البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

حول سائر المعجزات

١٠١

إثبات المعجزات بالبراهين المنطقية. محاسبة المدارك التي استند إليها منكرو تلك المعجزات. بشارة التوراة والانجيل بنبوة محمد. إسلام كثير من اليهود والنصارى. الدليل القطعي على إثبات هذه البشارة. معجزات النبي أولى بالتصديق من معجزات الانبياء السايقين.

١٠٢

لا يشك باحث مطلع في أن القرآن أعظم معجزة جاء بها نبي الاسلام ، ومعنى هذا أنه أعظم المعجزات التي جاء بها الانبياء والمرسلون جميعا. وقد ذكرنا في المباحث المتقدمة بعضا من نواحي إعجازه ، وأوضحنا تفوق كتاب الله على جميع المعجزات ، ولكنا نقول ههنا : إن معجزة النبي (ص) لم تكن منحصرة بالقرآن الكريم ، ولقد شارك جميع الانبياء في معجزاتهم واختص من بينهم بمعجزة الكتاب العزيز. والدليل على قولنا هذا أمران :

الاول : أخبار المسلمين المتواترة الدالة على صدور المعجزات منه ، وقد ألف المسلمون ـ على اختلاف مللهم ونحلهم في هذه المعجزات ـ مؤلفات كثيرة فليراجعها من يرغب في الاطلاع عليها. ولهذه الاخبار جهتان من الامتياز على أخبار أهل الكتاب بمعجزات أنبيائهم:

الجهة الاولى : قرب الزمان ، فإن الشئ إذا قرب زمانه كان تحصيلي الجزم بوقوعه أيسر منه إذا بعد زمانه.

الجهة الثانية : كثرة الرواة : فإن أصحاب النبي (ص) الذين شاهدوا معجزاته أكثر ـ بالوف المرات ـ من بني إسرائيل ، ومن المؤمنين بعيسى الناقلين لمعجزاتهما. فإن المؤمنين بعيسى عليه‌السلام في عصره كانوا لقلتهم يعدون بالاصابع ، وإن نقل معجزاته لا بد وأن ينتهي إلى هؤلاء المؤمنين القليلين في العدد ، فإذا صحت دعوى التواتر في معجزات موسى وعيسى صحت دعوى

١٠٣

التواتر في معجزات نبي الاسلام بطريق أولى. وقد أوضحنا فيما تقدم أن التواتر في معجزات الانبياء السابقين غير ثابت في الازمنة اللاحقة ، ودعواه دعوى باطلة.

الثاني : ان نبي الاسلام (ص) قد أثبت للانبياء السابقين معجزات كثيرة ، ثم ادعى أنه هو أفضل هؤلاء الانبياء جميعا ، وأنه خاتمهم. وهذا يقتضي صدور تلك المعجزات منه على نحو أتم ، فإنه لا يعقل أن يدعي أحد أنه أفضل من غيره ، وهو يعترف بنقصانه عن ذلك الغير في بعض صفات الكمال. وهل يعقل أن يدعي أحد أنه أعلم الاطباء جميعا ، وهو يعترف بأن بعض الاطباء الاخرين قادر على معالجة مرض هو غير قادر عليها؟! إن ضرورة العقل تمنع ذلك. ولهذه الجهة نرى أن جملة من المتنبين الكاذبين قد أنكروا الاعجاز ، وجحدوا كل معجزة للانبياء السابقين ، وصرفوا اهتمامهم إلى تأويل كل آية دلت على وقوع الاعجاز ، حذرا من أن يطالبهم الناس بأمثالها فيستبين عجزهم.

وقد كتب بعض الجهلاء ، والمموهين على البسطاء أن في آيات القرآن ما يدل على نفي كل معجزة للنبي الاعظم (ص) غير القرآن وأن القرآن هو معجزته الوحيدة ليس غير ، وهو حجته على نبوته. ونحن نذكر هذه الايات التي احتجوا بها ، ونذكر وجه احتجاجهم ، ثم نوضح فساد ذلك.

فمن هذه الايات قوله تعالى :

« وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ١٧ : ٥٩ ».

ووجه دلالتها ـ على ما يزعمون ـ أنها ظاهرة في النبي (ص) لم يأت

١٠٤

بآية غير القرآن. وأن السبب في عدم الارسال بالايات هو أن الاولين من الامم السابقة قد كذبوا بالايات التي أرسلت إليهم.

