البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

كلمات القرآن الموجودة بكلمات اخرى تقاربها في المعنى ـ ويشهد لهذا بعض الروايات المتقدمة ـ فهذا الاحتمال يوجب هدم أساس القرآن ، المعجزة الابدية ، والحجة على جميع البشر ، ولا يشك عاقل في أن ذلك يقتضي هجر القرآن المنزل ، وعدم الاعتناء بشأنه. وهل يتوهم عاقل ترخيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ القارئ يس ، والذكر العظيم ، إنك لمن الانبياء ، على طريق سوي ، إنزال الحميد الكريم ، لتخوف قوما ما خوف أسلافهم فهم ساهون فلتقر عيون المجوزين لذلك. سبحانك اللهم إن هذا إلا بهتان عظيم. وقد قال الله تعالى :

( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ١٠ : ١٥ ).

وإذا لم يكن للنبي أن يبدل القرآن من تلقاء نفسه ، فكيف يجوز ذلك لغيره؟ وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ علم براء بن عازب دعاء كان فيه : ونبيك الذي أرسلت فقرأ براء ورسولك الذي أرسلت فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يضع الرسول موضع النبي (١). فإذا كان هذا في الدعاء ، فماذا يكون الشأن في القرآن؟. وإن كان المراد من الوجه المتقدم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ على الحروف السبعة ـ ويشهد لهذا كثير من الروايات المتقدمة ـ فلا بد للقائل بهذا أن يدل على هذه الحروف السبعة التي قرأ بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لان الله سبحانه قد وعد بحفظ ما أنزله :

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ٩ : ١٥ ).

ثالثا : أنه صرحت الروايات المتقدمة بأن الحكمة في نزول القرآن على سبعة

____________

١ ـ التبيان ٥٨.

١٨١

أحرف هي التوسعة على الامة ، لانهم لا يستطيعون القراءة على حرف واحد ، وأن هذا هو الذي دعا النبي الاستزادة إلى سبعة أحرف. وقد رأينا أن اختلاف القراءات أوجب أن يكفر بعض المسلمين بعضا. حتى حصر عثمان القراءة بحرف واحد ، وأمر بإحراق بقية المصاحف.

ويستنتج من ذلك امور :

إن الاختلاف في القراءة كان نقمة على الامة. وقد ظهر ذلك في عصر عثمان ، فكيف يصح أن يطلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله ما فيه فساد الامة. وكيف يصح على الله أن يجيبه إلى ذلك؟ وقد ورد في كثير من الروايات النهي عن الاختلاف. وأن فيه هلاك الامة. وفي بعضها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغير وجهه واحمر حين ذكر له الاختلاف في القراءة. وقد تقدم جملة منها ، وسيجئ بعد هذا جملة اخرى.

٢ ـ قد تضمنت الروايات المتقدمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن أمتي لا تستطيع ذلك القراءة على حرف واحد وهذا كذب صريح ، لا يعقل نسبته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانا نجد الامة بعد عثمان على اختلاف عناصرها ولغاتها قد استطاعت أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فكيف يكون من العسر عليها أن تجتمع على حرف واحد في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كانت الامة من العرب الفصحى.

٣ ـ إن الاختلاف الذي أوجب لعثمان أن يحصر القراءة في حرف واحد قد اتفق في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل قارئ على قراءته ، وأمر المسلمين بالتسليم لجميعها ، وأعلمهم بأن ذلك رحمة من الله لهم ، فكيف صح لعثمان ، ولتابعيه سد باب الرحمة ، مع نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المنع عن قراءة القرآن ، وكيف جاز للمسلمين رفض قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذ قول عثمان وإمضاء عمله ، أفهل وجدوه أرأف بالامة من نبيها أو أنه تنبه لشئ قد جهله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل وحاشاه ، أو أن الوحي قد نزل على عثمان بنسخ تلك الحروف؟!.

