البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

النسخ في التوراة :

وما قدمناه يبطل تمسك اليهود والنصارى باستحالة النسخ في الشريعة ، لاثبات استمرار الاحكام الثابتة في شريعة موسى. ومن الغريب جدا أنهم مصرون على إحالة النسخ في الشريعة الالهية ، مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين :

١ ـ فقد جاء في الاصحاح الرابع من سفر العدد « عدد ٢ ، ٣ » :

« خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم ، وبيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة ، كل داخل في الجند ليعمل عملا في خيمة الاجتماع ».

وقد نسخ هذا الحكم ، وجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس وعشرين سنة بما في الاصحاح الثامن من هذا السفر عدد ٢٣ ، ٢٤ : وكلم الرب موسى قائلا هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا ، يأتون ليتجندوا أجنادا في خدمة خيمة الاجتماع.

ثم نسخ ثانيا : فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الاصحاح الثالث والعشرين من أخبار الايام الاول عدد ٢٤ ، ٣٢ : هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رؤوس الاباء حسب إحصائهم في عدد الاسماء ، حسب رؤوسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق ... وليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع ، وحراسة القدس ..

٢ ـ رجاء في الاصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد عدد ٣ ـ ٧ :

« وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقربون للرب ، خروفان حوليان صحيحان ، لكل يوم محرقة دائمة ، الخروف الواحد تعمله صباحا ، والخروف الثاني تعمله

٢٨١

بين العشاءين. وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرض تقدمة ... وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد ».

وقد نسخ هذا الحكم : وجعلت محرقة كل يوم حمل واحد حولي في كل صباح ، وجعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق ، وثلث الهين من الزيت بما جاء في الاصحاح السادس والاربعين من كتاب حزقيال عدد ١٣ ـ ١٥ : « وتعمل كل يوم محرقة للرب حملا حوليا صحيحا صباحا صباحا تعمله. وتعمل عليه تقدمة صباحا صباحا سدس الايفة. وزيتا ثلث الهين لرش الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة ، ويعملون الحمل والتقدمة والزيت صباحا صباحا محرقة دائمة ».

٣ ـ وجاء في الاصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد أيضا : عدد ٩ ، ١٠ :

« وفي يوم السبت خروفان حوليان صحيحان ، وعشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه. محرقة كل سبت فضلا عن المحرقة الدائمة وسكيبها ».

وقد نسخ هذا الحكم : وجعلت محرقة السبت ستة حملان وكبش ، وجعلت التقدمة إيفة للكبش ، وعطية يد الرئيس للحملان ، وهين زيت للايفة بما جاء في الاصحاح السادس والاربعين من كتاب حزقيال أيضا عدد ٤ ، ٥ : « والمحرقة التي يقربها الرئيس للرب في يوم السبت ستة حملان صحيحة ، وكبش صحيح. والتقدمة إيفة للكبش ، وللحملان تقدمة عطية يده ، وهين زيت للايفة ».

٤ ـ وجاء في الاصحاح الثلاثين من سفر العدد عدد ٢ :

« إذا نذر رجل نذرا للرب ، أو أقسم أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه ، حسب كل ما خرج من؟؟ يفعل ».

٢٨٢

وقد نسخ جواز الحلف الثابت بحكم التوراة بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى عدد ٣٣ ، ٣٤ : أيضا سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث ، بل أوف للرب أقسامك. وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة.

٥ ـ وجاء في الاصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج عدد ٢٣ ـ ٢٥ :

« وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس ، وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل ، وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض ».

وقد نسخ هذا الحكم بالنهي عن القصاص في شريعة عيسى بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى عدد ٣٨ : « سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الاخر أيضا ».

٦ ـ وجاء في الاصحاح السابع عشر من سفر التكوين عدد ١٠ في قول الله لابراهيم:

« هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك ، يختن منكم كل ذكر ». وقد جاء في شريعة موسى إمضاء ذلك.

