البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

وقد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الاعاظم. منهم شيخ المشايخ المفيد ، والمتبحر الجامع الشيخ البهائي ، والمحقق القاضي نور الله ، وأضرابهم. وممن يظهر منه القول بعدم التحريف : كل من كتب في الامامة من علماء الشيعة وذكر فيه المثالب ، ولم يتعرض للتحريف ، فلو كان هؤلاء قائلين بالتحريف لكان ذلك أولى بالذكر من إحراق المصحف وغيره.

وجملة القول : أن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم ، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف. نعم ذهب جماعة من المحدثين من الشيعة ، وجمع من علماء أهل السنة إلى وقوع التحريف. قال الرافعي : فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل ، واستخراج الاساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء ، حملا على ما وصفوا من كيفية جمعه (١) وقد نسب الطبرسي في مجمع البيان هذا القول إلى الحشوية من العامة.

أقول : سيظهر لك ـ بعيد هذا ـ أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف ، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة ـ عند علماء أهل السنة ـ يستلزم اشتهار القول بالتحريف.

٣ ـ نسخ التلاوة :

ذكر أكثر علماء أهل السنة : أن بعض القرآن قد نسخت تلاوته ، وحملوا على ذلك ما ورد في الروايات أنه كان قرآنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحسن بنا أن نذكر جملة من هذه الروايات ، ليتبين أن الالتزام بصحة هذه الروايات التزام بوقوع التحريف في القرآن :

____________

١ ـ إعجاز القرآن ص ٤١.

٢٠١

١ ـ روى ابن عباس أن عمر قال فيما قال ، وهو على المنبر :

إن الله بعث محمدا (ص) بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها ، وعقلناها ، ووعيناها. فلذا رجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال ... ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ ، من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو : إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ... (١).

وذكر السيوطي : أخرج ابن اشته في المصاحف عن الليث بن سعد. قال : أول من جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ... وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها ، لانه كان وحده (٢).

أقول : وآية الرجم التي ادعى عمر أنها من القرآن ، ولم تقبل منه رويت بوجوه : منها : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ، نكالا من الله ، والله عزيز حكيم ومنها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ، بما قضيا من اللذة ومنها إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وكيف كان فليس في القرآن الموجود ما يستفاد منه حكم الرجم. فلو صحت الرواية فقد سقطت آية من القرآن لا محالة.

٢ ـ وأخرج الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعا :

القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف (٣) بينما القرآن الذي

__________________

١ ـ صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٦ وصحيح مسل م ج ٥ ص ١١٦ بلا زيادة ثم إنا.

٢ ـ الاتقان ج ١ ص ١٠١

٣ ـ الاتقان ج ١ ص ١٢١.

٢٠٢

بين أيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار ، وعليه فقد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه.

٣ ـ وروى ابن عباس عن عمر أنه قال : إن الله عز وجل بعث محمدا بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان مما أنزل إليه آية الرجم ، فرجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده ، ثم قال : كنا نقرأ : ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ، أو : إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم (١).

٤ ـ وروى نافع أن ابن عمر قال :

« ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله؟ قد ذهب منه قرآن كثير ، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر » (٢).

٥ ـ وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت :

« كانت سورة الاحزاب تقرأ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مئتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الان » (٣).

٦ ـ وروت حميدة بنت أبي يونس. قالت :

« قرأ علي أبي ـ وهو ابن ثمانين سنة ـ في مصحف عائشة : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، وعلى الذين يصلون الصفوف الاول. قالت : قبل أن يغير عثمان المصاحف » (٤).

٧ ـ وروى أو حرب ابن أبي الاسود عن أبيه. قال :

__________________

١ ـ مسند أحمد ج ١ ص ٤٧.

٢ ـ الاتقان ج ٢ ص ٤٠ ـ ٤١

٣ ـ نفس المصدر ج ٢ ص ٤٠ ـ ٤١

٤ ـ الاتقان ج ٢ ص ٤٠ ـ ٤١.

٢٠٣

« بعث أبو موسى الاشعري إلا قراء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل. قد قرأوا القرآن. فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الامد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب العرب من كان قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فانسيتها ، غير أني قد حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فانسيتها ، غير أني حفظت منها : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، فتكتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة » (١).

٨ ـ وروى زر. قال : قال أبي بن كعب يا زر :

كأين تقرأ سورة الاحزاب قلت : ثلاث وسبعين آية. قال : إن كانت لتضاهي سورة البقرة ، أو هي أطول من سورة البقرة ... (٢).

