البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

٢ ـ وقالوا : قد صح عن المعصومين عليهم‌السلام أن تعرض الروايات على الكتاب وما يكون منها مخالفا لكتاب الله يلزم طرحه ، وضربه على الجدار ، وهو مما لم يقولوه. والخبر الخاص المخالف لعموم الكتاب مما تشمله تلك الادلة ، فيجب طرحه وعدم تصديقه.

والجواب عن ذلك :

أن القرائن العرفية على بيان المراد من الكتاب لا تعد في نظر العرف من المخالفة له في شيء ، والدليل الخاص قرينة لا يضاح المعنى المقصود من الدليل العام ، والمخالفة بين الدليلين إنما تتحقق إذا عارض أحدهما صاحبه بحيث يتوقف أهل العرف في فهم المراد منهما إذا صدر كلاهما من متكلم واحد ، أو ممن بحكمه فخبر الواحد الخاص ليس مخالفا للعام الكتابي ، بل هو مبين للمراد منه.

ويدل على ذلك أيضا : أنا نعلم أنه قد صدر عن المعصومين عليهم‌السلام كثير من الاخبار المخصصة لعمومات الكتاب ، والمقيدة لمطلقاته ، فلو كان التخصيص أو التقييد من المخالف للكتاب لما صح قولهم : ما خالف قول ربنا لم نقله ، أو هو زخرف ، أو باطل فيكون صدور ذلك عنهم عليهم‌السلام دليلا على أن التخصيص أو التقييد ليس من المخالفة في شئ.

أضف إلى ذلك : أن المعصومين عليهم‌السلام قد جعلوا موافقة أحد الخبرين المتعارضين للكتاب مرجحا له على الخبر الاخر ، ومعنى ذلك أن معارضه ـ وهو الذي لم يوافق الكتاب ـ حجة في نفسه لو لا المعارضة ، ومن الواضح أن ذلك الخبر لو كانت مخالفته للكتاب على نحو لا يمكن الجمع بينهما لم يكن حجة في نفسه ولم يبق مع مجال للمعارضة والترجيح ، وإذن فلا مناص من أن يكون المراد من عدم موافقته للكتاب أنه يمكن الجمع بينهما عرفا بالالتزام بالتخصيص أو التقييد.

( البيان ـ ٢٦ )

٤٠١

ونتيجة ذلك : أن الخبر المخصص للكتاب ، أو المقيد له حجة في نفسه ، ويلزم العمل به إلا حين يبتلى بالمعارضة.

٣ ـ وقالوا : لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به ، والنسخ به غير جائز يقينا فالتخصيص به غير جائز أيضا ، والسند في هذه الملازمة : أن النسخ ـ كما أوضحناه في مبحث النسخ ـ تخصيص في الازمان ، والدليل الناسخ كاشف عن أن الحكم الاول كان مختصا بزمان ينتهي بورود ذلك الدليل الناسخ ، فنسخ الحكم ليس رفعا له حقيقة ، بل هو رفع له صورة وظاهرا ، والتخصيص في الافراد كالتخصيص في الازمان ، فكلاهما تخصيص ، فلو جاز الاول لجاز الثاني.

والجواب عن ذلك :

أن الفارق بين النوعين من التخصيص هو الاجماع القطعي على المنع في النسخ ولو لا ذلك الاجماع لجاز النسخ بخبر الواحد الحجة ، كما جاز التخصيص به ، وقد بينا أن الكتاب وإن كان قطعي السند إلا أن دلالته غير قطعية ، ولا مانع من رفع اليد عنها بخبر الواحد الذي ثبتت حجيته بدليل قطعي.

نعم : الاجماع المذكور ليس إجماعا تعبديا ، بل لان بعض الامور من شأنه أن ينقل بالتواتر لو تحقق في الخارج ، فإذا اختص بنقله بعض دون بعض كان ذلك دليلا على كذب راويه أو خطئه ، فلا تشمله أدلة الحجية لخبر الواحد ، ومن أجل هذا قلنا : إن القرآن لا يثبت بخبر الواحد.

