به التنزيل

حين قال النبيّ من كنت مولاه

فهذا مولاه خطب (٢) جليل

إنّ ما قاله النبيّ على الامّة

حتم ما فيه قال وقيل (٣)

__________________

(١) الرسن : الحبل ( لسان العرب ١٣ / ١٨٠ ).

(٢) الخطب : الشأن والأمر العظيم.

(٣) بحار الأنوار : ج ٣٧ ص ١٥٠ باب ٥٢ ذيل ح ٣٦ ، وليس فيه البيت الثاني.

٤٠٢

وقال الكميت بن يزيد :

ويوم الدوح دوح غدير خم

أبان له الولاية لو اطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

ولم أر مثلها خطرا منيعا (١)

وقال السيّد محمّد الحميري رحمة الله عليه :

قالوا له لو شئت اعلمتنا

إلى من الغاية والمفزع

وقال في خم النبيّ الذي

كان بما قيل له يصدع

فقال مأمورا وفي كفّه

كفّ عليّ لهم تلمع

من كنت مولاه فهذا عليّ

مولى فلم يرضوا ولم يسمعوا (٢)

وقال ابن اخت جرير بن عبد الله البجلي لجرير وهو مقيم بثغر همدان من قبل عثمان بن عفان :

جرير بن عبد الله لا تردد الهدى

ولا تأب قولي إنّني لك ناصح

فإنّ عليّا خير من وطئ الثرى

سوى أحمد والموت غاد ورائح

ودع عنك قول الناكثين فإنّما

أولاك أبا عمرو كلاب نوابح

فإن قلت لا نرضى عليّا إمامنا

فدع عنك فيه قول من هو كاشح

أبى الله إلاّ أنّه خير خلقه

وأفضل من ضمّت عليه الجوانح

فاجابه جرير بأبيات منها :

فصلى المليك على أحمد

رسول المليك تمام النعم

وصلى على الطهر من بعده

خليفته القائم المدعم

عليّا عنيت وصيّ النبيّ

تخاذل عنه غواة الامم

وكتب رجل من السكون الى الأشعث بن قيس وكان مقيما بثغر آذربيجان يحثّه على بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام :

أبلغ الأشعث المعصّب بالتاج

غلاما وقد علاه القبير

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ٣ ص ٦٨.

(٢) روى ابن شهرآشوب في مناقبه : ج ٣ ص ٣٣ بيتين منها فقط.

٤٠٣

يا ابن ذي التاج والمبجل من

كندة ترضى بأن يقال أمير

فاقبل اليوم ما يقول عليّ

ليس فيما يقوله تخيير

واقبل البيعة التي ليس للناس

سواها من أمرهم قطمير

وله الفضل في الجهاد وفي الهجرة

والدين ذاك فضل كبير

وكتب الأشعث بن قيس الى أمير المؤمنين عليه‌السلام :

أتانا الرسول الوصيّ

عليّ المهذّب من هاشم

وزير النبيّ وذي صهره

وخير البريّة والعالم.

وقاله له أيضا عليه‌السلام :

أتانا الرسول رسول الوصيّ

فسرّ بمقدمه المسلمونا

رسول الوصيّ وصيّ النبيّ

له الفضل والسبق في المؤمنينا

فكم بطل ماجد قد أذاق

ميتة حتف من الكافرينا

وفي هذه الأشعار أدلّ (١) دليل على فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنّه أحقّ بالخلافة والإمامة ممّن تقدّم عليه ، فهؤلاء الذين لهم هذا الشعر أعيان الصحابة والتابعين ، وشهادتهم بالنظم في ذلك الوقت أقوى وآكد من شهادة المتأخّرين بالنثر ، لكنّ القوم مالوا الى الدنيا فأحبّوها ودفعوا عنها أهلها وتقمّصوها.

فصل

في ذكر زوجاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أوّلهنّ : فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليها :

تزوّجها بعد وفاة اختها رقية زوجة عثمان بستة عشر يوما ، وذلك بعد رجوعه من بدر ، وذلك لأيّام خلت من شوال.

__________________

(١) في الأصل : دلّ.

٤٠٤

وروي أنّه دخل بها يوم السبت لستّ خلون من ذي الحجّة (١). والله أعلم

وقال الضحّاك بن مزاحم : سمعت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : أتاني أبو بكر وعمر فقالا : لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت له فاطمة.

قال : فأتيته ، فلمّا رآني ضحك ، ثمّ قال : ما جاء بك يا عليّ [ غير ] حاجتك.

قال : فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام ونصرتي له وجهادي. فقال : يا عليّ صدقت وأنت أفضل ممّا تذكر. فقلت : يا رسول الله فاطمة تزوّجنيها فقال : يا عليّ إنّه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها ، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك. فدخل عليها فقال : يا فاطمة. قالت : لبيك ، حاجتك يا رسول الله. قال : إنّ عليّ بن أبي طالب ممّن عرفت قرابته وفضله وإسلامه وإنّي قد سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه وأحبّهم إليه وقد ذكر من أمرك شيء فما ترين؟

فسكتت ولم تولّ وجهها ، ولم ير فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كراهة.

فقام وهو يقول : الله أكبر سكوتها إقرارها. وأتاه جبرائيل عليه‌السلام فقال : يا محمّد زوّجها من عليّ فإنّ الله قد رضيها له ورضيه لها.

