البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

إمضاء ما كان يفعله الناس ، وقد ذكرت الآية في سياق إثبات الصانع الحكيم بآياته الآفاقية ، فقال عز من قائل :

« وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ١٦ : ٦٥. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ: ٦٦. وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ : ٦٧. وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ : ٦٨. ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ: ٦٩ ».

فذكر سبحانه وتعالى أن من آياته أن ينزل الماء من السماء ، وأنه يحيى به الارض بعد موتها. ثم ذكر تدبيره في صنع الحيوان ، وأنه يخرج اللبن الخالص من بين فرث ودم. ثم ذكر ما أودعه في ثمرات النخيل والاعناب من الاستعداد لاتخاذ السكرمنها والرزق الحسن ، وقد امتازت هي من بين الثمار بذلك. ثم ذكر ما يصنعه النحل من الاعمال التي يحار فيها العقلاء العارفون بمزايا صنع العسل ومبادئه ، وأن ذلك بوحي الله تعالى وإلهامه. وإذن فليس في الآية دلالة على إباحة شرب المسكر أصلا. على أن في الآية إشعارا ـ لو سلم إرادة المسكر من

٣٦١

لفظ سكرا ـ بعدم جواز شرب المسكر ، فإنها جعلت المسكر مقابلا للرزق الحسن. ومعنى هذا : أن المسكر ليس من الرزق الحسن ، فلا يكون مباحا. وتدل على ما ذكرناه الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام فإنها دلت على أن الخمر لم تزل محرمة.

روى الشيخ الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم ، قال :

« سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الخمر ، فقال : قال رسول الله (ص) : إن أول ما نهاني عنه ربي عز وجل عبادة الاوثان وشرب الخمر .. ».

وروى عن الريان عن الرضا عليه‌السلام ، قال :

« ما بعث الله نبيا إلا بتحريم الخمر » (١) ، وقد تقدم في بحث الاعجاز تحريم الخمر في التوراة (٢) ، ولكن الشئ الذي لا يشك فيه أن الشريعة الاسلامية لم تجهر بحرمة الخمر برهة من الزمن ، ثم جهرت بها بعد ذلك ، وهذا هو حال الشريعة المقدسة في جميع الاحكام. ومن البين أنه ليس معنى ذلك أن الخمر كان مباحا في الشريعة ثم نسخت حرمته.

٣٠ ـ « الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ٢٤ : ٣ ».

__________________

١ ـ البحار تتمة ج ١٦ باب حرمة شرب الخمر ص ١٨ ، ٢٠. وقد افرد لذلك بابا في الوافي ج ١١ ص ٧٩.

٢ ـ تقدم ذلك في ص ٥٤ من هذا الكتاب.

٣٦٢

فعن سعيد بن المسيب ، وأكثر العلماء أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :

« وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ٢٤ : ٣٢ ».

فدخلت الزانية في أيامى المسلمين (١).

والحق : أن الآية غير منسوخة ، فإن النسخ فيها يتوقف على أن يكون المراد من لفظ النكاح هو التزويج ، ولا دليل يثبت ذلك. على أن ذلك يستلزم القول بإباحة نكاح المسلم الزاني المشركة ، وبإباحة نكاح المشرك المسلمة الرابي ، وهذا مناف لظاهر الكتاب العزيز ، ولما ثبت من سيرة المسلمين ، وإذن فالظاهر أن المراد من النكاح في الآية هو الوطئ ، والجملة خبرية قصد بها الاهتمام بأمر الزنا. ومعنى الآية : أن الزاني لا يزني إلا بزانية ، أو بمن هي أخس منها وهي المشركة ، وأن الزانية لا تزني إلا بزان ، أو بمن هو أخس منه وهو المشرك. وأما المؤمن فهو ممتنع عن ذلك ، لان الزنا محرم ، وهو لا يرتكب ما حرم عليه.

٣١ ـ « قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ ٤٥ : ١٤ ».

فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية الكريمة منسوخة بآية السيف ، وقالوا :

إن هذه الآية مكية ، وقد نزلت في عمر بن الخطاب حين شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة ، فأراد عمر أن يبطش به : فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى :

__________________

١ ـ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص ١٩٣.

٣٦٣

« فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ٩ : ٥ ».

