البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

تعالى رحم الله بها أمة محمد (ص) ولولا نهيه لما احتاج إلى الزنا إلا شفا (١).

ثم إن الروايات التي استند إليها القائل بالنسخ على طوائف ، منها : ما ينتهي سنده إلى الربيع بن سبرة عن أبيه ، وهي كثيرة ، وقد صرح في بعضها بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام بين الركن والمقام ، أو بين الباب والمقام ، وأعلن تحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة. ومنها : ما روي عن علي (ع) أنه روى تحريمها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . ومنها : ما روي عن سلمة بن الاكوع.

أماما ينتهي سنده إلى سبرة ، فهو وإن كثرت طرقه إلا أنه خبر رجل واحد سبرة وخبر الواحد لا يثبت به النسخ. على أن مضمون بعض هذه الروايات يشهد بكذبها ، إذ كيف يعقل أن يقوم النبي (ص) خطيبا بين الركن والمقام ، أو بين الباب والمقام ، ويعلن تحريم شيء إلى يوم القيامة بجمع حاشد من المسلمين ، ثم لا يسمعه غير سبرة ، أو أنه لا ينقله أحد من ألوف المسلمين سواه ، فأين كان المهاجرون والانصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة من أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأفعاله؟ وأين كانت الرواة الذين كانوا يهتمون بحفظ اشارات يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولحظات عينيه ، ليشاركوا سبرة في رواية تحريم المتعة إلى يوم القيامة؟ ثم أين كان عمر نفسه عن هذا الحديث ليستغني به عن إسناد التحريم إلى نفسه؟!. أضف إلى ذلك أن روايات سبرة متعارضة ، يكذب بعضها بعضا ، ففي بعضها أن التحريم كان في عام الفتح (٢) وفي بعضها أنه كان في حجة الوداع (٣) وعلى الجملة إن رواية سبرة هذه في تحريم المتعة لا يمكن الاخذ بها من جهات شتى.

____________

١ ـ أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ١٤٧. الشفا : القليل.

٢ ـ صحيح مسلم ج ٤ باب نكاح المتعة في عدة روايات ص ١٣٢ ، ١٣٣.

٣ ـ سنن ابن ماجة الطبعة الاولى ج ١ باب النهي عن نكاح المتعة ص ٣٠٩ ، وسنن أبي داود ج ١ باب نكاح المتعة ص ٣٢٤.

٣٢١

وأما ما روي عن علي عليه‌السلام في تحريم المتعة فهو موضوع قطعا ، وذلك لاتفاق المسلمين على حليتها عام الفتح ، فكيف يمكن أن يستدل علي عليه‌السلام على ابن عباس بتحريمها في خيبر ، ولاجل ذلك احتمل بعضهم أن تكون جملة ( زمن خيبر ) في الرواية المتقدمة راجعة إلى تحريم لحوم الحمر الاهلية ، لا إلى تحريم المتعة ، ونقل هذا الاحتمال عن ابن عيينة كما في المنتقى ، وسنن البيهقي في باب المتعة.

وهذا الاحتمال باطل من وجهين :

١ ـ مخالفته للقواعد العربية : لان لفظ النهي في الرواية لم يذكر إلا مرة واحدة في صدر الكلام ، فلا بد وأن يتعلق الظرف به ، فالذي يقول ، أكرمت زيدا وعمرا يوم الجمعة ، لا بد وأن يكون مراده أنه أكرمهما يوم الجمعة ، أما إذا كان المراد أن إكرامه لعمرو بخصوصه كان يوم الجمعة فلا بد له من أن يقول : أكرمت زيدا ، وأكرمت عمروا يوم الجمعة.

٢ ـ إن هذا الاحتمال مخالف لصريح رواية البخاري ، ومسلم ، وأحمد عن علي عليه‌السلام أنه قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن لحوم الحمر الانسية (١) ، وروى البيهقي ـ في باب المتعة ـ عن عبد الله بن عمر أيضا رواية تحريم المتعة يوم خيبر (٢).

وأما ما روي عن سلمة بن الاكوع عن أبيه ، قال : رخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها فهو خبر واحد ، لا يثبت به النسخ ، على أن ذلك لو كان صحيحا لم يكن خفيا عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وجابر ، وعمرو بن حريث ، ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين

__________________

١ ـ المنتقى ج ص ٥١٩ ، ورواه ابن ماجة ج ١ ص ٣٠٩.

