البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

هو أن العاقل إنما يخضع لمن سواه ويعبده ، ويتوجه إليه بحوائجه ، إما لكمال في ذلك المعبود المستعان ـ والناقص مجبول على الخضوع للكامل ـ وإما لاحسانه وإنعامه عليه ، وإما لاحتياج الناقص في جلب منفعة أو دفع مضرة ، وإما لقهر الكامل وسلطانه فيخضع له خوفا من مخالفته وعصيانه.

هذه هي الاسباب الموجبة للعبادة والخضوع. وأيها ينظر فيه العاقل يراه منحصرا في الله سبحانه. فالله هو المستحق للحمد ، فانه المستجمع لجميع صفات الكمال ، بحيث لا يتطرق إلى ساحة قدسه شائبة نقص. والله هو المنعم على جميع العوالم الظاهرية والباطنية المجتمعة والمتدرجة ، وهو مربيها تكوينا وتشريعا. والله هو المتصف بالرحمة الواسعة غير القابلة للزوال. والله هو المالك المطلق ، والسلطان على الخلق بلا شريك ولا منازع. فهو المعبود بالحق لكماله وإنعامه ورحمته وسلطانه ، فلا يتوجه الانسان العاقل إلا إليه ، ولا يعبد إلا إياه ، ولا يستعين إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، لان ما سوى الله ممكن ، والممكن محتاج في ذاته. والاستعانة والعبادة لا تكونان إلا للغني :

« يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ٣٥ : ١٥ ».

وبعد أن أثبت تبارك وتعالى أنه هو المستحق للحمد والثناء بقوله : « الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ. مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ » لقن عباده أن يقولوا بألسنتهم وقلوبهم : « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ».

ثم أشار تعالى إلى أحوال البشر بعد إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإتمام الحجة عليهم ، وأنهم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام :

الاول : من شملته العناية الالهية والنعم القدسية ، فاهتدى إلى الصراط المستقيم ، فسلكه إلى مقصده المطلوب وغايته القصوى ، ولم ينحرف عنه يمينا ولا شمالا.

٤٢١

الثاني : من ضل الطريق فانحرف يمنة ويسرة إلا أنه لم يعاند الحق ، وإن ضل عنه لتقصيره ، وزعم أن ما اتبعه هو الدين ، وما سلكه هو الصراط السوي.

الثالث : من دعاه حب المال والجاه إلى العناد فعاند الحق ونابذه ، سواء أعرف الحق ثم جحده أم لم يعرفه. ومثل هذا ـ في الحقيقة ـ قد عبده هواه ، كما أشار سبحانه إليه بقوله :

« أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ٤٥ : ٢٢ ».

وهذا الفريق أشد كفرا من سابقه ، فهو يستحق الغضب الالهي بعناده زائدا على ما يستحقه بضلاله.

وبما أن البشر لا يخلو من حب الجاه والمال ، ولا يؤمن عليه من الوقوع في الضلال ، وغلبة الهوى ما لم تشمله الهداية الربانية ، كما أشير إلى هذا في قوله تعالى :

« وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٤ : ٢١ ».

لقن الله عبيده أن يطلبوا منه الهداية ، وأن يقولوا : « اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ » فالعبد يطلب من ربه الهداية المختصة بالمؤمنين ، وقد قال تعالى :

« وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٢ : ٢١٣ ».

ويسأله أن يدخله في زمرة من أنعم عليهم وفي السالكين طريقتهم ، كما أشير إليه بقوله تعالى :

« أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ

٤٢٢

آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ١٩ : ٨٥ ».

وأن لا يسلك طريق الطائفتين الزائغتين عن الهدى : « المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ».

خلاصة السورة :

إنه تعالى مجد نفسه بما يرجع إلى كمال ذاته ، ومجدها بما يرجع إلى أفعاله من تربيته العوالم كلها ، ورحمته العامة غير المنفكة عنه ، وسلطانه يوم الحشر وهو يوم الجزاء ، وهذا هو هدف السورة الاولى.

ثم حصر به العبادة والاستعانة ، فلا يستحق غيره أن يعبد أو يستعان ، وهذا هو هدفها الثاني.

