البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

حجية ظواهر القرآن

٢٦١

إثبات حجية ظواهر القرآن. أدلة المنكرين لها مع تزييفها. اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به. الاخذ بالظاهر من التفسير بالرأي. غموض معاني القرآن يمنع من فهمها. إرادة خلاف الظاهر في بعض الايات ـ إجمالا ـ تسقط الظواهر عن الحجية. المنع من اتباع المتشابه يسقط حجية ظواهر القرآن.

٢٦٢

لا شك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لافهام مقاصده ، وأنه كلم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم وأنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه ، وليتدبروا آياته فيأتمروا بأوامره ، ويزدجروا بزواجره ، وقد تكرر في الايات الكريمة ما يدل على ذلك ، كقوله تعالى :

« أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ٤٧ : ٢٤ ».

وقوله تعالى :

« وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٣٩ : ٢٧ ».

وقوله تعالى :

« وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ٢٦ : ١٩٢. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ: ١٩٣. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ : ١٩٤. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ: ١٩٥ ».

وقوله تعالى :

٢٦٣

« هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ٣ : ١٣٨ ».

وقوله تعالى :

« فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٤٤ : ٥٨ ».

وقوله تعالى :

« وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ٥٤ : ١٧ ».

وقوله تعالى :

« أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ٤ : ٨٢ ».

إلى غير ذلك من الايات الدالة على وجوب العمل بما في القرآن ولزوم الاخذ بما يفهم من ظواهره.

ومما يدل على حجية ظواهر الكتاب وفهم العرب لمعانيه :

١ ـ أن القرآن نزل حجة على الرسالة ، وأن النبي (ص) قد تحدى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله ، ومعنى هذا : أن العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره ، ولو كان القرآن من قبيل الالغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته ، ولم يثبت لهم إعجازه ، لانهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه ، وهذا ينافي الغرض من إنزال القرآن ودعوة البشر إلى الايمان به.

٢ ـ الروايات المتظافرة الامرة بالتمسك بالثقلين الذين تركهما النبي في المسلمين ، فإن من البين أن معنى التمسك بالكتاب هو الاخذ به ، والعمل بما يشتمل عليه ، ولا معنى له سوى ذلك.

٢٦٤

٣ ـ الروايات المتواترة التي أمرت بعرض الاخبار على الكتاب ، وأن ما خالف الكتاب منها يضرب على الجدار ، أو أنه باطل ، أو أنه زخرف ، أو أنه منهي عن قبوله ، أو أن الائمة لم تقله ، وهذه الروايات صريحة في حجية ظواهر الكتاب ، أنه مما تفهمه عامة أهل اللسان العارفين بالفصيح من لغة العرب. ومن هذا القبيل الروايات التي أمرت بعرض الشروط على كتاب الله ورد ما خالفه منها.

٤ ـ استدلالات الائمة (ع) على جملة من الاحكام الشرعية وغيرها بالايات القرآنية:

منها : قول الصادق عليه‌السلام حينما سأله زرارة من أين علمت أن المسح ببعض الرأس : « لمكان الباء ».

ومنها : قوله عليه‌السلام في نهي الدوانيقي عن قبول خبر النمام : إنه فاسق ، وقد قال الله تعالى :

« إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ٤٩ : ٦ ».

ومنها : قوله عليه‌السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله ، أما سمعت قول الله عزوجل :

« إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ١٧ : ٣٦ ».

ومنها : قوله عليه‌السلام لابنه إسماعيل فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم : مستدلا بقول الله عز وجل :

« يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ٩ : ٦١ ».

٢٦٥

ومنها : قوله عليه‌السلام في تحليل نكاح العبد للمطلقة ثلاثا : إنه زوج ، قال الله عز وجل:

« حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ٢ : ٢٣٠ ».

ومنها : قوله عليه‌السلام في أن المطلقة ثلاثا لا تحل بالعقد المنقطع : إن الله تعالى قال :

« فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ٤ : ١٢٧ ». ولا طلاق في المتعة.

ومنها : قوله عليه‌السلام فيمن عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة : إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله تعالى :

« وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ٢٢ : ٧٨ ».

ثم قال امسح عليه.

ومنها : استدلاله عليه‌السلام على حلية بعض النساء بقوله تعالى :

« وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ٤ : ٢٣ ».

ومنها : استدلاله عليه‌السلام على عدم جواز نكاح العبد بقوله تعالى :

« عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ١٦ : ٧٥ ».