٢ ـ سنن البيهقي ج ٧ ص ٢٠٢.

٣٢٢

وكيف يصح ذلك ولم يحرم أبو بكر المتعة أيام خلافته ، ولم يحرمها عمر في شطر كبير من أيامه ، وإنما حرمها في أواخر أمره.

وقد مر عليك كلام ابن حزم في ثبوت جماعة من الصحابة والتابعين على إباحة المتعة ، ومما يدل على ما ذكره ابن حزم من فتوى جماعة من الصحابة بإباحة المتعة : ما رواه ابن جرير في تهذيب الاثار ، عن سليمان بن يسار ، عن أم عبد الله ابنة أبي خيثمة :

« إن رجلا قدم من الشام فنزل عليها ، فقال : إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها ، قالت : فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك قالت : فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولا ، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب ، فأرسل إلي فسألني أحق ما حدثت؟ قلت : نعم : قال : فإذا قدم فآذنيني به ، فلما قدم أخبرته فأرسل إليه ، فقال : ما حملك على الذي فعلته؟ قال : فعلته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله ، ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا ، فقال عمر : أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك ، بينوا حتى بعرف النكاح من السفاح ».

وما رواه ابن جرير أيضا ، وأبو يعلى في مسنده ، وأبو داود في ناسخه عن علي عليه‌السلام قال :

« لو لا ما سبق من رأي عمر بن الحطاب لامرت

٣٢٣

بالمتعة ، ثم ما زني إلا شقي » (١).

وفي هاتين الروايتين وجوه من الدلالة على أن التحريم إنما كان من عمر :

الاول : شهادة الصحابي ، وشهادة علي عليه‌السلام على أن تحريم المتعة لم يكن في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بعده إلى أن حرمها عمر برأيه.

الثاني : شهادة العدول عن المتعة في الرواية الاولى ، مع عدم نهيهم عنها تدل على أنهم كانوا يجوزونها.

الثالث : تقرير عمر دعوى الشامي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينه عنها.

الرابع : قول عمر للشامي : لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك فإنه صريح في أن عمر لم يتقدم بالنهي قبل هذه القصة ، ومعنى ذلك : أن عمر قد اعترف بأن المتعة لم ينه عنها قبل ذلك.

الخامس : قول عمر : بينوا حتى بعرف النكاح من السفاح فإنه يدل على أن المتعة كانت شايعة بين المسلمين ، فأراد أن يبلغ نهيه عن المتعة إليهم لينتهوا عنها بعد ذلك ، ولعل لهذه القصة دخلا مباشرا أو غير مباشر في تحريم عمر للمتعة ، فإن إنكاره على الشامي عمله هذا مع شهادة الحديث بأن التمتع كان أمرا شايعا بين المسلمين ووصول الخبر إليه ، مع أن هذه الاشياء لا يصل خبرها إلى السلطان عادة ، كل هذا يدلنا على أن في الامر سرا جهلته الرواة ، أو أنهم أغفلوه فلم يصل إلينا خبره. ويضاف إلى ذلك أن رواية سلمة بن الاكوع ليس فيها ظهور في أن النهي كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن المحتمل ان لفظ نهي في الرواية بصيغة المبني للمفعول وأريد منه نهي عمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى الجملة : انه لم يثبت بدليل مقبول نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المتعة ومما

__________________

١ ـ كنز العمال ج ٨ ص ٢٩٤.

٣٢٤

يدل على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينه عن المتعة : أن عمر نسب التحريم إلى نفسه حيث قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنهما واعاقب عليهما (١) ولو كان التحريم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان عليه أن يقول : نهى النبي عنهما.

٤ ـ ان ناسخ جواز المتعة الثابت بالكتاب والسنة هو الاجماع على تحريمها.

والجواب عن ذلك :

أن الاجماع لا حجية له إذا لم يكن كاشفا عن قول المعصوم وقد عرفت أن تحريم المتعة لم يكن في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بعده إلى مضي مدة من خلافة عمر ، أفهل يجوز في حكم العقل أن يرفض كتاب الله وسنة نبيه بفتوى جماعة لم يعصموا من الخطأ؟ ولو صح ذلك لامكن نسخ جميع الاحكام التي نطق بها الكتاب ، أو أثبتتها السنة القطعية ، ومعنى ذلك أن يلتزم بجواز نسخ وجوب الصلاة ، أو الصيام ، أو الحج بآراء المجتهدين ، وهذا مما لا يرضى به مسلم.