١٨٢

وخلاصة الكلام : أن بشاعة هذا القول تغني عن التكلف عن رده ، وهذه هي العمدة في رفض المتأخرين من علماء أهل السنة لهذا القول. ولاجل ذلك قد التجأ بعضهم كأبي جعفر محمد بن سعدان النحوي ، والحافظ جلال الدين السيوطي إلى القول بأن هذه الروايات من المشكل والمتشابه ، وليس يدري ما هو مفادها (١) مع أنك قد عرفت أن مفادها أمر ظاهر ، ولا يشك فيه الناظر إليها ، كما ذهب إليه واختاره أكثر العلماء.

٢ ـ الابواب السبعة :

إن المراد بالاحرف السبعة هي الابواب السبعة التي نزل منها القرآن وهي زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال.

واستدل عليه بما رواه يونس ، بإسناده عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

« كان الكتاب الاول نزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف : زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال. فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما امرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا»(٢).

ويرد على هذه الوجه :

١ ـ أن ظاهر الرواية كون الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن غير

__________________

١ ـ التبيان ص ٦١.

٢ ـ تفسير الطبري ج ١ ص ٢٣.

١٨٣

الابواب السبعة التى نزل منها ، فلا يصح ان يجمل تفسيرا لها ، كما يريده أصحاب هذا القول.

٢ ـ أن هذه الرواية معارضة برواية أبي كريب ، بإسناده عن ابن مسعود. قال : إن الله أنزل القرآن على خمسة أحرف : حلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال (١)

٣ ـ أن الرواية مضطربة في مفادها ، فإن الزجر والحرام بمعنى واحد ، فلا تكون الابواب سبعة ، على أن في القرآن أشياء اخرى لا تدخل في هذه الابواب السبعة ، كذكر المبدأ والمعاد ، والقصص ، والاحتجاجات والمعارف ، وغير ذلك. وإذا أراد هذا القائل أن يدرج جميع هذه الاشياء في المحكم والمتشابه كان عليه أن يدرج الابواب المذكورة في الرواية فيهما أيضا ، ويحصر القرآن في حرفين المحكم والمتشابه فإن جميع ما في القرآن لا يخلو من أحدهما.

٤ ـ أن اختلاف معاني القرآن على سبعة أحرف لا يناسب ما ذلت عليه الاحاديث المتقدمة من التوسعة على الامة ، لانها لا تتمكن من القراءة على حرف واحد.

٥ ـ أن في الروايات المتقدمة ما هو صرح في أن الحروف السبعة هي الحروف التي كانت تختلف فيها القراء ، وهذه الرواية إذا تمت دلالتها لا تصلح قرينة على خلافها.

٣ ـ الابواب السبعة بمعنى آخر :

إن الحروف السبعة هي : الامر ، والزجر ، والترغيب ، والترهيب ، والجدل ،

__________________

١ ـ تفسير الطبري ١ ص ٢٤.

١٨٤

والقصص ، والمثل. واستدل على ذلك برواية محمد بن بشار ، بإسناده عن أبي قلامة. قال:

« بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : انزل القرآن على سبعة أحرف : أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، وقصص ، ومثل » (١).

وجوابه يظهر مما قدمناه في الوجه الثاني.

٤ ـ اللغات الفصيحة :

إن الاحرف السبعة هي اللغات الفصيحة من لغات العرب ، وأنها متفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش ، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه بلغة هوازن ، وبعضه وبعضه بلغة اليمن ، وبعضه بلغة كنانة ، وبعضه بلغة تميم ، وبعضه بلغة ثقيف. ونسب هذا القول إلى جماعة ، منهم : البيهقي ، والابهري ، وصاحب القاموس.

ويرده :

١ ـ ان الروايات المتقدمة قد عينت المراد من الاحرف السبعة ، فلا يمكن حملها على أمثال هذه المعاني التي لا تنطبق على موردها.

٢ ـ ان حمل الاحرف على اللغات ينافي ما روي عن عمر من قوله : نزل القرآن بلغة مضر (٢). وانه أنكر على ابن مسعود قراءته عتى حين أي حتى حين ، وكتب إليه أن القرآن لم ينزل بلغة هذيل ، فأقرئ الناس بلغة قريش ، ولا تقرئهم بلغة هذيل (٣).

__________________

١ ـ تفسير الطبري ج ١ ص ٢٤.