ففي الاصحاح الثاني عشر من سفر الخروج عدد ٤٨ ـ ٤٩ : « وإذا نزل عندك نزيل ، وصنع فصحا للرب فليختن منه كل ذكر ، ثم يتقدم ليصنعه فيكون كمولود الارض ، وأما كل أغلف فلا يأكل منه ، تكون شريعة واحدة لمولود الارض ، وللنزيل النازل بينكم ». وجاء في الاصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين عدد ٢ ، ٣ : « إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة ، وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته ».

وقد نسخ هذا الحكم ، ووضع ثقل الختان عن الامة بما جاء في الاصحاح

٢٨٣

الخامس عشر من أعمال الرسل عدد ٢٤ ـ ٣٠ وفي جملة من رسائل بولس الرسول.

٧ ـ وجاء في الاصحاح الرابع والعشرين من التثنية عدد ١ ـ ٣ :

« إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه ، لان وجد فيها عيب شيء ، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها ، وأطلقها من بيته ، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر ، فإن أبغضها الرجل الاخر وكتب لها كتاب طلاق ، ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الاخير الذي اتخذها له زوجة ، لا يقدر زوجها الاول الذي طلقها أن يعود يأخذها ، لتصير له زوجة ».

وقد نسخ الانجيل ذلك وحرم الطلاق بما جاء في الاصحاح الخامس من متى عدد « ٣١ ـ ٣٢ » : وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق ، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني ، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني. وقد جاء مثل ذلك في الاصحاح العاشر من مرقس : عدد : « ١١ ، ١٢ » والاصحاح السادس عشر من لوقا « عدد ١٨ ».

وفيما ذكرناه كفاية لمن ألقى السمع هو شهيد ، ومن أراد الاطلاع على أكثر من ذلك فليراجع كتابي إظهار الحق (١) والهدى إلى دين المصطفى (٢).

النسخ في الشريعة الاسلامية :

لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ ، فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الاسلامية ، وإن جملة من أحكام هذه

__________________

١ ـ للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي ، وهو كتاب جليل نافع جدا. ٢ ـ للامام البلاغي.

٢٨٤

الشريعة قد نسخت بأحكام اخرى من هذه الشريعة نفسها ، فقد صرح القرآن الكريم بنسخ حكم التوجه في الصلاة إلى القبلة الاولى ، وهذا مما لا ريب فيه.

وإنما الكلام في أن يكون شيء من أحكام القرآن منسوخا بالقرآن ، أو بالسنة القطعية ، أو بالاجماع ، أو بالعقل. وقبل الخوض في البحث عن هذه الجهة يحسن بنا أن نتكلم على أقسام النسخ ، فقد قسموا النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ نسخ التلاوة دون الحكم :

وقد مثلوا لذلك بآية الرجم فقالوا : إن هذه الاية كانت من القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، وقد قدمنا لك في بحث التحريف أن القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف وأوضحنا أن مستند هذا القول أخبار آحاد وأن أخبار الاحاد لا أثر لها في أمثال هذا المقام.

فقد أجمع المسلمون على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد كما أن القرآن لا يثبت به ، والوجه في ذلك ـ مضافا إلى الاجماع ـ أن الامور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس ، وانتشار الخبر عنها على فرض وجودها لا تثبت بخبر الواحد فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم من القرآن ، وانها قد نسخت تلاوتها ، وبقي حكمها ، نعم قد تقدم أن عمر أتى بآية الرجم وادعى انها من القرآن فلم يقبل قوله المسلمون ، لان نقل هذه الاية كان منحصرا به ، ولم يثبتوها في المصاحف ، فالتزم المتأخرون بأنها آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.

٢ ـ نسخ التلاوة والحكم :

ومثلوا لنسخ التلاوة والحكم معا بما تقدم نقله عن عائشة في الرواية العاشرة

٢٨٥

من نسخ التلاوة في بحث التحريف ، والكلام في هذا القسم كالكلام على القسم الاول بعينه.