أضف إلى ذلك : أن الاجماع لم يتم في مسألة تحريم المتعة ، وكيف يدعي الاجماع على ذلك ، مع مخالفة جمع من المسلمين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده ولا سيما أن قول هؤلاء بجواز المتعة موافق لقول أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وإذن فلم يبقل إلا تحريم عمر.

ومن البين أن كتاب الله وسنة نبيه أحق بالاتباع من غيرهما ، ومن أجل ذلك أفتى عبد الله بن عمر بالرخصة بالتمتع في الحج ، فقال له ناس :

« كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك ، فقال لهم :

__________________

١ ـ تقدم ذلك في الرواية الخامسة من روايات جابر ، ورواه أبو صالح كاتب الليث في نسخته والطحاوي ، ورواه ابن جرير في تهذيب الاثار ، وابن عساكر إلا أن عمر قال في ما روياه ، واضرب فيهما ، كنز العمال المتعة ج ٨ ص ٢٩٣ ، ٢٩٤

٣٢٥

ويلكم ألا تتقون ... أفرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر؟ (١).

وخلاصة ما تقدم : أن جميع ما تمسك به القائلون بالنسخ لا يصلح أن يكون ناسخا لحكم الاية المباركة ، الذي ثبت ـ قطعا ـ تشريعه في الاسلام.

الرجم على المتعة :

قد صح في عدة روايات ـ تقدم بعضها ـ أن عمر حكم بالرجم على المتعة ، فمنها ما رواه جابر ، قال :

« تمتعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما قام عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء ، وإن القرآن قد نزل منازله ، فأتموا الحجة والعمرة لله كما أمركم ، وأبتوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة » (٢).

ومنها : ما رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب ، فقالت :

« إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج عمر يجر رداءه فزعا ، فقال : هذه المتعة ولو كنت تقدمت فيه لرجمته » (٣).

__________________

١ ـ مسند أحمد ج ٢ ص ٩٥.

٢ ـ صحيح مسلم باب المتعة بالحج والعمرة ج ٤ ص ٣٦ ، وروى الطيالسي قريبا منها عن جابر في مسنده ج ٨ ص ٢٤٧.

٣ ـ سنن البيهقي باب نكاح المتعة ج ٧ ص ٢٠٦.

٣٢٦

ومنها : ما رواه نافع عن عبد الله بن عمر :

« إنه سئل عن متعة النساء ، فقال : حرام ، أما إن عمر بن الخطاب لو أخذ فيها أحدا لرجمه » (١).

ونهج ابن الزبير هذا المنهج ، فإنه حينما أنكر نكاح المتعة ، قاله له ابن عباس :

« إنك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين ـ رسول الله ـ فقال له ابن الزبير : فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لارجمنك بأحجارك » (٢).

وهذا من الغريب ، وكيف يستحق الرجم رجل من المسلمين خالف عمر في الفتيا ، واستند في قوله هذا إلى حكم رسول الله (ص) ونص الكتاب ، ولنفرض أن هذا الرجل كان مخطئا في اجتهاده ، أفليست الحدود تدرأ بالشبهات؟! على أن ذلك فرض محض ، وقد علمت أنه لا دليل يثبت دعوى النسخ.

وما أبعد هذا القول من مذهب أبي حنيفة ، حيث يرى سقوط الحد إذا تزوج الرجل بامرأة نكاحا فاسدا أو بإحدى محارمه في النكاح ، ودخل بها مع العلم بالحرمة وفساد العقد (٣) وأنه إذا استأجر امرأة فزنى بها ، سقط الحد لان الله تعالى سمى المهر أجرا. وقد روي نحو ذلك عن عمر بن الخطاب أيضا (٤).

مزاعم حول المتعة :

زعم صاحب المنار أن التمتع ينافي الاحصان ، بل يكون قصده الاول

__________________

١ ـ نفس المصدر.

٢ ـ صحيح مسلم باب نكاح المتعة ج ٤ ص ١٣٣.

٣ ـ الهداية ، وفتح القدير ج ٤ ص ١٤٧.

٤ ـ أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ١٤٦.