واستندوا في ذلك إلى ما رواه عليل بن أحمد ، عن محمد بن هشام عن عاصم ابن سليمان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس (١) ولكن هذه الرواية ضعيفة جدا ، ولا أقل من أن في سندها عاصم بن سليمان وهو كذاب وضاع (٢) مع أن الرواية ضعيفة المتن ، فإن المسلمين ـ قبل الهجرة ـ كانوا ضعفاء ، ولم يكن عمر مقداما في الحروب ، ولم يعد من الشجعان المرهوبين ، فكيف يسعه أن يبطش بالمشرك؟! على أن لفظ الغفران المذكور في الآية يدل على التمكن من الانتقام. ومن المقطوع به أن ذلك لم يكن ميسورا لعمر قبل الهجرة ، فلو أراد البطش بالمشرك لبطش به المشرك لا محالة.

والحق : أن الآية المباركة محكمة غير منسوخة ، وأن معنى الآية : أن الله أمر المؤمنين بالعفو والاغضاء عما ينالهم من الايذاء والاهانة في شؤونهم الخاصة ممن لا يرجون أيام الله ، ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك :

« لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ ٤٥ : ١٤. مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ : ١٥ ».

فإن الظاهر منه أن جزاء المسئ الذي لا يرجو أيام الله ولا يخاف المعاد ،

__________________

١ ـ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص ٢١٨.

٢ ـ قال ابن عدي : يعد ممن يضع الحديث. وقال أيضا : عامة أحاديثه مناكير متنا واسنادا ، والضعف على رواياته بين ، وقال الفلاس : كان يضع الحديث ، ما رأيت مثله قط وقال أبو حاتم والنسائي : متروك.

وقال الدارقطني : كذاب ، وقال أيضا في العلل : كان ضعيفا آية من الآيات في ذلك. وقال ابن حبان : لا يجوز كتب حديثه إلا تعجبا وقال أبو داود الطيالسي : كذاب ، وقال الساجي : متروك يضع الحديث ، وقال الازدي : ضعيف مجهول ، لسان الميزان ج ٣ ص ٢١٨ ، ٢١٩.

٣٦٤

سواء أكان من المشركين ، أم من الكتابيين ، أم من المسلمين الذين لا يبالون بدينهم إنما هو موكول إلى الله الذي لا يفوته ظلم الظالمين وتفريط المفرطين ، فلا ينبغي للمسلم المؤمن بالله أن يبادر إلى الانتقام منه ، فإن الله أعظم منه نقمة وأشد أخذا ، وهذا الحكم تهذيبي أخلاقي ، وهو لا ينافي الامر بالقتال للدعوة إلى الاسلام أو لامر آخر ، سواء أكان نزول هذه الآية قبل نزول آية السيف أم كان بعده.

٣٢ ـ « فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ٤٧ ، ٤ ».

فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ، وذهب آخرون إلى أنها ناسخة لها (١).

والحق : أنها ليست ناسخة ولا منسوخة ، وتحقيق ذلك يحتاج إلى مزيد من البسط في الكلام.

أحكام الكافر المقاتل :

المعروف بين الشيعة الامامية أن الكافر المقاتل يجب قتله ما لم يسلم ، ولا يسقط قتله بالاسر قبل أن يثخن المسلمون الكافرين ، ويعجز الكافرون عن القتال لكثرة القتل فيهم ، وإذا أسلم ارتفع موضوع القتل ، وهو الكافر ، وأما الاسر بعد الاثخان فيسقط فيه القتل ، فإن الآية قد جعلت الاثخان غاية لوجوب ضرب الرقاب.

__________________

١ ـ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص ٢٢٠.

٣٦٥

ومن الواضح : أن الحكم يسقط عند حصول غايته ، ويتخير ولي الامر في تلك الحال بين استرقاق الاسير ، وبين مفاداته ، والمن عليه من غير فداء ، من غير فرق في ذلك بين المشرك وغيره من فرق الكفار ، وقد ادعي الاجماع على ما ذكرناه من الاحكام ، والمخالف فيها شاذ لا يعبأ بخلافه ، وسيظهر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وهذا الذي ذكروه يوافق ظاهر الآية الكريمة من جميع الجهات إذا كان شد الوثاق هو الاسترقاق ، باعتبار أن معنى شد الوثاق هو عزله عن الاستقلال ما لم يمن عليه أو يفاد ، وأما إذا لم يكن شد الوثاق بمعنى الاسترقاق ، فلا بد من إضافة الاسترقاق إلى المفاداة والمن للعلم بجوازه من أدلة أخرى ، فيكون ذلك تقييدا لاطلاق الآية بالدليل.