٩ ـ وروى ابن أبي داود وابن الانباري عن ابن شهاب. قال :

بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب ... (٣)

١٠ ـ وروى عمرة عن عائشة أنها قالت :

كان فيما انزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحر من ثم نسخن ب‍ : خمس معلومات ، فتوفي رسول الله (ص) وهو فيما يقرأ من القرآن (٤).

١١ ـ وروى المسور بن مخرمة. قال :

__________________

١ ـ صحيح مسلم ج ٣ ص ١٠٠.

٢ ـ منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٢ ص ٤٣.

٣ ـ منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٢ ص ٥٠.

٤ ـ صحيح مسلم ج ٤ ص ١٦٧.

٢٠٤

قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما انزل علينا. أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة. فإنا لا تجدها. قال : اسقطت فيما اسقط من القرآن (١).

١٢ ـ وروى أبو سفيان الكلاعي : أن مسلمة بن مخلد الانصاري قال لهم ذات يوم:

أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف ، فلم يخبروه ، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك ، فقال ابن مسلمة ، إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (٢).

وقد نقل بطرق عديدة عن ثبوت سورتي الخقع والحفد في مصحف ابن عباس وأبي بن كعب اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق. وغير ذلك مما لا يهمنا استقصاؤه (٣).

وغير خفي أن القول بنسخ التلاوة بعينه القول بالتحريف والاسقاط.

وبيان ذلك : أن نسخ التلاوة هذا إما أن يكون قد وقع من رسول الله (ص) وإما أن يكون ممن تصدى للزعامة من بعده ، فإن أراد القائلون

__________________

١ ـ الاتقان ج ص ٤٢.

٢ ـ نفس المصدر السابق. ٣ ـ الاتقان ج ١ ص ١٢٢ ـ ٢١٣.

٢٠٥

بالنسخ وقوعه من رسول الله (ص) فهو أمر يحتاج إلى الاثبات. وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، وقد صرح بذلك جماعة في كتب الاصول وغيرها (١) بل قطع الشافعي وأكثر أصحباه ، وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، بل إن جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه (٢) وعلى ذلك فكيف تصح نسبة النسخ إلى النبي (ص) بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أن نسبة النسخ إلى النبي (ص) تنافي جملة من الروايات التي تضمنت أن الاسقاط قد وقع بعده. وإن أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدوا للزعامة بعد النبي (ص) فهو عين القول بالتحريف. وعلى ذلك فيمكن أن يدعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة ، لانهم يقولون بجواز نسخ التلاوة. سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ ، بل تردد الاصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته ، وفي جواز أن يمسه المحدث. واختار بعضهم عدم الجواز. نعم ذهبت طائفة من المعتزلة إلى عدم جواز نسخ التلاوة (٣).

ومن العجيب أن جماعة من علماء أهل السنة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم حتى أن الالوسي كذب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية ، وقال : إن أحدا من علماء أهل السنة لم يذهب إلى ذلك ، واعجب من ذلك أنه ذكر أن قول البرسي بعدم التحريك نشأ من ظهور فساد قول أصحابه بالتحريف ، فالتجأ هو إلى إنكاره (٤) مع انك ققد عرفت أن القول بعدم التحريك هو المشهور. بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم ، حتى

__________________

١ ـ الموافقات لابي اسحاق الشاطبي ج ٣ ص ١٠٦ طبعة المطبعة الرحمانية بمصر.

٢ ـ الاحكام في اصول الاحكام للامدي ج ٣ ص ٢١٧.

٣ ـ نفس المصدر ج ٣ ص ٢٠١ ـ ٢٠٣.

٤ ـ روح المعاني ج ١ ص ٢٤.

٢٠٦

أن الطبرسي قد نقل كلام المرتضى بطوله ، واستدلاله على بطلان القول بالتحريف بأتم بيان وأقوى حجة (١).

التحريف والكتاب :

والحق. بعد هذا كله ان التحريف بالمعنى الذي وقع النزاع فيه غير واقع في القرآن أصلا بالادلة التالية :

الدليل الاول ـ قوله تعالى :

« إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ١٥ : ٩ ».

فإن في هذه الاية دلالة على حفظ القرآن من التحريف ، وأن الايدي الجائرة لن تتمكن من التلاعب فيه.

