البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

نعم قد أمر القرآن بالعدل ، وسلك في تعاليمه مسلك الاستقامة ، فنهى عن الشح في عدة مواضع ، وعرف الناس مفاسده وعواقبه :

« وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » ٣ : ١٨.

بينما قد نهى عن الاسراف والتبذي ر ودل الناس على مفاسدهما :

« وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ٦ : ١٤١. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ١٧ : ٢٧. وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا : ٢٩ ».

وأمر بالصبر على المصائب وبتحمل الاذى ، ومدح الصابر على صبره ، ووعده الثواب العظيم :

« إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ٣٩ : ١٠. وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ٣ : ١٤٦ ».

وإلى جانب هذا لم يجعل المظلوم مغلول اليد أمام ظالمه ، بل أباح له أن ينتقم

٦١

من الظالم بمثل ما اعتدى عليه ، حسما لمادة الفساد ، وتحقيقا لشريعة العدل :

« فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ٢ : ١٩٤ ».

وجوز لولي المقتول أن يقتص من القاتل العامد :

« وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ١٧ : ٣٣ ».

والقرآن بسلوكه طريق الاعتدال ، وأمره بالعدل والاستقامة قد جمع نظام الدنيا إلى نظام الآخرة ، وتكفل بما يصلح الاولى ، وبما يضمن السعادة في الاخرى ، فهو الناموس الاكبر جاء به النبي الاعظم ليفوز به البشر بكلتا السعادتين ، وليس تشريعه دنيويا محضا لا نظر فيه إلى الآخرة ، كما تجده في التوراة الرائجة ، فإنها مع كبر حجمها لا تجد فيها موردا تعرضت فيه لوجود القيامة ، ولم تخبر عن عالم آخر للجزاء على الاعمال الحسنة والقبيحة. نعم صرحت التوراة بأن أثر الطاعة هو الغنى في الدنيا ، والتسلط على الناس باستعبادهم ، وأن أثر المعصية والسقوط عن عين الرب هو الموت وسلب الاموال والسلطة. كما أن تشريع القرآن ليس أخرويا محضا لا تعرض له بتنظيم أمور الدنيا كما في شريعة الانجيل. فشريعة القرآن شريعة كاملة تنظر إلى صلاح الدنيا مرة والى صلاح الآخرة مرة أخرى. فيقول في تعليماته.

« وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ٤ : ١٣.

٦٢

وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ: ١٤. فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ٩٩ : ٧. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ : ٨. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ٢٨ : ٧٧ ».

ويحث الناس ـ في كثير من آياته ـ على تحصيل العلم ، وملازمة التقوى بينما يبيح لهم لذائذ الحياة وجميع الطيبات :

« قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ٧ : ٣٢ ».

ويدعو كثيرا إلى عبادة الله ، والى التفكر في آياته التشريعية والتكوينية والى التأمل والتدبر في الآفاق وفي الانفس ، ومع ذلك لم يقتصر على هذه الناحية التي توصل الانسان بربه ، بل تعرض للناحية الاخرى التي تجمعه مع أبناء نوعه.

وأحل له البيع :

« وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ٢ : ٢٧٥ ».

وأمره بالوفاء بالعقود.

« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ٥ : ١ ».

٦٣

وأمر بالتزويج الذي يكون به بقاء النوع الانساني :

« وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ٢٤ : ٣٢. فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً ٤ : ٣ ».

وأمر الانسان بالاحسان إلى زوجتة ، والقيام بشؤونها ، والى الوالدين والاقربين ، والى عامة المسلمين ، بل والى البشر كافة. فقال :

« وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ٤ : ١٩. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ٢ : ٢٢٨. وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ٤ : ٣٦. وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ٢٨ : ٧٧. إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ٧ : ٥٦. وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ٢ : ١٩٥.