وقد وردت الاحكام المذكورة فيما رواه الكليني ، والشيخ الطوسي بإسنادهما عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« سمعته يقول كان أبي يقول ان للحرب حكمين : إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها ، ولم يثخن أهلها ، فكل أسير أخذ في تلك الحال فإن الامام فيه بالخيار إن شاء ضرب عنقه ، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم ، وتركه يتشحط في دمه حتى يموت وهو قول الله تعالى :

« إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ٥ : ٣٣ ».

ألا ترى أنه التخيير الذي خير الله الامام على شيء واحد وهو الكفر وليس

٣٦٦

هو على أشياء مختلفة فقلت لجعفر بن محمد عليه‌السلام قول الله تعالى : أو ينفوا من الارض ، قال ذلك الطلب أن يطلبه الخيل حتى يهرب ، فإن أخذته الخيل حكم ببعض الاحكام التي وضعت ذلك ، والحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها ، فكل أسير أخذ على تلك الحال وكان في أيديهم فالامام فيه بالخيار ، إن شاء الله من عليهم فأرسلهم ، وإن شاء فاداهم أنفسهم ، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا » (١).

ووافقتا على سقوط القتل عن الاسير بعد الاثخان : الضحاك وعطاء ، وصرح الحسن بذلك وان الامام بالخيار إما أن يمن أو يفادي أو يسترق (٢).

وعلى ما ذكرناه فلا نسخ في الآية الكريمة ، غاية الامر أن القتل يختص بمورد ، ويختص عدم القتل بمورد آخر من غير فرق بين أن تكون آية السيف متقدمة في النزول على هذه الآية ، وبين أن تكون متأخرة عنها.

ومن الغريب : أن الشيخ الطوسي ـ في هذا المقام ـ نسب إلى أصحابنا أنهم رووا تخيير الامام في الاسير بعد الاثخان بين القتل وبين ما ذكر من الامور.

قال : « والذي رواه أصحابنا أن الاسير إن أخذ قبل انقضاء الحرب والقتال ـ بأن تكون الحرب قائمة ، والقتال باق ـ فالامام مخير بين أن يقتلهم ، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا ، وليس له المن ولا الفداء ، وإن كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب والقتال كان ـ الامام ـ مخيرا بين المن والمفاداة إما بالمال أوالنفس ، وبين الاسترقاق ـ وضرب الرقاب ـ ». وتبعه على ذلك الطبرسي في تفسيره (٣) مع أنه لم ترد في ذلك رواية أصلا.

__________________

١ ـ الوافي ج ٩ ص ٢٣.

٢ ـ القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، ونقله النحاس في الناسخ والمنسوخ عن عطاء ص ٢٢١.

٣ ـ تفسير التبيان ج ٩ ص ٢٩١ ط النجف.

٣٦٧

وقد نص الشيخ الطوسي بنفسه في كتاب المبسوط (١) : كل أسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها ، فإنه يكون الامام مخيرا فيه بين أن يمن عليه فيطلقه ، وبين أن يسترقه وبى أن يفاديه ، وليس له قتله على ما رواه أصحابنا وقد ادعى الاجماع والاخبار على ذلك : في المسألة السابعة عشرة من كتاب الفئ ، وقسمة الغنائم من كتاب الخلاف.

ومن الذين ادعوا الاجماع على ذلك صريحا العلامة في كتابي المنتهى والتذكرة في أحكام الاسارى من كتاب الجهاد.

وفي ظني : أن كلمة ضرب الرقاب في عبارة التبيان إنما كانت من سهو القلم ، وقد جرى عليه الطبرسي من غير مراجعة.

هذا هو مذهب علماء الشيعة الامامية ، والضحاك ، وعطاء ، والحسن.