قال عليّ عليه‌السلام : فزوّجني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ أخذ بيدي فقال : قم باسم الله وقل : على بركة الله وما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله توكّلت على الله. ثمّ جاءني حتى أقعدني عندها عليها‌السلام ، ثمّ قال : اللهمّ انّهما أحبّ خلقك إليّ فأحبّهما ، وبارك في ذريّتهما ، واجعل عليهما منك حافظا ، وإنّي اعيذهما بك وذرّيتهما من الشيطان الرجيم (٢).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا زوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليهما‌السلام دخل عليها وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك؟! فو الله لو كان في أهل بيتي خير منه زوّجتك ، وما أنا زوّجتك ولكن الله زوّجك وأصدق عنك الخمس وما دامت السماوات والأرض.

قال عليّ عليه‌السلام : ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ قم فبع الدرع. فقمت فبعته

__________________

(١) مصباح المتهجّد : ص ٦١٣.

(٢) أمالي الطوسي : ص ٣٩ ح ٤٤ / ١١ ط. مؤسسة البعثة.

٤٠٥

وأخذت الثمن ودخلت عليه فسكبت الدراهم في حجره ، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته.

ثمّ قبض قبضة ودعا بلالا وأعطاه وقال : ابتع لفاطمة طيبا. ثمّ قبض بكلتي يديه وأعطاه أبا بكر وقال : ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت ، وأردفه بعمّار بن ياسر وبعدّة من أصحابه فحضروا السوق فكانوا يعترضون الشيء ممّا يصلح فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر فإن استصلحه اشتروه ، فكان ممّا اشتروه قميص بسبعة دراهم ، وخمار بأربعة دراهم ، وقطيفة سوداء حبرية ، وشريط مزمّل بالشرط ، وفراشين من جنس مصر حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جزّ الغنم ، وأربعة مرافق من أدم حشوها إذخر (١) ، وستر من صوف ، وحصير هجري ، ورحا اليد ، ومخضب (٢) من نحاس ، وسقاء من أدم ، وقعب (٣) اللبن ، وشن للماء ، ومطهرة مزفتة (٤) ، وجرّة خضراء ، وكيزان خزف حتى استكمل الشراء ، وحمل أبو بكر بعض المتاع وحمل أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كانوا معه الباقي ، فلمّا عرض المتاع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل يقلّبه بيده ويقول : بارك الله تعالى لأهل البيت.

قال عليّ عليه‌السلام : فأقمت بعد ذلك شهرا اصلّي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارجع إلى منزلي ولا أذكر له شيئا من أمر فاطمة عليها‌السلام ، ثمّ قلن أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا نطلب لك من رسول الله دخول فاطمة عليك؟ فقلت : افعلن.

فدخلن عليه ، فقالت أمّ أيمن : يا رسول الله لو أنّ خديجة باقية لقرّت عينها بزفاف ابنتها فاطمة وأنّ عليّا يريد أهله فقرّ عين فاطمة ببعلها واجمع شملها وقرّ عيوننا بذلك.

قال : فما بال عليّ لا يطلب منّي زوجته فقد كنّا نتوقّع ذلك منه؟! قال عليّ : فقلت : الحياء يمنعني يا رسول الله. فالتفت الى النساء فقال : من هاهنا؟ فقالت

__________________

(١) الأذخر : حشيش طيّب الرائحة أطول من الثيّل.

(٢) المخضب : إناء تغسل فيه الثياب.

(٣) القعب : القدح الضخم الغليظ.

(٤) المزفّت : المطلي بالزفت.

٤٠٦

أمّ سلمة : أنا أمّ سلمة وهذه زينب وهذه فلانة وهذه فلانة. فقال رسول الله : هيئوا لابنتي وابن عمّي في حجرتي بيتا. فقالت أمّ سلمة : في أي حجرة يا رسول الله؟

قال : في حجرتك. وأمر نساءه أن يزيّن فاطمة ويصلحن من شأنها.

قالت أمّ سلمة : فسألت فاطمة هل عندك طيب ادخرته لنفسك؟ قالت : نعم. فأتت بقارورة فسكبت منها في راحتي فشممت منها رائحة ما شممت مثلها قطّ. فقلت : ما هذا؟ قالت : كان دحية الكلبي يدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول لي : يا فاطمة هاتي الوسادة فأطر حيها لعمّك ، فأطرح له الوسادة فيجلس عليها ، فإذا نهض سقط من بين ثيابه شيء فيأمرني بجمعه ، فسأل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فقال : هو عنبر يسقط من أجنحة جبرائيل.

قال عليّ : ثمّ قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ اصنع لأهلك طعاما فاضلا ، ثمّ قال : من عندنا اللحم والخبز وعليك التمر والسمن. فاشتريت تمرا وسمنا فحسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذراعه وجعل يشدخ التمر في السمن حتى اتخذه خبيصا (١) ، وبعث إلينا كبشا سمينا فذبح وخبز لنا خبز كثير.

ثمّ قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادع من أحببت. فأتيت المسجد وهو مشحون بالصحابة ، فأحييت أن أشخص قوما وأدع قوما ثمّ صعدت على ربوة وناديت : أجيبوا إلى وليمة فاطمة فأقبل الناس إرسالا فاستحييت من كثرة الناس وقلّة الطعام ، فعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تداخلني ، فقال لي : يا عليّ إنّي سأدعو الله بالبركة.

قال عليّ : فأكل القوم عن آخرهم طعامي وشربوا من شرابي ودعوا لي بالبركة وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل ولم ينقص من الطعام شيء.

ثمّ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصحاف (٢) فملئت ووجّه بها الى منازل أزواجه ، ثمّ أخذ صحيفة وجعل فيها طعاما وقال : هذا لفاطمة وبعلها. فانطلقت فأتت بها وهي تسحب أذيالها وقد تصببت عرقا حياء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعثرت ، فقال

__________________

(١) الخبيص : الحلواء المخبوصة من التمر والسمن.

(٢) الصحاف : جمع صحفة ، القصعة الكبيرة.