٣ ـ نسخ الحكم دون التلاوة :

وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسرين ، وقد ألف فيه جماعة من العلماء كتبا مستقلة ، وذكروا فيها الناسخ والمنسوخ. منهم العالم الشهير أبو جعفر النحاس ، والحافظ المظفر الفارسي ، وخالفهم في ذلك بعض المحققين ، فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن. وقد اتفق الجميع على إمكان ذلك ، وعلى وجود آيات من القرآن ناسخة لاحكام ثابتة في الشرائع السابقة ، ولاحكام ثابتة في صدر الاسلام.

ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول : إن نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن أن يكون على أقسام ثلاثة :

١ ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة ، أو بالاجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم عليه‌السلام وهذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلا ونقلا ، فإن ثبت في مورد فهو المتبع ، وإلا فلا يلتزم بالنسخ ، وقد عرفت أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.

٢ ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ ، ومبينة لرفعه ، وهذا القسم أيضا لا إشكال فيه ، وقد مثلوا لذلك بآية النجوى سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.

٣ ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق ، ولا مبينة لرفعه ، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الاية المتأخرة ناسخة لحكم الاية المتقدمة.

٢٨٦

والتحقيق : أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن ، كيف وقد قال الله عز وجل :

« أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ٤ : ٨٢ ».

ولكن كثيرا من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الايات الكريمة ، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الايات ، والتزموا لاجله بأن الاية المتأخرة ناسخة لحكم الاية المتقدمة ، وحتى أن جملة منهم جعلوا من التنافي ما إذا كانت إحدى الايتين قرينة عرفية على بيان المراد من الاية الاخرى ، كالخاص بالنسبة إلى العام ، وكالمقيد بالاضافة إلى المطلق ، والتزموا بالنسخ في هذه الموارد وما يشبهها ، ومنشأ هذا قلة التدبر ، أو التسامح في إطلاق لفظ النسخ بمناسبة معناه اللغوي ، واستعماله في ذلك وإن كان شائعا قبل تحقق المعنى المصطلح عليه ، ولكن إطلاقه ـ بعد ذلك ـ مبني على التسامح لا محالة.

مناقشة الآيات المدعى نسخها :

وعلى كل فلا بد لنا من الكلام في الايات التي ادعي النسخ فيها. ونذكر منها ما كان في معرفة وقوع النسخ فيه وعدم وقوعه غموض في الجملة. أما ما كان عدم النسخ فيه ظاهرا ـ بعد ما قدمناه ـ فلا نتعرض له في المقام وسنتعرض لذلك عند تفسيرنا الايات إن شاء الله تعالى.

وليكن كلامنا في الايات على حسب ترتيبها في القرآن الكريم :

١ ـ « وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ

٢٨٧

الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢ : ١٠٩ ».

فعن ابن عباس وقتادة والسدي ، أنها منسوخة بآية السيف. واختاره أبو جعفر النحاس (١). وآية السيف هو قوله تعالى :

« قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ٩ : ٢٩ ».

والالتزام بالنسخ ـ هنا ـ يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين :

الاول : أن يكون ارتفاع الحكم الموقت بانتهاء وقته نسخا ، وهذا واضح الفساد ، فإن النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأييد. فإن الحكم إذا كان موقتا ـ وإن كان توقيته على سبيل الاجمال ـ كان الدليل الموضح لوقته ،

والمبين لانتهائه من القرائن الموضحة للمراد عرفا ، وليس هذا من النسخ في شئ. فإن النسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الاطلاق في الدوام وعدم الاختصاص بزمان مخصوص.

وقد توهم الرازي أن من النسخ بيان الوقت في الحكم الموقت بدليل منفصل وهو قول بين الفساد ، وأما الحكم الذي صرح فيه بالتأييد ، فعدم وقوع النسخ فيه ظاهر.

__________________

١ ـ في كتابه الناسخ والمنسوخ ص ٢٦ طبع المكتبة العلامية بمصر.

٢٨٨

الثاني : أن يكون أهل الكتاب أيضا ممن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتالهم ، وذلك باطل ، فإن الايات القرآنية الامرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين ودعوتهم إلى الايمان بالله تعالى وباليوم الاخر. وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلا مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين ، لقوله تعالى :

« وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ٢ : ١٩٠ ».