الجواب :

إن المراد بالايات التي نفتها الاية الكريمة ، والتي كذب بها الاولون من الامم هي الايات التي اقترحتها الامم على أنبيائها ، فالاية الكريمة تدل على أن النبي (ص) لم يجب المشركين إلى ما اقترحوه عليه من الايات ، ولا تنفي عنه صدور المعجزة مطلقا ، ويدل على أن المراد هي الايات الاقتراحية أمور :

الاول : ان الايات جمع آية بمعنى العلامة ، وهو جمع معرف بالالف واللام. والوجوه المحتملة في معناه ثلاثة : فإما أن يراد منه جنس الاية الذي يصلح للانطباق على كل فرد من الايات ، ومعنى هذا أن الاية الكريمة تنفي وقوع كل آية تدل على صدق مدعي النبوة ، ولازم هذا أن يكون بعث الرسول لغوا ، إذا لا فائدة في إرساله إذا لم تكن معه بينة تقوم على صدقه ، وأن يكون تكليف الناس بتصديقه ، ولزوم اتباعه تكليفا بما لا يطاق. وأما أن يراد به جميع الايات ، وهذا التوهم أيضا فاسد ، لان إثبات صدق النبي يتوقف على آية ما من الايات ، ولا يتوقف على إرساله بجميع الايات. ولم يقترح المقترحون عليه أن يأتي بجميعها ، فلا معنى لحمل الاية عليه. فلا بد وأن يراد بهذه الاية الممنوعة خصوص آيات معهودة من الايات الالهية.

الثاني : أن تكذيب المكذبين لو صلح أن يكون مانعا عن الارسال بالايات ، لكان مانعا عن الارسال بالقرآن أيضا إذ لا وجه لتخصيص المنع بالايات الاخرى. وقد أوضحنا أن القرآن أعظم المعجزات التي جاء بها الانبياء ، وقد تحدى به النبي (ص) جميع الامم لاثبات نبوته ما دامت الليالي والايام. وهذا يدلنا أيضا على أن الايات الممنوعة قسم خاص وليست مطلق الايات.

١٠٥

الثالث : أن الاية الكريمة صرحت بأن السبب المانع عن الارسال بالايات هو تكذيب الاولين بها ، وهذا من قبيل تعليل عدم الشئ بوجود مانعه. ومن البين أن التعليل بوجود المانع لا يحسن في نظر العقل إلا إذا كان السبب المقتضي لوجود ذلك الشئ موجودا. ولذلك يقبح عند العقلاء أن يعلل عدم احتراق الخشبة ـ مثلا ـ بوجود الرطوبة عليها إذا كانت النار غير موجودة ، وذلك واضح لا يقبل الشك. وإذن فلا بد وأن يكون المقتضي للارسال بالايات موجودا ، ليصح تعليل عدمه بوجود التكذيب. والمقتضي للارسال لا يخلو من أن يكون هي الحكمة الالهية لارشاد العباد وهدايتهم إلى سعادتهم. وأن يكون اقتراح الامة على النبي شيئا من الايات زائدا على المقدار اللازم من الايات لاتمام الحجة. أما إذا كان المقتضي للارسال بالايات هي الحكمة الالهية ، فلا بد من إرسال هذه الايات ، ويستحيل أن يمنع من تأثير الحكمة الالهية شيء لانه يستحيل على الحكيم أن يختار في عمله ما تنافيه حكمته ، سواء في ذلك وجود التكذيب وعدمه ، على أن تكذيب الامم السابقة لو صلح أن يكون مانعا عن تأثير الحكمة الالهية في الارسال بالايات ، لصلح أن يكون مانعا عن إرسال الرسول. وهذا باطل بالضرورة. وخلاف للمفروض أيضا. فتعين أن يكون المقتضي للارسال بالايات هو اقتراح المقترحين. ومن الضروري أن المقترحين إنما يقترحون امورا زائدة على الايات التى تتم بها الحجة ، فإن هذا المقدار من الايات مما يلزم على الله أن يرسل به لاثبات نبوة نبيه ، وما زاد على هذا المقدار من الايات لا يجب على الله أن يرسل به ابتداء ، ولا يجب عليه أن يجيب إليه إذا اقترحه المقترحون. نعم لا يستحيل عليه ذلك إذا اقتضت المصلحة أن يقيم الحجة مرة ثانية وثالثة ، أو أن يجيب المقترحين إلى ما طلبوا.

وعلى هذا فاقتراح المقترحين إنما يكون بعد إتمام الحجة عليهم بما يلزم من الايات ، وتكذيبهم إياها. وإنما كان تكذيب الامم السابقة مانعا عن الارسال

١٠٦

بالايات المقترحة في هذه الامة ، لان تكذيب الايات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذبين.