ومنها : استدلاله عليه‌السلام على حلية بعض الحيوانات بقوله تعالى :

« قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ٦ : ١٤٥ ».

٢٦٦

وغير ذلك من استدلالاتهم (ع) بالقرآن في موارد كثيرة ، وهي متفرقة في أبواب الفقه وغيرها.

أدلة اسقاط حجية ظواهر الكتاب :

وقد خالف جماعة من المحدثين ، فأنكروا حجية ظواهر الكتاب ومنعوا عن العمل به. واستدلوا على ذلك بأمور :

١ ـ اختصاص فهم القرآن :

إن فهم القرآن مختص بمن خوطب به ، وقد استندوا في هذه الدعوى إلى عدة روايات واردة في هذا الموضوع ، كمرسلة شعيب بن أنس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال لابي حنيفة :

« أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم. قال عليه‌السلام : فبأي شيء تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيه. قال عليه‌السلام يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : نعم. قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ـ ويلك ـ ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ويلك ما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وما ورثك الله تعالى من كتابه حرفا ».

وفي رواية زيد الشحام ، قال :

« دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون. فقال عليه‌السلام بلغني أنك تفسر القرآن. قال : نعم. إلى أن قال

٢٦٧

يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، يا قتادة ـ ويحك ـ إنما يعرف القرآن من خوطب به ».

والجواب :

إن المراد من هذه الروايات وأمثالها أن فهم القرآن حق فهمه ، ومعرفة ظاهره وباطنه ، وناسخه ومنسوخه مختص بمن خوطب به. والرواية الاولى صريحة في ذلك ، فقد كان السؤال فيها عن معرفة كتاب الله حق معرفته ، وتمييز الناسخ من المنسوخ ، وكان توبيخ الامام عليه‌السلام لابي حنيفة على دعوى معرفة ذلك. وأما الرواية الثانية فقد تضمنت لفظ التفسير ، وهو بمعنى كشف القناع ، فلا يشمل الاخذ بظاهر اللفظ ، لانه غير مستور ليكشف عنه القناع ، ويدل على ذلك أيضا ما تقدم من الروايات الصريحة في أن فهم الكتاب لا يختص بالمعصومين عليهم‌السلام ويدل على ذلك أيضا قوله عليه‌السلام في المرسلة : وما ورثك الله من كتابه حرفا فإن معنى ذلك أن الله قد خص أوصياء نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإرث الكتاب ، وهو معنى قوله تعالى :

« ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ٣٥ : ٣٢ ».

فهم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته ، وليس لغيرهم في ذلك نصيب. هذا هو معنى المرسلة وإلا فكيف يعقل أن أبا حنيفة لا يعرف شيئا من كتاب الله حتى مثل قوله تعالى :

« قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ١١١ : ١ ».

٢٦٨

وأمثال هذه الاية مما يكون صريحا في معناه ، والاخبار الدالة على الاختصاص المتقدم كثيرة جدا ، وقد تقدم بعضها.

٢ ـ النهي عن التفسير بالرأي :

إن الاخذ بظاهر اللفظ من التفسير بالرأي ، وقد نهى عنه في روايات متواترة بين الفريقين.

والجواب :

إن التفسير هو كشف القناع كما قلنا ، فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره ، لانه ليس بمستور حتى يكشف ، ولو فرضنا أنه تفسير فليس تفسيرا بالرأي ، لتشمله الروايات الناهية المتواترة ، وإنما هو تفسير بما تفهمه العرف من اللفظ ، فإن الذي يترجم خطبة من خطب نهج البلاغة ـ مثلا ـ بحسب ما يفهمه العرف من ألفاظها ، وبحسب ما تدل القرائن المتصلة والمنفصلة ، لا يعد عمله هذا من التفسير بالرأي ، وقد أشار إلى ذلك الامام الصادق عليه‌السلام بقوله : إنما هلك الناس في المتشابه لانهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء فيعرفونهم. ويحتمل أن معنى التفسير بالرأي الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الائمة عليهم‌السلام ، مع أنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك ، ولزوم الانتهاء إليهم ، فإذا عمل الانسان بالعموم أو الاطلاق الوارد في الكتاب ، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الائمة (ع) كان هذا من التفسير بالرأي ، وعلى الجملة حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة من الكتاب والسنة ، أو الدليل العقلي لا يعد من التفسير بالرأي بل ولا من التفسير نفسه ، وقد تقدم بيانه ، على أن الروايات المتقدمة دلت على الرجوع إلى الكتاب ،

٢٦٩

والعمل بما فيه. ومن البين أن المراد من ذلك الرجوع إلى ظواهره ، وحينئذ فلا بد وأن يراد من التفسير بالرأي غير العمل بالظواهر جمعا بين الادلة.

