البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

٣ ـ وفي صحيحة ابن أبي أذينة :

« .. فلما فرغ من التكبير والافتتاح أوحى الله إليه سم باسمي فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة ثم أوحى الله إليه أن احمدني فلما قال : الحمد لله رب العالمين ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفسه شكرا فأوحى الله عز وجل إليه قطعت حمدي فسم باسمي فمن أجل ذلك جعل في الحمد : الرحمن الرحيم مرتين ، فلما بلغ ولا الضالين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحمد لله رب العالمين شكرا فأوحى الله إليه قطعت ذكري فسم باسمي فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة ثم أوحى الله عز وجل إليه إقرأ يا محمد نسبة ربك تبارك وتعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد » (١).

٢ ـ أحاديث أهل السنة :

وقد دلت على ذلك أيضا روايات كثيرة من طرق أهل السنة نذكر جملة منها :

١ ـ ما رواه أنس قال :

« بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر .. » (٢).

٢ ـ ما أخرجه الدارقطني بسند صحيح عن علي عليه‌السلام :

« أنه سئل عن السبع المثاني ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، فقيل له : إنما هي ست آيات ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم آية » (٣).

____________

١ ـ الكافي ج ٣.

٢ ـ صحيح مسلم باب حجة من قال البسملة آية ج ٢ ص ١٢ ، وسنن النسائي باب قراءة البسملة ج ١ ص ١٤٣ ، وسنن أبي داود باب الجهر بالبسملة ج ١ ص ١٢٥.

٣ ـ الاتقان النوع ٢٢ ـ ٢٧ ج ١ ص ١٣٦ ، ورواهما البيهقي في سننه باب الدليل على أن البسملة آية تامة ج ٢ ص ٤٥.

٤٤١

٣ ـ ما أخرجه الدارقطني أيضا بسند صحيح عن أبي هريرة قال :

« قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذاقرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم فانها أم القرآن ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني. وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها » (١).

٤ ـ ما أخرجه ابن خزيمة والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال :

« السبع المثاني فاتحة الكتاب. قيل : فأين السابعة؟ قال : بسم الله الرحمن الرحيم » (٢).

٥ ـ ما أخرجه ابن خزيمة والبيهقي في المعرفة بسند صحيح من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال :

« استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن : بسم الله الرحمن الرحيم » (٣).

٦ ـ ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :

« كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم ، فإذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت » (٤).

٧ ـ ما رواه سعيد عن ابن عباس :

أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أن ذلك سورة (٥).

__________________

١ ـ نفس المصدر السابق.

٢ ـ نفس المصدر ، ورواه الحاكم في المستدرك ج ١ ص ٥٥١.

٣ ـ نفس المصدر ص ١٣٥ ، ورواه البيهقي في سننه باب افتتاح القراءة في الصلاة ج ٢ صفحة ٥٠.

٤ ـ مستدرك الحاكم ج ١ ص ٢٣٢ قال الحاكم : هذا صحيح على شرط الشيخين.

٥ ـ مستدرك الحاكم ج ١ ص ٢٣١.

٤٤٢

٨ ـ ما رواه ابن جريج قال :

« أخبرني أبي أن سعيد بن جبير أخبره ، قال : ولقد آتيناك سبعا من المثاني قال : هي أم القرآن ، قال أبي : وقرأ علي سعيد بن جبير بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. قال سعيد بن جبير : وقرأها علي ابن عباس كما قرأتها عليك ، ثم قال : بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. قال ابن عباس : فأخرجها الله لكم وما أخرجها لاحد قبلكم » (١). إلى غير ذلك من الروايات. ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع مظانها.

الروايات المعارضة :

وليس بإزاء هذه الروايات إلاروايتان دلتا على عدم جزئية البسملة للسورة :

١ ـ إحداهما : رواية قتادة عن أنس بن مالك ، قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمرو عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (٢).

٢ ـ ثانيتهما : ما رواه ابن عبد الله بن مغفل يزيد بن عبد الله ، قال :

« سمعني أبي وأنا أقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : أي بني! إياك قال : ولم أر أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أبغض إليه حدثا في الاسلام منه ، فإني قد صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر وعمر ، ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها ، إذا أنت قرأت فقل : الحمد لله رب العالمين » (٣).