أو إلقائهم الفتنة بين المسلمين ، لقوله تعالى بعد ذلك :

« وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ٢ : ١٩١ ».

أو امتناعهم عن إعطاء الجزية للاية المتقدمة ، وأما مع عدم وجود سبب آخر فلا يجوز قتالهم لمجرد الكفر ، كما هو صريح الاية الكريمة.

وحاصل ذلك : أن الامر في الاية المباركة بالعفو والصفح عن الكتابيين ، لانهم يودون أن يردوا المسلمين كفارا ـ وهذا لازم عادي لكفرهم ـ لا ينافيه الامر بقتالهم عند وجود سبب آخر يقتضيه ، على أن متوهم النسخ في الاية الكريمة قد حمل لفظ الامر من قوله تعالى:

« حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ٢ : ١٠٩ ».

على الطلب ، فتوهم أن الله أمر بالعفو عن الكفار إلى أن يأمر المسلمين بقتالهم فحمله على النسخ.

وقد اتضح للقارئ أن هذا ـ على فرض صحته ـ لا يستلزم النسخ ولكن

( البيان ـ ١٩)

٢٨٩

هذا التوهم ساقط ، فإن المراد بالامر هنا الامر التكويني وقضاء الله تعالى في خلقه ، ويدل على ذلك تعلق الاتيان به ، وقوله تعالى بعد ذلك :

« إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢ : ١٠٩ ».

وحاصل معنى الاية الامر بالعفو والصفح عن الكتابيين بودهم هذا ، حتى يفعل الله ما يشاء في خلقه من عز الاسلام ، وتقوية شوكته ، ودخول كثير من الكفار في الاسلام ، وإهلاك كثير من غيرهم ، وعذابهم في الاخرة ، وغير ذلك مما يأتي الله به من قضائه وقدره.

٢ ـ « وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ٢ : ١١٥ ».

فقد نسب إلى جماعة منهم ابن عباس ، وأبو العالية ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدى ، وزيد بن أسلم أن الاية منسوخة (١) واختلف في ناسخها فذكر ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى :

« وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ٢ : ١٥٠ ».

وذهب قتادة إلى أن الناسخ قوله تعالى :

« فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ٢ : ١٥٠ ».

كذلك ذكر القرطبي (٢) ، وذكروا في وجه النسخ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجميع

__________________

١ ـ تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٥٧ ، ١٥٨.

٢ ـ تفسير القرطبي ج ٢ ص ٧٤.

٢٩٠

المسلمين كانوا مخيرين في الصلاة إلى أية جهة شاءوا وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اختار من الجهات جهة بيت المقدس ، فنسخ ذلك بالامر بالتوجه إلى خصوص بيت الله الحرام.

ولا يخفى ما في هذا القول من الوهن والسقوط ، فإن قوله تعالى :

« وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ٢ : ١٤٣ ».

صريح في أن توجهه إلى بيت المقدس كان بأمر من الله تعالى لمصلحة كانت تقتضي ذلك ، ولم يكن لاختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك دخل أصلا.

والصحيح أن يقال في الاية الكريمة إنها دالة على عدم اختصاص جهة خاصة بالله تعالى ، فإنه لا يحيط به مكان ، فأينما توجه الانسان في صلاته ودعائه وجميع عباداته فقد توجه إلى الله تعالى. ومن هنا استدل بها أهل البيت (ع) على الرخصة للمسافر أن يتوجه في نافلته إلى أية جهة شاء ، وعلى صحة صلاة الفريضة فيما إذا وقعت بين المشرق والمغرب خطأ ، وعلى صحة صلاة المتحير إذا لم يعلم أين وجه القبلة. وعلى صحة سجود التلاوة إلى غير القبلة ، وقد تلاها سعيد بن جبير رحمه‌الله لما أمر الحجاج بذبحه إلى الارض (١) فهذه الاية مطلقة ، وقد قيدت في الصلاة الفريضة بلزوم التوجه فيها إلى بيت المقدس تارة ، وإلى الكعبة تارة أخرى ، وفي النافلة أيضا في غير حال المشي على قول. وأما ما في بعض الروايات من أنها نزلت في النافلة فليس المراد أنها مختصة بذلك « وقد تقدم أن الايات لا تختص بموارد نزولها ».