والقائلون بالتحريف قد أولوا هذه الاية الشريفة ، وذكروا في تأويلها وجوها :

الاول : أن الذكر هو الرسول فقد ورد استعمال الذكر فيه في قوله تعالى :

« قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ٦٥ : ١٠. رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ : ١١ ».

وهذا الوجه بين الفساد : لان المراد بالذكر هو القرآن في كلتا الايتين بقرينة التعبير بالتنزيل والانزال ولو كان المراد هو الرسول لكان المناسب أن يأتي

__________________

١ ـ مجمع البيان ج ١ مقدمة الكتاب ص ١٥.

٢٠٧

بلفظ الارسال أو بما يقاربه في المعنى ، على ان هذا الاحتمال إذ تم في الاية التانية فلا يتم في آية الحفظ ، فإنها مسبوقة بقوله تعالى :

« وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ١٥ : ٦ ».

ولا شبهة في أن المراد بالذكر في هذه الاية هو القرآن ، فتكون قرينة على أن المراد من الذكر في آية الحفظ هو القرآن أيضا.

الثاني : أن يراد من حفظ القرآن صيانته عن القدح فيه ، وعن إبطال ما يتضمنه من المعاني العالية ، والتعاليم الجليلة.

وهذا الاحتمال أبين فساد من الاول : لان صيانته عن القدح إن أريد بها حفظه من قدح الكفار والمعاندين فلا ريب في بطلان ذلك ، لان قدح هؤلاء في القرآن فوق حد الاحصاء. وان أريد أن القرآن رصين المعاني ، قوي الاستدلال مستقيم الطريقة ، وأنه لهذه الجهات ونحوها أرفع مقاما من أن يصل إليه قدح القادحين ، وريب المرتابين فهو صحيح ولكن هذه ليس من الحفظ بعد التنزيل كما تقوله الاية ، لان القرآن بما له من الميزات حافظ لنفسه ، وليس محتاجا إلى حافظ آخر ، وهو غير مفاد الاية الكريمة ، لانها تضمنت حفظه بعد التنزيل.

الثالث : أن الاية دلت على حفظ القرآن في الجملة ، ولم تدل على حفظ كل فرد من أفراد القرآن ، فإن هذا غير مراد من الاية بالضرورة وإذا كان المراد حفظه في الجملة ، كفى في ذلك حفظه عند الامام الغائب عليه‌السلام.

وهذا الاحتمال أوهن الاحتمالات : لان حفظ القرآن يجب أن يكون عند من انزل إليهم وهم عامة البشر ، أما حفظه عند الامام عليه‌السلام فهو نظير حفظه في

٢٠٨

اللوح المحفوظ ، أو عند ملك من الملائكة ، وهو معنى تافه يشبه قول القائل : إني أرسلت اليك بهدية وأنا حافظ لها عندي ، أو عند بعض خاصتي.

ومن الغريب قول هذا القائل إن المراد في الاية حفظ القرآن في الجملة ، لا حفظ كل فرد من أفراده ، فكأنه توهم أن المراد بالذكر هو القران المكتوب ، أو الملفوظ لتكون له أفراد كثيرة ، ومن الواضح أن المراد ليس ذلك ، لان القرآن المكتوب أو الملفوظ لا دوام له خارجا ، فلا يمكن أن يراد من آية الحفظ وإنما المراد بالذكر هو المحكي بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب ، وهو المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد بحفظه صيانته عن التلاعب ، وعن الضياع ، فيمكن للبشر عامة أن يصلوا إليه ، وهو نظير قولنا القصيدة الفلانية محفوظة ، فإنا نريد من حفظها صيانتها ، وعدم ضياعها بحيث يمكن الحصول عليها.

نعم هنا شبهة اخرى ترد على الاستدلال بالاية الكريمة على عدم التحريف. وحاصل هذه الشبهة أن مدعي التحريف في القرآن يحتمل وجود التحريف في هذه الاية نفسها ، لانها بعض آيات القرآن ، فلا يكون الاستدلال بها صحيحا حتى يثبت عدم التحريف ، فلو أردنا أن نثبت عدم التحريف بها كان ذلك من الدور الباطل.

وهذه شبهة تدل على عزل العترة الطاهرة عن الخلافة الالهية ، ولم يعتمد على أقوالهم وأفعالهم ، فإنه لا يسعه دفع هذه الشبهة ، وأما من يرى أنهم حجج الله على خلقه ، وأنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك فلا ترد عليه هذه الشبهة ، لان استدلال العترة بالكتاب ، وتقرير أصحابهم عليه يكشف عن حجية الكتاب الموجود ، وإن قيل بتحريفه ، غاية الامر أن حجية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقفة على إمضائهم.