آراء اخى حول الآية :

وأما بقية علماء أهل السنة فقد ذهبوا إلى أقوال :

١ ـ منهم من قال : « إن الآية نزلت في المشركين ، ثم نسخت بآيات السيف » ، نسب ذلك إلى قتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جريح ، وابن عباس ، وإلى كثير من الكوفيين ، فقالوا : إن الاسير المشرك يجب قتله ، ولا تجوز مفاداته ، ولا المن عليه بإطلاقه (٢).

ويرده :

أنه لا وجه للنسخ على هذا القول ، فإن نسبة هذه الآية إلى آيات السيف نسبة المقيد إلى المطلق ، سواء أكانت متقدمة عليها في النزول أم كانت متأخرة

__________________

١ ـ المبسوط كتاب الجهاد ، فصل في أصناف الكفار وكيفية قتالهم.

٢ ـ تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٧.

٣٦٨

عنها. وقد أوضحنا ـ فيما سبق ـ أن العام المتأخر لا يكون ناسخا للخاص المتقدم ، فكيف بالمطلق إذا سبقه المقيد (١)؟.

٢ ـ ومنهم من قال : إن الآية نزلت في الكفار جميعا ، فنسخت في خصوص المشرك نسب ذلك إلى قتادة ، ومجاهد ، والحكم ، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة (٢).

ويرده :

أن هذا القول واضح البطلان كالقول السابق ، فإن ذلك موقوف على أن تكون آيات السيف متأخرة في النزول عن هذه الآية ، ولا يمكن القائل بالنسخ إثبات ذلك ، ولا سند له غير التمسك بخبر الواحد ، وقد أوضحنا أن خبر الواحد لا يثبت به النسخ إجماعا ، ولو فرضنا ثبوت ذلك ، فلا دليل على كون آيات السيف ناسخة لها ، ليصح القول المذكور ، بل تكون هذه الآية مقيدة لآيات السيف ، وذلك : لاجماع الامة على أن هذه الآية قد شملت المشركين أو أنها مختصة بهم ، وعلى ذلك كانت الآية المباركة قرينة على تقييد آيات السيف لما أشرنا إليه آنفا من أن المطلق لا يصلح أن يكون ناسخا للمقيد ، وإذا أغمضنا عن ذلك كانت هذه الآية الكريمة معارضة لآيات السيف بالعموم من وجه ، ومورد الاجتماع هو المشرك الاسير بعد الاثخان ، ولا مجال للالتزام بالنسخ فيه.

٣ ـ ومنهم من قال : إن الآية ناسخة الآية السيف نسب ذلك إلى الضحاك وغيره (٣).

ويرده :

__________________

١ ـ قد فصلنا الكلام في ذلك في بحث العموم والخصوص من كتابنا أجود التقريرات

٢ ـ تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٧.

٣ ـ نفس المصدر.

( البيان ـ ٢٤ )

٣٦٩

أن هذا القول ، يتوقف على إثبات تأخر هذه الآية في النزول عن آيات السيف ، ولا يمكن هذا القائل إثبات ذلك ، على أنا قد أوضحنا ـ فيما تقدم ـ أنه لا موجب للالتزام بالنسخ ، تأخرت الآية في النزول عن آيات السيف ، أم تقدمت عليها.

٤ ـ ومنهم من قال : إن الامام مخير في كل حال بين القتل والاسترقاق والمفاداة والمن ، رواه أبو طلحة عن ابن عباس ، واختاره كثير : منهم ابن عمر ، والحسن ، وعطاء ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، والثوري ، والاوزاعي وأبي عبيد ، وغيرهم. وعلى هذا القول فلا نسخ في الآية (١) قال النحاس بعدما ذكر هذا القول : وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما ، وهو قول حسن لان النسخ إنما يكون بشئ قاطع ، فأما إذا أمكن العمل بالآيتين ، فلا معنى في القول بالنسخ .. وهذا القول يروى عن أهل المدينة ، والشافعي ، وأبي عبيد (٢).

ويرده :

أن هذا القول وإن لم يستلزم نسخا في الآية ، إلا أنه باطل أيضا ، لان الآية الكريمة صريحة في أن المن والفداء إنما هما بعد الاثخان فالقول بثبوتهما ـ قبل ذلك ـ قول بخلاف القرآن ، والامر بالقتل في الآية مغيا بالاثخان فالقول بثبوت القتل بعده قول بخلاف القرآن أيضا ، وقد سمعت أن آيات السيف مقيدة بهذه الآية.