وجملة القول : ان دعوى النسخ في الاية الكريمة يتوقف ثبوتها على أمرين :

____________

١ ـ تفسير القرطبي ج ٢ ص ٧٥.

٢٩١

الاول : أن تكون واردة في خصوص صلاة الفريضة ، وهذا معلوم بطلانه ، وقد وردت روايات من طريق أهل السنة في أنها نزلت في الدعاء وفي النافلة للمسافر ، وفي صلاة المتحير ، وفي من صلى إلى غير القبلة خطأ (١) وقد مر عليك ـ آنفا ـ استشهاد أهل البيت (ع) بالاية المباركة في عدة موارد.

الثاني : أن يكون نزولها قبل نزول الاية الامرة بالتوجه إلى الكعبة وهذا أيضا غير ثابت ، وعلى ذلك فدعوى النسخ في الاية باطلة جزما. وفي بعض الروايات المأثورة عن أهل البيت (ع) التصريح بأن الاية المباركة ليست منسوخة. نعم قد يراد من النسخ معنى عاما شاملا للتقييد ، فإذا أريد به ذلك في المقام فلا مانع منه ، ولا يبعد أن يكون هذا هو مراد ابن عباس من النسخ فيها ، وقد أشرنا إليه فيما تقدم.

٣ ـ « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ٢ : ١٧٨».

فقد ادعي انها منسوخة بقوله تعالى :

« وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ٥ : ٤٥ ».

ومن أجل ذلك ذهب الجمهور من أهل السنة إلى : أن الرجل يقتل بالمرأة من غير أن يرد إلى ورثته شيء من الدية (٢) وخالف في ذلك الحسن وعطاء ، فذهبا

__________________

١ ـ تفسير الطبري ج ١ ص ٤٠٠ ـ ٤٠٢.

٢ ـ تفسير القرطبي ج ٢ ص ٢٢٩.

٢٩٢

إلى : أن الرجل لا يقتل بالمرأة. وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة (١) وذهبت الامامية إلى : أن ولي دم المرأة مخير بين المطالبة بديتها ، ومطالبة الرجل القاتل بالقصاص ، بشرط أداء نصف دية الرجل. والمشهور بين أهل السنة : أن الحر لا يقتل بالعبد ، وعليه إجماع الامامية ، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وداود ، فقالوا : إن الحر يقتل بعبد غيره (٢) ، وذهب شواذ منهم إلى : أن الحر يقتل بالعبد وإن كان عبد نفسه (٣)

والحق : أن الاية الاولى محكمة ولم يرد عليها ناسخ ، والوجه في ذلك : أن الاية الثانية مطلقة من حيث العبد ، والحر ، والذكر ، والانثى فلا صراحة لها في حكم العبد ، وحكم الانثى ، وعلى كل فإن لم تكن الاية في مقام البيان من حيث

خصوصية القاتل والمقتول ، بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط ، على ما هو مفاد قوله تعالى :

« فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ٢ : ١٩٤ ».

كانت مهملة ولا ظهور لها في العموم لتكون ناسخة للاية الاولى ، وإن كانت في مقام البيان من هذه الناحية ـ وكانت ظاهرة في الاطلاق وظاهرة في ثبوت الحكم في هذه الامة أيضا ، ولم تكن للاخبار عن ثبوت ذلك في التوراة فقط ـ كانت الاية الاولى مقيدة لاطلاقها ، وقرينة على بيان المراد منها ، فإن المطلق

__________________

١ ـ تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢١٠.

٢ ـ نفس المصدر ص ٢٠٩. وقال ابن كثير : قال البخاري وعلي بن المديني ، وإبراهيم النخعي ، والثوري في رواية عنه : ويقتل السيد بعبده.