( البيان ـ ١٤ )

٢٠٩

الدليل الثاني قوله تعالى :

« وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ٤١ : ٤١. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ : ٤٢ ».

فقد دلت هذه الاية الكريمة على نفي الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب فإن النفي إذا ورد على الطبيعة أفاد العموم ، ولا شبهة في أن التحريف من أفراد الباطل ، فيجب أن لا يتطرق إلى الكتاب العزيز.

وقد أجيب عن هذا الدليل :

بأن المراد من الاية صيانة الكتاب من التناقض في أحكامه ، ونفي الكذب عن أخباره ، واستشهد لذلك برواية علي بن إبراهيم القمي ، في تفسيره عن الامام الباقر عليه‌السلام قال : لا يأتيه الباطل من قبل التوراة ، ولا من قبل الانجيل ، والزبور ، ولا من خلفه أي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله ورواية مجمع البيان عن الصادقين (ع) أنه : ليس في اخباره عما مضى باطل ، ولا في اخباره عما يكون في المستقبل باطل.

ويرد هذا الجواب :

أن الرواية لا تدل على حصر الباطل في ذلك ، لتكون منافية لدلالة الاية على العموم ، وخصوصا إذا لا حظنا الروايات التي دلت على أن معاني القرآن لا تختص بموارد خاصة ، وقد تقدم بعض هذه الروايات في مبحث فضل القرآن فالاية دالة على تنزيه القرآن في جميع الاعصار عن الباطل بجميع أقسامه ، والتحريف من أظهر أفراد الباطل فيجب أن يكون مصونا عنه ، ويشهد لدخول التحريف في الباطل ، الذي نفته الاية عن الكتاب أن الاية وصفت الكتاب

٢١٠

بالعزة وعزة الشئ تقتضي المحافظة عليه من التغيير والضياع ، أما إرادة خصوص التناقض والكذب من لفظ الباطل في الاية الكريمة ، فلا يناسبها توصيف الكتاب بالعزة.

التحريف والسنة :

الدليل الثالث : أخبار الثقلين اللذين خلفهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمته وأخبر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض ، وأمر الامة بالتمسك بهما ، وهما الكتاب والعترة. وهذه الاخبار متظافرة من طرق الفريقين (١) والاستدال بها على عدم التحريف في الكتاب يكون من ناحيتين :

الناحية الاولى : أن القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسك بالكتاب المنزل لضياعه على الامة بسبب وقوع التحريف ، ولكن وجوب التمسك بالكتاب باق إلى يوم القيام : لصريح أخبار الثقلين ، فيكون القول بالتحريف باطلا جزما.

وتوضيح ذلك :

أن هذه الروايات دلت على اقتران العترة بالكتاب ، وعلى أنهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة ، فلا بد من وجود شخص يكون قرينا الكتاب ولا بد من وجود الكتاب ليكون قرينا للعترة ، حتى يردا على النبي الحوض ، وليكون التمسك بهما حفظا للامة عن الضلال ، كما يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحديث. ومن الضروري أن التمسك بالعترة إنما يكون بموالاتهم ، واتباع أوامرهم ونواهيهم والسير على هداهم ، وهذا شيء لا يتوقف على الاتصال بالامام ، والمخاطبة معه شفها ، فإن الوصول إلى الامام والمخاطبة معه لا يتيسر لجميع المكلفين في زمان

__________________

١ ـ تقدمت الاشارة إلى مصادر هذه الاخبار في ص ٢٦ من هذا الكتاب.

٢١١

الحضور ، فضلا عن أزمنة الغيبة ، واشتراط إمكان الوصول إلى الامام عليه‌السلام لبعض الناس دعوى بلا برهان ولا سبب يوجب ذلك ، فالشيعة في أيام الغيبة متمسكون بإمامهم يوالونه ويتبعون أوامره ، ومن هذه الاوامر الرجوع إلى رواة أحاديثهم في الحوادث الواقعة ، أما التمسك بالقرآن فهو أمر لا يمكن إلا بالوصول إليه ، فلا بد من كونه موجودا بين الامة ، ليمكنها أن تتمسك به ، لئلا تقع في الضلال ، وهذا البيان يرشدنا إلى فساد المناقشة بأن القرآن محفوظ وموجود عند الامام الغائب ، فإن وجوده الواقعي لا يكفى لتمسك الامة به.