ومما لا ريب فيه أن النسخ لا يختص بقوم من المسلمين دون قوم ، والدواعي لنقله متظافرة ، فلو ثبت لكانت الاخبار به متواترة ، فإذا اختص الواحد بنقله كان ذلك دليلا على كذبه أو خطئه ، وبذلك يظهر الفارق بين التخصيص والنسخ وتبطل الملازمة بين جواز الاول وجواز الثاني.

٤٠٢

حدوث القرآن وقدمه

٤٠٣

التكلم من صفات الله الثبوتية.مسألة حدوث القرآن وقدمه أمر حادث لا صلة له بعقائد الاسلام. صفات الله الذاتية وصفاته الفعلية. الكلام النفسي. أدلة الاشاعرة على الكلام النفسي.تصور الكلام قبل وجوده أجنبي عن الكلام النفسي. الكلام النفسي أمر خيالي بحت.

٤٠٤

لا يشك أحد من المسلمين أن كلام الله الذي أنزله على نبيه الاعظم برهانا على نبوته ودليلا لامته. ولا يشك أحد منهم أن التكلم إحدى صفات الله الثبوتية المعبر عنها بالصفات الجمالية. وقد وصف الله سبحانه نفسه بهذه الصفة في كتابه فقال تعالى :

« وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ٤ : ١٠٣ ».

أثر الفلسفة اليونانية في حياة المسلمين :

وقد كان المسلمون بأسرهم على ذلك ، ولم يكن لهم أي اختلاف فيه ، حتى دخلت الفلسفة اليونانية أوساط المسلمين ، وحتى شعبتهم بدخولها فرقا تكفر كل طائفة اختها ، وحتى استحال النزاع والجدال إلى المشاجرة والقتال ، فكم هتكت في الاسلام من أعراض محترمة ، وكم اختلست من نفوس بريئة ، مع أن القاتل والمقتول يعترفان بالتوحيد ، ويقران بالرسالة والمعاد.

أليس من الغريب أن يتعرض المسلم إلى هتك عرض أخيه المسلم وإلى قتله؟ وكلاهما يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، جاء بالحق من عنده ، وأن الله يبعث من في القبور. أولم تكن سيرة نبي الاسلام وسيرة من ولي الامر من بعده أن يرتبوا آثار الاسلام على من يشهد بذلك؟ فهل روى أحد أن الرسول أو غيره ممن قام مقامه سأل أحدا عن حدوث القرآن

٤٠٥

وقدمه ، أو عما سواه من المسائل الخلافية ، ولم يحكم بإسلامه إلا بعد أن؟ قر بأحد طرفي الخلاف؟!!

ولست أدري ـ وليتني كنت أدري ـ بماذا يعتذر من ألقى الخلاف بين المسلمين وبم يجيب ربه يوم يلاقيه ، فيسأله عما ارتكب؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد حدثت هذه المسألة ـ حدوث القرآن وقدمه ـ بعد انشعاب المسلمين شعبتين : أشعري وغير أشعري. فقالت الاشاعرة بقدم القرآن ، وبأن الكلام على قسمين : لفظي ونفسي ، وأن كلام الله النفسي قائم بذاته وقديم بقدمه وهو إحدى صفاته الذاتية. وذهبت المعتزلة والعدلية إلى حدوث القرآن ، وإلى انحصار الكلام في اللفظي ، وإلى أن التكلم من الصفات الفعلية.

صفات الله الذاتية والفعلية :

والفارق بين صفات الله الذاتية وصفاته الفعلية أن صفات الله الذاتية هي التي يستحيل أن يتصف سبحانه بنقيضها أبدا. إذا فهي التي لا يصح سلبها عنه في حال. ومثال ذلك : العلم والقدرة والحياة ، فالله تبارك وتقدس لم يزل ولا يزال عالما قادرا حيا ، ويستحيل أن لا يكون كذلك في حال من الاحوال.