٣ ـ أحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ١٣٧.

٢٩٣

لا يصلح لان يكون ناسخا للمقيد وإن كان متأخرا عنه ، بل يكون المقيد قرينة على التصرف في ظهور المطلق على ما هو الحال في المقيد المتأخر ، وعلى ذلك فلا موجب للقول بجواز قتل الحر بالعبد.

وأما الرواية التي رووها عن علي عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : المسلمون تتكافأ دماؤهم فهي ـ على تقدير تسليمها ـ مخصصة بالاية ، فإن دلالة الرواية على جواز قتل الحر بالعبد إنما هي بالعموم.

ومن البين أن حجية العام موقوفة على عدم ورود المخصص عليه المتقدم منه والمتأخر. وأما ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق الحسن عن سمرة فهو ضعيف السند ، وغير قابل للاعتماد عليه. قال أبو بكر بن العربي : ولقد بلغت الجهالة بأقوام أن قالوا : يقتل الحر بعبد نفسه ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قتل عبده قتلناه ، وهذا حديث ضعيف (١).

أقول : هذا ، مضافا إلى أنها معارضة برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا ، فجلده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفاه سنة ، ومحا سهمه من المسلمين ، ولم يقده به (٢). وبما رواه ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبما رواه جابر عن عامر عن علي عليه‌السلام : لا يقتل حر بعبد (٣) ، وبما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد (٤).

وقد عرفت أن روايات أهل البيت (ع) مجمعة على : أن الحر لا يقتل

__________________

١ ـ أحكام القرآن لابي بكر بن العربي ج ١ ص ٢٧.

٢ ـ سنن البيهقي ج ٨ ص ٣٦.

٣ ـ نفس المصدر ص ٣٤ ، ٣٥.

٤ ـ نفس المصدر ص ٣٤.

٢٩٤

بالعبد ، وأهل البيت هم المرجع في الدين بعد جدهم الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد هذا فلا يبقى مجال لدعوى نسخ الاية الكريمة من جهة قتل الحر بالعبد.

وأما بالاضافة إلى قتل الرجل بالمرأة فليست الاية منسوخة أيضا ، بناء على مذهب الامامية والحسن وعطاء ، نعم تكون الاية منسوخة على مسلك الجمهور ، وتوضيح ذلك أن ظاهر قوله تعالى :

« كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ٢ : ١٧٨ ».

أن القصاص فرض واجب ، ومن الواضح أنه إنما يكون فرضا عند المطالبة بالقصاص من ولي الدم ، وذلك أمر معلوم من الخارج ، ويدل عليه من الاية قوله تعالى فيها :

« فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ : ١٧٨ ».

وعلى ذلك فالمستفاد من الاية الكريمة أن القاتل يجب عليه أن يخضع لحكم القصاص إذا طالبه ولي الدم بذلك ، ومن الواضح أن هذا الحكم إنما يكون في قتل الرجل رجلا ، أو قتل المرأة رجلا أو امرأة ، فإن الرجل إذا قتل امرأة لا يجب عليه الانقياد للقصاص بمجرد المطالبة ، وله الامتناع حتى يأخذ نصف ديته ، ولا يأخذه الحاكم بالقصاص قبل ذلك.

وبتعبير آخر : تدل الاية المباركة على أن بدل الانثى هي الانثى ، فلا يكون الرجل بدلا عنها ، وعليه فلا نسخ في مدلول الاية ، نعم ثبت من دليل خارجي أن الرجل القاتل يجب عليه أن ينقاد للقصاص حين يدفع ولي المرأة المقتولة نصف ديته ، فيكون الرجل بدلا عن مجموع الانثى ونصف الدية ، وهو حكم آخر لا يمس بالحكم الاول المستفاد من الاية الكريمة ، وأين هذا من النسخ الذي يدعيه القائلون به.