٤٠٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقالك الله العثرة في الدنيا والآخرة. فلمّا وقفت بين يديه كشف الرداء عن وجهها حتى رآها عليّ ، ثمّ أخذ يدها فوضعها في يد عليّ فقال : بارك الله لك في ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يا عليّ نعم الزوجة فاطمة ، ويا فاطمة نعم الزوج عليّ ، انطلقا إلى منزلكما ولا تحدثا أمرا حتى آتيكما. فأخذت بيد فاطمة وانطلقت بها حتى جلست في جانب الصفة وجلست في جانبها ، وهي مطرقة الى الأرض حياء منّي وأنا مطرق الى الأرض حياء منها. ثمّ جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : من هاهنا؟ فقلت : ادخل يا رسول الله مرحبا بك زائرا وداخلا. فدخل فأجلس فاطمة من جانبه وأنا من جانبه ثمّ قال : يا فاطمة آتيني بماء. فقامت الى قعب في البيت فملأته ماء ثمّ أتته به ، فأخذ منه جرعة فتمضمض بها ثمّ مجّها في القعب ، ثمّ صبّ منه على رأسها ثمّ قال لها : اقبلي ، فلمّا أقبلت نضح منه بين يديها ثمّ قال لها : ادبري ، فلمّا أدبرت نضح منه بين كتفيها. ثمّ قال : اللهمّ هذه ابنتي أحبّ الخلق إليّ ، وهذا أخي أحبّ الخلق إليّ ، اللهمّ اجعله لك وليّا وبك حفيّا فبارك له في أهله. ثمّ قال : يا عليّ ادخل بأهلك بارك الله لك ورحمة الله وبركاته عليكم إنه حميد مجيد (١).

وقال موسى بن جعفر ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام ، عن جابر بن عبد الله رحمه‌الله : لمّا زوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة من عليّ أتاه ناس من قريش فقالوا له : زوّجت عليّا بمهر خسيس؟!

فقال : ما أنا زوّجت عليّا ولكنّ الله عزّ وجلّ زوّجه ليلة اسري بي عند سدرة المنتهى أوحى الله تعالى إلى سدرة المنتهى أن انثري ما عليك ، فنثرت الدرّ والجواهر والمرجان ، فابتدر [ ت ] الحور العين فالتقطن ، فهنّ يتهادينه [ و ] يتفاخرن ويقلن هذا من نثار فاطمة بنت محمّد.

فلمّا كانت ليلة الزفاف أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببغلته الشهباء وثنى عليها قطيفة وقال لفاطمة : اركبي ، وأمر سلمان أن يقودها ، والنبيّ عليه‌السلام يسوقها. فبينما هو في بعض

__________________

(١) أمالي الطوسي : ص ٤٠ ح ٤٥ / ١٤.

٤٠٨

الطريق إذ سمع دحية ، فإذا هو بجبرائيل في سبعين ألفا وميكائيل عليه‌السلام في سبعين ألفا ، فقال عليه‌السلام : ما أهبطكم الى الأرض؟ قالوا : جئنا نزفّ فاطمة الى زوجها عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. فكبّر جبرئيل وكبّر ميكائيل وكبّر الملائكة وكبّر محمّد ، فوقع التكبير على العروس من تلك الليلة.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : تبنيت بابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما قليت ولا قليت ، ولا عضلت بولد ، ولا ولدت إلاّ طاهرا (١).

ثمّ تزوّج بعد فاطمة عليها‌السلام خولة الحنفية.

روى جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنت إلى جنب أبي بكر وقد طلع سبي بني حنيفة ، وكانت فيه جارية مرهقة ، فلمّا دخلت المسجد قالت : يا أيّها الناس ما فعل محمّد؟ قالوا : قبض. قالت : فهل له بيت يقصد إليه؟ قالوا : نعم هذا قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فنادت : السلام عليك يا أحمد يا محمّد يا رسول الله ، أشهد أنّك تسمع كلامي وتقدر على جوابي وإنّا سبينا من بعدك ، وإنّا نقول لا إله إلاّ الله وإنّك رسول الله ، وجلست. فوثب إليها رجلان من المهاجرين أحدهما طلحة والآخر الزبير فطرحا ثوبيهما عليها. فقالت : ما بالكم معشر العرب تصونون حلائلكم وتهتكون حلائل الغير؟ فقالوا : لمخالفتكم حين تقولون نزكّي ولا نصلّي أو نصلّي ولا نزكّي ، وقد طرحنا ثوبينا عليك لنتغالى في ثمنك. فقالت : أقسمت بالله ربّا وبمحمّد نبيّا لا يملك رقبتي إلاّ بما رأت امّي وهي حامل بي؟ وما قالت عند الولادة؟ وما العلامة التي بيني وبينها؟ وإلاّ إن ملكني أحدكما بقرت جوفي بيدي فيذهب ماله ويذهب نفسي فيكون المطالب بهذا. فقالا : يا أيتها المرأة ابدي رؤياك التي رأت امّك وهي حامل بك حتى نبدي لك العبارة. وأخذ طلحة والزبير ثوبيهما وعادا جالسين ، إذ دخل أمير المؤمنين عليه‌السلام [ وقال : ما ] (٢) هذا الرجف في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقالوا له : يا عليّ امرأة من بني حنيفة حرّمت ثمنها على المسلمين ، فقالت

__________________

(١) أمالي الطوسي : ص ٢٥٧ ح ٤٦٤ / ٢.

(٢) بياض في الأصل بمقدار كلمتين وما في المعقوفتين أضفناه من كتاب الفضائل.

٤٠٩

ثمني حرام إلاّ على من يخبرني بالرؤيا التي رأت امّي والعبارة لها.

فقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ما دعت الى باطل أخبروها تملكوها.

قالوا : يا عليّ من فينا يعلم علم الغيب ، أما علمت أنّ ابن عمّك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض وأنّ أخبار السماء ودنياها كان جبرئيل عليه‌السلام يهبط عليه بخبر ساعة فساعة.

فقال أبو بكر : يا عليّ أخبرها.

فقال عليه‌السلام : اخبرها أملكها بلا اعتراض أحد منكم. قالوا : نعم.

قال عليّ : يا حنيفيّة اخبرك أملكك. فقالت : من أنت أجريء دون أصحابك؟

فقال : أنا عليّ. فقالت : لعلك الرجل الذي نصبك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صبحة الجمعة بغدير خم علما للناس. قال : أنا ذلك الرجل. فقالت : إنّا من أسبابك اصبنا ومن نحوك اتينا ، لأنّ رجالنا قالوا لا نسلّم صدقات أموالنا ولا طاعة نفوسنا إلاّ للذي نصبه محمّد فينا وفيكم علما. فقال لها أمير المؤمنين عليه‌السلام : وإنّ أجركم غير ضائع ، إنّ الله يوفّي كلّ نفس ما عملت من خير. ثمّ قال : يا حنيفيّة ألم تحمل بك امّك في زمان قحط منعت السماء قطرها والأرض نباتها وغارت العيون حتى أنّ البهائم لم تجد رعيا ترعى ، وكانت امّك تقول : انّك حمل مشئوم في زمان غير مبارك ، فلمّا كان بعد سبعة أشهر كملا اريت في نومها كأن قد وضعتك وكأنّها تقول : إنّك حمل مشئوم في زمان غير مبارك ، وكأنّك تقولين لها : يا امّه لا تشأمي بي إنّي ولد مبارك أنشأ نشوء حسنا ، يملكني سيّد يولدني ولدا يكون لحنيفية عزّا. قالت : صدقت أنّى لك هذا؟ قال : هو إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي. قالت : وما العلامة بيني وبين امّي؟ فقال عليه‌السلام : إنّها لمّا وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من النحاس وأودعته يمنة الباب ، فلمّا كان بعد حولين عرضت عليك فأقررت ، فلمّا كان بعد أربع سنين عرضت عليك فأقررت ، فلمّا كان بعد ستّ سنين عرضت عليك فأقررت ، فلمّا كان بعد ثمان عرضت عليك فأقررت ، فلمّا كان بعد عشر سنين جمعت بينك وبين اللوح وقالت : يا بنيّة إذا نزل بساحتكم سافك دمائكم وناهب أموالكم وسابي ذراريكم وسقت فيمن سبي فخذي هذا اللوح معك واجتهدي أن

٤١٠

لا يملك من الجماعة إلاّ من يخبرك بالرؤيا وهذا اللوح. فقالت : صدقت ، فأين اللوح؟ فقال : في عقصتك فدفعت اللوح الى عليّ عليه‌السلام فملكها دون غيره بما ثبت من حجّته وإظهار بيّنته فأقامها عليه‌السلام عند أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر ، فلمّا مضى على ذلك مدّة جاء إخوتها فدخلوا المسجد وقالوا : يا معاشر أصحاب رسول الله بم تستحلّون أخذ اختنا ونحن قوم مسلمون؟ فقال أبو بكر : اختكم عند عليّ أخذها. فقال عمر : هيهات أن تكون اختكم ثيّبا وهي عند عليّ. فجاء عليّ عليه‌السلام فقال له أبو بكر : هؤلاء إخوة خولة وذكروا أنّهم مسلمون. فقال له عليّ عليه‌السلام : انّ اختهم عند أسماء بنت عميس فأنفذ إليها. فأنفذ فجاؤوا بخولة فسلّمها عليّ عليه‌السلام الى إخوتها. فقالوا : يا عليّ قد رضينا أن تكون اختنا زوجتك. فعقد عليها العقد مع إخوتها باملاك (١).

ثمّ تزوّج أمّ البنين الكلابيّة

ثمّ تزوّج أمّ حبيب الثعلبيّة

ثمّ تزوّج أسماء بنت عميس الخثعميّة

ثمّ تزوّج أم شعيب المخزوميّة

ثمّ تزوّج امامة بنت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ثمّ تزوّج ليلى التميميّة

وقتل وخلّف أربع حرائر منهنّ : امامة وليلى وأسماء وأمّ البنين ، وثمان عشر أمّ ولد ، ولد له من إحداهنّ خديجة وأمّ هاني وميمونة وفاطمة.

فصل

في ذكر مقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام

حدّث ثابت بن أبي صفيّة ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال :

__________________

(١) ذكرت هذه القصّة في مصادر متعدّدة وبألفاظ مختلفة كالخرائج والجرائح ج ٢ ص ٥٦٣ ـ ٥٦٥ ح ٢١ ، الفضائل لابن شاذان : ص ٩٩ ، بحار الأنوار ج ٢٤ ص ٨٤ ح ١٤.

٤١١

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لمّا خضّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحيته بسواد قلت : يا رسول الله ما أحسن هذا الخضاب ، أفلا اخضّب لحيتي اقتداء بك؟ فقال : لا يا عليّ دعها فسيبعث بعدي أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة صالح فيضربك على رأسك ضربة يخضّب منها لحيتك وأنت في السجود بين يدي الله عزّ وجلّ. فقلت : يا رسول الله في سلامة من ديني؟ قال : في سلامة من دينك.