٢ ـ التبيان ص ٦٤.

٣ ـ نفس المصدر ص ٦٥.

١٨٥

وما روي عن عثمان أنه قال : للرهط القرشيين الثلاثة ، إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم (١).

وما روى من : أن عمر وهشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفرقان ، فقرأ هشام قراءة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا أنزلت ، وقرأ عمر قراءة غير تلك القراءة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا أنزلت ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف (٢).

فإن عمر وهشام كان كلاهما من قريش ، فلم يكن حينئذ ما يوجب اختلافهما في القراءة ، ويضاف إلى جميع ذلك أن حمل الاحرف على اللغات قول بغير علم ، وتحكم من غير دليل.

٣ ـ أن القائلين بهذا القول إن أرادوا أن القرآن اشتمل على لغات اخرى ، كانت لغة قريش خالية منها ، فهذا المعنى خلاف التسهيل على الامة ، الذي هو الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف ، على ما نطقت الروايات بذلك ، بل هو خلاف الواقع ، فإن لغة قريش هي المهيمنة على سائر لغات العرب ، وقد جمعت من هذه اللغات ما هو أفصحها ، ولذلك استحقت أن توزن بها العربية ، وأن يرجع إليها في قواعدها. وإن أرادوا أن القرآن مشتمل على لغات اخرى ، ولكنها تتحد مع لغة قريش ، فلا وجه للحصر بلغات سبع ، فإن في القرآن ما يقرب من خمسين لغة. فعن أبي بكر الواسطي : في القرآن من اللغات خمسون لغة ، وهي لغات قريش ، وهذيل ، وكنانة ، وخثعم ، والخزرج ، وأشعر ، ونمير ... (٣)

__________________

١ ـ صحيح البخاري باب نزل القرآن بلسان قريش ص ١٥٦.

٢ ـ أشرنا إلى هذه الرواية في ما تقدم من هذا الكتاب.

٣ ـ راجع الاتقان ج ١ النوع ٣٧ ص ٢٣٠ ، ٢٠٤.

١٨٦

٥ ـ لغات مضر :

إن الاحرف السبعة هي سبع لغات من لغات مضر خاصة. وإنها متفرقة في القرآن ، وهي لغات قريش ، وأسد ، وكنانة ، وهذيل ، وتميم ، وضبة ، وقيس. ويرد عليه جميع ما أوردناه على الوجه الرابع.

٦ ـ الاختلاف في القراءات :

إن الاحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءات. قال بعضهم : إني تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا. فمنها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل. هن أطهر لكم بضم أطهر وفتحه.

ومنها ما تتغير صورته ويتغير معناه بالاعراب مثل : ربنا باعد بين أسفارنا بصيغة الامر والماضي.

ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف مثل : كالعهن المنفوش وكالصوف المنفوش.

ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل : وطلح منضود وطلع منضود.

ومنها بالتقديم والتأخير مثل : وجاءت سكرة الموت بالحق ، وجاءت سكرة الحق بالموت.

ومنها بالزيادة والنقصان : تسع وتسعون نعجة انثى. وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين.

فإن الله من بعد اكراههن لهن غفور رحيم.

ويرده :

١ ـ أن ذلك قول لا دليل عليه ، ولا سيما أن المخاطبين في تلك الرويات لم يكونوا يعرفون من ذلك شيئا.

١٨٧

٢ ـ أن من وجوه الاختلاف المذكورة ما يتغير فيه المعنى وما لا يتغير ، ومن الواضع أن تغير المعنى وعدمه لا يوجب الانقسام إلى وجهين ، لان حال اللفظ والقراءة لا تختلف بذلك ، ونسبة الاختلاف إلى اللفظ في ذلك من قبيل وصف الشئ بحال متعلقة. ولذلك يكون الاختلاف في طلح منضود. وكالعهن المنفوش قسما واحدا.