٣٢٧

المسافحة ، لانه ليس من الاحصان في شيء أن تؤجر المرأة نفسها كل طائفة من الزمن لرجل ، فتكون كما قيل :

كرة حذفت بصوالجة

فتلقفها رجل رجل

وزعم أنه ينافي قوله تعالى :

« وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ٢٣ : ٥. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ : ٦. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ : ٧ ».

ثم ذكر أن تحريم عمر لم يكن من قبل نفسه ، فإن ثبت أنه نسبه إلى نفسه فمعناه أنه بين تحريمها ، أو أنه أنفذه. ثم إنه استغفر بعد ذلك عما كتبه في المنار من أن عمر منع المتعة اجتهادا منه ووافقه عليه الصحابة (١).

ودفعا لهذه المزاعم نقول :

أما حكاية منافاة التمتع للاحصان فهو مبني على ما يزعمه هو من أن المتمتع بها ليست زوجة ، وقد أوضحنا ـ فيما تقدم ـ فساد هذا القول ومنه يظهر أيضا فساد توهمه أن جواز التمتع ينافي وجوب حفظ الفروج على غير الازواج.

وأما تعبيره عن عقد المتعة بإجارة المرأة نفسها ، وتشبيه المرأة بالكرة التي تتلقفها الايدي ، فهو ـ لو كان صحيحا ـ لكان ذلك اعتراضا على تشريع هذا النوع من النكاح على عهد رسول الله (ص) لان هذا التشبيه والتقبيح لا يختص بزمان دون زمام ، ولا يشك مسلم في أن التمتع كان حلالا على عهد رسول الله

__________________

١ ـ تفسير المنار ج ٥ ص ١٣ ـ ١٦.

٣٢٨

(ص) وقد عرفت ـ فيما تقدم ـ أن إباحته استمرت حتى إلى مدة من عهد عمر.

ومن الغريب : أن يصرح ـ هنا ـ انه لم يقصد غير بيان الحق ، وانه لا يتعصب لمذهب ، ثم يجره التعصب إلى أن يشنع على ما ثبت في الشرع الاسلامي بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وإن وقع الاختلاف بينهم في نسخه واستمراره. أضف إلى ذلك أن انتقال المرأة من رجل إلى رجل لو كان قبيحا لكان ذلك مانعا عن طلاق المرأة في العقد الدائم ، لتنتقل إلى عصمة رجل آخر ، وعن انتقال المرأة بملك اليمين ، ولم يستشكل في ذلك أحد من المسلمين ، إلا أن صاحب المنار في مندوحة عن هذا الاشكال ، لانه يرى المنع من الاسترقاق ، وأن في تجويزه مفاسد كثيرة ، وزعم أن العلماء الاعلام أهملوا ذكر ذلك ، وذهب إلى بطلان العقد الدائم ، إذا قصد الزوج من أول الامر الطلاق بعد ذلك ، وخالف في ذلك فتاوى فقهاء المسلمين.

ومن الغريب أيضا : ما وجه به نسبة عمر تحريم المتعة إلى نفسه ، فإنه لا ينهض ذلك بما زعمه ، فإن بيان عمر للتحريم إما أن يكون اجتهادا منه على خلاف قول النبي (ص) ، وإما أن يكون اجتهادا منه بتحريم النبي إياها ، وإما أن يكون رواية منه للتحريم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما احتمال أن يكون قوله رواية عن النبي فلا يساعد عليه نسبة التحريم ، والنهي إلى نفسه في كثير من الروايات. على أنه إذا كان رواية ، كانت معارضة بما تقدم من الروايات الدالة على بقاء إباحة المتعة إلى مدة غير يسيرة من خلافة عمر ، وأين كان عمر أيام خلافة أبي بكر؟ وهلا أظهر روايته لابي بكر ولسائر المسلمين؟ على أن رواية عمر خبر واحد لا يثبت به النسخ.

وأما احتمال أن يكون قول عمر هذا اجتهادا منه بتحريم النبي نكاح المتعة فهو أيضا لا معنى له بعد شهادة جماعة من الصحابة بإباحته في زمان رسول الله (ص) إلى وفاته. على أن اجتهاده هذا لا يجدي غيره ممن لم يؤمر باتباع

٣٢٩

اجتهاده ورأيه ، بل وهذان الاحتمالان مخالفان لتصريح عمر في خطبته : متعتان كانتا على عهد رسول اله (ص) وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما.