____________

١ ـ نفس المصدر السابق كتاب فضائل القرآن ص ٥٥٠.

٢ ـ مسند أحمد ج ٣ ص ١٧٧ ، ٢٧٣ ، ٢٧٨. وصحيح مسلم باب حجة من لا يجهر بالبسملة ج ٢ ص ١٢. وسنن النسائي باب ترك الجهر بالبسملة ج ١ ص ١٤٤. وروى قريبا منه عن عبد الله بن مغفل.

٣ ـ مسند أحمد ج ٤ ص ٨٥ ، ورواه الترمذي باختلاف يسير باب ما جاء في ترك الجهر بالبسملة ج ٢ ص ٤٣.

٤٤٣

والجواب عن الرواية الاولى :

ـ مضافا إلى مخالفتها للروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام ـ أنها لا يمكن الاعتماد عليها من وجوه :

الوجه الاول : معارضتها بالروايات المتواترة معنى ، المنقولة عن طرق أهل السنة ، ولا سيما أن جملة منها صحاح الاسانيد ، فكيف يمكن تصديق هذه الرواية؟ مع شهادة ابن عباس ، وأبي هريرة ، وأم سلمة على أن رسول الله كان يقرأ البسملة ويعدها آية من الفاتحة ، وإن ابن عمر كان يقول : لم كتبت إن لم تقرأ! وإن عليا عليه‌السلام كان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص وكان يقول : هي تمام السبع المثاني (١).

الوجه الثاني : مخالفتها لما اشتهر بين المسلمين من قراءتها في الصلاة ، حتى أن معاوية تركها في صلاته في يوم من أيام خلافته ، فقال له المسلمون : أسرقت أم نسيت؟ (٢).

ومع هذا كيف يمكن التصديق بأن رسول الله ص ومن بعده لم يقرأوها!

الوجه الثالث : مخالفتها لما استفاض نقله عن أنس نفسه (٣) فالرواية موضوعة ما في ذلك من شك.

والجواب عن الرواية الثانية :

ـ وهي رواية ابن عبد الله بن مغفل ـ يظهر مما تقدم في الجواب عن الرواية

__________________

١ ـ انظر التعليقة رقم (١٤) لمعرفة أن البسملة جزء من القرآن بشهادة جملة من الاحاديث ـ في قسم التعليقات.

٢ ـ انظر التعليقة رقم (١٥) قصة نسيان معاوية لقراءة البسملة واعتراض المسلمين عليه ـ في قسم التعليقات.

٣ ـ انظر التعليقة رقم (١٦) للوقوف على أن النبي (ص) كان يقرأ البسملة في كل صلاة ، ثم توجيه رواية أنس ـ في قسم التعليقات

٤٤٤

الاولى ، على أنها تضمنت ما يخالف ضرورة الاسلام ، فإنه لا يشك أحد من المسلمين في استحباب التسمية قبل الحمد والسورة ، ولو بقصد التيمن والتبرك ، لا لان البسملة جزء ، فكيف ينهى ابن مغفل عنها بدعوى أنها حدث في الاسلام!

٣ ـ سيرة المسلمين :

لقد استقرت سيرة المسلمين على قراءة البسملة في أوائل السور غير سورة براءة ، وثبت بالتواتر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأها ، ولو لم تكن من القرآن للزم على الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصرح بذلك ، فإن قراءته ـ وهو في مقام البيان ـ ظاهرة في أن جميع ما يقرأ قرآن ، ولو لم يكن بعض ما يقرأ قرآنا ثم لم يصرح بلك لكان ذلك منه إغراء منه بالجهل وهو قبيح ، وفي ما يرجع إلى الوحي الالهي أشد قبحا ، ولو صرح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك لنقل الينا بالتواتر مع أنه لم ينقل حتى بالآحاد.

٤ ـ مصاحف التابعين والصحابة :

مما لا ريب فيه أن مصاحف التابعين والصحابة ـ قبل جمع عثمان وبعده ـ كانت مشتملة على البسملة ، ولو لم تكن من القرآن لما أثبتوها في مصاحفهم ، فان الصحابة منعت أن يدرج في المصحف ما ليس من القرآن ، حتى أن بعض المتقدمين منعوا عن تنقيط المصحف وتشكيله. فإثبات البسملة في مصاحفهم شهادة منهم بأنها من القرآن كسائر الايات المتكررة فيه.