وجملة القول : أن ثبوت النسخ في الاية يتوقف على إثبات وجوب الانقياد

٢٩٥

على القاتل بمجرد مطالبة ولي المرأة بالقصاص ، كما عليه الجمهور. وأنى لهم إثباته؟ فإنهم قد يتمسكون لاثباته باطلاق الاية الثانية على ما صرحوا به في كلماتهم ، وبعموم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المسلمون تتكافأ دماؤهم وقد عرفت ما فيه. وقد يتمسكون لاثبات ذلك بما رووه عن قتادة عن سعيد بن المسيب : أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة وقادهم بها.

وعن ليث عن الحكم عن علي وعبد الله قالا : إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود. وعن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده : أن رسول الله (ص) قال : إن الرجل يقتل بالمرأة (١).

وهو باطل من وجوه :

١ ـ إن هذه الروايات ـ لو فرضت صحتها ـ مخالفة للكتاب ، وما كان كذلك لا يكون حجة. وقد عرفت ـ فيما تقدم ـ قيام الاجماع على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.

٢ ـ إنها معارضة بالروايات المروية عن أهل البيت (ع) وبما رواه عطاء والشعبي ، والحسن البصري عن علي عليه‌السلام أنه قال في قتل الرجل امرأة : إن أولياء المرأة إن شاءوا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية ، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل (٢).

٣ ـ إن الرواية الاولى منها من المراسيل ، فإن ابن المسيب ولد بعد مضي سنتين من خلافة عمر (٣) فتبعد روايته عن عمر بلا واسطة ، وإذا سلمنا صحتها فهي تشتمل على نقل فعل عمر ، ولا حجية لفعله في نفسه ، وأن الرواية الثانية

__________________

١ ـ أحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ١٣٩.

٢ ـ نفس المصدر ج ١ ص ١٢٠.

٣ ـ تهذيب التهذيب ج ٤ ص ٨٦.

٢٩٦

ضعيفة مرسلة ، وأما الرواية الثالثة فهي على فرض صحتها مطلقة ، وقابلة لان تقيد بأداء نصف الدية.

ونتيجة ما تقدم :

أن الاية الكريمة لم يثبت نسخها بشئ ، وأن دعوى النسخ إنما هي بملاحظة فتوى جماعة من الفقهاء ، وكيف يمكن أن ترفع اليد عن قول الله تعالى بملاحظة قول زيد أو عمرو؟ ومما يبعث على العجب أن جماعة يفتون بخلاف القرآن مع إجماعهم على أن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. وقد اتضح مما بيناه أن قوله تعالى :

« وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ١٧ : ٣٣ ».

وقوله تعالى :

« وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ٢ : ١٧٩ ».

لا يصلحان أن يكونا ناسخين للاية المتقدمة التي فرقت بين الرجل والانثى ، وبين الحر والعبد. ـ وسيأتي استيفاء البحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الاية الكريمة إن شاء الله تعالى ـ.

٤ ـ « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ٢ : ١٨٠ ».

فقد ادعى جمع أنها منسوخة بآية المواريث ، وادعى آخرون أنها منسوخة

٢٩٧

بما عن النبي (ص) من قوله : لا وصية لوارث (١).

والحق : أن الاية ليست منسوخة. أما القول بنسخها بآية المواريث ، فيرده أن الايات قد دلت على أن الميراث مترتب على عدم الوصية ، وعدم الدين. ومع ذلك فكيف يعقل كونها ناسخة لحكم الوصية؟ وقد قيل في وجه النسخ للاية : إن الميراث في أول الاسلام لم يكن ثابتا على الكيفية التي جعلت في الشريعة بعد ذلك ، وإنما كان الارث يدفع جميعه للولد ، وما يعطى الوالدان من المال فهو بطريق الوصية فنسخ ذلك بآية المواريث.

وهذا القول مدفوع :

أولا : بأن هذا غير ثابت ، وإن كان مرويا في صحيح البخاري ، لان النسخ لا يثبت بخبر الواحد إجماعا.

ثانيا : أنه موقوف على تأخر آية المواريث عن هذه الاية ، وأنى للقائل بالنسخ إثبات ذلك؟ أما دعوى القطع بذلك من بعض الحنفية فعهدتها على مدعيها.

