البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

شئ إلا أن يكون من هذه الاصناف. ثم نسخ الله ذلك في سورة الانفال ، فجعل لهؤلاء الخمس ، وجعل الاربعة الاخماس لمن حارب قال الله تعالى (١).

« وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ ٨ : ٤١ ».

وقد رفض المحققون هذا القول ، وقالوا : إن ما يغنمه المسلمون في الحرب يغاير موضعا ما أفاء الله على رسوله بغير قتال ، فلا تنافي بين الايتين لتنسخ إحداهما الاخرى.

أقول : إن ما ذكره المحققون بين لا ينبغي الجدال فيه ، ويؤكده أنه لم ينقل من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخص بالغنائم نفسه وقرابته دون المجاهدين. ومما يبطل النسخ ما قيل من أن سورة الانفال نزلت قبل نزول سورة الحشر (٢) ولا أدنى من الشك في ذلك ، ومما لا ريب فيه أن الناسخ لا بد من تأخره عن المنسوخ.

____________

١ ـ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص ٢٣١.

٢ ـ تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٤.

٣٨١
٣٨٢

البداء في التكوين

٣٨٣

العلم الالهي الازلي لا ينافى قدرته.موقف اليهود من قدرة الله.موقع البداء عند الشيعة. أقسام القضاء الالهي.ثمرة الاعتقاد بالبداء.حقيقة البداء عند الشيعة. أحاديث أهل السنة الدالة على البداء.إنباء المعصومين بالحوادث المستقبلة.

٣٨٤

بمناسبة الحديث عن النسخ في الاحكام وهو في أفق التشريع ، وبمناسبة أن النسخ كالبداء وهو في أفق التكوين ، وبمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين ، وأنهم نسبوا إلى الشيعة ما هم براء منه ، وأنهم لم يحسنوا في الفهم ولم يحسنوا في النقد ، وليتهم إذ لم يعرفوا تثبتوا أو توففوا (١) كما تفرضه الامانة في النقل ، وكما تقتضيه الحيطة في الحكم ، والورع في الدين بمناسبة كل ذلك وجب أن نذكر شيئا في توضيح معنى البداء ، وإن لم تكن له صلة ـ غير هذا ـ بمدخل التفسير.

تمهيد :

لا ريب في أن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته ، وأن وجود أي شيء من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى ، فإن شاء أوجده ، وإن لم يشأ لم يوجده.

ولا ريب أيضا في أن علم الله سبحانه قد تعلق بالاشياء كلها منذ الازل ، وأن الاشياء بأجمعها كان لها تعين علمي في علم الله الازلي وهذا التعين يعبر عنه ب‍ تقرير الله تارة وب‍ قضائه تارة أخرى ، ولكن تقدير الله وعلمه سبحانه

__________________

١ ـ انظر التعليقة رقم (٩) للوقوف على اختلاق الفخر الرازي نسبة الجهل إلى الله على لسان الشيعة ـ في قسم التعليقات.

(البيان ـ ٢٥)

٣٨٥

بالاشياء منذ الازل لا يزاحم ولا ينافي قدرته تعالى عليها حين إيجادها ، فإن الممكن لا يزال منوطا بتعلق مشيئة الله بوجوده التي قد يعبر عنها بالاختيار ، وقد يعبر عنها بالارادة ، فإن تعلقت المشيئة به وجد وإلا لم يوجد. والعلم الالهي يتعلق بالاشياء على واقعها من الاناطة بالمشيئة الالهية ، لان انكشاف الشئ لا يزيد على واقع ذلك الشئ ، فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة الله تعالى كان العلم متعلقا به على هذه الحالة ، وإلا لم يكن العلم علما به على وجهه ، وانكشافا له على واقعه. فمعنى تقدير الله تعالى للاشياء وقضائه بها : أن الاشياء جميعها كانت متعينة في العلم الالهي منذ الازل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها ، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الالهي.