ثم لقن عبيده أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الحياة الدائمة ، والنعيم الذي لا زوال له ، والنور الذي لا ظلمة بعده ، وهذا هو هدفها الثالث.

ثم بين أن هذا الصراط خاص بمن أنعم الله عليهم برحمته وفضله ، وهو يغاير صراط من غضب عليهم وصراط الآخرين الذين ضلوا الهدى ، وهذا هو هدفها الرابع.

٤٢٣

تحليل آية

بسم الله الرحمن الرحيم

اللغة

الاسم :

في اللغة بمعنى العلامة ، وهمزته همزة وصل ، وليست من الحروف الاصلية ، وفيه لغات كثيرة والمعروف منها أربع : اسم ، سم وكلاهما بكسر الاول وضمه وهو مأخوذ من السمو الارتفاع باعتبار أن المعنى يرتفع به فيخرج من الخفاء إلى الظهور ، فإن المعنى يحضر في ذهن السامع بمجرد سماع اللفظ بعد أن لم يكن فيه ، أو باعتبار أن اللفظ يرتفع بالوضع فيخرج من الاهمال إلى الاستعمال ، وقيل باشتقاقه من السمة العلامة وهو خطأ لان جمع اسم أسماء ، وتصغيره سمي ، وعند النسبة إليه يقال : سموي واسمي وعند التعدية يقال : سميت وأسميت. ولو كان مأخوذا من السمة لقيل في جمعه أو سام ، وفي تصغيره وسيم ، وفي النسبة إليه وسمي ، وعند التعدية وسمت وأو سمت.

٤٢٤

الله :

علم للذات المقدسة ، وقد عرفها العرب به حتى في الجاهلية ، قال لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

وقال سبحانه : « وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ٣١ : ٢٥ ».

ومن توهم أنه اسم جنس فقد أخطأ ، ودليلنا على ذلك أمور :

الاول : التبادر ، فإن لفظ الجلالة ينصرف بلا قرينة إلى الذات المقدسة ، ولا يشك في ذلك أحد ، وبإصالة عدم النقل يثبت أنه كذلك في اللغة ، وقد حققت حجيتها في علم الاصول.

الثاني : ان لفظ الجلالة ـ بما له من المعنى ـ لا يستعمل وصفا ، فلا يقال : العالم الله ، الخالق الله ، على أن يراد بذلك توصيف العالم والخالق بصفة هي كونه الله وهذه آية كون لفظ الجلالة جامدا ، وإذا كان جامدا كان علما لا محالة ، فإن الذاهب إلى أنه اسم جنس فسره بالمعنى الاشتقاقي.

الثالث : أن لفظ الجلالة لو لم يكن علما لما كانت كلمة لا إله إلا الله كلمة توحيد ، فإنها لا تدل على التوحيد بنفسها حينئذ ، كما لا يدل عليه قول : لا إله إلا الرازق ، أو الخالق ، أو غيرهما من الالفاظ التي تطلق على الله سبحانه ، ولذلك لا يقبل إسلام من قال إحدى هذه الكلمات.

الرابع : أن حكمة الوضع تقتضي وضع لفظ للذات المقدسة ، كما تقتضي الوضع بإزاء سائر المفاهيم ، وليس في لغة العرب لفظ موضوع لها غير لفظ الجلالة ، فيتعين أن يكون هو اللفظ الموضوع لها.

٤٢٥

إن قلت :

إن وضع لفظ لمعنى يتوقف على تصور كل منهما ، وذات الله سبحانه يستحيل تصورها ، لا ستحالة إحاطة الممكن بالواجب ، فيمتنع وضع لفظ لها ، ولو قلنا بأن الواضع هو الله ـ وأنه لا يستحيل عليه أن يضع إسما لذاته لانه محيط بها ـ لما كانت لهذا الوضع فائدة لاستحالة أن يستعمله المخلوق في معناه فإن الاستعمال أيضا يتوقف على تصور المعنى كالوضع ، على أن هذا القول باطل في نفسه.