وأما ما استدل به على هذا القول من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل بعض الاسارى وفادى بعضا ، ومن على آخرين ، فهذه الرواية ـ على فرض صحتها ـ لا دلالة لها على التخيير بين القتل وغيره ، لجواز أن يكون قتله للاسير قبل الاثخان

__________________

١ ـ تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٨.

٢ ـ الناسخ والمنسوخ ص ٢٢١.

٣٧٠

وفداؤه ومنه في الاسراء بعده ، وأما ما روي من فعل أبي بكر وعمر فهو ـ على تقدير ثبوته ـ لا حجية فيه ، لترفع اليد به عن ظاهر الكتاب العزيز.

٣٣ ـ « وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ٥١ : ١٩ ».

٣٤ ـ « وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ٧٠ : ٢٤. لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ : ٢٥ ».

فقد وقع الاختلاف في نسخ الآيتين وإحكامهما. ووجه الاختلاف في ذلك : أن الحق المعلوم الذي أمرت الآيتان به قد يكون هو الزكاة المفروضة ، وقد يكون فرضا ماليا آخر غيرها ، وقد يكون حقا غير الزكاة ولكنه مندوب وليس بمفروض. فإن كان الحق واجبا ماليا غير الزكاة فالآيتان الكريمتان منسوختان لا محالة ، من حيث إن الزكاة نسخت كل صدقة واجبة في القرآن وقد اختار هذا الوجه جماعة من العلماء. وإن كان الحق المعلوم هو الزكاة نفسها ، أو كان حقا مستحبا غير مفروض ، فالآيتان محكمتان بلا ريب.

والتحقيق : يقتضي اختيار الوجه الاخير ، وأن الحق المعلوم شيء غير الزكاة ، وهو أمر قد ندب إليه الشرع. فقد استفاضت النصوص من الطريقين بأن الصدقة الواجبة منحصرة بالزكاة ، وقد ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام بيان المراد من هذا الحق المعلوم.

روى الشيخ الكليني بإسناده عن أبي بصير قال :

« كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ومعنا بعض أصحاب الاموال فذكروا الزكاة فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الزكاة ليس يحمد بها صاحبها ، وإنما هو شيء ظاهر

٣٧١

إنما حقن بهادمه وسمي بها مسلما ، ولو لم يؤدها لم تقبل صلاته ، وإن عليكم في أموالكم غير الزكاة. فقلت : أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة؟ فقال : سبحان الله! أما تسمع الله يقول في كتابه : والذين في أموالهم ...؟ قال : قلت : فماذا الحق المعلوم الذي علينا؟ قال : هو والله الشئ يعلمه الرجل في ماله يعطيه في اليوم ، أو في الجمعة ، أو الشهر قل أو كثر غير أنه يدوم عليه ».

وروى أيضا بإسناده عن اسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تعالى :

« والذين في أموالهم ... أهو سوى الزكاة؟ فقال : هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال فيخرج منه الالف ، والالفين ، والثلاثة آلاف ، والاقل والاكثر فيصل به رحمه ، ويحتمل به الكل عن قومه. وغير ذلك من الروايات عن الصادقين عليهما‌السلام (١).

وروى البيهقي في شعب الايمان ، بإسناده عن غزوان بن أبي حاتم قال : بينا أبو ذر عند باب عثمان لم يؤذن له إذ مر به رجل من قريش فقال : يا أبا ذر ما يجلسك ههنا؟ فقال : يأبى هؤلاء أن يأذنوا لي ، فدخل الرجل فقال : يا أمير المؤمنين ما بال أبي ذر على الباب لا يؤذن له؟ فأمر فاذن له فجاء حتى جلس ناحية القوم .. فقال عثمان لكعب : يا أبا إسحق أرأيت المال إذا أدي زكاته هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟ قال : لا ، فقام أبو ذر ومعه عصا فضرب بها بين اذني كعب ، ثم قال : يا ابن اليهودية ، أنت تزعم أنه ليس حق في ماله إذا أدى الزكاة.

والله تعالى يقول :

« وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ٥٩ : ٩ ».

__________________

١ ـ الوافي باب الحق المعلوم وما قبله ج ٦ ص ٥٢.