٣ ـ غموض معاني القرآن :

إن في القران معاني شامخة ، ومطالب غامضة ، واشتماله على ذلك يكون مانعا عن فهم معانيه ، والاحاطة بما أريد منه ، فإنا نجد بعض كتب السلف لا يصل إلى معانيها إلا العلماء المطلعون ، فكيف بالكتاب المبين الذي جمع علم الاولين والاخرين.

والجواب :

أن القرآن وإن اشتمل على علم ما كان وما يكون ، وكانت معرفة هذا من القرآن مختصة بأهل بيت النبوة من دون ريب ، ولكن ذلك لا ينافي أن للقرآن ظواهر يفهمها العارف باللغة العربية وأساليبها ، ويتعبد بما يظهر له بعد الفحص عن القرائن.

٤ ـ العلم بارادة خلاف الظاهر :

إنا نعلم ـ إجمالا ـ بورود مخصصات لعمومات القرآن ، ومقيدات لاطلاقاته ، ونعلم بأن بعض ظواهر الكتاب غير مراد قطعا ، وهذه العمومات المخصصة ، والمطلقات المقيدة ، والظواهر غير المرادة ليست معلومة بعينها ، ليتوقف فيها بخصوصها. ونتيجة هذا أن جميع ظواهر الكتاب وعموماته ومطلقاته تكون مجملة بالعرض ، وإن لم تكن مجملة بالاصالة ، فلا يجوز أن يعمل بها حذرا من الوقوع فيما يخالف الواقع.

٢٧٠

والجواب :

أن هذا العلم الاجمالي إنما يكون سببا للمنع عن الاخذ بالظواهر ، إذا أريد العمل بها قبل الفحص عن المراد ، وأما بعد الفحص والحصول على المقدار الذي علم المكلف بوجوده إجمالا بين الظواهر ، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي ، ويسقط عن التأثير ، ويبقى العمل بالظواهر بلا مانع. ونظير هذا يجري في السنة أيضا ، فإنا نعلم بورود مخصصات لعموماتها ، ومقيدات لمطلقاتها ، فلو كان العلم الاجمالي مانعا عن التمسك بالظواهر حتى بعد انحلاله لكان مانعا عن العمل بظواهر السنة أيضا ، بل ولكان مانعا عن إجراء اصالة البراءة في الشبهات الحكمية ، الوجوبية منها والتحريمية ، فإن كل مكلف يعلم بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة المقدسة ، ولازم هذا العلم الاجمالي وجوب الاحتياط عليه في كل شبهة تحريمية ، أو وجوبية يقع فيها مع أن الاحتياط ليس بواجب فيها يقينا. نعم ذهب جمع كثير من المحدثين إلى وجوب الاحتياط في موارد الشبهات التحريمية ، إلا أن ذلك نشأ من توهمهم أن الروايات الامرة بالتوقف أو الاحتياط تدل على وجوب الاحتياط والتوقف في موارد تلك الشبهات. وليس قولهم هذا ناشئا من العلم الاجمالي بوجود التكاليف الالزامية في الشريعة المقدسة ، وإلا لكان اللازم عليهم القول بوجوب الاحتياط حتى في الشبهات الوجوبية ، مع أنه لم يذهب إلى وجوبه فيها أحد فيما نعلم. والسر في عدم وجوب الاحتياط في هذه الموارد وفي أمثالها واحد ، وهو أن العلم الاجمالي قد انحل بسبب الظفر بالمقدار المعلوم ، وبعد انحلاله يسقط عن التأثير. ولتوضيح ذلك يراجع كتابنا أجود التقريرات.

٥ ـ المنع عن اتباع المتشابه :

إن الايات الكريمة قد منعت عن العمل بالمتشابه ، فقد قال الله تعالى :

٢٧١

« مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٣ : ٧ ».

والمتشابه يشمل الظاهر أيضا ، ولا أقل من احتمال شموله للظاهر فيسقط عن الحجية.

الجواب :

إن لفظ المتشابه واضح المعنى ولا إجمال فيه ولا تشابه ، ومعناه أن يكون للفظ وجهان من المعاني أو أكثر ، وجميع هذه المعاني في درجة واحدة بالنسبة إلى ذلك اللفظ ، فإذا أطلق ذلك اللفظ احتمل في كل واحد من هذه المعاني أن يكون هو المراد ، ولذلك فيجب التوقف في الحكم إلى أن تدل قرينة على التعيين ، وعلى ذلك فلا يكون اللفظ الظاهر من المتشابه.