موقف اليهود من قدرة الله :

وذهبت اليهود إلى أن قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الاشياء في الازل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه. ومن أجل ذلك قالوا : يد الله مغلولة عن القبض والبسط والاخذ والاعطاء ، فقد جرى فيها قلم التقدير ولا يمكن فيها التغيير (١) ، ومن الغريب أنهم ـ قاتلهم الله ـ التزموا بسلب القدرة عن الله ، ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد ، مع أن الملاك في كليهما واحد ، فقد تعلق العلم الازلي بأفعال الله تعالى ، وبأفعال العبيد على حد سواء.

موقع البداء عند الشيعة :

ثم إن البداء الذي تقول به الشيعة الامامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم ، أما المحتوم منه فلا يتخلف ، ولا بد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء ، وتوضيح ذلك أن القضاء على ثلاثة أقسام :

__________________

١ ـ انظر التعليقة رقم (١٠) لمعرفة بعض الاخبار الدالة على مشيئة الله تعالى ـ في قسم التعليقات.

٣٨٦

أقسام القضاء الالهي :

الاول : قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه ، والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه ، ولا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم ، بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم‌السلام أن البداء إنما ينشأ من هذا العلم.

روى الشيخ الصدوق في العيون بإسناده عن الحسن بن محمد النوفلي أن الرضا عليه‌السلام قال لسليمان المروزي :

« رويت عن أبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : إن لله عز وجل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء ، وعلما علمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه ... » (١).

وروى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« إن لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه ، ونحن نعلمه » (٢).

الثاني : قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما ، ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء ، وإن افترق عن القسم الاول ، بأن البداء لا ينشأ منه.

قال الرضا عليه‌السلام لسليمان المروزي ـ في الرواية المتقدمة ـ عن الصدوق :

« إن عليا عليه‌السلام كان يقول : العلم علمان ، فعلم علمه الله ملائكته ورسله ،

__________________

١ ـ عيون أخبار الرضا باب ١٣ في ذكر مجلس الرضا مع سليمان المروزي ، والبحار : باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٢ ط كمباني.

٢ ـ نقلا عن البحار باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٦ ط كمباني ، ورواه الشيخ الكليني عن أبي بصير أيضا ، الوافي باب البداء ج ١ ص ١١٣.

٣٨٧

فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ، ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء (١).

وروى العياشي عن الفضيل ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول :

« من الامور أمور محتومة جائية لا محالة ، ومن الامور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، لم يطلع على ذلك أحدا ـ يعني الموقوفة ـ فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا بكذب نفسه ، ولا نبيه ، ولا ملائكته » (٢).

الثالث : قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه. وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء :

« يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ١٣ : ٣٩. لله الامر من قبل ومن بعد ٢٩ : ٤ ».

وقد دلت على ذلك روايات كثيرة منها هذه :

١ ـ ما في تفسير علي بن إبراهيم عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا ، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة ، فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره ، أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء ، ثم أثبت الذي أراده. قلت : وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟ قال : نعم. قلت :

__________________

١ ـ عيون أخبار الرضا باب ١٣ ورواه الشيخ الكليني عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (ع) الوافي باب البداء ج ١ ص ١١٣.

٢ ـ نقلا عن البحار : باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٣ ط كمباني.

٣٨٨

فأي شيء يكون بعده؟ قال : سبحان الله ، ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى (١).

٢ ـ ما في تفسيره أيضا عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن (ع) في تفسير قوله تعالى :

« فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ٤٤ : ٤ ».

أي يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل ، وما يكون في تلك السنة ، وله فيه البداء والمشيئة. يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الاجال والارزاق والبلايا والاعراض والامراض ، ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء .. (٢).

٣ ـ ما في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال :

« لولا آية في كتاب الله ، لاخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي هذه الاية : يمحوا الله ... » (٣).

وروى الصدوق في الامالي والتوحيد بإسناده عن الاصبغ عن أمير المؤمنين عليه مثله.