وقد ضمن الله تعالى رفع العذاب الدنيوي عن هذه الامة إكراما لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعظيما لشأنه. فقد قال الله تعالى :

« وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ٨ : ٣٣ ».

أما أن تكذيب الايات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذبين فلان الاية الالهية إذا كانت مبتدأة كانت متمحضة في إثبات نبوة النبي ، ولم يترتب على تكذيبها أكثر مما يترتب على تكذيب النبي من العقاب الاخروي.

وأما إذا كانت مقترحة كانت كاشفة عن لجاجة المقترح ، وشدة عناده ، إذ لو كان طالبا للحق لصدق بالاية الاولى لانها كافية في إثباته ، ولان معنى اقتراحه هذا أنه قد التزم على نفسه بتصديق النبي إذا أجابه إلى هذا الاقتراح ، فإذا كذب الاية المقترحة بعد صدورها كان مستهزئا بالنبي وبالحق الذي دعا إليه ، وبالاية التي طلبها منه ، ولذلك سمى الله تعالى هذا النوع من الايات آيات التخويف كما في آخر هذه الاية الكريمة ، وإلا فلا معنى لحصر مطلق الايات بالتخويف ، فإن منها ما يكون للرحمة بالعباد وهدايتهم وإنارة سبيلهم.

ومما يدلنا على أن المراد من الايات الممنوعة هي آيات التعذيب والتخويف : ملاحظة مورد هذه الاية الكريمة وسياقها. فإن الاية التي قبها هي قوله تعالى :

« وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ١٧ : ٥٨ ».

١٠٧

وقد ذكرت فيها آية ثمود التي أعقبها نزول العذاب عليهم. وقصتهم مذكورة في سورة الشعراء ، وختمت هذه الاية بقوله تعالى :

« وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ».

وكل هذه القرائن دالة على أن المراد بالايات الممنوعة هي الايات المقترحة التي تستلزم نزول العذاب.

ونحن إذا سبرنا الايات القرآنية يظهر لنا ظهورا تاما لا يقبل التشكيك أن المشركين كانوا يقترحون إنزال العذاب عليهم ، أو يقترحون آيات اخرى نزل العذاب على الامم السابقة بسبب تكذيبها.

فمن القسم الاول قوله تعالى :

« وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٨ : ٣٢. وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ : ٣٣. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ١٠ : ٥٠. وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ١١ : ٨. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ٢٩ : ٥٣ ».

١٠٨

ومن القسم الثاني وقوله تعالى :

« وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ٦ : ١٢٤. فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ٢١ : ٥. فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ٢٨ : ٤٨ ».

ويدلنا على أن نظير هذه الآيات المقترحة قد كذبها الاولون فاستحقوا به نزول العذاب قوله تعالى :

« قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ١٦ : ٢٦. كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ٣٩ : ٢٥ ».

وما أكثر الشواهد على ذلك من الكتاب العزيز. وقد ورد في تفسير الآية عن طريق الشيعة وأهل السنة ما يؤكد هذا الذي استفدناه من ظاهرها.

١٠٩

فعن الباقر عليه‌السلام :

« أن محمدا (ص) سأله قومه أن يأتي بآية فنزل جبريل وقال : إن الله يقول : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون. وكنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم ، فلذلك أخرنا عن قومك الآيات (١).

وعن ابن عباس قال :

« سأل أهل مكة النبي أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا. فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتبي ، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا اهلكوا كما اهلك من قبلهم. قال : بل تستأني بهم فأنزل الله تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات .. » (٢).

وهناك روايات اخرى من أراد الاطلاع عليها فليراجع كتب الروايات وتفسير الطبري.

ومن الآيات التي استدل بها الخصم على نفي المعجزات للنبي (ص) غير القرآن قوله تعالى :

« وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ١٧ : ٩٠ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ

__________________

١ ـ تفسير البرهان ج ١ ص ٦٠٧.

٢ ـ تفسير الطبري ج ١٥ ص ٧٤.

١١٠

فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا: ٩١. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً : ٩٢. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً: ٩٣ ».

ووجه استدلال الخصم بهذه الآيات الكريمة : أن المشركين قد دعوا النبي إلى إقامة المعجزة شاهدة على صدقه بالنبوة ، فامتنع عن ذلك واعترف لهم بالعجز ، ولم يثبت لنفسه إلا أنه بشر ارسل إليهم. فالآيات دالة على نفي صدور المعجزة منه.