ولو سلمنا أن لفظ المتشابه متشابه ، يحتمل شموله للظاهر ، فهذا لا يمنع عن العمل بالظاهر بعد استقرار السيرة بين العقلاء على اتباع الظهور من الكلام ، فإن الاحتمال بمجرده لا يكون رادعا عن العمل بالسيرة ، ولا بد في الردع عنها من دليل قطعي ، وإلا فهي متبعة من دون ريب ، ولذلك فإن المولى يحتج على عبده إذا خالف ظاهر كلامه ، ويصح له أن يعاقبه على المخالفة ، كما أن العبد نفسه يحتج على مولاه إذا وافق ظاهر كلام مولاه وكان هذا الظاهر مخالفا لمراده. وعلى الجملة فهذه السيرة متبعة في التمسك بالظهور حتى يقوم دليل قطعي على الردع.

٦ ـ وقوع التحريف في القرآن :

إن وقوع التحريف في القرآن ، مانع من العمل بالظواهر ، لاحتمال كون هذه الظواهر مقرونة بقرائن تدل على المراد ، وقد سقطت بالتحريف.

٢٧٢

والجواب :

منع وقوع التحريف في القرآن ، وقد قدمنا البحث عن ذلك ، وذكرنا أن الروايات الامرة بالرجوع إلى القرآن بأنفسها شاهدة على عدم التحريف ، وإذا تنزلنا عن ذلك فإن مقتضى تلك الروايات هو وجوب العمل بالقرآن ، وإن فرض وقوع التحريف فيه. ونتيجة ما تقدم أنه لا بد من العمل بظواهر القرآن ، وأنه الاساس للشريعة ، وأن السنة المحكية لا يعمل بها إذا كانت مخالفة له.

( البيان ـ ١٨ )

٢٧٣
٢٧٤

النسخ في القرآن

٢٧٥

المعنى اللغوي والاصطلاحي للنسخ. إمكان النسخ. وقوعه في التوراة. وقوعه في الشريعة الاسلامية. أقسام النسخ الثلاثة. الايات المدعى نسخها وإثبات انها محكمة. آية المتعة ودلالتها على جواز نكاح المتعة. الرجم على المتعة. فتوى أبي حنيفة بسقوط حد الزنا بالمحارم إذا عقد عليها. فتواه بسقوط الحد إذا استأجر امرأة فزنى بها. نسبة هذه الفتوى إلى عمر. مزاعم حول المتعة. تعصب مكشوف حول ترك الصحابة العمل بآية النجوى. كلام الرازي والرد عليه.

٢٧٦

في كتب التفسير وغيرها آيات كثيرة ادعى نسخها. وقد جمعها أبو بكر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ فبلغت ١٣٨ آية.

وقد عقدنا هذا البحث لنستعرض جملة من تلك الايات المدعى نسخها ولنتبين فيها أنه ليست ـ في واقع الامر ـ واحدة منها منسوخة ، فضلا عن جميعها.

وقد اقتصرنا على ٣٦ آية منها ، وهي التي استدعت المناقشة والتوضيح لجلاء الحق فيها ، وأما سائر الايات فالمسألة فيها أوضح من أن يستدل على عدم وجود نسخ فيها.

النسخ في اللغة :

هو الاستكتاب ، كالاستنساخ والانتساخ ، وبمعنى النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث والدهور ، وبمعنى الازالة ، ومنه نسخت الشمس الظل ، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين فكانوا يطلقون على المخصص والمقيد لفظ الناسخ (١).

النسخ في الاصطلاح :

هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه ، سواء أكان

__________________

١ ـ وقد اطلق النسخ كثيرا على التخصيص في التفسير المنسوب إلى ابن عباس.

٢٧٧

ذلك الامر المرتفع من الاحكام التكليفية أم الوضعية ، وسواء أكان من المناصب الالهية أم من غيرها من الامور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنه شارع ، وهذا الاخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط ، وإنما قيدنا الرفع بالامر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجا ، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ، وارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته ، فإن هذا النوع من ارتفاع الاحكام لا يسمى نسخا ، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه ، ولا خلاف فيه من أحد.