٤ ـ ما في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

« كان علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة. فقلت : أية آية؟ قال : قول الله : يمحو الله ... » (٤).

٥ ـ ما في قرب الاسناد عن البزنطي عن الرضا عليه‌السلام قال : قال

__________________

١ ـ نقلا عن البحار. باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٣ ط كمباني.

٢ ـ نفس المصدر ص ١٣٤.

٣ ـ الاحتجاج للطبرسي ص ١٣٧ المطبعة المرتضوية ـ النجف الاشرف.

٤ ـ نقلا عن البحار باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٩ ط كمباني.

٣٨٩

أبو عبد الله ، وأبو جعفر ، وعلي بن الحسين ، والحسين بن علي ، والحسن بن علي وعلي بن أبي طالب عليهم‌السلام : لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة : يمحو الله ... (١). إلى غير ذلك من الروايات الدالة على وقوع البداء في القضاء الموقوف.

وخلاصة القول : أن القضاء الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ ، وبام الكتاب ، والعلم المخزون عند الله يستحيل أن يقع فيه البداء. وكيف يتصور فيه البداء؟ وأن الله سبحانه عالم بجميع الاشياء منذ الازل ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء.

روى الصدوق في إكمال الدين بإسناده عن أبي بصير وسماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« من زعم أن الله عز وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه » (٢).

وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول :

« إن الله يقدم ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب ، وقال : فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ، ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه ، إن الله لا يبدو له من جهل » (٣).

وروى أيضا عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام : سئل عن قول الله : يمحو الله .. قال : إن ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت ، فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء ، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يرد به القضاء ، حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا (٤).

__________________

١ ـ نفس المصدر ص ١٣٢.

٢ ـ نقلا عن البحار ، باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٦.

٣ ـ نقلا عن نفس المصدر ص ١٣٩.

٤ ـ نقلا عن نفس المصدر ص ١٣٩.

٣٩٠

وروى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بإسناده عن البزنطي ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال علي بن الحسين ، وعلي بن أبي طالب قبله ، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد :

« كيف لنا بالحديث مع هذه الاية يمحو الله .. فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشئ إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد » (١).

والروايات المأثورة عن أهل البيت (ع) أن الله لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق ، فهي فوق حد الاحصاء ، وقد اتفقت على ذلك كلمة الشيعة الامامية طبقا لكتاب الله وسنة رسوله ، جريا على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح.

ثمرة الاعتقاد بالبداء :

والبداء : إنما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو والاثبات ، والالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله.

فالقول بالبداء : هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه ، وأن إرادة الله نافذة في الاشياء أزلا وأبدا ، بل وفي القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الالهي وبين علم المخلوقين ، فعلم المخلوقين ـ وإن كانوا أنبياء أو أوصياء ـ لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى ، فإن بعضا منهم وإن كان عالما ـ بتعليم الله إياه ـ بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه ، فإنه لا يعلم بمشيئة الله تعالى ـ لوجود شئ ـ أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم.

____________

١ ـ نقلا عن البحار باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٦ ط كمباني ، وروى الشيخ الكليني بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال : ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له الوافي باب البداء ج ١ ص ١١٣.

٣٩١

والقول بالبداء : يوجب انقطاع العبد إلى الله وطلبه إجابة دعائه منه وكفاية مهماته ، وتوفيقه للطاعة ، وإبعاده عن المعصية ، فإن إنكار البداء والالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة ـ دون استثناء ـ يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه ، فإن ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة ، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسل ، وإن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا ، ولم ينفعه الدعا ولا التضرع ، وإذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه ، حيث لا فائدة في ذلك ، وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين (ع) أنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد.

وهذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم‌السلام من الاهتمام بشأن البداء.

فقد روى الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن زرارة عن أحدهما عليه‌السلام قال : ما عبد الله عز وجل بشئ مثل البداء (١). وروى بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما عظم الله عز وجل بمثل البداء (٢).