٦٤

هذه أمثلة من تعاليم القرآن التي نهج فيها منهج الاعتدال ، وقد أوجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع أفراد الامة ، ولم يخصه بطائفة خاصة ، ولا بأفراد مخصوصين ، وهو بهذا التشريع قد فتح لتعاليمه أبواب الانتشار ونفخ فيها روح الحياة والاستمرار. فقد جعل كل واحد من أفراد العائلة والبيئة مرشدا لهم ، ورقيبا عليهم ، بل جعل كل مسلم دليلا وعينا على سائر المسلمين يهديهم إلى الرشاد ، ويزجرهم عن البغي والفساد ، فالمسلمون بأجمعهم مكلفون بتبليغ الاحكام ، وبتنفيذها ، أفهل تعلم جنودا هي أقوى وأعظم تأثيرا من هذه الجنود ونحن نرى السلاطين ينفذون إرادتهم على الرعية بقوة جنودهم. ومن الواضح أنهم لا يلازمون الرعية في جميع الامكنة والازمان ، فكم فرق بين جند الاسلام ، وجند السلاطين.

ومن أعظم تعاليم القرآن التي تجمع كلمة المسلمين ، وتوحد بين صفوفهم : المؤاخاة بين طبقات المسلمين ، ونبذ الميزات إلا من حيث العلم والتقوى حيث يقول :

« إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ٤٩ : ١٣. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ٣٩ : ٩ ».

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إن الله عز وجل أعز بالاسلام من كان في الجاهلية ذليلا ، وأذهب بالاسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها ، وباسق أنسابها ، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم ، وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم. وان آدم خلقه الله من طين ، وان أحب الناس

( البيان ـ ٥ )

٦٥

إلى الله عز وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم (١) ... وقال : فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناكم (٢).

فالاسلام قدم سلمان الفارسي لكمال إيمانه حتى جعله من أهل البيت (٣) وأخر أبا لهب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكفره.

انك ترى أن نبي الاسلام لم يفتخر على قومه بنسب ولا حسب ، ولا بغيرهما مما كان الافتخار به شائعا في عصره ، بل دعاهم إلى الايمان بالله وباليوم الآخر ، وإلى كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة ، وبذلك قد تمكن أن يسيطر على أمة كانت

تتفاخر بالانساب بقلوب ملؤها الشقاق والنفاق ، فأثر في طباعها حتى أزال الكبر والنخوة منها ، فأصبح الغني الشريف يزوج ابنته من المسلم الفقير وإن كان أدنى منه في النسب (٤).

هذه شريعة القرآن في إرشاداته وتعاليمه ، تنفقد مصالح الفرد ، ومصالح المجتمع ، وتضع القوانين التي تكفل جميع ذلك ، ما يعود منها إلى الدنيا وما يرجع إلى الآخرة. فهل يشك عاقل بعد هذا في نبوة من جاء بهذا الشرع العظيم ، ولا سيما إذا لاحظ أن نبي الاسلام قد نشأ بين أمة وحشية ، لا معرفة لها بشئ من هذه التعليمات؟!!

__________________

١ ـ فروع الكافي ج ٢ باب ٢١ ان المؤمن كفؤ المؤمنة.

٢ ـ الجامع الصغير بشرح المناوي ج ٤ ص ٤٣٢.

٣ ـ البحار ج ٧٦ باب فضائل سلمان.

٤ ـ ومن ذلك تزويج زياد بن لبيد وهو من أشرف بني بياضة ابنته من جويبر لاسلامه. وقد كان رجلا قصيرا ذميما محتاجا عاريا ، وكان من قباح السودان. فروع الكافي ج ٢ باب ٢١ ان المؤمن كفؤ المؤمنة.