وإذن فقد انحصر الامر في أن التحريم كان اجتهادا منه على خلاف قول رسول الله بالاباحة ، ولاجل ذلك لم تتبعه الامة في تحريمه متعة الحج وفي ثبوت الحد في نكاح المتعة ، فإن اللازم على المسلم أن يتبع قول النبي (ص) وأن يرفض كل اجتهاد يكون على خلافة:

« وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ٣٣ : ٣٦ ».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أحللت إلا ما أحل الله ، ولا حرمت إلا ما حرم الله (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه ـ فمه ـ إلا حق (٢). ومع هذا كله : فقد قال القوشجي في الاعتذار عن تحريم عمر المتعة ، خلافا لرسول الله وأجيب : بأن ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه ، فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع (٣).

وقال الامدي : اختلفوا في أن النبي (ص) هل كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه؟ فقال أحمد بن حنبل ، والقاضي أبو يوسف : إنه كان متعبدا به وجوز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع ، وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصري ، ثم قال : والمختار جواز ذلك عقلا ووقوعه سمعا (٤).

__________________

١ ـ طبقات ابن سعد طبعة مصر ج ٤ ص ٧٢ ، وبمضمونها رواية ما بعدها.

٢ ـ رواه أبو داود ـ التاج ج ١ ص ٦٦.

٣ ـ شرح التجريد في مبحث الامامة.

٤ ـ الاحكام في اصول الاحكام ج ٤ ص ٢٢٢.

٣٣٠

وقال فيه أيضا : القائلون بجواز الاجتهاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده ، فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك ، وذهب أكثر أصحابنا ، والحنابلة ، وأصحاب الحديث ، والجبائي ، وجماعة من المعتزلة إلى جوازه ، لكن بشرط أن لا يقر عليه وهو المختار (١).

وحاصل ما تقدم : أن آية التمتع لا ناسخ لها ، وأن تحريم عمر ، وموافقة جمع من الصحابة له على رأيه طوعا أو كرها إنما كان اجتهادا في مقابل النص ، وقد اعترف بذلك جماعة ، وأنه لا دليل على تحريم المتعة غير نهي عمر ، إلا أنهم رأوا أن اتباع سنة الخلفاء كاتباع سنة النبي (٢).

وعلى أي فما أجود ما قاله عبد الله بن عمر : أرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحق أن تتبع سنته أم سنة عمر ، وما أحق ما قاله الشيخ محمد عبده في تفسير قوله تعالى : الطلاق مرتان (٣).

١٤ ـ « وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ٤ : ٣٣ ».

قد اختلفت الاراء في مدلول الاية المباركة :

فمنهم من حمل ذيل الاية المباركة والذين عقدت أيمانكم على بيان حكم

____________

١ ـ نفس المصدر ص ٢٩٠.

٢ ـ هامش المنتقى للفقي ج ٢ ص ٥١٩.

٣ ـ انظر التعليقة رقم (٨) في قسم التعليقات رأي ابن عبده في الطلاق الثلاث.

٣٣١

مستقل عن سابقه ، فجعله جملة مستأنفة ، وفسر كلمة نصيبهم بالنصر ، والنصح ، والرفادة ، والعون والعقل ، والمشورة ، وعلى ذلك : فالاية محكمة غير منسوخة ، وهذا القول منسوب إلى ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير (١) ، ومنهم من جعله معطوفا على ما قبله ، وفسر كلمة نصيبهم بما يستحقه الوارث من التركة.

ثم إن هؤلاء قد اختلفوا : فذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين في الاية المباركة عقد المؤاخاة ، وما يشبهه من العقود التي كانت يتوارث بسببها في الجاهلية ، وقد أقر الاسلام ذلك إلى أن نزلت آية المواريث :

« وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ٨ : ٧٥ ».

وعلى ذلك فالاية منسوخة (٢).

وذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين خصوص عقد ضمان الجريرة وعلى ذلك فإن قلنا بما ذهب إليه أكثر علماء أهل السنة من أنه لا إرث بعقد ضمان الجريرة فكانت الاية منسوخة أيضا بآية المواريث (٣) ، وإن قلنا بما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من ثبوت الارث بهذا العقد كانت الاية محكمة غير منسوخة.