وروى بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« ما بعث الله عز وجل نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الاقرار بالعبودية وخلع الانداد ، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء » (٣).

والسر في هذا الاهتمام : أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله

__________________

١ ـ أفضل من البداء ـ نسخة اخرى.

٢ ـ التوحيد للصدوق باب البداء ص ٢٧٢ ط سنة ١٣٨٦ ، ورواه الشيخ الكليني أيضا. الوافي باب البداء ج ١ ص ١١٣.

٣ ـ نفس المصدر ص ٢٧٢ ، ورواه الشيخ الكليني أيضا الوافي باب البداء ج ١ ص ١١٣.

٣٩٢

غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن كلا القولين يؤيس العبد من إجابة دعائه ، وذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه.

حقيقة البداء عند الشيعة :

وعلى الجملة : فإن البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الامامية هو من الابداء الاظهار حقيقة ، وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل والاطلاق بعلاقة المشاكلة. وقد اطلق بهذا المعنى في بعض الروايات من طرق أهل السنة.

روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة ، أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إن ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص وأعمى وأقرع ، بدالله عز وجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الابرص ... (١)

وقد وقع نظير ذلك في كثير من الاستعمالات القرآنية ، كقوله تعالى :

« الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ٨ : ٦٦ ».

وقوله تعالى :

« لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ٨ : ١٢ ».

وقوله تعالى :

« لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ٨ : ٧ ».

وما أكثر الروايات من طرق أهل السنة في أن الصدقة والدعاء يغيران القضاء (٢).

__________________

١ ـ صحيح البخاري ج ٤ باب ما ذكر عن بني إسرائيل ص ١٤٦.

٢ ـ انظر التعليقة رقم (١١) للوقوف على روايات تفيد أن الدعاء يغير القضاء ـ في قسم التعليقات.

٣٩٣

أما ما وقع في كلمات المعصومين عليهم‌السلام من الانباء بالحوادث المستقبلة فتحقيق الحال فيها : أن المعصوم متى ما أخبر بوقوع أمر مستقبل على سبيل الحتم والجزم ودون تعليق ، فذلك يدل أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم وهذا هو القسم الثاني الحتمي من أقسام القضاء المتقدمة. وقد علمت أن مثله ليس موضعا للبداء ، فإن الله لا يكذب نفسه ولا نبيه. ومتى ما أخبر المعصوم بشئ معلقا على أن لا تتعلق المشيئة الالهية بخلافه ، ونصب قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك فهذا الخبر إنما يدل على جريان القضاء الموقوف الذي هو موضع البداء. والخبر الذي أخبر به المعصوم صادق وإن جرى فيه البداء ، وتعلقت المشيئة الالهية بخلافه. فإن الخبر ـ كما عرفت ـ منوط بأن لا تخالفه المشيئة.

وروى العياشي عن عمرو بن الحمق قال :

« دخلت على أمير المؤمنين عليه‌السلام حين ضرب على قرنه ، فقال لي : يا عمرو إني مفارقكم ، ثم قال : سنة السبعين فيها بلاء ... فقلت : بأبي أنت وأمي قلت : إلى السبعين بلاء ، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال : نعم يا عمرو إن بعد البلاء رخاء » .. وذكر آية يمحو الله ...

٣٩٤

أصول التفسير

٣٩٥

بطلان الاعتماد على الظن وعلى آراء المفسرين في فهم القرآن.مدارك التفسير.تخصيص القرآن بخبر الواحد. شبهات المنكرين له ، والاقوال في المسألة.

٣٩٦

التفسير هو إيضاح مراد الله تعالى من كتابه العزيز ، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان ، ولا على شيء لم يثبت أنه حجة من طريق العقل ، أو من طريق الشرع ، للنهي عن اتباع الظن ، وحرمة إسناد شيء إلى الله بغير إذنه قال الله تعالى :

« قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ١٠ : ٥٩ ».