وما ذكرناه يبطل احتمال أن إثباتهم إياها كان للفصل بين السور. ويبطل هذه الدعوى أيضا إثبات البسملة في سورة الفاتحة ، وعدم إثباتها في أول سورة براءة. ولو كانت للفصل بين السور ، لاثبتت في الثانية ، ولم تثبت في الاولى. وذلك يدلنا قطعا على أن البسملة آية منزلة في الفاتحة دون سورة براءة.

أدلة نفاة جزئية البسملة :

واستدل القائلون بأن البسملة ليست جزء من السورة بوجوه :

٤٤٥

الوجه الاول :

أن طريق ثبوت القرآن ينحصر بالتواتر ، فكل ما وقع النزاع في ثبوته فهو ليس من القرآن ، والبسملة مما وقع النزاع فيه.

والجواب أولا :

أن كون البسملة من القرآن مما تواتر عن أهل البيت عليهم‌السلام ولا فرق في التواتر بين أن يكون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكون عن أهل بيته الطاهرين بعد أن ثبت وجوب اتباعهم.

وثانيا : أن ذهاب شر ذمة إلى عدم كون البسملة من القرآن لشبهة لا يضر بالتواتر ، مع شهادة جمع كثير من الصحابة بكونها من القرآن ، ودلالة الروايات المتواترة عليه معنى.

وثالثا : أنه قد تواتر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ البسملة حينما يقرأ سورة من القرآن وهو في مقام البيان ، ولم يبين أنها ليست منه وهذا يدل دلالة قطعية على أن البسملة من القرآن. نعم لا يثبت بهذا أنها جزء من السورة. ويكفي لاثباته ما تقدم من الروايات ، فضلا عما سواها من الاخبار الكثيرة المروية من الطريقين. والجزئية تثبت بخبر الواحد الصحيح ، ولا دليل على لزوم التواتر فيها أيضا.

الوجه الثاني ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال :

« سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل : فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال : أثنى علي عبدي وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال الله تعالى : مجدني عبدي ، وإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي

٤٤٦

ما سأل ، فإذا قال : إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل » (١).

وتقريب الاستدلال في هذه الرواية أنها تدل ـ بظاهرها ـ على أن ما بعد آية إياك نعبد وإياك نستعين يساوي ما قبلها في العدد ، ولو كانت البسملة جزء من الفاتحة لم يستقم معنى الرواية ، وذلك : لان سورة الفاتحة ـ كما عرفت ـ سبع آيات ، فإن كانت البسملة جزء كان ما بعد آية : إياك نعبد وإياك نستعين آيتين ، ومعنى ذلك أن ما قبل هذه الاية ضعف ما بعدها ، فالفاتحة لا تنقسم إلى نصفين في العدد.

والجواب عنه أولا :

أن الرواية مروية عن العلاء ، وقد اختلف فيه بالتوثيق والتضعيف.

وثانيا : أنه لو تمت دلالتها ، فهي معارضة بالروايات الصحيحة المتقدمة الدالة على أن الفاتحة سبع آيات ، مع البسملة لا بدونها

وثالثا : إنه لا دلالة في الرواية على أن التقسيم بحسب الالفاظ ، بل الظاهر انه بحسب المعنى ، فالمراد أن أجزاء الصلاة بين ما يرجع إلى الرب وما يرجع إلى العبد بحسب المدلول.

ورابعا : أنه لو سلمنا أن التقسيم إنما هو بحسب الالفاظ فأي دليل على انه بحسب عدد الايات ، فلعله باعتبار الكلمات ، فإن الكلمات المتقدمة على آية إياك نعبد وإياك نستعين والمتأخرة عنها ، مع احتساب البسملة وحذف المكررات عشر كلمات.

الوجه الثالث : ما رواه أبو هريرة :

__________________

١ ـ صحيح مسلم باب قراءة الفاتحة في كل ركعة ج ٢ ص ٦ ، وسنن أبي داود ـ باب من ترك القراءة في صلاته ج ١ ص ١٣٠ ، وسنن النسائي باب ترك قراءة البسملة في فاتحة الكتاب ج ١ ص ١٤٤.