٦٦

٤ ـ القرآن والاتقان في المعاني :

تعرض القرآن الكريم لمواضيع كثيرة العدد ، متباعدة الاغراض من الآلهيات والمعارف ، وبدء الخلق والمعاد ، وما وراء الطبيعة من الروح والملك وإبيس والجن ، والفلكيات ، والارض ، والتاريخ ، وشؤون فريق من الانبياء الماضين ، وما جرى بينهم وبين أممهم ، وللامثال والاحتجاجات والاخلاقيات ، والحقوق العائلية ، والسياسات المدنية ، والنظم الاجتماعية والحربية ، والقضاء والقدر ، والكسب والاختيار ، والعبادات والمعاملات ، والنكاح والطلاق ، والفرائض ، والحدود والقصاص وغير ذلك. وقد أتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة ، التي لا يتطرق إليها الفساد والنقد في أية جهة من جهاتها ، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، وهذا شيء يمتنع وقوعه عادة من البشر ـ ولا سيما ممن نشأ بين أمة جاهلة لا نصيب لها من المعارف ، ولا غيرها من العلوم ـ ولذلك نجد كل من ألف في علم من العلوم النظرية ، لا تمضي على مؤلفه مدة حتى يتضح بطلان كثير من آرائه. فإن العلوم النظرية كلما ازداد البحث فيها وكثر ، ازدادت الحقائق فيها وضوحا ، وظهر للمتأخر خلاف ما أثبته المتقدم ، والحقيقة ـ كما يقولون ـ بنت البحث ، وكم ترك الاول للآخر ، ولهذا نرى كتب الفلاسفة الاقدمين ، ومن تأخر عنهم من أهل التحقيق والنظر قد صارت عرضة لسهام النقد ممن تأخر ، حتى أن بعض ما اعتقده السابقون برهانا يقينيا ، أصبح بعد نقده وهما من الاومام ، وخيالا من الاخيلة.

والقرآن مع تطاول الزمان عليه ، وكثرة أغراضه ، وسمو معانيه ، لم يوجد فيه ما يكون معرضا للنقد والاعتراض ، اللهم إلا أوهام من بعض المكابرين ، حسبوها من النقد. وسنتعرض لها ، ونوضح بطلانها إن شاء الله تعالى.

القرآن والاخبار بالغيب :

أخبر القرآن الكريم في عدة من آياته عن امور مهمة ، تتعلق بما يأتي من

٦٧

الانباء والحوادث ، وقد كان في جميع ما أخبر به صادقا ، لم يخالف الواقع في شيء منها. ولا شك في أن هذا من الاخبار بالغيب ، ولا سبيل إليه غير طريق الوحي والنبوة.

فمن الايات التي أنبأت عن الغيب قوله تعالى :

« وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ٨ : ٧ ».

وهذه الاية نزلت في وقعة بدر ، وقد وعد الله فيها المؤمنين بالنصر على عدوهم وبقطع دابر الكافرين ، والمؤمنون على ما هم عليه من قلة العدد والعدة ، حتى أن الفارس فيهم كان هو المقداد ، أو هو والزبير بن العوام والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوة ، وقد وصفتهم الاية بأنهم ذووا شوكة ، وأن المؤمنين أشفقوا من قتالهم ، ولكن الله يريد أن يحق الحق بكلماته. وقد وفى للمؤمنين بوعده ، ونصرهم على أعدائهم ، وقطع دابر الكافرين.

ومنها قوله تعالى :

« فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ١٥ : ٩٤. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ: ٩٥. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ: ٩٦ ».

فإن هذه الاية الكريمة نزلت بمكة في بدء الدعوة الاسلامية ، وقد أخرج البزار والطبراني في سبب نزولها عن أنس بن مالك : أنها نزلت عند مرور النبي

٦٨

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أناس بمكة ، فجعلوا يغمزون في قفاه ، ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبرئيل. (١) فأخبرت الاية عن ظهور دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصرة الله له ، وخذلانه للمشركين الذين ناوأوه واستهزأوا بنبوته ، واستخفوا بأمره. وكان هذا الاخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد من الناس انحطاط شوكة قريش ، وانكسار سلطانهم ، وظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم.

ونظير هذه الاية قوله تعالى :

« هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ٦١ : ٩ ».

ومن هذه الانباء قوله تعالى :

« غُلِبَتِ الرُّومُ ٣٠ : ٢. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ: ٣ ».

وقد وقع ما أخبرت به الاية بأقل من عشر سنين ، فغلب ملك الروم ، ودخل جيشه مملكة الفرس.