وقال الله تعالى :

« وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ١٧ : ٣٦ ».

إلى غير ذلك من الايات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم ، والروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة من الطريقين.

ومن هذا يتضح أنه لا يجوز اتباع أحد المفسرين في تفسيره ، سواء أكان ممن حسن مذهبه أم لم يكن ، لانه من أتباع الظن ، وهو لا يغني من الحق شيئا.

مدارك التفسير :

ولا بد للمفسر من أن يتبع الظواهر التي يفهمها العربي الصحيح فقد بينا لك حجية الظواهر أو يتبع ما حكم به العقل الفطري الصحيح فإنه حجة من الداخل كما أن النبي حجة من الخارج ، أو يتبع ما ثبت عن المعصومين عليهم‌السلام فإنهم المراجع في الدين ، والذين أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوب التمسك بهم

٣٩٧

فقال : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا (١).

ولا شبهة في ثبوت قولهم عليه‌السلام إذا دل عليه طريق قطعي لا شك فيه كما أنه لا شبهة في عدم ثبوته إذا دل عليه خبر ضعيف غير جامع لشرائط الحجية ، وهل يثبت بطريق ظني دل على اعتباره دليل قطعي؟ فيه كلام بين الاعلام.

وقد يشكل :

في حجية خبر الواحد الثقة إذا ورد عن المعصومين عليهم‌السلام في تفسير الكتاب ، ووجه الاشكال في ذلك أن معنى الحجية التي ثبتت لخبر الواحد ، أو لغيره من الادلة الظنية هو وجوب ترتيب الاثار عليه عملا في حال الجهل بالواقع ، كما تترتب على الواقع لو قطع به ، وهذا المعنى لا يتحقق إلا إذا كان مؤدى الخبر حكما شرعيا ، أو موضوعا قد رتب الشارع عليه حكما شرعيا ، وهذا الشرط قد لا يوجد في خبر الواحد الذي يروى عن المعصومين في التفسير.

وهذا الاشكال :

خلاف التحقيق ، فإنا قد أوضحنا في مباحث علم الاصول أن معنى الحجية في الامارة الناظرة إلى الواقع هو جعلها علما تعبديا في حكم الشارع ، فيكون الطريق المعتبر فردا من أفراد العلم ، ولكنه فرد تعبدي لا وجداني فيترتب عليه كلما يترتب على القطع من الاثار ، فيصح الاخبار على طبقه كما يصح أن يخبر على طبق العلم الوجداني ، ولا يكون من القول بغير علم.

ويدلنا على ذلك سيرة العقلاء ، فإنهم يعاملون الطريق المعتبر معاملة العلم الوجداني من غير فرق بين الاثار ، فإن اليد مثلا امارة عند العقلاء على مالكية

__________________

١ ـ يأتي بعض مصادر الحديث في التعليقة رقم (١) من قسم التعليقات من هذا الكتاب وفي كنز العمال ـ باب الاعتصام بالكتاب والسنة ج ١ ص ١٠٣ و ٣٣٢ طبعة دائرة المعارف العثمانية ـ الشئ الكثير من طرق هذه الرواية.

٣٩٨

صاحب اليد لما في يده ، فهم يرتبون له آثار المالكية ، وهم يخبرون عن كونه مالكا للشئ بلا نكير ، ولم يثبت من الشارع ردع لهذه السيرة العقلائية المستمرة.

نعم يعتبر في الخبر الموثوق به ، وفى غيره من الطرق المعتبرة أن يكون جامعا لشرائط الحجية ، ومنها أن لا يكون الخبر مقطوع الكذب ، فإن مقطوع الكذب لا يعقل أن يشمله دليل الحجية والتعبد ، وعلى ذلك فالاخبار التي تكون مخالفة للاجماع ، أو للسنة القطعية ، أو الكتاب ، أو الحكم العقلي الصحيح لا تكون حجة قطعا ، وإن استجمعت بقية الشرائط المعتبرة في الحجية. ولا فرق في ذلك بين الاخبار المتكفلة لبيان الحكم الشرعي ، وغيرها.