٤٤٧

« من أن سورة الكوثر ثلاث آيات (١) ، وأن سورة الملك ثلاثون آية » (٢) فلو كانت البسملة جزء منها ، لزاد عددهما على ذلك.

والجواب :

إن رواية أبي هريرة في سورة الكوثر على فرض صحة سندها معارضة برواية أنس ، وقد تقدمت (٣) وهي رواية مقبولة روتها جميع الصحاح غير موطأ مالك (٤) فرواية أبي هريرة مطروحة أو مؤلة بإرادة الايات المختصة ، فإن البسملة مشتركة بين جميع السور ، وهذا هو جواب روايته في سورة الملك.

__________________

١ ـ لم أعثر على هذه الرواية في كتب الروايات.

٢ ـ مستدرك الحاكم ج ١ ص ٥٦٥ ، وصحيح الترمذي باب ما جاء في فضل سورة الملك ج ١١ ص ٣٠ ، وكنز العمال فضائل السور والايات ج ١ ص ٥١٦ ، ٥٢٥.

٣ ـ في الصفحة ٤٤١ من هذا الكتاب.

٤ ـ تيسير الوصول ج ١ ص ١٩٩.

٤٤٨

(٢)

تحليل آية

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (٢) الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ. (٣)

مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ. (٤)

القراءة

المشهور على ضم الدال من كلمة الحمد ، وكسر اللام من كلمة الله وقرأ بعضهم بكسر الدال إتباعا له لما بعده ، وقرأ بعضهم بضم اللام إتباعا له لما قبله ، وكلتا القراءتين شاذة لا يعتنى بها.

واختلفت القراءات في كلمة مالك ، والمعروف منها اثنتان : إحداهما على زنة فاعل وثانيتهما على زنة كتف. وقرأ بعضهم على زنة فلس وقرأ بعضهم على زنة فعيل. وقرأ أبو حنيفة بصيغة الماضي ، وغير الاوليين من القراءات شاذ لا اعتبار به.

( البيان ـ ٢٩ )

٤٤٩

وجوه ترجيح القراءتين :

وقد ذكروا لترجيح كل واحدة من القراءتين الاوليين زنة فاعل وفعل على الاخرى وجوها ، منها :

١ ـ أن مفهوم مالك أوسع وأشمل ، فإذا قيل : مالك القوم استفيد منه كونه ملكا لهم. وإذا قيل : ملك القوم لم يستفد منه كونه مالكهم ، فقراءة مالك أرجح من قراءة ملك.

٢ ـ أن الزمان لا تضاف إليه كلمة مالك غالبا ، وإنما تضاف إليه كلمة ملك ، فيقال : ملك العصر ، وملوك الاعصار المتقدمة ، فقراءة ملك أرجح من قراءة مالك.

عدم جدوى الترجيح :

والصحيح أن الترجيح في القراءات المعروفة لا محصل له ، فان القراءات إن ثبت تواترها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا معنى للترجيح ما بينها ، وإن لم يثبت كما هو الحق (١) فان أوجب الترجيح الجزم ببطلان القراءة المرجوحة فهو ، ودون إثباته خرط القتاد. وإن لم يوجب ذلك ـ كما هو الغالب ـ فلا فائدة في الترجيح بعد أن ثبت جواز القراءة بكل واحدة منها (٢).

والترجيح في المقام باطل على الخصوص ، فإن اختلاف معنى مالك ومعنى ملك إنما يكون إذا كان الملك ـ السلطنة والجدة ـ أمرا اعتباريا فإنه يختلف حينئذ باختلاف موارده ، وهذا الاختلاف يكون في غير الله تعالى ، وأما ملك الله سبحانه فإنه حقيقي ناشئ عن إحاطته القيومية بجميع الموجودات ، فهذه الاحاطة بذاتها منشأ صدق مالك وملك عليه تعالى ، ومن ذلك يتضح أن نسبة

__________________

١ ـ تقدمت أدلة ذلك في الصفحة ١٥١ من هذا الكتاب.