ومنها قوله تعالى :

« أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ٥٤ : ٤٤. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ: ٤٥ ».

__________________

١ ـ لباب النقول ص ١٣٣ جلال الدين السيوطي.

٦٩

فأخبر عن انهزام جمع الكفار وتفرقهم وقمع شوكتهم ، وقد وقع هذا في يوم بدر أيضا حين ضرب أبو جهل فرسه ، وتقدم نحو الصف الاول قائلا : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه فأباده الله وجمعه ، وأنار الحق ورفع مناره ، وأعلى كلمته ، فانهزم الكافرون ، وظفر المسلمون عليهم حينما لم يكن يتوهم أحد بأن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ـ ليس لهم عدة ، ولا يصحبون غير فرس أو فرسين وسبعين بعيرا يتعاقبون عليها ـ يظفرون بجمع كبير تام العدة وافر العدد ، وكيف يستفحل أمر اولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير ، حتى تذهب شوكته كرماد اشتدت به الريح ، لولا أمر الله وإحكام النبوة وصدق النيات؟!.

ومنها قوله تعالى :

« تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ... سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ.وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ١١١ : ٢ ».

وقد تضمنت هذه السورة نبأ دخول أبي لهب ، ودخول زوجته النار. ومعنى ذلك هو الاخبار عن عدم تشرفهما بقبول الاسلام إلى آخر حياتهما ، وقد وقع ذلك.

٦ ـ القرآن وأسرار الخليقة :

أخبر القرآن الكريم في غير واحدة من آياته عما يتعلق بسنن الكون ، ونواميس الطبيعة ، والافلاك ، وغيرها مما لا سبيل إلى العلم به في بدء الاسلام إلا من ناحية الوحي الالهي. وبعض هذه القوانين وإن علم بها اليونانيون في تلك العصور أو غيرهم ممن لهم سابق معرفة بالعلوم ، إلا أن الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العلم بذلك. وإن فريقا مما أخبر به القرآن لم يتضح إلا بعد توفر العلوم ، وكثرة

٧٠

الاكتشافات. وهذه الانباء في القرآن كثيرة ، نتعرض لها عند تفسيرنا الايات التي تشير إليها إن شاء الله تعالى.

وقد أخذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الامور ، فصرح ببعضها حيث يحسن التصريح ، وأشار إلى بعضها حيث تحمد الاشارة ، لان بعض هذه الاشياء مما يستعصي على عقول أهل ذلك العصر ، فكان من الرشد أن يشير إليها إشارة تتضح لاهل العصور المقبلة حين يتقدم العلم ، وتكثر الاكتشافات.

ومن هذه الاسرار التي كشف عنها الوحي السماوي ، وتنبه إليها المتأخرون ما في قوله تعالى :

« وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ١٥ : ١٩ ».

فقد دلت هذه الاية الكريمة على أن كل ما ينبت في الارض له وزن خاص ، وقد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص ، بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركبا آخر. وان نسبة بعض الاجزاء إلى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة للبشر.

ومن الاسرار الغريبة ـ التي أشار إليها الوحي الالهي ـ حاجة إنتاج قسم من الاشجار والنبات إلى لقاح الرياح. فقال سبحانه :

« وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ١٥ : ٢٢ ».

فإن المفسرين الاقدمين وإن حملوا اللقاح في الاية الكريمة على معنى الحمل ، باعتبار أنه أحد معانيه ، وفسروا الاية المباركة بحمل الرياح للسحاب ، أو المطر الذي يحمله السحاب ، ولكن التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام ،

٧١

ولا سيما بعد ملاحظة أن الرياح لا تحمل السحاب ، وإنما تدفعه من مكان إلى مكان آخر.