وقد أشكل على هذا الدليل :

بأن أخبار الثقلين إنما تدل على نفي التحريف في آيات الاحكام من القرآن ، لانها هي التي أمر الناس بالتمسك بها ، فلا تنفي وقوع التحريف في الايات الاخرى منه.

وجوابه :

أن القرآن بجميع آياته مما أنزله الله لهداية البشر ، وإرشادهم إلى كمالهم الممكن من جميع الجهات ، ولا فرق في ذلك بين آيات الاحكام وغيرها ، وقد قدمنا في بيان فضل القرآن أن ظاهر القرآن قصة وباطنه عظة ، على أن عمدة القائلين بالتحريف يدعون وقوع التحريف في الايات التي ترجع إلى الولاية وما يشبهها ومن البين أنها لو ثبت كونها من القرآن ، لوجب التمسك بها على الامة.

الناحية الثانية : أن القول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب عن الحجية ، فلا يتمسك بظواهره ، فلا بد للقائلين بالتحريف من الرجوع إلى إمضاء الائمة الطاهرين لهذا الكتاب الموجود بأيدينا ، وإقرار الناس على الرجوع إليه بعد ثبوت تحريفه ، ومعنى هذا : أن حجية الكتاب الموجود متوقفة على إمضاء الائمة للاستدلال به ، وأولى الحجتين المستقلتين اللتين يجب التمسك بهما ، بل هو الثقل

٢١٢

الاكبر ، فلا تكون حجيته فرعا على حجية الثقل الاصغر ، والوجه في سقوط الكتاب عن الحجية ـ على القول بالتحريف ـ هو احتمال اقتران ظواهره بما يكون قرينة على خلافها ، أما الاعتماد في ذلك على أصالة عدم القرينة فهو ساقط ، فإن الدليل على هذا الاصل هو بناء العقلاء على اتباع الظهور ، وعدم اعتنائهم باحتمال القرينة على خلافه ، وقد أوضحنا في مباحث الاصول أن القدر الثابت من البناء العقلائي ، هو عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود القرينة المنفصلة ، ولا باحتمال القرية المتصلة إذا كان سببه احتمال غفلة المتكلم عن البيان ، أو غفلة السامع عن الاستفادة ، أما احتمال وجود القرينة المتصلة من غير هذين السببين ، فإن العقلاء يتوقفون عن اتباع الظهور معه ، ومثال ذلك : ما إذا ورد على إنسان كتاب ممن يجب عليه طاعته يأمره فيه بشراء دار ، ووجد بعض الكتاب تالفا ، واحتمل أن يكون في هذا البعض التالف بيان لحصوصيات في الدار التي أمر بشرائها من حيث السعة والضيق ، أو من حيث القيمة أو المحل ، فإن العقلاء لا يتمسكون بإطلاق الكلام الموجود ، اعتمادا على أصالة عدم القرينة المتصلة ولا يشترون أية دار امتثالا لامر هذا الامر ، ولا يعدون من يعمل مثل ذلك ممتثلا لامر سيده.

ولعل القارئ يذهب به وهمه بعيدا ، فيقول : إن هذا التقريب يهدم أساس الفقه ، واستنباط الاحكام الشرعية ، لان العمدة فإن أدلتها هي الاخبار المروية عن المعصومين عليهم‌السلام ومن المحتمل أن تكون كلماتهم مقرونة بقرائن متصلة ، ولم تنقل الينا.

ولو تأمل قليلا لم يستقر في ذهنه هذا التوهم ، فإن المتبع في مقام الاخبار ، هو ظهور كلام الراوي في عدم وجود القرينة المتصلة ، فإن اللازم عليه البيان لو كان كلام المعصوم متصلا بقرينة ، واحتمال غفلته عنها مدفوع بالاصل.

نعم إن القول بالتحريف يلزمه عدم جواز التمسك بظواهر القرآن ، ولا

٢١٣

يحتاج في إثبات هذه النتيجة إلى دعوى العلم الاجمالي باختال الظواهر في بعض الايات ، حتى يجاب عنه بأن وقوع التحريف في القرآن لا يلزمه العلم الاجمالي المذكور ، وبأن هذا العلم الاجمالي لا ينجز ، لان بعض أطرافه ليس من آيات الاحكام ، فلا يكون له أثر في العمل ، والعلم الاجمالي إنما ينجز إذا كان له أثر عملي في كل طرف من أطرافه.