وقد استدلوا على ذلك بأن آية المواريث لم تنف إرث غير اولي الارحام ، وإنما قدمهم على غيرهم ، فلا تنافي بين الايتين ، لتكون آية المواريث ناسخة لهذه الاية (٤).

__________________

١ ـ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص ١٠٧.

٢ ـ نفس المصدر ص ١٠٩.

٣ ـ تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٩٠.

٤ ـ أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ١٨٥

٣٣٢

والحق : إن المراد بالاية ما هو ظاهرها الذي يفهم منها ، وهو ثبوت الارث بالمعاقدة ، ومع ذلك فلا نسخ لمدلول الاية.

وبيان ذلك : إن سياق الاية يقتضي أن يكون المراد بالنصيب المذكور فيها هو الارث ، وحمله على النصرة وما يشبهها خلاف ظاهرها ، بل كاد يكون صريحها.

ثم إن ذكر الطوائف الثلاث في الاية لا يدل على اشتراكهم وتساويهم في الطبقة ، فإن الولد يرث أبويه ولا يرث معه أحد من أقرباء الميت من أولي أرحامه فالذي يستفاد من الاية الكريمة أن الموروث هو هذه الطوائف الثلاث ، وأما ترتيب الارث وتقدم بعض الوارث على بعض فلا يستفاد من الاية ، وقد استفيد ذلك من الادلة الاخرى في الكتاب والسنة.

وعلى هذا الذى ذكرناه تكون الاية الكريمة جامعة لجميع الوراث على الاجمال ، فالولد يرث ما تركه الوالدان ، والاقربون من اولي الارحام يرث بعضهم بعضا ، ومن عقد معه يرث في الجملة تشريكا أو ترتيبا.

وتفصيل ذلك :

إن الارث من غير جهة الرحم لا بد له من تحق عقد والتزام من العاقد بيمينه وقدرته ، وهو تارة يكون من جهة الزواج ، فكل من الزوجين يرث صاحبه بسبب عقد الزواج الذي تحقق بينهما ، وتارة يكون من جهة عقد البيعة والتبعية ويسمى ذلك بولاء الامامة ، ولا خلاف في ثبوت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنا وارث من لا وارث له (١).

ولا إشكال أيضا في ثبوته لاوصياء النبي الكرام (ع) فقد ثبت بالادلة

__________________

١ ـ رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجة : المنتقى ج ٢ ص ٤٦٢.

٣٣٣

القطعية أنهم بمنزلة نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى ذلك اتفقت كلمات الامامية وروايات أهل البيت (ع) وتارة يكون من جهة عقد العتق ، فيرث المعتق عبده الذي أعتقه بولاء العتق ، ولا خلاف في ذلك بين الامامية ، وقال به جمع من غيرهم ، وتارة يكون من جهة عقد الضمان ويسمى ذلك بولاء ضمان الجريرة وقد اتفقت الامامية على ثبوت الارث بسبب هذا الولاء ، وذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه.

وجملة القول : فدعوى نسخ الاية يتوقف على ثبوتها على أمرين :

١ ـ أن يكون قوله تعالى :

« وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ٤ : ٣٣ ».

في الاية معطوفا على ما قبله ، ولا يكون جملة مستأنفة ليكون المراد من نصيبهم النصح والمشورة وما يشبههما.

٢ ـ أن يراد بعقد اليمين فيها : خصوص ضمان الجريرة ، مع الالتزام بعدم ثبوت الارث به ، أو عقد المؤاخاة وما يشبهه من العقود التي اتفق المسلمون على عدم ثبوت الارث بها.

أما الامر الاول : فلا ريب فيه ، وهو الذي يقتضيه سياق الاية.

وأما الامر الثاني ، فهو ممنوع ، لان ضمان الجريرة أحد مصاديق عقد اليمين ، ومع ذلك فلم ينسخ حكمه ، ودعوى أن المراد بعقد اليمين العقود التي لا توجب التوريث ، كالمؤاخاة ونحوها لا دليل على ثبوتها.

١٥ ـ « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ٤ : ٤٣ ».

٣٣٤

فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنها منسوخة (١) ولكن وقع الكلام في ناسخها فعن قتادة ومجاهد أنها منسوخة بتحريم الخمر. وحكي هذا القول عن الحسن أيضا (٢) ، وعن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى :

« إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ٥ : ٦ ».