ولتوضيح ذلك نقول : إن الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له نحوان من الثبوت :

أحدهما : ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والانشاء ، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولا على نحو القضية الحقيقية ، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه ، وإنما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع. فإذا قال الشارع : شرب الخمر حرام ـ مثلا ـ فليس معناه أن هنا خمرا في الخارج. وأن هذا الخمر محكوم بالحرمة ، بل معناه أن الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن ، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلا بالنسخ.

وثانيهما : ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أن الحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا ، كما إذا تحقق وجود الخمر في الخارج ، فإن الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل ، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها ، فإذا انقلب خلا فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية التي ثبتت له في حال خمريته ، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء ، ولا كلام لاحد في جواز ذلك ولا في وقوعه ، وإنما الكلام في القسم الاول ، وهو رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والانشاء.

٢٧٨

امكان النسخ :

المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو جواز النسخ بالمعنى المتنازع فيه رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والانشاء وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ ، واستندوا في ذلك إلى شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت.

وملخص هذه الشبهة :

إن النسخ يستلزم عدم حكمة الناسخ ، أو جهله بوجه الحكمة ، وكلا هذين اللازمين مستحيل في حقه تعالى ، وذلك لان تشريع الحكم من الحكيم المطلق لا بد وأن يكون على طبق مصلحة تقتضيه ، لان الحكم الجزافي ينافي حكمة جاعله ، وعلى ذلك فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها ، وهذا ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم مطلق ، وإما أن يكون من جهة البداء ، وكشف الخلاف على ما هو الغالب في الاحكام والقوانين العرفية ، وهو يستلزم الجهل منه تعالى. وعلى ذلك فيكون وقوع النسخ في الشريعة محالا لانه يستلزم المحال.

والجواب :

إن الحكم المجعول من قبل الحكيم قد لا يراد منه البعث ، أو الزجر الحقيقيين كالاوامر التي يقصد بها الامتحان ، وهذا النوع من الاحكام يمكن إثباته أولا ثم رفعه ، ولا مانع من ذلك ، فإن كلا من الاثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة ، وهذا النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة ، ولا ينشأ من البداء الذي يستحيل في حقه تعالى ، وقد يكون الحكم المجعول حكما حقيقيا ، ومع ذلك ينسخ بعد زمان ، لا بمعنى أن الحكم بعد ثبوته يرفع في الواقع ونفس الامر ، كي يكون مستحيلا على الحكيم العالم بالواقعيات ، بل هو بمعنى أن

٢٧٩

يكون الحكم المجعول مقيدا بزمان خاص معلوم عند الله ، مجهول عند الناس ، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان ، لانتهاء أمده الذي قيد به ، وحلول غايته الواقعية التي أنيط بها.

والنسخ بهذا المعنى ممكن قطعا ، بداهة : أن دخل خصوصيات الزمان في مناطات الاحكام مما لا يشك فيه عاقل ، فإن يوم السبت ـ مثلا ـ في شريعة موسى عليه‌السلام قد اشتمل على خصوصية تقتضي جعله عيدا لاهل تلك الشريعة دون بقية الايام ، ومثله يوم الجمعة في الاسلام ، وهكذا الحال في أوقات الصلاة والصيام والحج ، وإذا تصورنا وقوع مثل هذا في الشرايع فلنتصور أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره ، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدة معينة ، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة ، وقد يكون الامر بالعكس.

وجملة القول : إذا كان من الممكن أن يكون للساعة المعينة ، أو اليوم المعين أو الاسبوع المعين ، أو الشهر المعين تأثير في مصلحة الفعل أو مفسدته أمكن دخل السنة في ذلك أيضا ، فيكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين معينة ، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك السنين ، وكما يمكن أن يقيد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل ، فكذلك يمكن أن يقيد إطلاقه من جهة الزمان أيضا بدليل منفصل ، فإن المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الاطلاق ، مع أن المراد الواقعي هو الخاص أو المقيد ، ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل. فالنسخ في الحقيقة تقييد لاطلاق الحكم من حيث الزمان ولا تلزم منه مخالفة الحكمة ولا البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى ، وهذا كله بناء على أن جعل الاحكام وتشريعها مسبب عن مصالح أو مفاسد تكون في نفس العمل. وأما على مذهب من يرى تبعية الاحكام لمصالح في الاحكام أنفسها فإن الامر أوضح ، لان الحكم الحقيقي على هذا الرأي يكون شأنه شأن الاحكام الامتحانية.

٢٨٠