قلت :

وضع اللفظ بإزاء المعنى يتوقف على تصوره في الجملة ، ولو بالاشارة إليه ، وهذا أمر ممكن في الواجب وغيره ، والمستحيل هو تصور الواجب بكنهه وحقيقته ، وهذا لا يعتبر في الوضع ولا في الاستعمال ، ولو اعتبر ذلك لامتنع الوضع والاستعمال في الموجودات الممكنة التي لا تمكن الاحاطة بكنهها : كالروح والملك والجن ، ومما لا يرتاب فيه أحد أنه يصح استعمال اسم الاشارة أو الضمير ويقصد به الذات المقدسة ، فكذلك يمكن قصدها من اللفظ الموضوع لها ، وبما أن الذات المقدسة مستجمعة لجميع صفات الكمال ، ولم يلحظ فيها ـ في مرحلة الوضع ـ جهة من كمالاتها دون جهة صح أن يقال : لفظ الجلالة موضوع للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال.

إن قلت :

إن كلمة الله لو كانت علما شخصيا لم يستقم معنى قوله عزاسمه :

« وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ٦ : ٣ ».

وذلك لانها لو كانت علما لكانت الآية قد أثبتت له المكان وهو محال ، فلا مناص من أن يكون معناه المعبود ، فيكون معنى الآية : وهو المعبود في السماوات والارضين.

٤٢٦

قلت :

المراد بالآية المباركة أنه تعالى لا يخلو منه مكان ، وأنه محيط بما في السماوات وما في الارض ، ولا تخفى عليه منها خافية ، ويشهد لهذا قوله تعالى في آخر الآية الكريمة :

« يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ٦ : ٣ ».

وقد روى أبو جعفر وهو محمد بن نعمان في ظن الصدوق قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل :

« وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ٦ : ٣ ».

قال عليه‌السلام : كذلك هو في كل مكان ، قلت : بذاته؟ قال : ويحك إن الاماكن أقدار ، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق : علما وقدرة وإحاطة وسلطانا ... (١).

والالف واللام : من كلمة الجلالة وإن كانت جزء منها على العلمية ، إلا أن الهمزة فيها همزة وصل تسقط في الدرج ، إلا إذا وقعت بعد حرف النداء ، فتقول يا الله بإثبات الهمزة وهذا مما اختص به لفظ الجلالة ، ولم يوجد نظيره في كلام العرب قط ، ولا مضايقة في كون كلمة الجلالة من المنقول ، وعليه فالاظهر أنه مأخوذ من كلمة لاه بمعنى الاحتجاب والارتفاع ، فهو مصدر مبني للفاعل ، لانه سبحانه هو المرتفع حقيقة الارتفاع التي لا يشوبها انخفاض ، وهو ـ في غاية ظهوره بآثاره وآياته ـ محتجب عن خلقه بذاته ، فلا تدركه الابصار ولا تصل إلى كنهه الافكار :

__________________

١ ـ تفسير البرهان ج ١ ص ٣١٥.

٤٢٧

فيك يا أعجوبة الكو

ن غدا الفكر كليلا

أنت حيرت ذوي

اللبَّ وبلبلت العقولا

كلما أقدم فكري

فيك شبرا فر ميلا

ناكصا يخبط في عشواء

لا يهدي السبيلا

ولا موجب للقول باشتقاقه من أله بمعنى عبد ، أو أله بمعنى تحير ليكون الاله مصدرا بمعنى المفعول ـ ككتاب ـ فانه التزام بما لا يلزم.

الرحمن :

مأخوذ من الرحمة ، ومعناها معروف ، وهي ضد القسوة والشدة. قال الله تعالى :

« أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ٤٨ : ٢٩. اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ٥ : ٩٨ ».

وهي من الصفات الفعلية ، وليست رقة القلب مأخوذة في مفهومها ، بل هي من لوازمها في البشر. فالرحمة ـ دون تجرد عن معناها الحقيقي ـ من صفات الله الفعلية كالخلق والرزق ، يوجدها حيث يشاء. قال عز وجل :

« رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ١٧ : ٥٤. يُعَذِّبُُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ٢٩ : ٢١ ».

حسب ما تقتضيه حكمته البالغة. وقد ورد في الآيات طلب الرحمة من الله سبحانه:

« وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ٢٣ : ١١٨ ».