وأن صفاته الفعلية هي التي يمكن أن يتصف بها في حال وبنقيضها في حال آخر. ومثال ذلك : الخلق والرزق ، فيقال : إن الله خلق كذا ولم يخلق كذا ، ورزق فلانا ولدا ولم يرزقه مالا. وبهذا يظهر جليلا أن التكلم إنما هو من الصفات الفعلية ، فإنه يقال : كلم الله موسى ولم يكلم فرعون ، ويقال : كلم الله موسى في جبل طور ولم يكلمه في بحر النيل.

الكلام النفسي :

اتفقت الاشاعرة على وجود نوع آخر من الكلام غير النوع اللفظي المعروف وقد سموه بالكلام النفسي ، ثم اختلفوا فذهب فريق منهم إلى أنه مدلول الكلام

٤٠٦

اللفظي ومعناه ، وذهب آخرون إلى أنه مغاير لمدلول اللفظ ، وأن دلالة اللفظ عليه دلالة غير وضعية ، فهي من قبيل دلالة الافعال الاختيارية على إرادة الفاعل وعلمه وحياته.

والمعروف بينهم اختصاص القدم بالكلام ، إلا أن الفاضل القوشجي نسب إلى بعضهم القول بقدم جلد القرآن وغلافه أيضا (١). وقد عرفت أن غير الاشاعرة متفقون على حدوث القرآن ، وعلى أن كلام الله اللفظي ككلماته التكوينية مخلوق له ، وآية من آياته. ولا يترتب على الكلام في هذه المسألة وتحقيق القول فيها غرض مهم ، لانها خارجة عن أصول الدين وفروعه ، وليست لها أية صلة بالمسائل الدينية ، والمعارف الالهية ، غير أنني أحببت التكلم فيها ليتضح لاخواننا الاشاعرة ـ وهم أكثر المسلمين عددا ـ أن ما ذهبوا إليه واعتقدوا به وحسبوه مما يجب الاعتقاد به أمر خيالي لا أساس له من العقل والشرع.

وتوضيح ذلك :

أنه لا خلاف في أن الكلام المؤلف من الحروف الهجائية المتدرجة في الوجود أمر حادث يستحيل اتصاف الله تعالى به في الازل وغير الازل. والخلاف إنما هو في وجود سنخ آخر من الكلام مجتمعة أجزاؤه وجودا ، فأثبتته الاشاعرة وقالت بأنه من صفات الله الذاتية كما يتصف غيره به أيضا. ونفاه غيرهم وحصروا الكلام في اللفظي ، وقالوا : إن قيامه بالمتكلم قيام الفعل بالفاعل والصحيح هو القول الثاني.

ودليلنا على ذلك :

أن الجمل : إما خبرية وإما إنشائية. أما الجمل الخبرية ، فإنا إذا فحصنا مواردها لن نجد فيها إلا تسعة أمور ، وهي التي لا بد منها في الاخبار عن ثبوت شيء لشئ أو عدم ثبوته له :

__________________

١ ـ شرح التجريد : المقصد الثالث ص ٣٥٤

٤٠٧

أولا ـ مفردات الجملة بموادها ، وهيئاتها.

ثانيا ـ معاني المفردات ، ومداليلها.

ثالثا ـ الهيئة التركيبية للجملة.

رابعا ـ ما تدل عليه الهيئة التركيبية.

خامسا ـ تصور المخبر مادة الجملة ، وهيئتها.

سادسا ـ تصور مدلول الجملة بمادتها ، وهيئتها.

سابعا ـ مطابقة النسبة لما في الخارج ، أو عدم مطابقتها له

ثامنا ـ علم المخبر بالمطابقة ، أو بعدمها ، أو شكه فيها.

تاسعا ـ إرادة المتكلم لايجاد الجملة في الخارج مسبوقة بمقدماتها.