وقد يدعي القائل بالتحريف : أن إرشاد الائمة المعصومين عليهم‌السلام إلى الاستدلال بظواهر الكتاب ، وتقرير أصحابهم عليه قد أثبت الحجية للظواهر ، وإن سقطت قبل ذلك بسبب التحريف.

ولكن هذه الدعوى فاسدة ، فإن هذا الارشاد من الائمة المعصومين عليهم‌السلام ، وهذا التقرير منهم لاصحابهم على التمسك بظواهر القرآن ، إنما هو من جهة كون القرآن في نفسه حجة مستقلة ، لا أنهم يريدون إثبات الحجية له بذلك ابتداء.

ترخيص قراءة السور في الصلاة :

الدليل الرابع : انه قد أمر الائمة من أهل البيت (ع) بقراءة سورة تامة بعد الفاتحة في الركعتين الاوليين من الفريضة ، وحكموا بجواز تقسيم سورة تامة أو أكثر في صلاة الايات ، على تفصيل مذكور في موضعه.

ومن البين أن هذه الاحكام إنما ثبتت في أصل الشريعة بتشريع الصلاة وليس للتقية فيها أثر ، وعلى ذلك فاللازم على القائلين بالتحريف أن لا يأتوا بما يحتمل فيه التحريف من السور ، لان الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. وقد يدعي القائل بالتحريف أنه غير متمكن من إحراز السورة التامة ، فلا تجب عليه ، لا الاحكام إنما تتوجه إلى المتمكنين ، وهذه الدعوى إنما تكون مسلمة إذا احتمل وقوع التحريف في جميع السور.

٢١٤

أما إذا كان هناك سورة لا يحتمل فيها ذلك كسورة التوحيد ، فاللازم عليه أن لا يقرأ غيرها ، ولا يمكن للخصم أن يجعل ترخيص الائمة (ع) للمصلي بقراءة أية سورة شاء دليلا على الاكتفاء بما يختاره من السور ، وإن لم يجز الاكتفاء بها قبل هذا الترخيص بسبب التحريف ، فإن هذا الترخيص من الائمة (ع) بنفسه دليل على عدم وقوع التحريف في القرآن وإلا لكان مستلزما لتفويت الصلاة الواجبة على المكلف بدون سبب موجب فإن من البين أن الالزام بقراءة السور ، التي لم يقع فيها تحريف ليس فيه مخالفة للتقية ، ونرى أنهم عليهم‌السلام أمرونا بقراءة سورة القدر والتوحيد في كل صلاة استحبابا ، فأي مانع من الالزام بهما ، أو بغيرهما مما لا يحتمل وقوع التحريف فيه.

اللهم إلا أن يدعي نسخ وجوب قراءة السورة التامة إلى وجوب قراءة سورة تامة من القرآن الموجود ، ولا أظن القائل بالتحريف يلتزم بذلك ، لان النسخ لم يقع بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطعا ، وان كان في إمكانه وامتناعه كلام بين العلماء ، وهذا خارج عما نحن بصدده.

وجملة القول انه لا ريب في أمر أهل البيت (ع) بقراءة سورة من القرآن الذي بين أيدينا في الصلاة ، وهذا الحكم الثابت من دون ريب ولا شائبة تقية إما أن يكون هو نفس الحكم الثابت في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإما أن يكون غيره ، وهذا الاخير باطل لانه من النسخ الذي لا ريب في عدم وقوعه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان أمرا ممكنا في نفسه ، فلا بد وأن يكون ذلك هو الحكم الثابت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعنى ذلك عدم التحريف. وهذا الاستدلال يجري في كل حكم شرعي ، رتبه أهل البيت عليهم‌السلام على قراءة سورة كاملة ، أو آية تامة.

دعوى وقوع التحريف من الخلفاء :

الدليل الخامس : أن القائل بالتحريف إما أن يدعي وقوعه من الشيخين ،

٢١٥

بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإما من عثمان بعد انتهاء الامر إليه ، وإما من شخص آخر بعد انتهاء الدور الاول من الخلافة ، وجميع هذه الدعاوى باطلة. أما دعوى وقوع التحريف من أبي بكر وعمر ، فيبطلها انهما في هذا التحريف إما أن يكونا غير عامدين ، وإنما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن اليهما بتمامه ، لانه لم يكن مجموعا قبل ذلك ، وإما أن يكونا متعمدين في هذا التحريف ، وإذا كانا عامدين فإما أن يكون التحريف الذي وقع منهما في آيات تمس بزعامتهما وإما أن يكون في آيات ليس لها تعلق بذلك ، فالاحتمالات المتصورة ثلاثة :