٣٧٢

والله تعالى يقول :

« وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ٧٦ : ٨ ».

والله تعالى يقول :

« وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ٧ : ٧٤. لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ: ٧٥ ».

فجعل يذكر نحو هذا من القرآن .. » (١).

وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس :

« أن الحق المعلوم سوى الصدقة يصل بها رحما ، أن يقري بها ضيفا أو يحمل بها كلا ، أو يعين بها محروما » (٢).

وتبع ابن عباس على ذلك جملة من المفسرين ، وعلى هذا فلا نسخ في الآية المباركة.

٣٥ ـ « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ٥٨ : ١٢ ».

__________________

١ ـ كنز العمال ج ٣ ص ٣١٠.

٢ ـ تفسير القرطبي ج ٢٩ ص ٥٠.

٣٧٣

فقد ذهب أكثر العلماء إلى نسخها بقوله تعالى :

أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ٥٨ : ١٣.

فقد استفاضت الروايات من الطريقين : أن الآية المباركة لما نزلت لم يعمل بها غير علي عليه‌السلام فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم ، فكان كلما ناجى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم درهما حتى ناجاه عشر مرات.

أحاديث العمل بآية النجوى :

روى ابن بابويه بإسناده عن مكحول قال :

« قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا قد شركته فيها وفضلته ، ولي سبعون منقبة لم يشركني أحد منهم ، قلت : يا أمير المؤمنين فأخبرني بهن ، فقال عليه‌السلام : وإن أول منقبة ـ وذكر السبعين ـ وقال في ذلك : وأما الرابعة والعشرين فإن الله عز وجل أنزل على رسوله : إذا ناجيتم فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت رسول الله أتصدق قبل ذلك بدرهم ، والله ما فعل هذا أحد غيري من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل الله عز وجل : ءأشفقتم .. (١).

وروى ابن جرير بإسناده عن مجاهد قال :

قال علي رضي الله عنه آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلى ولا يعمل

__________________

١ ـ تفسير البرهان ج ٢ ص ١٠٩٩.

٣٧٤

بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصدقت بدرهم ، فنسخت فلم يعمل بها أحد قبلي : إذا ناجيتم (١).

قال الشوكاني : وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه ـ علي بن أبي طالب ـ قال : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت ، وما كانت إلا ساعة يعني آية النجوى.

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه أيضا قال :

« إن في كتاب الله لاية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى : إذا ناجيتم ... كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت : ء أشفقتم .. » (٢).

وتحقيق القول في ذلك :

أن الآية المباركة دلت على أن تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير ، وتطهير للنفوس ، والامر به أمر بما فيه مصلحة العباد. ودلت على أن هذا الحكم إنما يتوجه على من يجد ما يتصدق به ، أما من لا يجد شيئا فإن الله غفور رحيم.

ولا ريب في أن ذلك مما يستقل العقل بحسنه ويحكم الوجدان بصحته فإن في الحكم المذكور نفعا للفقراء ، لانهم السمتحقون للصدقات ، وفيه تخفيف عن النبي

__________________

١ ـ تفسير الطبري ج ٢٨ ص ١٥.

٢ ـ فتح القدير ج ٥ ص ١٨٦ والروايات في هذا المقام كثيرة فليراجع تفسير البرهان وتفسير الطبري وكتب الروايات. وقد تعرض لنقل جملة منها شيخنا المجلسي في المجلد التاسع من البحار ص ١٧٠.

٣٧٥

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه يوجب قلة مناجاته من الناس ، وأنه لا يقدم على مناجاته ـ بعد هذا الحكم ـ إلا من كان حبه لمناجاة الرسول أكثر من حبه للمال.

ولا ريب أيضا في أن حسن ذلك لا يختص بوقت دون وقت. ودلت الآية الثانية على أن عامة المسلمين ـ غير علي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ أعرضوا عن مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشفاقا من الصدقة ، وحرصا على المال.

سبب نسخ صدقة النجوى :

ولا ريب في أن إعراضهم عن المناجاة يفوت عليهم كثيرا من المنافع والمصالح العامة. ومن أجل حفظ تلك المنافع رفع الله عنهم وجوب الصدقة بين يدي المناجاة تقديما للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، وعلى النفع الخاص بالفقراء ، وأمرهم بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطاعة الله ورسوله.