وقد اعترفت الاشاعرة بأن الكلام النفسي ليس شيئا من الامور المذكورة وعلى هذا فلا يبقى للكلام النفسي عين ولا أثر ، أما مفاد الجملة فلا يمكن أن يكون هو الكلام النفسي ، لان مفاد الجملة الخبرية ـ على ما هو المعروف ـ ثبوت شيء لشئ أو سلبه عنه ، وعلى ما هو التحقيق ـ عندنا ـ هو قصد الحكاية عن عن الثبوت أو السلب ، فقد أثبتنا أن الهيئة التركيبية للجملة الخبرية بمقتضى وضعها أمارة على قصد المتكلم للحكاية عن النسبة ، وشأنها في ذلك شأن ما سوى الالفاظ من الامارات الجعلية.

وقد حققنا : أن الوضع هو التعهد بجعل لفظ خاص أو هيئة خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلق غرض المتكلم بتفهيمه ، وقد أوضحنا ذلك كله في محله (١) هذا هو مفاد الجملة الخبرية ، والكلام النفسي ـ عند القائل به ـ موجود نفساني من سنخ الكلام مغاير للنسبة الخارجية ولقصد الحكاية.

__________________

١ ـ في كتابنا أجود التقريرات في الاصول ، المطبوع مع تعليقاتنا.

٤٠٨

وأما الجمل الانشائية فهي كالجمل الخبرية ، والفارق بينهما أن الجمل الانشائية ليس في مواردها خارج تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه وعليه فالامور التي لا بد منها في الجمل الانشائية سبعة ، وهي بذاتها الامور التسعة التي ذكرناها في الجمل الخبرية ما عدا السابع والثامن منها ، وقد علمت أن الكلام النفسي عند القائلين به ليس واحدا منها.

ولعل سائلا يقول : ما هو مفاد هيئة الجملة الانشائية؟.

المعروف بين العلماء أنها موضوعة لايجاد معنى من المعاني نحو إيجاد مناسب لعالم الانشاء ، وقد تكرر في كلمات كثير منهم أن الانشاء إيجاد المعنى باللفظ ، وقد ذكرنا في مباحثنا الاصولية أنه لا أصل للوجود الانشائي ، واللفظ والمعنى وإن كانت لهما وحدة عرضية منشأها ما بينهما من الربط الناشئ من الوضع ، فوجود اللفظ وجود له بالذات ووجود للمعنى بالعرض والمجاز ، ومن أجل ذلك يسري حسن المعنى أو قبحه إلى اللفظ ، وبهذا المعنى يصح أن يقال : وجد المعنى باللفظ وجودا لفظيا ، إلا أن هذا لا يختص بالجمل الانشائية ، بل يعم الجمل الخبرية والمفردات أيضا.

أما وجود المعنى بغير وجوده اللفظي فينحصر في نحوين ، وكلاهما لا مدخل للفظ فيه أبدا :

أحدهما : وجوده الحقيقي الذي يظهر به في نظام الوجود من الجواهر والاعراض ، ولا بد في تحقيق هذا الوجود من تحقق أسبابه وعلله ، والالفاظ أجنبية عنها بالضرورة.

ثانيهما : وجوده الاعتباري ، وهو نحو من الوجود للشئ إلا أنه في عالم الاعتبار لا في الخارج ، وتحقق هذا النحو من الوجود إنما هو باعتبار من بيده الاعتبار ، واعتبار كل معتبر قائم بنفسه ، ويصدر منه بالمباشرة ، ولا يتوقف على وجود لفظ في الخارج أبدا ، أما إمضاء الشارع أو إمضاء العقلاء للعقود أو الايقاعات الصادرة من الناس ، فهو وإن توقف على صدور لفظ من المنشئ أو

٤٠٩

ما بحكم اللفظ ، ولا أثر لاعتباره إذا تجرد عن المبرز من قول أو فعل ، إلا أن الامضاء المذكور متوقف على صدور لفظ قصد به الانشاء ، وموضع البحث هو مفاد ذلك اللفظ الذي جئ به في المرحلة السابقة على الامضاء.