قيل : لمّا قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام الخوارج لم يبق منهم إلاّ اثنين وأنّهما تابا ورجعا وصارا من أصحاب عليّ عليه‌السلام يقال لأحدهما البرك وللآخر عبيد. فلمّا قدم أمير المؤمنين عليه‌السلام الكوفة أمر لعبد الرحمن بن ملجم لعنه الله بفرس عربي ، فخرج يجول عليه في أزقّة الكوفة ، فإذا هو بامرأة ذات جمال ومنصب في قومها ، فلمّا نظر إليها شغف بها حتى اشتدّ وجده بها ، فدنا منها فقال لها : أيّم أنت ذات بعل؟ قالت : بل أيّم.

قال لها : فمن ينكحك؟ قالت : أوليائي ، قال : فما صداقك؟ قالت : ثلاثة آلاف درهم وعبد وقينة وقتل عليّ بن أبي طالب. فقال لها عبد الرحمن : ويلك أما علمت أنّ عليّا أصلع قريش فمن يقدم عليه. قال : وذلك أنّها كانت لا تزوّج نفسها إلاّ بقتل عليّ عليه‌السلام لأنّ عليّا عليه‌السلام كان قد قتل أباها وأخاها وزوجها وابنا لها مبارزة يوم النهروان ، فلم تزل به تخدعه حتى صالحها على ثلاثة آلاف وعبد وقينة وضربة يضربها عليّا عليه‌السلام بالسيف حيا منها أو مات ، وذلك في شعبان.

قال : فانطلق من عندها حتى أتى البرك وعبيدا فتذكّروا النهروان ، فقال عبد الرحمن : لا يصلح الناس إلاّ على قتل ثلاثة ، فعلى كلّ رجل منّا قتل رجل منهم. فقال البرك : عليّ قتل معاوية بن أبي سفيان. وقال عبيد : عليّ قتل عمرو بن العاص. وقال عبد الرحمن : عليّ قتل عليّ بن أبي طالب.

قال : ثمّ تواعدوا على قتل القوم في شهر رمضان. فلمّا كانت أوّل ليلة منه أتى البرك معاوية فضربه مدبرا فوقعت الضربة في أليته في لحم كثير ففلق أليته ، فأخذه الناس فالتفت إليه معاوية ، فقال له البرك : قتلتك يا عدوّ الله. قال : كلا يا ابن أخي

٤١٢

إنّ عمّك أوفر إليه من ذاك. ثمّ أمر به أن تقطع يداه ورجلاه ولسانه ، وأراد قتله فقام إليه رجل من بني تيم فاستوهبه.

ثمّ أتى عبيدا عمرا وكان يشتكي بطنه وقد أمر خارجة أن يصلّي بالناس فقتله وهو يظن أنّه عمرو بن العاص.

ثمّ دخل عبد الرحمن حتى أتى عليّا عليه‌السلام فلمّا نظر إليه تأمّله أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنشأ يقول :

اريد حياته ويريد قتلي

غديرك من خليلك من مرادي

ثمّ قال له عليّ عليه‌السلام : يا عبد الرحمن هل كان لك لقب في صغرك؟ قال : لا يا أمير المؤمنين. قال : نشدتك بالله هل لقيتك حاضنتك شاقر عاقر ناقة ثمود ـ وكانت حاضنته يهودية ـ؟ فقال : أتعلم الغيب يا أمير المؤمنين؟!

قال : والله ما أعلم من الغيب إلاّ ما أطلعني الله عليه بوصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثمّ أنشأ أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول :

اشدد حيازيمك للموت

فإنّ الموت لاقيك

ولا تجزع من الموت

إذا حلّ بواديك

فقال عبد الرحمن : ما جزعت من الموت ساعة قطّ ولا أخالني أجزع منه ما بقيت.

قال : فلمّا كان النصف من شهر رمضان دخل عليه‌السلام على ابنيه الحسن والحسين عليهما‌السلام فقال : يا أبا محمّد كم مضى من شهرنا هذا؟ قال : خمسة عشر يوما. فنكس رأسه ساعة ثمّ رفعه فقال : ستفقدون أباكم فيما بينكم وبين عشرين من شهر رمضان ، هكذا خبّرني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فلمّا جنّه الليل وكان فيما كان فيه من العبادة والصلاة حتى إذا كان نصف من الليل خرج يريد المسجد ، فلمّا خرج من الدار سمع صوت البط فقال عليه‌السلام : صوارخ يتبعها نوائح ، ثمّ خرج عليه‌السلام وهو يقول :

خلّوا سبيل المؤمن المجاهد

في الله ذي الكتب وذي المراشد

٤١٣

فبينما هو ينشد هذا الشعر إذ سمعته قطام فسلّت سيف عبد الرحمن من غمده ثمّ سقته سمّا وأعادته في غمده ، ثمّ أتى عبد الرحمن لعنه الله المسجد وكمن في طاق من طاقات المسجد قال : ثمّ نزل من الطاق وغلبه النوم ، ثمّ دخل أمير المؤمنين عليه‌السلام المسجد فأذّن ، فلمّا فرغ من أذانه والمسجد مظلم ولا يدري من النائم من ظلمة الليل وظلمة المسجد ، فرفسه أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال له : يا نائم قم صلّ ، فانتبه عبد الرحمن ، ودنا أمير المؤمنين عليه‌السلام الى الصلاة فحمل عدوّ الله في ظلمة الليل وظلمة المسجد فضربه على هامته فخرّ صريعا ، وأقبل المسلمون وقالوا قتل أمير المؤمنين.