٤٢٨

وقال غير واحد من المفسرين وبعض اللغويين : إن صيغة الرحمن مبالغة في الرحمة ، وهو كذلك في خصوص هذه الكلمة ، سواء أكانت هيئة فعلان مستعملة في المبالغة أم لم تكن ، فان كلمة الرحمن في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلق ، فيستفاد منها العموم وأن رحمته وسعت كل شئ. ومما يدلنا على ذلك أنه لا يقال : إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحمن ، كما يقال : إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحيم.

وكلمة الرحمن بمنزلة اللقب من الله سبحانه ، فلا تطلق على غيره تعالى ، ومن أجل ذلك استعملت في كثير من الآيات الكريمة من دون لحاظ مادتها قال سبحانه :

« قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ ٣٦ : ١٥. إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ : ٢٣. هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ : ٥٢. مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ٦٧ : ٣ ».

ومما يقرب اختصاص هذا اللفظ به قوله تعالى :

« رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ١٩ : ٦٥ ».

فان الملحوظ أن الله تعالى قد اعتنى بكلمة الرحمن في هذه السورة مريم حتى كررها فيها ست عشرة مرة. وهذا يقرب أن المراد بالآية الكريمة أنه ليس لله سمي بتلك الكلمة.

الرحيم :

صفة مشبهة ، أو صيغة مبالغة. ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل

٤٢٩

غالبا في الغرائز واللوازم غير المنفكة عن الذات : كالعليم والقدير والشريف ، والوضيع والسخي والبخيل والعلي والدني. فالفارق بين الصفتين : أن الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها ، والرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط. ومما يدل على أن الرحمة في كلمة رحيم غريزة وسجية : أن هذه الكلمة لم ترد في القرآن عند ذكر متعلقها إلا متعدية بالباء ، فقد قال تعالى :

« إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ١٤٣٢. وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ٣٣ : ٤٣ ».

فكأنها عند ذكر متعلقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم. وذهب الآلوسي إلى أن الكلمتين ليستا من الصفات المشبهة ، بقرينة إضافتهما إلى المفعول في جملة : رحمن الدنيا والآخرة وحريمهما. والصفة المشبهة لا بد من أن تؤخذ من اللازم (١).

وهذا الاستدلال غريب ، لان الاضافة في الجملة المذكورة ليست من الاضافة إلى المفعول بل هي من الاضافة إلى المكان أو الزمان. ولا يفرق فيها بين اللازم والمتعدي.

ثم إنه قد ورد في بعض الروايات : أن الرحمن اسم خاص ومعناه عام وأما لفظ الرحيم فهو اسم عام ، ومعناه خاص ومختص بالآخرة أو بالمؤمنين (٢) إلا أنه لا مناص من تأويل هذه الروايات أو طرحها ، لمخالفتها الكتاب العزيز ، فانه قد استعمل فيه لفظ الرحيم من غير اختصاص بالمؤمنين أو بالآخرة ففي الكتاب العزيز :

__________________

١ ـ تفسير الآلوسي ج ١ ص ٥٩.

٢ ـ تفسير الطبري ج ١ ص ٤٣ ، وتفسير البرهان ج ١ ص ٢٨.

٤٣٠

« فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٤ : ٣٦. نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ١٥ : ٤٩. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ٢٢ : ٦٥. رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ١٧ : ٦٦. وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ٣٣ : ٢٤ ».

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة ، وفي بعض الادعية والروايات : رحمن الدنيا الآخرة ورحيمهما (١).

ويمكن أن يوجه هذا الاختصاص بأن الرحمة الالهية إذا لم تنته إلى الرحمة في الآخرة ، فكأنها لم تكن رحمة (٢). وما جدوى رحمة تكون عاقبتها العذاب والخسران؟ فإن الرحمة الزائلة تندك أمام العذاب الدائم لا محالة ، وبلحاظ ذلك صح أن يقال : الرحمة مختصة بالمؤمنين أو بالآخرة.

الإعراب

ذهب بعضهم إلى أن متعلق الجار والمجرور هو أقرأ ، أو إقرأ ، أو أقول ، أو قل ، وقال بعض : متعلقه أستعين ، أو استعن ، وذهب آخرون إلى تعلقه بأبتدئ ، والوجهان الاولان باطلان :

____________

١ ـ الصحيفة السجادية في دعائه (ع) في استكشاف الهموم ، ومستدرك الحاكم ج ١ ص ١٥٥.