وعلى ذلك فلا مناص من الالتزام بالنسخ ، وأن الحكم المجعول بالاية الاولى قد نسخ وارتفع بالاية الثانية. ويكون هذا من القسم الاول من نسخ الكتاب ـ أعني ما كانت الاية الناسخة ناظرة إلى انتهاء أمد الحكم المذكور في الاية المنسوخة ـ ومع ذلك فنسخ الحكم المذكور في الاية الاولى ليس من جهة اختصاص المصلحة التي اقتضت جعله بزمان دون زمان إذ قد عرفت انها عامة لجميع أزمنة حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا أن حرص الامة على المال ، وإشفاقها من تقديم الصدقة بين يدي المناجاة كان مانعا من استمرار الحكم المذكور ودوامه ، فنسخ الوجوب وابدل الحكم بالترخيص.

وقد يعترض :

أنه كيف جعل الله الحكم المذكور وجوب التصدق بين يدي النجوى مع عامه منذ الازل بوقوع المانع!.

والجواب :

أن في جعل هذا الحكم ثم نسخه ـ كما فعله الله سبحانه ـ تنبيها للامة ،

٣٧٦

وإتماما للحجة عليهم. فقد ظهر لهم ولغيرهم بذلك أن الصحابة كلهم آثروا المال على مناجاة الرسول الاكرم ، ولم يعمل بالحكم غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام. وترك المناجاة وإن لم يكن معصية لله سبحانه ، لان المناجاة بنفسها لم تكن واجبة ، ووجوب الصدقة كان مشروطا بالنجوى ، فإذا لم تحصل النجوى فلا وجوب للصدقة ولا معصية في ترك المناجاة ، إلا أنه يدل على أن من ترك المناجاة يهتم بالمال أكثر من اهتمامه بها.

حكمة تشريع صدقة النجوى :

وفي نسخ هذا الحكم بعد وضعه ظهرت حكمة التشريع ، وانكشفت منة الله على عباده ، وبان عدم اهتمام المسلمين بمناجاة النبي الاكرم ، وعرف مقام أمير المؤمنين عليه‌السلام من بينهم. وهذا الذي ذكرناه يقتضيه ظاهر الكتاب ، وتدل عليه أكثر الروايات. وأما إذا كان الامر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى أمرا صوريا امتحانيا ـ كأمر إبراهيم بذبح ولده ـ فالاية الثانية لا تكون ناسخة للاية الاولى نسخا اصطلاحيا ، بل يصدق على رفع ذلك الحكم الامتحاني : النسخ بالمعنى اللغوي.

ونقل الرازي عن أبي مسلم : أنه جزم بكون الامر امتحانيا ، لتمييز من آمن إيمانا حقيقيا عمن بقي على نفاقه فلا نسخ. وقال الرازي : وهذا الكلام حسن ما به بأس (١).

وقال الشيخ شرف الدين : إن محمد بن العباس ذكر في تفسيره سبعين حديثا من طريق الخاصة والعامة تتضمن أن المناجي للرسول هو أمير المؤمنين عليه‌السلام دون الناس أجمعين ... ونقلت من مؤلف شيخنا أبي جعفر الطوسي هذا الحديث ذكره أنه في جامع الترمذي ، وتفسير الثعلبي بإسناده عن علقمة الانماوي يرفعه إلى علي عليه‌السلام أنه قال :

__________________

١ ـ تفسير الرازي ج ٨ ص ١٦٧ طبع المطبعة العامرة.

٣٧٧

« بي خفف الله عن هذه الامة لان الله امتحن الصحابة ، فتقاعسوا عن مناجاة الرسول ، وكان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدق بصدقة ، وكان معي دينار ، فتصدقت به ، فكنت أنا سبب التوبة من الله على المسلمين حين عملت بالاية ، ولو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب ، لامتناع الكل من العمل بها » (١).