وكلا هذين القولين ظاهر الفساد :

أما القول الاول : فلان الاية الكريمة لا دلالة فيها على جواز شرب الخمر بوجه ، وإن فرض أن تحريم الخمر لم يكن في زمان نزول الاية ، فالاية لا تعرض لها لحكم الخمر رخصة أو تحريما. على أن هذا مجرد فرض لا وقوع له ، ففي رواية ابن عمر : نزلت في الخمر ثلاث آيات فأول شيء نزل :

« يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ٢ : ٢١٩ ».

فقيل : حرمت الخمر ، فقيل يا رسول الله دعنا ننتفع بها ، كما قال الله عز وجل ، فسكت عنهم ، ثم نزلت هذه الاية (٣) :

« لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ٤ : ٤٣ ».

وروى نحو ذلك أبو هريرة (٤). وروى أبو ميسرة عن عمر بن الخطاب قال :

__________________

١ ـ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص ١٠٩.

٢ ـ أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٢٠١.

٣ ـ مسند الطيالسي ج ٨ ص ٢٦٤.

٤ ـ مسند أحمد ج ٢ ص ٣٥١.

٣٣٥

لما نزل تحريم الخمر ، قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت هذه الاية التي في سورة البقرة :

« يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ٢ : ١٩ ».

قال : فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الاية التي في سورة النساء :

« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ٤ : ٤٣ ».

فكان منادي رسول الله (ص) إذا أقام الصلاة نادى : لا يقربن الصلاة سكران ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الاية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ :

« فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٥ : ٩١ ».

قال : فقال عمر : انتهينا انتهينا (١). وأخرج النسائي أيضا هذا الحديث باختلاف يسير في ألفاظه (٢).

وأما القول الثاني : فلان وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة لا مساس له بمضمون الاية الكريمة ليكون ناسخا لها.

ولعل القائل بالنسخ يتوهم فيقول : إن النهي عن القرب إلى الصلاة حالة

__________________

١ ـ نفس المصدر ج ١ ص ٥٣.

٢ ـ سنن النسائي باب تحريم الخمر ج ٢ ص ٣٢٣.

٣٣٦

السكر يقتضي أن يراد بالسكر ما لا يبلغ بالشخص إلى حد الغفلة عن التكاليف وامتثالها ، وعدم الالتفات إليها. فإن الذي يصل به السكر إلى هذا الحد يكون تكليفه قبيحا ، وعلى ذلك فإذا فرضنا أن شخصا شرب الخمر ، وحصل له هذا المقدار من السكر فهو مكلف بالصلاة بالاجماع ، وذلك يستلزم نسخ مفاد الاية.

ولكن هذا القول توهم فاسد ، فإن المراد بالسكر بقرينة قوله تعالى :

« حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ٤ : ٤٣ ».

هي المرتبة التي يفقد السكران معها الشعور ، وهذا النهي قد يحمل على الحرمة التكليفية ، ولا ينافيها فقد الشعور ، لان إقامة الصلاة في ذلك الحال ، وإن كانت غير مقدورة إلا أن فقده لشعوره هذا كان باختياره ، والممتنع بالاختيار لا ينافي صحة العقاب عليه عقلا ، فيصح تعلق النهي بها قبل أن يتناول المسكر باختياره ، ومثل هذا كثير في الشريعة الاسلامية.

وقد يراد من النهي : الارشاد إلى فساد الصلاة في هذا الحال كما هو الظاهر من مثل هذا التركيب ، والامر على هذا الاحتمال واضح جدا ، وعلى كل فلا سبب يوجب الالتزام بالنسخ في الاية.

١٦ ـ « إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ

( البيان ـ ٢٢ )

٣٣٧

فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ٤ : ٩٠ ».

فقد ذكروا أن الاية منسوخة بالامر بنبذ ميثاق المشركين ، وبالامر بقتالهم سواء أكانوا اعتزلوا المسلمين أم لم يعتزلوهم ، فيكون في الاية موردان للنسخ.

والجواب :

إن الاية الكريمة نزلت في شأن المنافقين الذين تولوا وكفروا بعد إسلامهم في الظاهر ، والدليل على ذلك سياق الاية الكريمة ، فقد قال الله تعالى :

« فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ٤ : ٨٨. وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا : ٨٩. إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ : ٩٠ ».