٢ ـ اشير إلى ذلك في بعض الادعية المأثورة.

٤٣١

أما الوجه الاول : فلان مفعول القراءة أو القول ـ هنا ـ يجب أن يكون هي الجملة بما لها من المعنى ، فلا مناص من تقدير كلمة أخرى ، لتكون الجملة بما لها من المتعلق مقولا للقول.

وأما الوجه الثاني : فلان الاستعانة تستحيل أن تكون من الله تعالى ، لغناه عن الاستعانة حتى بأسمائه الكريمة ، والاستعانة من الخلق إنما تكون بالله لا باسمائه وقد نص تعالى على ذلك بقوله : « إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » فتعين أن يكون متعلق الجار والمجرور هو أبتدئ ، وإضافة الاسم إلى الله ليست بيانية ، ليكون المراد من قوله : « الله الرحمن الرحيم » ألفاظها فإنه بعيد جدا ، ويضاف إلى ذلك : أنه لو كان المراد نفس هذه الالفاظ فإن أريد مجموعها ، فهو ليس من الاسماء الالهية ، وإن أريد كل على انفراده ، احتيج إلى العاطف ، فتكون الجملة هكذا : « بسم الله الرحمن الرحيم » إذا فالاضافة معنوية لا محالة ، وكلمة الله مستعملة في معناها.

التفسير

لما كانت سور القرآن قد أنزلت لسوق البشر إلى كماله الممكن ، وإخراجه من ظلمات الشرك والجهالة إلى نور المعرفة والتوحيد ، ناسب أن يبدأ في كل سورة باسمه الكريم ، فإنه الكاشف عن ذاته المقدسة ، والقرآن إنما انزل ليعرف به الله سبحانه ، واستثنيت من ذلك سورة براءة ، فإنها بدأت بالبراءة من المشركين ولهذا الغرض انزلت ، فلا يناسبها ذكر اسم الله ولا سيما مع توصيفه بالرحمن الرحيم (١).

__________________

١ ـ روى ابن عباس قال سألت علي بن أبي طالب (ع) لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال : لانها أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان ، المستدرك ج ٢ ص ٣٣.

٤٣٢

وعلى الجملة : ابتدأ الله كتابه التدويني بذكر اسمه ، كما ابتدأ في كتابه التكويني باسمه الاتم ، فخلق الحقيقة المحمدية ونور النبي الاكرم قبل سائر المخلوقين ، وإيضاح هذا المعنى : أن الاسم هو ما دل على الذات ، وبهذا الاعتبار تنقسم الاسماء الالهية إلى قسمين : تكوينية ، وجعلية. فالاسماء الجعلية هي الالفاظ التي وضعت للدلالة على الذات المقدسة ، أو على صفة من صفاتها الجمالية والجلالية ، والاسماء التكوينية هي الممكنات الدالة بوجودها على وجود خالقها وعلى توحيده :

« أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ٥٢ : ٣٥. لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ٢١ : ٢٢ ».

ففي كل شيء دلالة على وجود خالقه وتوحيده ، وكما تختلف الاسماء الالهية اللفظية من حيث دلالتها ، فيدل بعضها على نفس الذات بما لها من صفات الكمال ، ويدل بعضها على جهة خاصة من كمالاتها على اختلاف في العظمة والرفعة فكذلك تختلف الاسماء التكوينية من هذه الجهة ، وإن اشترك جميعها في الكشف عن الوجود والتوحيد ، وعن العلم والقدرة وعن سائر الصفات الكمالية.

ومنشأ اختلافها : أن الموجود إذا كان أتم كانت دلالته أقوى ، ومن هنا صح إطلاق الاسماء الحسنى على الائمة الهداة ، كما في بعض الروايات (١). فالواجب جل وعلا قد ابتدأ في أكمل كتاب من كتبه التدوينية بأشرف الالفاظ وأقربها إلى اسمه الاعظم من ناظر العين إلى بياضها (٢) كما بدأ في كتابه التكويني باسمه

__________________

١ ـ الكافي باب النوادر من أبواب التوحيد ص ٧٠ ، والوافي ج ١ ص ١٠٩ ، وتفسير البرهان ج ١ ص ٣٧٧.