٣ ـ أن من وجوه الاختلاف المذكور بقاء الصورز للفظ ، وعدم بقائها ، ومن الواضح أيضا أن ذلك لا يكون سببا للانقسام ، لان بقاء الصورة إنما هو في المكتوب لا في المقروء ، والقرآن اسم للمقروء لا للمكتوب والمنزل من السماء إنما كان لفظا لا كتابة. وعلى هذا يكون الاختلاف في وطلح. وننشزها وجها واحدا لا وجهين.

٤ ـ ان صريح الروايات المتقدمة أن القرآن نزل في ابتداء الامر على حرف واحد. ومن البين أن المراد بهذا الحرف الواحد ليس هو أحد الاختلافات المذكورة ، فكيف يمكن أن يراد بالسبعة مجموعها!.

٥ ـ أن كثيرا من القرآن موضع اتفاق بين القراء ، وليس موردا للاختلاف ، فإذا أضفنا موضع الاتفاق إلى موارد الاختلاف بلغ ثمانية. ومعنى هذا أن القرآن نزل على ثمانية أحرف.

٦ ـ أن مورد الروايات المتقدمة هو اختلاف القراء في الكلمات ، وقد ذكر ذلك في قصة عمر وغيرها. وعلى ما تقدم فهذا الاختلاف حرف واحد من السبعة ، ولا يحتاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رفع خصومتهم إلى الاعتذار بأن القرآن نزل على الاحرف السبعة ، وهل يمكن أن يحمل نزول جبريل بحرف ، ثم بحرفين ، ثم بثلاثة. ثم بسبعة على هذه الاختلافات؟! وقد أنصف الجزائري في قوله : والاقوال في هذه المسألة كثيرة ، وغالبها بعيد عن الصواب. وكأن القائلين

١٨٨

بذلك ذهلوا عن مورد حديث انزل القرآن على سبعة أحرف ، فقالوا ما قالوا (١).

٧ ـ اختلاف القراءات بمعنى آخر :

ان الاحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءة ، ولكن بنحو آخر غير ما تقدم. وهذا القول اختاره الزرقاني ، وحكاه عن أبي الفضل الرازي في اللوائح. فقال : الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف الاول : اختلاف الاسماء من إفراد ، وتثنية ، وجمع ، وتذكير ، وتأنيث. الثاني : اختلاف تصريف الافعال من ماض ، ومضارع ، وأمر. الثالث : اختلاف الوجوه في الاعراب. الرابع : الاختلاف بالنقص والزيادة. الخامس : الاختلاف بالتقديم والتأخير. السادس : الاختلاف بالابدال. السابع : اختلاف اللغات اللهجات كالفتح ، والامالة ، والترقيق ، والتفخيم ، والاظهار ، والادغام ، ونحو ذلك.

ويرد عليه :

ما أوردناه على الوجه السادس في الاشكال الاول والرابع والخامس منه ، ويرده أيضا : أن الاختلاف في الاسماء يشترك مع الاختلاف في الافعال في كونهما اختلافا في الهيئة ، فلا معنى لجعله قسما آخر مقابلا له. ولو راعينا الخصوصيات في هذا التقسيم لوجب علينا أن نعد كل واحد من الاختلاف في التثنية ، والجمع ، والتذكير ، والتأنيث ، والماضي ، والمضارع ، والامر قسما مستقلا. ويضاف إلى ذلك أن الاختلاف في الادغام ، والاظهار ، والروم ، والاشمام ، والتخفيف

__________________

١ ـ التبيان ص ٥٩.

١٨٩

والتسهيل في اللفظ الواحد لا يخرجه عن كونه لفظا واحدا. وقد صرح بذلك ابن قتيبة على ما حكاه الزرقاني عنه (١).

والصحيح أن وجوه الاختلاف في القراءة ترجع إلى ستة أقسام :

الاول : الاختلاف في هيئة الكلمة دون مادتها ، كالاختلاف في لفظة باعد بين صيغة الماضي والامر ، وفي كلمة أمانتهم بنى الجمع والافراد.

الثاني : الاختلاف في مادة الكلمة دون هيئتها ، كالاختلاف في لفظة ننشرها بين الراء والزي.

الثالث : الاختلاف في المادة والهيئة كالاختلاف في العهن والصوف.

الرابع : الاختلاف في هيئة الجملة بالاعراب ، كالاختلاف وأرجلكم بين النصب والجر.