والنظرة الصحيحة في معنى الاية ـ بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات ـ تفيدنا سرا دقيقا لم تدركه أفكار السابقين ، وهو الاشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللقاح. وأن اللقاح قد يكون بسبب الرياح ، وهذا كما في المشمش والصنوبر والرمان والبرتقال والقطن ، ونباتات الحبوب وغيرها ، فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الاكياس ، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح فتسقط على مياسم الازهار الاخرى عفوا.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن سنة الزواج لا تختص بالحيوان ، بل تعم النبات بجميع أقسامه بقوله :

« وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ١٣ : ٣. سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ٣٦ : ٣٦ ».

ومن الاسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الارض. فقد قال عز من قائل :

« الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ٢٠ : ٥٣ ».

تأمل كيف تشير الاية إلى حركة الارض إشارة جميلة لم تتضح إلا بعد قرون ، وكيف تستعير للارض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع ، يهتز بنعومة لينام فيه مستريحا هادئا؟ وكذلك الارض مهد للبشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية ، وكما أن تحرك المهد لغاية تربية الطفل واستراحته ،

٧٢

فكذلك الارض ، فإن حركتها اليومية والسنوية لغاية تربية الانسان بل وجميع ما عليها من الحيوان والجماد والنبات.

تشير الاية المباركة إلى حركة الارض إشارة جميلة ، ولم تصرح بها لانها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها ، حتى أنه كان يعد من الضروريات التي لا تقبل التشكيك (١).

ومن الاسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا : وجود قارة اخرى. فقد قال سبحانه وتعالى :

« رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ٥٥ : ١٧ ».

وهذه الاية الكريمة قد شغلت أذهان المفسرين قرونا عديدة ، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى. فقال بعضهم : المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما ، وحمله بعضهم على مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. ولكن الظاهر أن المراد بها الاشارة إلى وجود قارة اخرى تكون على السطح الاخر للارض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنا. وذلك بدليل قوله تعالى :

« يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ٤٣ : ٣٨ ».

__________________

١ ـ واجترأ الحكيم غاليله بعد الالف الهجري فأثبت الحركتين الوضعية والانتقالية للارض فأهانوه ، واضطهدوه حتى قارب الهلكة ، ثم سجن طويلا مع جلالته ، وحقوقه العلمية فصار حكماء الافرنج يكتمون كشفياتهم الانيقة المخالفة للخرافات العتيقة خوفا من الكنيسة الرومية. الهيئة والاسلام ص ٦٣ طبعة بغداد.

٧٣

فإن الظاهر من هذه الاية أن البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ولا على مشرقي الصيف والشتاء ، لان المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة فلا بد من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الارضية ليصح هذا التعبير ، فالاية تدل على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلا بعد مئات من السنين من نزول القرآن.

فالايات التي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى :

« وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ٢ : ١١٥ ».

والايات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الاشارة إلى القارة الموجودة على السطح الاخر من الارض.

والايات التي ذكرت ذلك بلفط الجمع يراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكرة الارضية كما نشير إليه.

ومن الاسرار التي أشار إليها القرآن الكريم كروية الارض فقال تعالى :

« وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٧ : ١٣٧. رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ٣٧ : ٥. فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ٧٠ : ٤٠ ».

٧٤

ففي هذه الايات الكريمة دلالة على تعدد مطالع الشمس ومغاربها ، وفيها إشارة إلى كروية الارض ، فإن طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الارضية يلازم غروبها عن جزء آخر ، فيكون تعدد المشارق والمغارب واضحا لا تكلف فيه ولا تعسف. وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيام السنة ، لكنه تكلف لا ينبغي أن يصار إليه ، لان الشمس لم تكن لها مطالع معينة ليقع الحلف بها ، بل تختلف تلك باختلاف الاراضي. فلا بد من أن يراد بها المشارق والمغارب التي تتجدد شيئا فشيئا باعتبار كروية الارض وحركتها.

وفي أخبار أئمة الهدى من أهل البيت عليهم‌السلام وأدعيتهم وخطبهم ما يدل على كروية الارض.