٢ ـ الوافي باب قراءة البسملة والجهر بها ج ٥ ص ٩٩ ، والتهذيب ج ١ ص ٢١٨ باب

( البيان ـ ٢٨ )

٤٣٣

الاعظم في عالم الوجود العيني (١) ، وفي ذلك تعليم البشر بأن يبتدئوا في أقوالهم وأفعالهم باسمه تعالى.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كل كلام أو أمر ذي بال لم يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر ، أو قاطع أقطع (٢) ، وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله عز وجل : كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر (٣).

__________________

كيفية الصلاة وصفتها. ورواه عثمان عن النبي (ص) باختلاف يسير في ألفاظه ، المستدرك للحاكم ج ١ ص ٥٥٢ ، وكنز العمال ج ٢ ص ١٩٠. انظر التعليقة رقم (١٢) لمعرفة أهمية البسملة ـ في قسم التعليقات.

١ ـ انظر التعليقة رقم (١٢) لمعرفة كتابه التكويني بماذا بدأه به ـ في قسم التعليقات.

٢ ـ مسند أحمد ج ٢ ص ٣٥٩.

٣ ـ البحار ج ١٦ باب ٥٨ الافتتاح بالتسمية ، وج ١٩ ص ٦٠.

٤٣٤

البحث الاول

حول آية البسملة

٤٣٥

ذكر الرحمة بدء القرآن. ذكر الرحيم بعد الرحمن. هل البسملة من القرآن؟

٤٣٦

ذكر الرحمة بدء القرآن :

قد وصف الله تعالى نفسه بالرحمة في ابتداء كلامه دون سائر صفاته الكمالية ، لان القرآن إنما نزل رحمة من الله لعباده. ومن المناسب أن يبتدأ بهذه الصفة التي اقتضت إرسال الرسول وإنزال الكتاب. وقد وصف الله كتابه ونبيه بالرحمة في آيات عديدة ، فقد قال تعالى:

« هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٧ : ٢٠٣. وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ١٠ : ٥٧. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ١٦ : ٨٩. وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ١٧ : ٨٢. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ٢١ : ١٠٧. وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ٢٧ : ٧٧ ».

ذكر الرحيم بعد الرحمن :

قد عرفت أن هيئة فعيل تدل على أن المبدأ فيها من الغرائز والسجايا غير

٤٣٧

المنفكة عن الذات (١). وبذلك تظهر نكتة تأخير كلمة الرحيم عن كلمة الرحمن فإن هيئة الرحمن تدل على عموم الرحمة وسعتها ولا دلالة لها على أنها لازمة للذات ، فأتت كلمة الرحيم بعدها للدلالة على هذا المعنى.

وقد اقتضت بلاغة القرآن أن تشير إلى كلا الهدفين في هذه الآية المباركة ، فالله رحمن قد وسعت رحمته كل شيء وهو رحيم لا تنفك عنه الرحمة.

وقد خفي الامر على جملة من المفسرين ، فتخيلوا أن كلمة الرحمن أوسع معنى من كلمة الرحيم بتوهم أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني. وهذا التعليل ينبغي أن يعد من المضحكات ، فإن دلالة الالفاظ تتبع كيفية وضعها ، ولا صلة لها بكثرة الحروف وقلتها. ورب لفظ قليل الحروف كثير المعنى ، وبخلافه لفظ آخر ، فكلمة حذر تدل على المبالغة دون كلمة حاذر ، وإن كثيرا ما يكون الفعل المجرد والمزيد فيه بمعنى واحد ، كضر وأضر.

هذا إذا فرضنا أن يكون استعمال كلمة الرحمن استعمالا اشتقاقيا وأما بناء على كونها من أسماء الله تعالى وبمنزلة اللقب له نقلا عن معناها اللغوي ـ وقد تقدم إثبات ذلك ـ فإن في تعقيبها بكلمة الرحيم زيادة على ما ذكر إشارة إلى سبب النقل ، وهو اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة.