٢ ـ تقدم بيان ذلك في الصفحة ١٦٧ من هذا الكتاب.

٤٥٠

مالك إلى الزمان إذا لم تصح في غير الله فلا يلزمها عدم صحتها فيه سبحانه فهو مالك للزمان كما هو مالك لغيره.

وقد يقال :

إضافة مالك إلى يوم الدين إضافة لفظية لا تفيد التعريف فلا يصح أن تقع الجملة وصفا للمعرفة ، فالمتعين قراءة ملك ، فإن المراد به السلطان وهو في حكم الجامد ، وإضافته إضافة معنوية.

وأجيب عنه :

في الكشاف وغيره بأن إضافة اسم الفاعل ونحوه تكون لفظية إذا كان بمعنى الحال والاستقبال ، ومعنوية إذا كان بمعنى الماضي أو أريد به الدوام.

ومن الاول قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ٣٥ : ١).

ومن الثاني قوله تعالى :

(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ٤٠ : ٣).

والمقام من قبيل الثاني ، فإن مالكيته تعالى ليوم الدين صفة ثابتة له لا تختص بزمان دون زمان ، فيصح كون الجملة صفة للمعرفة.

والتحقيق أن الاضافة مطلقا لا تفيد تعريفا ، وإنما تفيد التخصيص والتضييق والتعريف إنما يستفاد من عهد خارجي.

ودليل ذلك.

٤٥١

انه لا فرق بالضرورة بين قولنا غلام لزيد ولنا غلام زيد فكما أن القول الاول لا يفيد إلا التخصيص كذلك القول الثاني ، والتخصيص يتحقق في موارد الاضافة اللفظية كما يتحقق في موارد الاضافة المعنوية.

والفارق : أن التخصيص في الاولى لم ينشأ من الاضافة ، بل هو حاصل بدونها ، وأن الاضافة لم تفد إلا التخفيف إلا أن هذا لا يوجب أن لا يقع المضاف فيها صفة للمعرفة ، فإن المصحح لذلك إن كان هو التخصيص فهو موجود في مواردها ، وإن كان هو التعريف الحاصل من العهد الخارجي فهو مشترك بين الاضافتين معا ، فلا فرق في مقام الثبوت ، بلحاظ ذات المعنى بين موارد الاضافتين.

وجميع ما ذكروه لا يرجع إلى محصل : نعم يبقى الكلام في مقام الاثبات ، وقد ادعي الاتفاق على أن المضاف بالاضافة اللفظية لا يقع صفة لمعرفة إذا كان المضاف من الصفات المشبهة ، وأما غيرها فقد نقل سيبويه عن يونس والخليل وقوعه صفة للمعرفة في كلام العرب كثيرا (١) وعليه يحمل ما ورد في القرآن من ذلك ، كما في المقام.

وأما قول الكشاف : إن اسم الفاعل هنا بمعنى الاستمرار فهو واضح البطلان فإن إحاطة الله تعالى بالموجودات ، ومالكيته لها وإن كانت استمرارية إلا أن كلمة مالك في الاية المباركة قد اضيفت إلى يوم الدين ، وهو متأخر في الوجود ، فلا بد من أن يكون اسم الفاعل المضاف إليه بمعنى الاستقبال.

وأما التفرقة التي ذكرها بعضهم في اسم الفاعل المضاف بين ما إذا كان بمعنى الماضي فيصح وقوعه صفة للمعرفة ، وبين غيره فلا يصح ، لان حدوث الشئ يوجب تعينه ، فهي بينة الفساد ، فإن حدوث الشئ لا يستلزم ـ في الغالب ـ العلم به ، وإذا كانت العبرة بالعلم الشخصي فلا فرق بين تعلقه بالماضي وتعلقه بغيره.

__________________

١ ـ تفسير أبي حيان ج ١ ص ٢١.

٤٥٢

والحاصل أن المتبع في الكلام العربي هو القواعد المتخذة من استعمالات العرب الفصحى : ولا اعتماد على الوجوه الاستحسانية الواهية التي يذكرها النحويون.