وخرج أبو ذر العبدي ـ وليس بالغفاري ـ وهو من عبد القيس فلقيه عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله مذعورا ، فقال له : أخا مراد لعلك قتلت أمير المؤمنين؟ فأراد أن يقول لا فحوّل الله عزّ وجلّ لسانه فقال نعم ، فلبّبه العبدي وجلد به الأرض وأقبل حتى أدخله على أمير المؤمنين عليه‌السلام فلمّا نظر إليه قال : إن أعيش فأنا وليّ ثاري ، وإن أمت فضربة بضربة فنعم العون كان لنا على عدوّنا.

قال : فلمّا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان دخلت أمّ كلثوم على أبيها وهي باكية فقالت : يا أبتاه على من تخلّف اليتامى الصغار والضعفاء فبكى عليه‌السلام وقال : اخلّفكم على من خلّفني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثمّ قال لها : يا أمّ كلثوم اخرجي واخفي الباب.

قالت أمّ كلثوم : ففعلت ذلك ونحن مجتمعون وليس في البيت آدمي غيره ، فسمعنا قائل يقول من داخل البيت : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة! وقال آخر : اليوم تضعضعت أركان الإيمان ، وذهب نور الإسلام ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومات عليّ بن أبي طالب ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

قالت أمّ كلثوم : فلمّا سمعت الصوت أفزعنا ، فدخلنا على عليّ عليه‌السلام فإذا هو فارق الدنيا وهو مسجّى بثوبه ، فدفن أمير المؤمنين ، وهمّ الحسن والحسين عليهما‌السلام بامضاء وصيّته في ابن ملجم لعنه الله.

٤١٤

قال : وحضر يومئذ من الشيعة ألفان أو أكثر فقدّموا عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله ، فقام الحسن عليه‌السلام فضربه ضربة فاتّقاها فلم تعمل شيء : فقالوا : ضربة بضربة.

فضربه الحسين عليه‌السلام والناس مجتمعون فأبان رأسه ، فقالوا : ضربة بضربة. وقد كان أمير المؤمنين أوصاهما بذلك وقال لهما : إنّ ابن ملجم ضربني ضربة فلم تصنع شيئا ثمّ ضربني ضربة ثانية ، فإذا أنا متّ فيضربه الحسن فما تصنع شيئا فيضربه الحسين فيقتله. فعند ذلك يقول العبدي :

فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة

كمهر قطام بيّن غير مبهم (١)

ثلاثة آلاف وعبد وقينة (٢)

وضرب عليّ بالحسام المسمّم

فلا مهر أغلى من عليّ وإن غلا

ولا فتك إلاّ دون فتك (٣) ابن ملجم (٤)

قال : فلمّا دفن أمير المؤمنين عليه‌السلام [ وقف ] صعصعة بن صوحان على قبره واضعا إحدى يديه على فؤاده والاخرى قد أخذ بها من التراب وهو يضرب به رأسه [ و ] يقول :

ألا من لي بنشرك (٥) يا اخيّا

ومن لي إن أبثك ما لديّا

طوتك منون دهرك بعد نشر

كذاك (٦) خطوبه نشرا وطيّا

فلو نشرت طواك (٧) الى المنايا

شكوت إليك ما صنعت إليّا

بكيتك يا عليّ بدرّ عيني

فلم يغن البكاء عليك شيئا

كفى حزنا بفقدك (٨) ثمّ إنّي

نفضت تراب قبرك عن يديّا

وكانت في حياتك لي عظات

فأنت اليوم أوعظ منك حيّا (٩)

__________________

(١) في المصدر : من فصيح وأعجم.

(٢) في المصدر : وفتية.

(٣) في المصدر : ولا قتل إلاّ دون قتل.

(٤) رواه ابن شهرآشوب في مناقبه : ج ٣ ص ٣١١ باختلاف في بعض الألفاظ.

(٥) في المصدر : بانسك.

(٦) في المصدر : طوتك منون دهر قد توالى ... لذاك ...

(٧) في المصدر : قواك.

(٨) في المصدر : بدفنك.

(٩) المناقب لابن شهرآشوب : ج ٣ ص ٣١٤.

٤١٥

وقال صعصعة رضي‌الله‌عنه :

هل خبّر القبر سائليه

أم قرّ عينا بساكنيه (١)

أم هل ثراه أحاط علما

بالجسد المستكن فيه

لو علم القبر من يواري

تاه على كلّ من يليه

يا موت لو تقبل افتداء

لكنت بالروح أفتديه

يا موت ما ذا أردت منّي

حقّقت ما كنت أتّقيه

دهر رماني (٢) بفقد إلفي

أذمّ دهري وأشتكيه (٣)

تحلوا أنعم عنده سماحا

ولم يقل قطّ إلاّ يفيه

يا جبلا كان ذا امتناع

وركن عزّ لا مثليه

ونخلة طلعها نضيد

يقرب من كفّ مجتنيه

ويا صبورا على بلاء

كان به الله مبتليه

ويا مريضا على فراش

توديه أيدي ممرضيه

آمنك الله كلّ روع

وكلّما أنت تتّقيه

وقيل : إنّ عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله تعالى دخل الكوفة ولم يمرّ بحيّ من أحياء الكوفة إلاّ قالوا هذا عبد الرحمن صاحب أمير المؤمنين ، حتى مرّ بحيّ يقال له النخع وفيه جوار منها يتهادين وبينهنّ سيّدة لهنّ تدعى قطام بنت الأصبغ لعنها الله ، وكان أمير المؤمنين قد قتل أخاها وأباها وزوجها وابن عمّها يوم النهروان ، فوقف عبد الرحمن عليها فلمّا أن نظر الى حسنها وجمالها قال لها : يا جارية أنت ذات بعل؟ فقالت له : بل أيّم ، فقال لها : ينكحك أهلك؟ فقالت له : نعم ، فقال لها : على ما ذا؟ فقالت له : على ثلاثة آلاف وعبد وقينة ، فقال لها : ذاك لك ومثله أضعافا فأتمّي أمرنا فقالت له : حتى أستأذن أهلي. ثمّ إنّ قطام لعنها الله دخلت الى قصرها

__________________

(١) في المصدر : بزائريه.