هل البسملة من القرآن؟

اتفقت الشيعة الامامية على أن البسملة آية من كل سورة بدئت بها ، وذهب إليه ابن عباس ، وابن المبارك ، وأهل مكة كابن كثير ، وأهل الكوفة كعاصم ، والكسائي ، وغيرهما ما سوى حمزة. وذهب إليه أيضا غالب أصحاب الشافعي (٢) وجزم به قراء مكة والكوفة (٣) ، وحكي هذا القول عن ابن عمر ، وابن الزبير

__________________

١ ـ مر ذلك في الصفحة ٤٢٢ من هذا الكتاب.

٢ ـ تفسير الآلوسي ج ١ ص ٣٩.

٣ ـ تفسير الشوكاني ج ١ ص ٧.

٤٣٨

وأبي هريرة ، وعطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والزهري ، وأحمد بن حنبل في رواية عنه ، واسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام (١) وعن البيهقي نقل هذا القول عن الثوري ومحمد بن كعب (٢) ، واختاره الرازي في تفسيره ونسبه إلى قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز ، وإلى ابن المبارك والثوري ، واختاره أيضا جلال الدين السيوطي مدعيا تواتر الروايات الدالة عليه معنى (٣).

وقال بعض الشافعية وحمزة : إنها آية من فاتحة الكتاب خاصة دون غيرها ونسب ذلك إلى أحمد بن حنبل ، كما نسب إليه القول الاول (٤).

وذهب جماعة : منهم مالك ، وأبو عمرو ، ويعقوب إلى أنها آية فذة وليست جزء من فاتحة الكتاب ولا من غيرها ، وقد انزلت لبيان رؤوس السور تيمنا ، وللفصل بين السورتين ، وهو مشهور بين الحنفية (٥).

غير أن أكثر الحنفية ذهبوا إلى وجوب قراءتها في الصلاة قبل الفاتحة وذكر الزاهدي عن المجتبى أن وجوب القراءة في كل ركعة هي الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة (٦).

وأما مالك فقد ذهب إلى كراهة قراءتها في نفسها ، واستحبابها لاجل الخروج من الخلاف (٧).

__________________

١ ـ تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٦.

٢ ـ تفسير الخازن ج ١ ص ١٣.

٣ ـ الاتقان النوع ٢٢ ـ ٢٧ ج ١ ص ١٣٥ ، ١٣٦.

٤ ـ تفسير الآلوسي ج ١ ص ٣٩.

٥ ـ نفس المصدر.

٦ ـ نفس المصدر.

٧ ـ الفقه على المذاهب الاربعة ج ١ ص ٢٥٧.

٤٣٩

أدلة جزئية البسملة للقرآن :

وفي هذه المسألة أقوال أخر شاذة لا فائدة في التعرض لها ، ولكن المهم بيان الدليل على المذهب الحق ويقع ذلك في عدة أمور :

١ ـ أحاديث أهل البيت :

وهي الروايات الصحيحة المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام الصريحة في ذلك (١) وبها الكفاية عن تجشم أي دليل آخر بعد أن جعلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدلا للقرآن في وجوب التمسك بهم والرجوع إليهم (٢).

١ ـ عن معاوية بن عمار قال :

« قلت لابي عبد الله عليه‌السلام إذا قمت للصلاة أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة القرآن؟ قال : نعم. قلت : فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة ، قال : نعم » (٣).

٢ ـ عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال :

« كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ : ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب فلما صار إلى غير أم الكتاب من السورة تركها؟ فقال العباسي : ليس بذلك بأس ، فكتب بخطه : يعيدها ـ مرتين ـ على رغم أنفه ، يعني العباسي » (٤).

__________________

١ ـ وللاطلاع على الروايات المذكورة يراجع فروع الكافي باب قراءة القرآن ص ٨٦ ، والاستبصار باب الجهر بالبسملة ج ١ ص ٣١١ ، والتهذيب ـ باب كيفية الصلاة وصفتها ج ١ ص ١٥٣ ، ٢١٨ ، ووسائل الشيعة باب أن البسملة آية من الفاتحة ج ١ ص ٣٥٢.

٢ ـ تقدم بعض مصادر هذا الحديث في الصفحة ١٨ ، ٣٩٨ من هذا الكتاب.

٣ ـ الكافي ج ٣ ص ٣١٢ ط دار الكتب الاسلامية.

٤ ـ نفس المصدر ص ٣١٣.

٤٤٠