وعلى الجملة : إن الوجود الحقيقي والاعتباري للشئ لا يتوقفان على اللفظ ، وإما إمضاء الشرع أو العقلاء للوجود الاعتباري فهو وإن توقف على صدور لفظ أو ما بحكمه من المنشئ ، إلا أنه يتوقف عليه بما هو لفظ مستعمل في معناه ، وأما الوجود اللفظي فهو عام لكل معنى دل عليه باللفظ ، فلا أساس للقول المعروف : « الانشاء إيجاد المعنى باللفظ ».

والصحيح : إن الهيئات الانشائية وضعت لابراز أمر ما من الامور النفسانية وهذا الامر النفساني قد يكون اعتبارا من الاعتبارات كما في الامر والنهي والعقود والايقاعات ، وقد يكون صفة من الصفات ، كما في التمني والترجي ، فهيئات الجمل أمارات على أمر ما من الامور النفسانية وهو في الجمل الخبرية قصد الحكاية ، وفي الجمل الانشائية أمر آخر.

ثم إن الاتيان بالجملة المبرزة ـ بوضعها ـ لامر نفساني قد يكون بداعي إبراز ذلك الامر ، وقد يكون بداع آخر سواه ، وفي كون الاستعمال في هذا القسم الاخير مجازا أو حقيقة كلام ليس هنا محل ذكره ، وللاطلاع على تفصيل الكلام في ذلك يراجع تعليقاتنا الاصولية.

والذي يظهر من موارد استعمال لفظ الطلب : أنه موضوع للتصدي لتحصيل شيء ما ، فلا يقال : طلب الضالة ، ولا طلب الاخرة ، إلا عند التصدي لتحصيلهما ، وفي لسان العرب الطلب محاولة وجدان الشئ وأخذه ، وبهذا الاعتبار يصدق على الامر أنه طالب ، لانه يحاول وجدان الفعل المأمور به ، فإن الامر هو الذي يدعو المأمور إلى الاتيان بمتعلقه ، وهو بنفسه مصداق للطلب ، لا أن الامر لفظ والطلب معناه فلا أساس للقول بأن الامر موضوع للطلب ، ولا للقول بأن الطلب كلام نفسي يدل عليه الكلام اللفظي.

٤١٠

وقد أصابت الاشاعرة في قولهم : إن الطلب غير الارادة ولكنهم أخطأوا في جعله صفة نفسية ، وفي جعله مدلولا عليه بالكلام اللفظي.

نفي الكلام النفسي :

ومن جميع ما ذكرناه يستبين القارئ : أنه ليس في موارد الجمل الخبرية ولا الانشائية ما يكون من سنخ الكالم قائما بالنفس ، ليسمى بالكلام النفسي ، نعم لا بد للمتكلم من أن يتصور كلامه قبل إيجاده ، والتصور وجود في النفس يسمونه بالوجود الذهني ، فإن أراد القائلون بالكلام النفسي هذا النحو من الوجود للكلام في النفس فهو صحيح ، ولكنك تعلم أنه غير مختص بالكلام ، بل يعم كل فعل اختياري ، والكلام إنما لزم تصوره لانه فعل اختياري للمتكلم.

أدلة الاشاعرة على الكلام النفسي :

استدل القائلون بالكلام النفسي على مدعاهم بوجوه :

الاول : أن كل متكلم يرتب الكلام في نفسه قبل أن يتكلم به ، والموجود في الخارج من الكلام يكشف عن وجود مثله في النفس ، وهذا وجداني يجده كل متكلم في نفسه ، واليه أشار الاخطل بقوله :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وجوابه قد تقدم :

فإن تركيب الكلام في النفس هو تصوره وإحضاره فيها ، وهو الوجود الذهني الذي يعم الافعال الاختيارية كافة ، فالكاتب والنقاش لا بد لهما من أن يتصورا عملهما أولا قبل أن يوجداه ، فلا صلة لهذا بالكلام النفسي.

الثاني : أنه يطلق الكلام على الموجود منه في النفس ، وإطلاقه عليه صحيح بلا عناية ، فيقول القائل : إن في نفسي كلاما لا اريد أن أبديه ، وقد قال الله عز اسمه :

٤١١

« وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ٦٧ : ١٣ ».