اللغة

الحمد :

ضد اللوم ، وهو لا يكون إلا على الفعل الاختياري الحسن ، سواء أكان إحسانا للحامد أم لم يكن ، والشكر مقابل الكفران ، وهو لا يكون إلا للانعام والاحسان ، والمدح يقابل الذم ، ولا يعتبر أن يكون على الفعل الاختياري فضلا عن كونه إحسانا ، والالف واللام في كلمة الحمد للجنس إذ لا عهد ، وتقدم معنى كلمات : الله. الرحمن. الرحيم.

الرب :

مأخوذ من ربب ، وهو المالك المصلح والمربي ، ومنه الربيبة ، وهو لا يطلق على غيره تعالى إلا مضافا إلي شيء ، فيقال : رب السفينة ، رب الدار.

العالم :

جمع لا مفرد له كرهط وقوم ، وهو قد يطلق على مجموعة من الخلق متماثلة ، كما يقال : عالم الجماد ، عالم النبات ، عالم الحيوان. وقد يطلق على مجموعة يؤلف بين أجزائها اجتماعها في زمان أو مكان ، فيقال : عالم الصبا ، عالم الذر ، عالم الدنيا ، عالم الاخرة. وقد يطلق ويراد به الخلق كله على اختلاف حقائق وحداته ، ويجمع بالواو والنون ، فيقال : عالمون ويجمع على فواعل ، فيقال : عوالم ، ولم يوجد في لغة العرب ما هو على زنة فاعل ، ويجمع بالواو والنون غير هذه الكلمة.

الملك :

الاحاطة والسلطة ، وهذه قد تكون خارجية حقيقية كما في إحاطته تعالى بالموجودات ، فإن كل موجود إنما يتقوم في ذاته بخالقه وموجده ، وليس له

٤٥٣

واقع مستقل سوى التدلي والارتباط بعلته الموجدة ، والممكن فقير محتاج إلى المؤثر في حدوثه وفي بقائه ، فهو لا ينفك عن الحاجة أبدا :

« وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ٤٧ : ٣٨ ».

وقد تكون اعتبارية ، كما في ملكية الناس للاشياء ، فإن ملكية زيد لما بيده مثلا ليست إلا اعتبار كونه مالكا لذلك الشئ ، وأن زمان أمره بيده ، وذلك عند حدوث سبب يقتضيه من عقد أو إيقاع أو حيازة أو إرث أو غير ذلك ، حسب ما توجبه المصلحة في نظر الشارع أو العقلاء. والملكية عند الفلاسفة هيئة حاصلة من إحاطة شيء بشئ ، وهي أحد الاعراض التسعة ، ويعبر عنها بمقولة الجدة ، كالهيئة الحاصلة من إحاطة العمامة بالرأس أو الخاتم بالاصبع.

الدين :

بمعنى الجزاء والحساب ، وكلاهما مناسب للمقام ، فان الحساب مقدمة للجزاء ويوم الحساب هو يوم الجزاء بعينه.

التفسير

بين سبحانه أن طبيعة الحمد وجنسه تختص به تعالى ، وذلك لامور :

الامر الاول :

إن حسن الفعل وكماله ينشأ من حسن الفاعل وكماله ، والله سبحانه هو الكامل المطلق الذي لا نقص فيه من جهة أبدا ، ففعله هو الفعل الكامل الذي لا نقص فيه أبدا :

« قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ١٧ : ٨٤ ».

٤٥٤

وأما غيره فلا يخلو عن نقيصة ذاتية بل نقائص ، فأفعاله لا محالة تكون كذلك. والفعل الحسن المحض يختص به سبحانه ، ويمتنع صدوره من سواه ، فهو المختص بالحمد ويمتنع أن يستحقه أحد سواه. وقد أشير إلى هذا بقوله : الحمد لله فقد عرفت أن كلمة الله علم للذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال. وقد ورد عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : فقد لابي بغلة فقال : لئن ردها الله علي لاحمدنه بمحامد يرضاها ، فما لبث أن جئ بها بسرجها ولجامها ، ولما استوى وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال : الحمد لله ، ولم يزد ، ثم قال : ما تركت ولا أبقيت شيئا جعلت جميع أنواع المحامد لله عز وجل فما من حمد إلا وهو داخل فيما قلت (١). وعنه ـ سلام الله عليه ـ : ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله ، إلا أدى شكرها (٢).