أما احتمال عدم وصول القرآن اليهما بتمامه فهو ساقط قطعا ، فإن اهتمام النبي (ص) بأمر القرآن بحفظه ، وقراءته ، وترتيل آياته ، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله (ص) وبعد وفاته يورث القطع بكون القرآن محفوظا عندهم ، جمعا أو متفرقا ، حفظا في الصدور ، أو تدوينا في القراطيس ، وقد اهتموا بحفظ أشعار الجاهلية وخطبها ، فكيف لا يهتمون بأمر الكتاب العزيز ، الذي عرضوا أنفسهم للقتل في دعوته ، وإعلان أحكامه ، وهجروا في سبيله أوطانهم ، وبذلوا أموالهم ، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم ، ووقفوا المواقف التي بيضوا بها وجه التاريخ ، وهل يحتمل عاقل مع ذلك كله عدم اعتنائهم بالقرآن؟ حتى يضيع بين الناس ، وحتى يحتاج في إثباته إلى شهادة شاهدين؟ وهل هذا إلا كاحتمال الزيادة في القرآن بل كاحتمال عدم بقاء شيء من القرآن المنزل؟. على أن روايات الثقلين المتظافرة المتقدمة دالة على بطلان هذا الاحتمال ، فإن قوله (ص) : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي لا يصح إذا كان بعض القرآن ضائعا في عصره ، فإن المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه ، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن ، وجمعه في زمان النبي (ص) لان الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرقات ، ولا على المحفوظ في الصدور. ـ وسنتعرض للكلام فيمن جمع القرآن على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وإذا سلم عدم اهتمام المسلمين بجمع القرآن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢١٦

فلماذا لم يهتم بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه مع اهتمامه الشديد بأمر القرآن؟ فهل كان غافلا عن نتائج هذا الاغفال ، أو كان غير متمكن من الجمع ، لعدم تهيؤ الوسائل عنده؟! ومن الواضح بطلان جميع ذلك.

وأما احتمال تحريف الشيخين للقرآن ـ عمدا ـ في الايات التي لا تمس بزعامتهما ، وزعامة أصحابهما فهو بعيد في نفسه ، إذ لا غرض لهما في ذلك ، على أن ذلك مقطوع بعدمه ، وكيف يمكن وقوع التحريف منهما مع أن الخلافة كانت مبتنية على السياسة ، وإظهار الاهتمام بأمر الدين؟ وهلا احتج بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما ، والمعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة كسعد بن عبادة وأصحابه؟ وهلا ذكر ذلك أمير المؤمنين (ع) في خطبته الشقشقية المعروفة ، أو في غيرها من كلماته التي اعترض بها على من تقدمه؟ ولا يمكن دعوى اعتراض المسلمين عليهما بذلك ، واختفاء ذلك عنا ، فإن هذه الدعوى واضحة البطلان.

وأما احتمال وقوع التحريف من الشيخين عمدا ، في آيات تمس بزعمامتهما فهو أيضا مقطوع بعدمه ، فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام وزوجته الصديقة الطاهرة عليها‌السلام وجماعة من أصحابه قد عارضوا الشيخين في أمر الخلافة ، واحتجوا عليهما بما سمعوا من النبي (ص) واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والانصار ، واحتجوا عليه بحديث الغدير وغيره ، وقد ذكر في كتاب الاحتجاج : احتجاج اثني عشر رجلا على أبي بكر في الخلافة ، وذكروا له النص فيها ، وقد عقد العلامة المجلسي بابا لا حتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام في أمر الخلافة (١) ، ولو كان في القرآن شيء يمس زعامتهم لكان أحق بالذكر في مقام الاحتجاج ، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين ، ولا سيما أن أمر الخلافة كان قبل جمع القرآن على زعمهم بكثير ، ففي ترك الصحابة ذكر ذلك في أول

__________________

١ ـ بحار الانوار ج ٨ ص ٧٩.

٢١٧

أمر الخلافة وبعد انتهائها إلى علي عليه‌السلام دلالة قطعية على عدم التحريف المذكور.

وأما احتمال وقوع التحريف من عثمان فهو أبعد من الدعوى الاولى :

١ ـ لان الاسلام قد انتشر في زمان عثمان على نحو ليس في إمكان عثمان أن ينقص من القرآن شيئا ، ولا في إمكان من وأكبر شأنا من عثمان.