(٢) في المصدر : زماني.

(٣) الى هنا رواه ابن شهرآشوب في مناقبه : ج ٣ ص ٣١٤ ـ ٣١٥.

٤١٦

ودعت جواريها ونادت : ويلكم عجّلوا ألبسوني غلائلي (١) الرقاق فإذا دخل عبد الرحمن فارفعوا الحجاب بيني وبينه حتى ينظر الى حسني وجمالي فيكون أقضى لحاجتي ففعلن بها ذلك.

فلمّا دخل عبد الرحمن لعنه الله رفعن الحجاب ، فلمّا نظر إليها قال لها : يا سيّدتاه أتمّي أمرنا. قالت : إنّ أهلي أبوا أن يزوّجوني إلاّ على ثلاثة آلاف دينار وعبد وقينة وضرب عليّ بالحسام. فقال لها عبد الرحمن : ثكلتك امّك من الذي يستطيع عليّا أمير المؤمنين وقاتل المشركين قاتل الأقران وهاشم الهام والأسد الضرغام. فلمّا سمعت كلامه قالت له : يا هذا أمّا ما سألت عن المال فلا حاجة لي فيه وعندنا من المال ما يكفيك ، ولا اسألك شيئا بعد أن قررت عيني بقتل عليّ ، فلم تزال تراود المرادي ويراودها حتى اشترط لها على نفسه ليضربنّه ضربة بسيفه مات منها أو عاش. ثمّ إنّ قطام لعنها الله رضيت منه بذلك ، وأحضرت الطعام والشراب فأكثرت منه حتى قام وهو سكران. فلمّا قال أمير المؤمنين عليه‌السلام الله أكبر الله أكبر وسمعت قطام ذلك قامت الى عبد الرحمن وهو راقد فقالت له : يا سيّدي هذا عليّ يجهر بالأذان فقم حتى تقضي حاجتي وارجع إليّ قرير العين مسرورا بأهلك. فقال : ثكلتك امّك أقتل أمير المؤمنين وأرجع قرير العين! بل أرجع سخين العين وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشقى الأوّلين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل عليّ. فحمله العشق والشقاوة ، وقام فتقلّد السيف من تحت أثوابه وتلثّم بعمامته وأقبل الى المسجد ، فلمّا فرغ عليّ عليه‌السلام من الأذان ودخل المسجد وصفّ قدميه عليه‌السلام ليصلّي وكان إذا سجد أطال سجوده ، فعمد عبد الرحمن لعنه الله الى السيف فاستخرجه من غمده وهزّه وعلابه هامته عليه‌السلام وهو ساجد ، فاستوى عليه‌السلام قائما ثمّ نادى بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وصدق المرسلون وأقبل بخضيب شيبته بدمه ويقول : بهذا أخبرني حبيبي

__________________

(١) الغلائل : الدروع ، وقيل : بطائن تلبس تحت الدروع ، وقيل : هي مسامير الدروع التي تجمع بين رءوس الحلق لأنها تغلّ فيها أي تدخل ، واحدتها غليلة ( لسان العرب ١١ / ٥٠٢ ).

٤١٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتلني المرادي وربّ الكعبة ، هكذا ألقى حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هكذا ألقى فاطمة ، هكذا ألقى أخي جعفر الطيّار في الجنّة ، هكذا ألقى حمزة سيّد الشهداء. وارتفعت الضجة والرنة بالكوفة ، وخرج الناس ودخلوا مسجد الكوفة ونظروا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يجود بنفسه.

فلمّا نظر الحسن عليه‌السلام إلى أبيه وما نزل به عطّ ثوبه وقال : يا أبتاه نفسي لنفسك الفداء ، وخدّي لخدّك الفداء ، ليتني لم أشهد هذا اليوم ولم أره. فلمّا أن سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام مقالة الحسن والحسين نادى : أسندوني أجلسوني. ثمّ قال عليه‌السلام : أدن يا حسن منّي ، ادن يا حسين منّي. فضمّهما إلى صدره وأقبل يقبّل بين عينيهما ويقول : لا بأس عليكما وأبوكما أكرم على الله من أن يفوتكما قاتله ، وسيؤتى به من هذا الباب ، وأومأ بيده نحو باب كندة.

وركب رجل من عبد القيس واستقبل عبد الرحمن لعنه الله وهو شاهر سيفه وهو يقطر دما ، فصاح به صيحة فقال : ثكلتك أمّك لعلك قاتل أمير المؤمنين. فذهب يقول « لا » فقلب الله لسانه وفاه فقال : « نعم ». فأخرج عمامته من رأسه فوضعها في عنقه وجعل يقوده خاضعا ذليلا حتى أوقفه بين يدي أمير المؤمنين. فلمّا نظر إليه قال له : يا عبد الرحمن. فأجابه : لبّيك وسعديك. فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام لا لبّيك ولا سعديك شرّ أمير كنت لك؟! ألم أكن اطعمك والبسك ممّا ألبس وافضّلك في عطائك من مال بيت المسلمين على جميع أصحابي؟! فقال : بلى والله يا أمير المؤمنين ، ها أنا ذا واقف بين يديك فافعل ما شئت.

ثمّ إنّ عليّا عليه‌السلام رجع الى نفسه الطاهرة فتلا هذه الآية : ( وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) ثمّ أمر بعبد الرحمن الى السجن ، ثمّ التفت الى الحسن عليه‌السلام فقال : يا أبا محمّد كم مضى من شهركم؟ ـ قال : وكان شهر رمضان ـ قال : ثمانية عشر يوما.