الامر الثاني :

إن الكمال الاول لكل ممكن من العقول والنفوس والارواح والاشباح إنما هو وجوده ولا ريب في أنه فعل الله سبحانه وهو مبدعه وموجده. وأما الكمال الثاني وهى الامور التي توجب الفضل والميز ، فما كان منه خارجا عن اختيار المخلوق فهو أيضا من أفعال الله تعالى بلا ريب. وذلك كما في نمو النبات وإدراك الحيوان منافعه ومضاره ، وقدرة الانسان على بيان مقاصده. وما كان منه صادرا عن المخلوقين باختيارهم ، فهي وإن كانت الختيارية إلا أنها منتهية إلى الله سبحانه ، فانه الموفق للصواب ، والهادي إلى الرشاد. وقد ورد : إن الله أولى بحسنات العبد منه (٣) وقد أشير إلى ذلك بجملة رب العالمين.

الامر الثالث :

إن الفعل الحسن الصادر من الله تعالى لا يرجع نفعه إليه ، لانه الكامل المطلق

__________________

١ ـ تفسير البرهان ج ١ ص ٢٩ وقريب منه في اصول الكافي باب الشكر ص ٣٥٦.

٢ ـ اصول الكافي باب الشكر ص ٣٥٦.

٣ ـ الوافي باب الخير والقدر ج ١ ص ١١٩.

٤٥٥

الذي يستحيل عليه الاستكمال. وفعله إنما هو إحسان محض يرجع نفعه إلى المخلوقين. وأما الفعل الحسن الصادر من غيره فهو وإن كان إحسانا إلى أحد في بعض الاحيان ، إلا أنه إحسان إلى نفسه أولا وبالذات ، وبه يدرك كماله :

« إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ١٧ : ٧ ».

فالاحسان المحض إنما هو فعل الله تعالى لا غير فهو المستحق للحمد دون غيره وإلى ذلك أشير بجملة : « الرحمن الرحيم ».

ثم إن الثناء على الفعل الجميل قد يكون ناشئا عن إدراك الحامد حسن ذات الفاعل وصفاته من دون نظر إلى إنعامه ، أو الرغبة فيه ، أو الرهبة منه. وقد يكون ناشئا عن النظر إلى أحد هذه الامور الثلاثة ، فقد أشير إلى المنشأ الاول بجملة : الحمد لله فالحامد يحمده تعالى بما أنه مستحق للحمد في ذاته ، وبما أنه مستجمع لجميع صفات الكمال منزه عن جميع جهات النقص. وأشير إلى المنشأ الثاني بجملة : رب العالمين فانه المنعم على عباده بالخلق والايجاد ، ثم بالتربية والتكميل. وأشير إلى المنشأ الثالث بجملة : ( الرحمن الرحيم ).

فان صفة الرحمة تستدعي الرغبة في نعمائه تعالى وطلب الخير منه. وأشير إلى المنشأ الرابع بقوله : مالك يوم الدين ، فان من تنتهي إليه الامور ويكون إليه المنقلب جدير بأن ترهب سطوته ، وتحذر مخالفته. وقد يكون الوجه هو بيان أن يوم الدين هو يوم ظهور العدل والفضل الالهيين ، وكلاهما جميل لا بد من حمده تعالى لاجله ، فكما أن أفعاله في الدنيا من الخلق والتربية والاحسان كلها أفعال جميلة يستحق عليها الحمد فكذلك أفعاله في الاخرة من العفو والغفران وإثابة المطيعين ، وعقاب العاصين كلها أفعال جميلة يستوجب الحمد بها.

ومما بيناه يتضح أن جملة : الرحمن الرحيم ليس تكرارا أتي بها للتأكيد ـ كما زعمه بعض المفسرين ـ بل هي لبيان منشأ اختصاص الحمد به تعالى فلا يغني عنه ذكرها أولا في مقام التيمن والتبرك ، وهو ظاهر.

٤٥٦

(٣)

تحليل آية

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥).

اللغة

العبادة :

في اللغة تأتي لاحد معان ثلاثة :

الاول : الطاعة ، ومنه قوله تعالى :

« أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ٣٦ : ٦٠ ».

فان عبادة الشيطان المنهي عنها في الاية المباركة إطاعته.