وعلى ذلك فالحكم في الاية وارد في المرتدين الذين كانوا كفارا ثم أسلموا ثم كفروا بعد إسلامهم ، والحكم فيهم بمقتضى الاية هو القتل إلا في موردين :

١ ـ وصولهم إلى قوم بينهم وبين المسلمين معاهدة ، واستجارتهم بهم فيجري عليهم حكم القول الذين استجاروا بهم بمقتضى المعاهدة ، ولكن هذا الحكم مشروط ببقاء المعاهدة ، فإذا ألغيت بينهم وبين المسلمين لم يبق للحكم موضوع وقد أوضحنا في أول هذا البحث أن ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه ليس

٣٣٨

من النسخ في شيء ، وقد ألغيت المعاهدة بين المسلمين والمشركين في سورة التوبة وأمهلوا أربعة أشهر ليتخيروا إما الاسلام ، وإما الخروج عن بلاد المسلمين ، وعلى ذلك فلم يبق موضوع للاستجارة التي ذكرتها الاية.

٢ ـ مجيئهم إلى المسلمين ، وقد حصرت صدورهم عن القتال ، مع اعتزالهم ، والقائهم السلم إلى المسلمين بعد الردة ، والمراد بإلقاء السلم إظهار الاسلام ، والاقرار بالشهادتين ، ويشهد لهذا قوله تعالى :

« وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ٤ : ٩٤ ».

فالاية دالة على قبول المرتد الملي إذا أظهر التوبة والاسلام ، وانه لا يقتل بعد التوبة ، وقد استقر على هذا مذهب الامامية : ولم ترد في القرآن آية تدل على وجوب قتل المرتد على الاطلاق ، لتكون ناسخة لذلك.

أما إذا أراد القائل بالنسخ : أن يتمسك في نسخ الاية بما دل على قتال المشرك والكافر ، فمن الواضح أن ذلك مشروط ببقاء موضوعه ، على ما هي القاعدة المتبعة في كل قضية حقيقية في الاحكام الشرعية وغيرها. نعم ورد الامر بقتل المرتد على الاطلاق في بعض روايات أهل السنة ، فقد روى البحاري ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو داود السجستاني ، وابن ماجة عن بن عباس عن رسول الله (ص) أنه قال : من بدل دينه فاقتلوه (١). إلا أنه لا خلاف بين المسلمين في أن هذا الحكم مقيد بعدم التوبة ، وإن وقع الخلاف بينهم في المدة التي يستتاب فيها ، وفي وجوب الاستتابة واستحبابها. فالمشهور بين الامامية أنه واجب ، وأنه لا يحد بمدة مخصوصة ، بل يستتاب مدة يمكن منه الرجوع فيها إلى الاسلام ، وقيل يستتاب ثلاثة أيام ، ونسب ذلك إلى بعض الامامية ،

__________________

١ ـ المنتقى ج ٢ ص ٧٤٥.

٣٣٩

واختاره كثير من علماء أهل السنة ، وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف إلى استحباب الامهال ثلاثة أيام. نعم ذهب علي بن أبي بكر المرغيناني إلى وجوب القتل من غير إمهال ، ونسب ابن الهمام إلى الشافعي ، وابن المنذر أنهما قالا في المرتد : إن تاب في الحال وإلا قتل (١). وعلى كل فلا إشكال في سقوط حكم القتل بالتوبة ، كما صرح به في الروايات المأثورة عن الطريقين ، وبعد ذلك فلا تكون الاية منسوخة.

١٧ ـ « فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ٥ : ٤٢ ».

وقد اختلفت الاقوال في هذه الاية الكريمة ، فقيل : إنها محكمة لم تنسخ وقد أجمعت الشيعة الاثني عشرية على ذلك ، فالحاكم مخير ـ حين يتحاكم إليه الكتابيون ـ بين أن يحكم بينهم بمقتضى شريعة الاسلام ، وبين أن يعرض عنهم ويتركهم وسا التزموا به في دينهم. وقد روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة ، وأهل الانجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء ترك (٢) ، وإلى هذا القول ذهب من علماء أهل السنة الشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء ، ومالك (٣).

__________________

١ ـ فتح القدير ج ٤ ص ٣٨٦.

٢ ـ الوسائل ج ٣ باب ٢٧ من كتاب القضاء ص ٤٠٦ طبعة عين الدولة.

٣ ـ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص ١٣٠ ، وفي أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٤٣٤ نسبة هذا القول إلى الحسن أيضا.

٣٤٠