فقال عليه‌السلام : ستفقدون أباكم في العشر الأواخر منه. وودّع عليه‌السلام أهل الكوفة ، واتكأ على أولاده الحسن والحسين ومحمّد بن الحنفيّة والعبّاس بن عليّ حتى دخل منزله فلمّا نظرت إليه أمّ كلثوم عطّت ثوبها ونتفت شعرها ولطمت خدّها وهي

٤١٨

تنادي : عزّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عزّ على فاطمة عزّ عليّ يا أباه على من خلّفتنا (١) حيارى كالغنم لا راعي لنا.

فقال عليّ عليه‌السلام : على خير خلقه الحسن والحسين بعد جدّهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأقبلت تقبّل بين عينيه وعليّ عليه‌السلام نائم مشغول بما هو فيه فضمّها الى صدره وقال لها : يا بنيّة يا أمّ كلثوم قد دنا اللحوق بجدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامّك فاطمة عليها‌السلام فاحتسبي صبرك وعزاك بالله. ثمّ مدّ له فراشه ومكث الناس يعودونه.

قال الحسن عليه‌السلام : فاحفت الباب ـ أي دقّ ـ وأقبلت أستمع ، فسمعت هاتفا من عند رأسه يتلو : ( أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) (٢) ثمّ هتف هاتف ثان من رجليه وهو يقول : اليوم والله تضعضع ركن الإسلام ، اليوم والله انثلمت حصون الإسلام ، اليوم قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لقد انقضت اليوم خلافة النبوّة. قال الحسن عليه‌السلام : ففتحت عيني فإذا أنا بأمير المؤمنين قد غمض عيناه وشدّ حنكه ، وإذا أنا بكفنه عند رأسه وحنوطه عند رجليه ووجهه كدارة القمر ليلة البدر ، فقمنا والله إليه فغسّلناه وكفّناه وحنّطناه وصلّينا عليه ليلا وأوردناه حفرته.

ثمّ تقدّم الحسن عليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الفجر ، ثمّ علا على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه ثمّ خطب الناس وقال : أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا انبّئه بحسبي ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن خير الناس جدّا وجدّة ، أنا ابن خير الناس عمّا وعمّة ، أنا ابن خير الناس خالا وخالة ، أنا ابن خير الناس أبا وامّا.

ثمّ قال عليه‌السلام : لقد قبض والله في هذه الليلة رجل لم يدركه الأوّلون ولا يدركه الآخرون في علم ولا في حلم ، ولا خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ أربعمائة درهم فضّلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادما لأمّ كلثوم لتعينها على طحن الشعير ،

__________________

(١) في الأصل : « خلّفنا ».

(٢) فصّلت : ٤٠.

٤١٩

وقد أمرنا عليه‌السلام أن نردّ ذلك الى بيت مال المسلمين ، فأنا منفذ في يومي هذا وصيّته في عبد الرحمن لعنه الله.

ثمّ إنّ الحسن عليه‌السلام نزل من المنبر وبعث من ساعته الى السجن ، فاتي بعبد الرحمن لعنه الله فأقاموه بين يديه ، وأخذ الحسن عليه‌السلام السيف وعلا به ناصية عبد الرحمن فاتّقاه بساعده فلم تعمل فيه الضربة ، فوثب الحسين عليه‌السلام وأتى الى سيف جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهزّه وعلا به هامة عبد الرحمن فقطعه ، ووثب أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام بأسيافهم فقطّعوه إربا إربا.

حدّث الحسن بن عليّ بن محمّد الخزّاز ، عن المفضّل بن عمر ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّه لمّا كانت الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لابنيه الحسن والحسين عليهما‌السلام : إنّي مفارقكم في ليلتي هذه ، فإذا أنا متّ فحطّا موضع فراشي من الأرض ثمّ احملاني وغسّلاني مع من يعينكما على غسلي ، وكفّناني وحنّطاني وضعاني على السرير وخذا المؤخّر واتّبعا مقدّمه حتى يأتيا به موضع الخطّة ، فاحفرا لي قعر الأرض فانّه ستبدو لكما خشبة من ساجر محفورة ، حفرها لي أبي نوح عليه‌السلام ، فضعاني فيها وأطبقا عليّ اللبن ، وتمهّلا عليّ قليلا ، ثمّ خذا اللبن فإنّه سيبين لكما أمري. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ففعلا ذلك ، فلمّا حفرا موضع الخطّة بدت لهما خشبة من ساج محفورة فوضعاه فيها ثمّ أطبقا عليه اللبن وتمهّلا قليلا واخذ اللبن فلم يريا شيئا ، فهتف بهما هاتف : إنّ الله تعالى قد رفع وليّه الى نبيّه.

قال : فبكى الحسين عليه‌السلام ثمّ قال : أشهد والله لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لو أنّ نبيّا توفّي بالمشرق وتوفّي وصيّه بالمغرب لحمل الله ذلك الوصيّ الى ذلك النبيّ (١).

حدّث جعفر بن محمّد الأرمني ، عن موسى بن سنان الجرجاني ، عن أحمد بن عبّاس المقري عن أمّ كلثوم بنت عليّ عليهما‌السلام قالت : كان آخر كلام عهده أبي عليه‌السلام الى أخويّ الحسن والحسين عليهما‌السلام أن قال : يا بنيّ إذا أنا متّ فغسّلاني ، ثمّ نشّفاني

__________________

(١) فرحة الغري : ص ٣١ ، بحار الأنوار : ج ٤٢ ص ٢١٣ باب ١٢٧ ح ١٤ ، مع اختلاف السند.

٤٢٠