وجوابه يظهر مما تقدم :

فإن الكلام كلام في وجوده الذهني ، كما هو كلام في وجوده الخارجي ولكل شيء نحوان من الوجود : خارجي وذهني ، والشئ هو ذلك الشئ في كلا وجوديه ، وإطلاق الاسم عليه بلا عناية. ولا يختص هذا بالكلام ، فيقول المهندس : إن في نفسي صورة بناء سأنقشها في خارطة ، ويقول المتعبد : إن في نفسي أن أصوم غدا.

الثالث : أنه يصح إطلاق المتكلم على الله ، وهذا الهيئة اسم الفاعل وضعت لافادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا. ولذا لا يطلق المتحرك والساكن والنائم إلا على من تلبس بالحركة والسكون والنوم ، دون من أوجدها. وواضح أن الكلام اللفظي لا يمكن أن يتصف به الله تعالى ، لا ستحالة اتصاف القديم بالصفة الحادثة ، فلا مناص من الالتزام بالكلام القديم ، ليصح إطلاق المتكلم على الله سبحانه باعتبار اتصافه به.

وجوابه :

أن المبدأ في صيغة المتكلم ليس هو الكلام ، فإنه غير قائم بالمتكلم قيام الصفة بموصوفها حتى في غير الله ، فإن الكلام كيفية عارضة للصوت الحاصل من تموج الهواء ، وهو أمر قائم بالهواء لا بالمتكلم ، والمبدأ في الصيغة المذكورة هو التكلم ، ولا نعقل له معنى غير إيجاد الكلام ، فإطلاقه على الله وعلى غيره بمعنى واحد.

وأما قول المستدل : إن هيئة اسم الفاعل وضعت لافادة قيام المبدأ بالذات قيام الوصف بالموصوف فهو غلط بين ، فان الهيئة إنما تفيد قيام المبدأ بالذات

٤١٢

نحوا من القيام. أما خصوصيات القيام من كونها إيجادية أو حلولية أو غيرهما فهي غير مأخوذة في مفاد الهيئة وهي تختلف باختلاف الموارد ، ولا تدخل تحت ضابط كلي ، فالعالم والنائم مثلا لا يطلقان على موجد العلم والنوم ، لكن القابض والباسط والنافع والضار تطلق على موجد هذه المبادئ ، وعليه فعدم صحة إطلاق المتحرك على موجد الحركة لا يستلزم عدم صحة إطلاق المتكلم على موجد الكلام.

وحاصل ما تقدم :

أن الكلام النفسي أمر خيالي بحت لا دليل على وجوده من وجدان أو برهان.

ومن المناسب أن نختم الكلام بما ذكره الامام أبو عبد الله جععر بن محمد الصادق عليه‌السلام في هذا الموضوع ، فقد روى الشيخ الكليني بإسناده عن أبي بصير قال :

« سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لم يزل الله عز وجل ربنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور. فلما أحدث الاشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر والقدرة على المقدور. قال : قلت : فلم يزل الله متحركا؟ قال : فقال : تعالى الله عن ذلك ، إن الحركة صفة محدثة بالفعل. قال : فقلت : فلم يزل الله متكلما؟ قال : فقال : إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية ، كان الله عز وجل ولا متكلم » (١).

__________________

١ ـ اصول الكافي باب صفات الذات ص ٥١.

٤١٣
٤١٤

تفسير فاتحة الكتاب

٤١٥

محل نزولها. فضلها. آياتها. غاياتها. القراءة الاعراب. اللغة. التفسير.تحليل آية : الحمد لله رب العالمين .. تحليل آية : إياك نعبد وإياك نستعين. تحليل آية : اهدنا الصراط المستقيم .. البحث الاول حول آية : البسملة .. البحث الثاني حول آية : الحمد .. البحث الثالث حول آية : إهدنا ..