والسر في ذلك : أن الراوي مهما بلغت به الوثاقة ، فإن خبره غير مأمون من مخالفة الواقع ، إذ لا أقل من احتمال اشتباه الامر عليه ، وخصوصا إذا كثرت الوسائط ، فلا بد من التشبث بدليل الحجية في رفع هذا الاحتمال ، وفرضه كالمعدوم. وأما القطع بالخلاف ، وبعدم مطابقة الخبر للواقع فلا يعقل التعبد بعدمه ، لان كاشفية القطع ذاتية ، وحجيته ثابتة بحكم العقل الضروري.

وإذن فلا بد من اختصاص دليل الحجية بغير الخبر الذي يقطع بكذبه وبمخالفته للواقع ، وهكذا الشأن في غير الخبر من الطرق المعتبرة الاخرى التي تكشف عن الواقع ، وهذا باب تنفتح منه أبواب كثيرة ، وبه يجاب عن كثير من الاشكالات والاعتراضات فلتكن على ذكر منه.

تخصيص القرآن بخبر الواحد :

إذا ثبتت حجية الخبر الواحد بدليل قطعي فهل يخصص به عموم ما ورد في الكتاب العزيز؟ ذهب المشهور إلى جواز ذلك ، وخالف فيه فريق من علماء أهل السنة ، فمنعه بعضهم على الاطلاق. وقال عيسى بن أبان : إن كان العام الكتابي قد خص ـ من قبل ـ بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا لم يجز. وقال الكرخي : إذا خص العام بدليل منفصل جاز تخصيصه بعد ذلك

٣٩٩

بخبر الواحد وإلا فلا. وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف (١).

والذي نختاره :

هو القول المشهور. والدليل على ذلك أن الخبر ـ كما فرضنا ـ قطعي الحجية ، ومقتضى ذلك أنه يجب العمل بموجبه ما لم يمنع منه مانع.

شبهات وأقوال :

وما توهم منعه عن ذلك امور لا تصلح للمنع :

١ ـ قالوا : إن الكتاب العزيز كلام الله العظيم المنزل على نبيه الكريم ، وذلك قطعي لا شبهة فيه. وأما خبر الواحد فلا يقين بمطابقته للواقع ، ولا بصدور مضمونه عن المعصوم إذ لا أقل من احتمال اشتباه الراوي. والعقل لا يجوز أن ترفع اليد عن أمر مقطوع به لدليل يحتمل فيه الخطأ.

والجواب عن ذلك :

أن الكتاب ـ وإن كان قطعي الصدور ـ إلا أنه لا يقين بأن الحكم الواقعي على طبق عموماته ، فإن العمومات إنما وجب العمل على طبقها من أجل أنها ظاهر الكلام ، وقد استقرت العقلاء على حجية الظواهر ، ولم يردع الشارع على اتباع هذه السيرة. ومن البين أن سيرة العقلاء على حجية الظاهر مختصة بما إذا لم تقم قرينة على خلاف الظهور ، سواء أكانت القرينة متصلة أم كانت منفصلة ، فإذا نهضت القرينة على الخلاف وجب رفع اليد عن الظاهر ، والعمل على وفق القرينة. وإذن فلا مناص من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد بعد قيام الدليل القطعي على حجيته. فإن معنى ذلك أن مضمون الخبر صادر عن المعصومين تعبدا. وإن شئت فقل : إن سند الكتاب العزيز ـ وإن كان قطعيا ـ إلا أن دلالته ظنية ، ولا محذور بحكم العقل في أن ترفع اليد عن الدلالة الظنية لدليل ظني آخر ثبتت حجيته بدليل قطعي.

__________________

١ ـ اصول الاحكام للامدي ج ٢ ص ٤٧٢.

٤٠٠