الثاني : الخضوع والتذلل ، ومنه قوله تعالى :

« فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ٢٣ : ٤٧ ».

٤٥٧

أي خاضعون متذللون ، ومنه أيضا إطلاق المعبد على الطريق الذي يكثر المرور عليه.

الثالث : التأله ، ومنه قوله تعالى :

« قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ١٣ : ٣٦ ».

وإلى المعنى الاخير ينصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينة.

والعبد : الانسان وإن كان حرا ، لانه مربوب لبارئه ، وخاضع له في وجوده وجميع شؤونه ، وإن تمرد عن أوامره ونواهيه.

والعبد : الرقيق لانه مملوك وسلطانه بيد مالكه ، وقد يتوسع في لفظ العبد فيطلق على من يكثر اهتمامه بشئ حتى لا ينظر إلا إليه ، ومنه قول أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم وإذا محصوا بالبلاء قل الديانون (١).

وقد يطلق العبد على المطيع الخاضع ، كما في قوله تعالى :

« أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ٢٦ : ٢٢ ».

أي جعلتهم خاضعين لا يتجاوزون عن أمرك ونهيك.

الاستعانة :

طلب المعونة ، تتعدى بنفسها وبالباء ، يقال استعنته واستعنت به أي طلبت منه أن يكون عونا وظهيرا لي في أمري.

__________________

١ ـ البحار باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية ج ١٠ ص ١٨٩.

٤٥٨

الاعراب

إياك : في كلا الموردين مفعول قدم على الفعل لافادة الحصر ، وفي الاية التفات من الغيبة إلى الخطاب. والسر في ذلك أحد أمرين :

الاول : أن سابق هذه الاية الكريمة قد دل على أن الله سبحانه هو المالك لجميع الموجودات ، والمربي لها والقائم بشؤونها ، وهذا يقتضي أن تكون الاشياء كلها حاضرة لديه تعالى ، وأن يكون ـ سبحانه ـ محيطا بالعباد وبأعمالهم ليجازيهم يوم الدين بالطاعة أو بالمعصية ، واقتضى ذلك أن يظهر العبد حضوره بين يدي ربه ويخاطبه.

الثاني : ان حقيقة العبادة خضوع العبد لربه بما أنه ربه والقائم بأمره والربوبية تقتضي حضور الرب لتربية مربوبه ، وتدبير شؤونه. وكذلك الحال في الاستعانة فإن حاجة الانسان إلى إعانة ربه وعدم استقلاله عنه في عبادته تقتضي حضور المعبود لتتحقق منه الاعانة ، فلهذين الامرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد حاضر بين يدي ربه غير غائب عنه.

التفسير

بعد أن مجد الله نفسه بالايات المتقدمة لقن عباده أن يتلوا هذه الاية الكريمة وأن يعترفوا بمدلولها وبمغزاها ، فهم لا يعبدون إلا الله ، ولا يستعينون إلا به ، فإن ما سوى الله من الموجودات فقير في ذاته ، عاجز في نفسه ، بل هو لا شيء بحت ، إلا أن تشمله العناية الالهية ، ومن هذا شأنه لا يستحق أن يعبد أو يستعان ، والممكنات كلها ـ وان اختلفت مراتبها بالكمال والنقص ـ تشترك في صفة العجز اللازمة للامكان ، وفي ان جميعها تحت حكم الله وإرادته :

٤٥٩

« أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ٤٧ : ٥٤. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ٢٤ : ٤٢ ».

من ذا الذي يعارضه في سلطانه وينازعه في أمره وحكمه؟ وهو القابض والباسط ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فالمؤمن لا يعبد غير الله ، ولا يستعين إلا به ، فان غير الله ـ أيا كان ـ محتاج إلى الله في جميع شؤونه وأطواره والمعبود لا بد وأن يكون غنيا ، وكيف يعبد الفقير فقيرا مثله؟!.

وعلى الجملة : الايمان بالله يقتضي أن لا يعبد الانسان أحدا سواه ، ولا يسأل حاجته إلا منه ، ولا يتكل إلا عليه ، ولا يستعين إلا به ، وإلا فقد أشرك بالله وحكم في سلطانه غيره :

« وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ١٧ : ٢٣ ».

٤٦٠