أقول : إن هذه الرواية لا وجود لها في النسخة المطبوعة من جامع الترمذي ولم أظفر بشئ من نسخة القديمة المخطوطة ، ولم أظفر أيضا بتفسير الثعلبي الذي نقل عنه في جملة من المؤلفات ، ولا أعلم بوجوده في مكان. وكيف كان فلا ريب في أن الحكم المذكور لم يبق إلا زمنا يسيرا ثم ارتفع ، ولم يعمل به أحد غير أمير المؤمنين عليه‌السلام وبذلك ظهر فضله ، سواء أكان الامر حقيقيا أم كان امتحانيا.

تعصب مكشوف :

اعتذر الرازي عن ترك شيوخ الصحابة العمل بالاية المباركة ، إذا كانوا قد وجدوا الوقت لذلك ولم يفعلوا ، فقال ما نصه :

« وذلك الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير ، فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه ، ويوحش قلب الغني ، فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سببا للطعن في من لم يفعل ، فهذا الفعل لما كان سببا لحزن الفقراء ووحشة الاغنياء لم يكن في تركه كبير مضرة ، لان الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة ، وأيضا فهذه المناجاة ليست من الواجبات ، ولا من الطاعات المندوبة ، بل قد بينا أنهم إنما كانوا كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا

__________________

١ ـ البحار ج ٩ ص ٧٢ ، وتفسير البرهان ج ٢ ص ١١٠٠.

٣٧٨

هذه المناجاة ، ولما كان الاولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببا للطعن » (١).

تعقيب :

أقول : هذا عذره ، وأنت تجد أنه تشكيك لا ينبغي صدوره ممن له أدنى معرفة بمعاني الكلم ، هب ان في هذا المقام لم ترد فيه رواية أصلا ، أفلا يظهر من قوله تعالى : ءأشفقتم .. أنه عتاب على ترك المناجاة خوفا من الفقر أو حرصا على المال؟ وأن الله تعالى قد تاب عليهم عن هذا التقصير ، إلا أن التعصب داء عضال ، ومن الغريب أنه ذكر هذا ، وقد اعترف قبيل ذلك بأن من فوائد هذا التكليف أن يتميز به محب الاخرة من محب الدنيا ، فإن المال محك الدواعي!!.

وأما ان الفعل المذكور يكون سببا لحزن الفقراء ، ووحشة الاغنياء فيكون تركه الموجب للالفة أولى ، أما هذا الذي ذكره فلو صح لكان ترك جميع الواجبات المالية أولى من فعلها ، ولكان أمره تعالى بالفعل أمرا بما يحكم العقل بأولوية تركه ، وليس ببعيد أن يلتزم الرازي بهذا ، وبما هو أدهى منه لينكر فضيلة من فضائل علي عليه‌السلام.

ومن المناسب ـ هنا ـ أن أنقل كلاما لنظام الدين النيسابوري ، قال ما نصه : قال القاضي :

« هذا ـ تصدق علي بين يدي النجوى ـ لا يدل على فضله على أكابر الصحابة ، لان الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض ، وقد قال فخر الدين الرازي : سلمنا أن الوقت قد وسع إلا أن الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئا ، وينفر الرجل الغني ، ولم يكن في تركه مضرة ، لان

__________________

١ ـ تفسير الرازي ج ٨ ص ١٦٧.

٣٧٩

الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة ، وأيضا الصدقة عند المناجاة واجبة ، أما المناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة ، بل الاولى ترك المناجاة ، لما بينا من أنها كانت سببا لسآمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلت : هذا الكلام لا يخلو عن تعصب ما ، ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضي‌الله‌عنه في كل خصلة؟ ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة؟!.

فقد روي عن ابن عمر :

كان لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم : تزويجه فاطمة رضي الله عنها ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى ، وهل يقول منصف : إن مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نقيصة ، على أنه لم يرد في الاية نهي عن المناجاة ، وإنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالاية حصل له الفضيلة من جهتين : سد خلة بعض الفقراء ، ومن جهة محبة نجوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ففيها القرب منه ، وحل المسائل العويصة ، وإظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من الما (١).

٣٦ ـ « مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ٥٩ : ٨ ».

فقد نقل عن قتادة أنها منسوخة ، وأنه قال : الفئ والغنيمة واحد وكان في بدو الاسلام تقسيم الغنيمة على هذه الاصناف ، ولا يكون لمن قاتل عليها

__________________

١ ـ تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ج ٢٨ ص ٢٤.

٣٨٠