ثالثا : أن هذا لا يتم في الاقربين ، فإنه لا إرث لهم مع الولد ، فكيف يعقل أن تكون آية المواريث ناسخة لحكم الوصية للاقربين؟ وعلى كل فإن آية المواريث من حيث ترتبها على عدم الوصية تكون مؤكدة لتشريع الوصية ونفوذها ، فلا معنى لكونها ناسخة لها.

وأما دعوى نسخ الاية بالرواية المتقدمة فهي أيضا باطلة من وجوه :

١ ـ ان الرواية لم تثبت صحتها ، والبخاري ومسلم لم يرضياها ، وقد تكلم في تفسير المنار على سندهما (٢).

__________________

١ ـ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص ٢٠.

٢ ـ الجزء الثاني ص ١٣٨.

٢٩٨

٢ ـ أنها معارضة بالروايات المستفيضة عن أهل البيت عليهم‌السلام الدالة على جواز الوصية للوارث. ففي صحيحه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الوصية للوارث فقال : تجوز. قال : ثم تلا هذه الاية :

« إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ٢ : ١٨٠ ».

وبمضمونها روايات اخرى (١).

٣ ـ أن الرواية لو صحت ، وسلمت عن المعارضة بشئ فهي لا تصلح لنسخ الاية ، لانها لا تنافيها في المدلول. غاية الامر أنها تكون مقيدة لاطلاق الاية فتختص الوصية بالوالدين إذا لم يستحقا الارث لمانع ، وبمن لا يرث من الاقربين وإذا فرض وجود المنافاة بينها وبين الاية فقد تقدم : أن خبر الواحد لا يصلح أن يكون ناسخا للقرآن بإجماع المسلمين ، فالاية محكمة وليست منسوخة.

ثم ان الكتابة عبارة عن القضاء بشئ ، ومنه قوله تعالى :

« كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ٦ : ١٢ ».

والعقل يحكم بوجوب امتثال حكم المولى وقضائه ما لم تثبت فيه رخصة من قبل المولى. ومعنى هذا أن الوصية للوالدين والاقربين واجبة بمقتضى الاية ، ولكن السيرة المقطوع بثبوتها بين المسلمين ، والروايات المأثورة عن الائمة من أهل البيت عليهم‌السلام والاجماع المتحقق من الفقهاء في كل عصر قد أثبت لنا الرخصة فيكون الثابت من الاية بعد هذه الرخصة هو استحباب الوصية المذكورة ، بل تأكد استحبابها على الانسان ، ويكو المراد من الكتابة فيها هو : القضاء بمعنى التشريع لا بمعنى الالزام.

__________________

١ ـ الوافي ج ١٣ ص ١٧.

٢٩٩

٥ ـ « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٢ : ١٨٣ ».

فقد ادعي أنها منسوخة بقوله تعالى :

« أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ : ١٨٧ ».

وذكروا في وجه النسخ : أن الصوم الواجب على الامة في بداية الامر كان مماثلا للصوم الواجب على الامة السالفة ، وأن من أحكامه أن الرجل إذا نام قبل أن يتعشى في شهر رمضان لم يجز له أن يأكل بعد نومه في ليلته تلك ، وإذا نام أحدهم بعد المساء حرم عليه الطعام والشراب والنساء ، فنسخ ذلك بقوله تعالى :

« وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ: ١٨٧ ».

وبقوله تعالى :

« أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ: ١٨٧ ».

وقد اتفق علماء أهل السنة على أن آية التحليل ناسخة (١) ثم اختلفوا فقال بعضهم : هي ناسخة للاية السابقة ، فإنهم استفادوا منها أن الصوم الواجب في هذه الشريعة مماثل للصوم الواجب على الامم السالفة ، وقال بذلك أبو العالية ، وعطاء ، ونسبه أبو جعفر النحاس إلى السدي أيضا (٢) وقال بعضهم : إن آية التحليل ناسخة لفعلهم الذي كانوا يفعلونه.

__________________

١ ـ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص ٢٤.

٢ ـ نفس المصدر ص ٢١.

٣٠٠