الخامس : الاختلاف بالتقديم والتأخير ، وقد تقدم مثال ذلك.

السادس : الاختلاف بالزيادة والنقيصة ، وقد تقدم مثاله أيضا.

٨ ـ الكثرة في الاحاد :

ان لفظ السبعة يراد منه الكثرة في الاحاد ، كما يراد من لفظ السبعين والسبعمائة الكثرة في العشرات أو المئات. ونسب هذا القول إلى القاضي عياض ومن تبعه.

ويرده :

ان هذا خلاف ظاهر الروايات ، بل خلاف صريح بعضها. على أن هذا لا

__________________

١ ـ مناهل العرفان ١٥٤.

١٩٠

يعد قولا مستقلا عن الوجوه الاخرى ، لانه لم يعين معنى الحروف فيه ، فلا بد وان يراد من الحروف أحد المعاني المذكورة في الوجوه المتقدمة ويرد عليه ما يرد من الاشكال على تلك الوجوه.

٩ ـ سبع قراءات :

ومن تلك الوجوه ان الاحرف السبعة موضوعة البحث هي سبع قراءات. ويرده :

ان هذه القراءات السبع إن اريد بها السبع المشهورة ، فقد أوضحنا للقارئ بطلان هذا الاحتمال في البحث عن تواتر القراءات ـ وقد تقدم ذلك ـ في باب نظرة في القراءات.

وان اريد بها قراءات سبع عى إطلاقها ، فمن الواضح أن عدد القراءات أكثر من ذلك بكثير ، ولا يمكن أن يوجه ذلك بأن غاية ما ينتهي إليه اختلاف القراءات أكثر من ذلك بكثير ، الواحدة هي السبع ، لانه إن اريد أن الغالب في كلمات القرآن أن تقرأ على سبعة وجوه فهذا باطل ، لان الكلمات التي تقرأ على سبعة وجوه قليلة جدا. وإن اريد أن ذلك موجود في بعض الكلمات وعلى سبيل الايجاب الجزئي فمن الواضح أن في كلمات القرآن ما يقرأ بأكثر من ذلك فقد قرأت كلمة وعبد الطاغوت بإثنين وعشرين وجها ، وفي كلمة أف أكثر من ثلاثين وجها. ويضاف إلى ما تقدم ان هذا القول لا ينطبق على مورد الروايات ، ومثله أكثر الاقوال في المسألة.

١٠ ـ اللهجات المختلفة :

إن الاحرف السبع يراد بها اللهجات المختلفة في لفظ واحد ، اختاره الرافعي في كتابه (١).

____________

١ ـ إعجاز القرآن ٧٠.

١٩١

وتوضيح القول : أن لكل قوم من العرب لهجة خاصة في تأدية بعض الكلمات ، ولذلك نرى العرب يختلفون في تأدية الكلمة الواحدة حسب اختلاف لهجاتهم. فالقاف في كلمة يقول مثلا يبدلها العراقي بالكاف الفارسية ، ويبدلها الشامي بالهمزة ، وقد أنزل القرآن على جميع هذه اللهجات للتوسعة على الامة ، لان الالتزام بلهجة خاصة من هذه اللهجات فيه تضييق على القبائل الاخرى التي لم تألف هذه اللهجة ، والتعبير بالسبع إنما هو رمز إلى ما ألفوه من معنى الكمال في هذه اللفظة ، فلا ينافي ذلك كثرة اللهجات العربية ، وزيادتها على السبع.

الرد :

وهذا الوجه ـ على أنه أحسن الوجوه التي قيلت في هذا المقام ـ غير تام أيضا :

١ ـ لانه ينافي ما ورد عن عمر وعثمان من أن القرآن نزل بلغة قريش ، وأن عمر منع ابن مسعود من قراءة « عتى حين ».

٢ ـ ولانه ينافي مخاصمة عمر مع هشام بن حكيم في الراءة ، مع أن كليهما من قريش.

٣ ـ ولانه ينافي مورد الروايات ، بل وصراحة بعضها في أن الاختلاف كان في جوهر اللفظ ، لا في كيفية أدائه ، وان هذا من الاحرف التي نزل بها القرآن.