ومن ذلك ما روي عن الامام الصادق عليه‌السلام قال :

« صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر ، وكنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس ، وأصلي الفجر إذا استبان لي الفجر. فقال لي الرجل : ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا ، وهي طالعة على قوم آخرين بعد. فقلت : إنما علينا أن نصلي وإذا وجبت الشمس عنا وإذا طلع الفجر عندنا ، وعلى اولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم » (١).

يستدل الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب الناشئ عن استدارة الارض ، ويقره الامام ـ عليه‌السلام ـ على ذلك ولكن ينبهه على وظيفته الدينية.

__________________

١ ـ الوسائل ج ١ ص ٢٣٧ باب ١١٦ ان أول وقت المغرب غروب الشمس.

٧٥

ومثله قول الامام ـ عليه‌السلام ـ في خبر آخر : إنما عليك مشرقك ومغربك. ومن ذلك ما ورد عن الامام زين العابدين عليه‌السلام في دعائه عند الصباح والمساء :

« وجعل لكل واحد منهما حدا محدودا ، وأمدا ممدودا ، يولج كل واحد منهما في صاحبه ، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد » (١).

أراد صلوات الله عليه بهذا البيان البديع التعريف بما لم تدركه العقول في تلك العصور وهو كروية الارض ، وحيث أن هذا المعنى كان بعيدا عن أفهام الناس لانصراف العقول عن إدراك ذلك ، تلطف ـ وهو الامام العالم بأساليب البيان ـ بالاشارة إلى ذلك على وجه بليغ ، فإنه عليه‌السلام لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار ، وينقص النهار تارة اخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل ، لاقتصر على الجملة الاولى : يولج كل واحد منهما في صاحبه ولما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية : ويولج صاحبه فيه إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه ، لان ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية ، ففي هذا دلالة على كروية الارض ، وان إيلاج الليل في النهار ـ مثلا ـ عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين. ولو لم تكن مهمة الامام عليه‌السلام الاشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الاخيرة فائدة ، ولكانت تكرارا معنويا للجملة الاولى.

ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي ، وفي ذلك كفاية ودلالة على أن القرآن وحي إلهي ، وخارج عن طوق البشر.

__________________

١ ـ الصحيفة السجادية الكاملة.

٧٦

وكفى بالقرآن دليلا على كونه وحيا إلهيا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير وينهل من بحار علمه كل محقق متبحر. وهذه خطبه في نهج البلاغة ، فإنه حينما يوجه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالا لقائل ، حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه ، فمما لا شك فيه أن هذه المعارف والعلوم متصلة بالوحي ، ومقتبسة من أنواره ، لان من يعرف تاريخ جزيرة العرب ـ ولا سيما الحجاز ـ لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع الوحي. ولنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة : أنه دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين.

بل أعود فأقول : إن تصديق علي عليه‌السلام ـ وهو على ما عليه من البراعة في البلاغة ، والمعارف وسائر العلوم ـ لاعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي ، فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل والاغترار ، كيف وهو رب الفصاحة والبلاغة ، واليه تنتهي جميع العلوم الاسلامية وهو المثل الاعلى في المعارف ، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف. وكذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقا صوريا ناشئا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال ، كيف وهو منار الزهد والتقوى ، وقد أعرض عن الدنيا وزخارفها ، ورفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين ، وهو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة ، مع علمه بعاقبة الامر إذا عزله عن الولاية. وإذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقيا ، مطابقا للواقع ، ناشئا عن الايمان الصادق. وهذا هو الصحيح ، والواقع المطلوب.

٧٧
٧٨

أوهام حول إعجاز القرآن

٧٩

القرآن والقواعد. كيف يثبت الاعجاز لجميع البشر. قول النظام بالصرفة. مخالفة قصص القرآن لكتب العهدين. وجود التناقض في الانجيل. إبطال الجبر والتفويض. إثبات الامر بين الامرين في القرآن. القرآن كان مجموعا على عهد النبي. أسلوب القرآن في جمعه بين المواضيع المختلفة. سخافات وخرافات في معارضة سورتين من القرآن.

٨٠