٢ ـ ولان تحريفه إن كان للايات التي لا ترجع إلى الولاية ، ولا تمس زعامة سلفه بشئ ، فهو بغير سبب موجب ، وإن كان للايات التي ترجع إلى شيء من ذلك فهو مقطوع بعدمه ، لان القرآن لو اشتمل على شيء من ذلك وانتشر بين الناس لما وصلت الخلافة إلى عثمان.

٣ ـ ولانه لو كان محرفا للقرآن ، لكان في ذلك أوضح حجة ، وأكبر عذر لقتلة عثمان في قتله علنا ، ولما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين ، وإلى ما سوى ذلك من الحجج.

٤ ـ ولكان من الواجب على علي عليه‌السلام بعد عثمان أن يرد القرآن إلى أصله ، الذي كان يقرأ به في زمان النبي (ص) وزمان الشيخين ولم يكن عليه في ذلك شيء ينتقد به ، بل ولكان ذلك أبلغ أثرا في مقصوده وأظهر لحجته على التائرين بدم عثمان ، ولا سيما أنه عليه‌السلام قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان. وقال في خطبة له :

« والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء لرددته فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق »(١).

__________________

١ ـ نهج البلاغة : فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان.

٢١٨

هذا أمر علي في الاموال ، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرفا ، فيكون إمضاؤه عليه‌السلام للقرآن الموجود في عصره ، دليلا على عدم وقوع التحريف فيه.

وأما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء فلم يدعها أحد فيما نعلم ، غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم ، وزاد فيه ما لم يكن منه ، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر ، والشام ، والحرمين ، والبصرة والكوفة ، وإن القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف. وأما المصاحف الاخرى فقد جمعها ولم يبق منها شيئا ولا نسخة واحدة(١).

وهذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين ، وخرافات المجانين والاطفال ، فإن الحجاج واحد من ولاة بني أمية ، وهو أقصر باعا ، وأصغر قدرا من أن ينال القرآن بشئ ، بل وهو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الاسلامية ، فكيف يغير ما هو أساس الدين ، وقوام الشريعة؟ ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الاسلام وغيرها مع انتشار القرآن فيها؟ وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الاهمية ، وكثرة الدواعي إلى نقله ، وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته ، وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج ، وانتهاء سلطته؟.

وهب أنه تمكن من جمع نسخ المصاحف جميعها ، ولم تشذ عن قدرته نسخة واحدة من أقطار المسلمين المتباعدة ، فهل تمكن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القران؟ وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلا الله ، على أن القرآن لو كان في بعض آياته شيء يمس بني أمية ، لاهتم معاوية بإسقاطه قبل

__________________

١ ـ مناهل العرفان ص ٢٥٧.

٢١٩

زمان الحجاج وهو أشد منه قدرة ، وأعظم نفوذا ، ولاستدل به أصحاب علي ـ عليه‌السلام ـ على معاوية ، كما احتجوا عليه بما حفظه التاريخ ، وكتب الحديث والكلام ، وبما قدمناه للقارئ ، يتضح له أن من يدعي التحريف يخالف بداهة العقل ، وقد قيل في المثل : حدث الرجل بما لا يليق ، فإن صدق فهو ليس بعاقل.

شبهات القائلين بالتحريف :

وهنا شبهات يتشبث بها القائلون بالتحريف لا بد لنا من التعرض لها ودفعها واحدة واحدة :

الشبهة الاولى :

أن التحريف قد وقع في التوراة والانجيل ، وقد ورد في الروايات المتواترة من طريقي الشيعة والسنة : أن كل ما وقع في الامم السابقة لا بد وأن يقع مثله في هذه الامة ، فمنها ما رواه الصدوق في الاكمال عن غياث بن ابراهيم ، عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال :

« قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل ما كان في الامم السالفة ، فإنه يكون في هذه الامة مثله حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة » (١).

ونتيجة ذلك : أن التحريف لا بد من وقوعه في القرآن ، وإلا لم يصح معنى هذه الاحاديث.

__________________

١ ـ البحار باب افتراق الامة بعد النبي (ص) على ثلاث وسبعين فرقة ج ٨ ص ٤. وقد تقدم بعض مصادر هذا الحديث من طرق أهل السنة في ما تقدم من هذا الكتاب.

٢٢٠