٤ ـ ولان حمل لفظ السبع ـ على ما ذكره خلاف ـ ظاهر الروايات ، بل وخلاف صريح بعضها.

٥ ـ ولان لازم هذا القول جواز القراءة فعلا باللهجات المتعددة ، وهو خلاف السيرة القطعية من جميع المسلمين ، ولا يمكن أن يدعي نسخ جواز القراءة بغير اللهجة الواحدة المتعارفة ، لانه قول بغير دليل ، ولا يمكن لقائله أن يستدل على النسخ بالاجماع القطعي على ذلك ، لان مدرك الاجماع إنما هو عدم ثبوت نزول القرآن على اللهجات المختلفة ، فإذا فرضنا ثبوت ذلك كما يقوله أصحاب هذا القول فكيف يمكن تحصيل الاجماع على ذلك؟ مع أن إصرار

١٩٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نزول القرآن على سبعة أحرف إنما كان للتوسعة على الامة ، فكيف يمكن أن يختص ذلك بزمان قليل بعد نزول القرآن ، وكيف يصح أن يقوم على ذلك إجماع أو غيره من الادلة؟! ومن الواضح أن الامة ـ بعد ذلك ـ أكثر احتياجا إلى التوسعة ، لان المعتنقين للاسلام في ذلك الزمان قليلون. فيمكنهم أن يجتمعوا في قراءة القرآن على لهجة واحدة ، وهذا بخلاف المسلمين في الازمنة المتأخرة ، ولنقتصر على ما ذكرنا من الاقوال فإن فيه كفاية عن ذكر البقية والتعرض لجوابها وردها.

وحاصل ما قدمناه : أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يرجع إلى معنى صحيح ، فلا بد من طرح الروايات الدالة عليه ، ولا سيما بعد أن دلت أحاديث الصادقين (ع) على تكذيبها ، وأن القرآن إنما نزل على حرف واحد ، وان الاختلاف قد جاء من قبل الرواة.

( البيان ـ ١٣ )

١٩٣
١٩٤

صيانة القرآن من التحريف

١٩٥

وقوع التحريف المعنوي في القرآن باتفاق المسلمين. التحريف الذي لم يقع في القرآن بلا خلاف. التحريف الذي وقع فيه الخلاف. تصريحات أعلام الامامية بعدم التحريف كجزء من معتقداتهم. نسخ التلاوة مذهب مشهور بين علماء أهل السنة. كلمات مشاهير الصحابة في وقوع التحريف. القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف. الادلة الخمسة على نفي التحريف. شبهات القائلين بالتحريف.

١٩٦

يحسن بنا ـ قبل الخوض في صميم الموضوع ـ أن نقدم أمام البحث امورا ، لها صلة بالمقصود ، لا يستغنى عنها في تحقيق الحال وتوضيحها.

١ ـ معنى التحريف :

يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدة معان على سبيل الاشتراك ، فبعض منها واقع في القرآن باتفاق من المسلمين ، وبعض منها لم يقع فيه باتفاق منهم أيضا ، وبعض منها وقع الخلاف بينهم. واليك تفصيل ذلك (١) :

الاول : نقل الشئ عن موضعه وتحويله إلى غيره ومنه قوله تعالى :

« مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ٤ : ٤٦ ».

ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله فإن كل من فسر القرآن بغير حقيقته ، وحمله على غير معناه فقد حرفه. وترى كثيرا من أهل البدع ، والمذاهب الفاسدة قد حرفوا القرآن بأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم.

وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى ، وذم فاعله في عدة من الروايات.

__________________

١ ـ انظر التعليقة رقم (٦) تقديم دار التقريب لهذا البحث في قسم التعليقات.

١٩٧

منها : رواية الكافي بإسناده عن الباقر عليه‌السلام أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير :

« وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ... » (١).

الثاني : « النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات ، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه ، وإن لم يكن متميزا في الخارج عن غيره ».

والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعا ، فقد أثبتنا لك فيما تقدم عدم تواتر القراءات ، ومعنى هذا أن القرآن المنزل إنما هو مطابق لاحدى القراءات ، وأما غيرها فهو إما زيادة في القرآن وإما نقيصة فيه.

الثالث : « النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين ، مع التحفظ على نفس القرآن المنزل ».

والتحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الاسلام ، وفي زمان الصحابة قطعا ، ويدلنا على ذلك إجماع المسلمين على أن عثمان أحرق جملة من المصاحف وأمر ولاته بحرق كل مصحف غير ما جمعه ، وهذا يدل على أن هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه ، وإلا لم يكن هناك سبب موجب لاحراقها ، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف ، منهم عبد الله ابن أبي دود السجستاني ، وقد سمى كتابه هذا بكتاب المصاحف. وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة إما من عثمان أو من كتاب تلك المصاحف ، ولكنا سنبين بعد هذا إن شاء الله تعالى أن ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين ، الذى تداولوه على النبي

__________________

١ ـ الوافي آخر كتاب الصلاة ص ٢٧٤.

١٩٨

ـ ص ـ يدا بيد. فالتحريك بالزيادة والنقيصة إنما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان ، وأما القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة.

وجملة القول : إن من يقول بعدم تواتر تلك المصاحف ـ كما هو الصحيح ـ فالتحريف بهذا المعنى وإن كان قد وقع عنده في الصدر الاول إلا أنه قد انقطع في زمان عثمان ، وانحصر المصحف بما ثبت تواتره عن النبي (ص) وأما القائل بتواتر المصاحف بأجمعها ، فلا بد له من الالترام بوقوع التحريف بالمعنى المتنازع فيه في القرآن المنزل ، وبضياع شيء منه. وقد مر عليك تصريح الطبري ، وجماعة آخرين بإلغاء عثمان للحروف الستة التي نزل بها القرآن ، واقتصاره على حرف واحد (١).

الرابع : التحريف بالزيادة والنقيصة في الاية والسورة مع التحفظ على القرآن المنزل ، والتسالم على قراءة النبي (ص) إياها.

والتحريف بهذا المعنى أيضا واقع في القرآن قطعا. فالبسملة ـ مثلا ـ مما تسالم المسلمون على أن النبي (ص) قرأها قبل كل سورة غير سورة التوبة وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنة ، فاختار جمع منهم أنها ليست من القرآن ، بل ذهبت المالكية إلى كراهة الاتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة ، إلا إذا نوى به المصلي الخروج من الخلاف ، وذهب جماعة اخرى إلى أن البسملة من القرآن.

وأما الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسملة من كل سورة غير سورة التوبة ، واختار هذا القول جماعة من علماء السنة أيضا ـ وستعرف تفصيل ذلك عند تفسيرنا سورة الفاتحة ـ وإذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقينا ، بالزيادة أو بالنقيصة.

__________________

١ ـ في موضع نزول القرآن على سبعة أحرف ص ١٩٦ من هذا الكتاب.

١٩٩

الخامس : التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل.

والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين ، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة.

السادس : التحريف بالنقيصة ، بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء ، فقد ضاع بعضه على الناس.

والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون.

٢ ـ رأي المسلمين في التحريف :

المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن ، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الاعظم (ص) ، وقد صرح بذلك كثير من الاعلام. منهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه ، وقد عد القول بعدم التحريف من معتقدات الامامية. ومنه شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، وصرح بذلك في أول تفسيره التبيان ونقل القول بذلك أيضا عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى ، واستدلاله على ذلك بأتم دليل. ومنهم المفسر الشهير الطبرسي في مقدمة تفسيره مجمع البيان ، ومنهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر في بحث القرآن من كتابه كشف الغطاء وادعى الاجماع على ذلك ومنهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه العروة الوثقى ونسب القول بعدم التحريف إلى جمهور المجتهدين. ومنه المحدث الشهير المولى محسن القاساني في كتابيه (١). ومنهم بطل العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدمة تفسيره آلاء الرحمن.

__________________

١ ـ الوافي ج ٥ ص ٢٧٤ ، وعلم اليقين ص ١٣٠.

٢٠٠