٤١٦

٤١٧

محل نزولها :

المعروف : أن هذه السورة مكية ، وعن بعض أنها مدنية ، والصحيح هو القول الاول ، ويدل على ذلك أمران :

الاول : أن فاتحة الكتاب هي السبع المثاني (١) وقد ذكر في سورة الحجر أن السبع المثاني نزلت قبل ذلك ، فقال تعالى :

« وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ١٥ : ٨٧ ».

وسورة الحجر مكية بلا خلاف : فلا بد وأن تكون فاتحة الكتاب مكية أيضا.

الثاني : أن الصلاة شرعت في مكة ، وهذا ضروري لدى جميع المسلمين ولم تعهد في الاسلام صلاة بغير فاتحة الكتاب ، وقد صرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك بقوله : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وهذا الحديث منقول عن طريق الامامية وغيرهم.

وذهب بعض : إلى أنها نزلت مرتين ، مرة في مكة ، واخرى في المدينة تعظيما لشأنها ، وهذا القول محتمل في نفسه وإن لم يثبت بدليل ، ولا يبعد أن يكون هو الوجه في تسميتها بالسبع المثاني ، ويحتمل أن يكون الوجه هو وجوب الاتيان بها مرتين في كل صلاة : مرة في الركعة الاولى ومرة في الركعة الثانية.

__________________

١ ـ صرح بذلك في عدة من الروايات : منها رواية الصدوق والبخاري وسنذكرهما بعد هذا.

٤١٨

فضلها :

كفى في فضلها : أن الله تعالى قد جعلها عدلا للقرآن العظيم في آية الحجر المتقدمة ، وأنه لا بد من قراءتها في الصلاة بحيث لا تغني عنها سائر السور ، وأن الصلاة هي عماد الدين ، وبها يمتاز المسلم عن الكافر. « وسنبين ـ إن شاء الله تعالى ـ ما اشتملت عليه هذه السورة من المعارف الالهية على اختصارها ».

روى الصدوق باسناده عن الحسن بن علي ـ العسكري ـ عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام.

أنه قال : بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب وهي سبع آيات تمامها : بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إن الله تعالى قال لي يا محمد :

« وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ١٥ : ٨٧ ».

فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب ، وجعلها بإزاء القرآن العظيم وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش .. (١).

وروى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى ، قال :

« كنت أصلي فدعاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم أجبه. قلت : يا رسول الله إني كنت اصلي. قال : ألم يقل الله :

« اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ٢٤ : ٨ ».

ثم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج ، قلت : يا رسول الله إنك قلت ألا اعلمك أعظم

__________________

١ ـ تفسير البرهان ج ١ ص ٢٦.

٤١٩

سورة من القرآن؟ قال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته » (١).

آياتها :

المعروف بين المسلمين : أن عدد آياتها سبع ، بل لا خلاف في ذلك وروي عن حسين الجعفي : أنها ست ، وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان ، وكلا القولين شاذ مخالف لما اتفقت عليه روايات الطريقين من أنها سبع آيات. وقد مر أنها المراد من السبع المثاني في الاية المتقدمة ، فمن عد البسملة آية ذهب إلى أن قوله تعالى : « صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ » إلى آخر السورة آية واحدة. ومن لم يعدها آية ذهب إلى أن قوله تعالى : « غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ » آية مستقلة.

غاياتها :

الغاية من السورة المباركة بيان حصر العبادة في الله سبحانه ، والايمان بالمعاد والحشر. وهذه هي الغاية القصوى من إرسال الرسول الاكرم وإنزال القرآن ، فإن دين الاسلام قد دعا جميع البشر إلى الايمان بالله وإلى توحيده :

« قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ٣ : ٦٤ ».

وأنه لا يستحق غيره لان يعبد ، فالشر ـ وكل موجود مدرك ـ يجب أن يكون خضوعه وتوجهه لله وحده. وبرهان ذلك ـ في هذه السورة الكريمة ـ

__________________

١ ـ البخاري ج ٦ ص ١٠٣ باب فاتحة الكتاب.

٤٢٠