الجواب :

أولا : أنا قد أوضحنا للقارئ حال الآيات المقترحة في جواب الاستدلال المتقدم. ولا شك في أن هذه المعجزات التي طلبها المشركون من النبي آيات مقترحة ، وأن هؤلاء المشركين في مقام العناد للحق. ويدلنا على ذلك أمران :

١ ـ أنهم قد جعلوا تصديقهم بالنبي موقوفا على أحد هذه الامور التي اقترحوها ، ولو كانوا غير معاندين للحق لاكتفوا بكل آية تدل على صدقه ، ولم تكن لهذه الامور التي اقترحوها خصوصية على ما سواها من الآيات.

٢ ـ قولهم : أوترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤة وأي معنى لهذا التقييد بإنزال الكتاب أفليس الرقي إلى

١١١

السماء وحده آية كافية في الدلالة على صدقه؟ أو ليست في هذه التشهيات الباردة دلالة واضحة على عنادهم للحق. وتمردهم عليه؟!!.

ثانيا : إن هذه الامور التي اقترحها المشركون في الآيات المتقدمة منها ما يستحيل وجوده ، ومنها ما لا يدل على صدق دعوى النبوة. فلو وجب على النبي (ص) أن يجيب المقترحين إلى ما يطلبونه ، فليس هذا النوع من الامور المقترحة مما تجب إجابته.

وإيضاح هذا : أن الامور المقترحة على النبي (ص) المذكورة في هذه الآيات ستة : ثلاثة منها مستحيلة الوقوع ، وثلاثة منها غير مستحيلة ، ولكنها لا تدل على صدق المدعي للنبوة (١). فالثلاثة المستحيلة :

أولها : سقوط السماء عليهم كسفا. فان هذا يلازم خراب الارض ، وهلاك أهلها ، وهو إنما يكون في آخر الدنيا. وقد أخبرهم النبي (ص) بذلك ، ويدل عليه قولهم : كما زعمت وقد ذكر هذا في مواضع عديدة من القرآن الكريم. منها قوله تعالى :

« إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ٨٤ : ١. إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ٨٢ : ١. إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء ٣٤ : ٩ ».

وإنما كان ذلك مستحيلا ، لان وقوعه قبل وقته خلاف ما تقتضيه الحكمة

__________________

١ ـ انظر الحديث الكامل ـ الذي يقص محاورة قريش مع النبي (ص) في فرض هذه الامور المستحيلة عليه ، محاولة تعجيزه وتبكيته ـ في قسم التعليقات برقم (٦).

١١٢

الالهية من بقاء الخلق ، وإرشادهم إلى كمالهم. ويستحيل على الحكيم أن يجري في أعماله على خلاف ما تقتضيه حكمته.

ثانيها : أن يأتي بالله بأن يقابلوه ، وينظروا إليه. وذلك ممتنع لان الله لا تدركه الابصار ، وإلا لكان محدودا في جهة ، وكان له لون وله صورة. وجميع ذلك مستحيل عليه تعالى.

ثالثها : تنزيل كتاب من الله. ووجه استحالة ذلك أنهم أرادوا تنزيل كتاب كتبه الله بيده ، لا مجرد تنزيل كتاب ما ، وإن كان تنزيله بطريق الخلق والايجاد ، لانهم لو أرادوا تنزيل كتاب من الله بأي طريق اتفق لم يكن وجه معقول لطلبهم إنزاله من السماء ، وكان في الكتاب الارضي ما في الكتاب السماوي من الفائدة والغرض ، ولا شك ان هذا الذي طلبوه مستحيل لانه يستلزم أن يكون الله جسما ذا جارحة. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وأما الامور الثلاثة الاخرى فهي وإن كانت غير مستحيلة ، لكنها لا تدل على صدق دعوى النبوة. فإن فجر الينبوع من الارض ، أو كون النبي (ص) مالكا لجنة من نخيل وعنب مفجرة الانهار. أو كونه يملك بيتا من زخرف ، امور لا ترتبط بدعوى النبوة ، وكثيرا ما يتحقق أحدها لبعض الناس ثم لا يكون نبيا. بل فيهم من يتحقق له جميع هذه الامور الثلاثة ، ثم لا يحتمل فيه أن يكون مؤمنا ، فضلا عن أن يكون نبيا ، وإذا لم ترتبط هذه الامور بدعوى النبوة ، ولم تدل على صدقها كان الاتيان بها في مقام الاحتجاج عبثا ، لا يصدر من نبي حكيم.

وقد يتوهم متوهم أن هذه الامور الثلاثة لا تدل على صدق النبوه ، إذا وجدت من أسباب عادية مألوفة. أما إذا وجدت بأسباب غير عادية فلا ريب أنها تكون آيات إلهية ، وتدل على صدق النبوة.

( البيان ـ ٨ )

١١٣

الجواب :

إن هذا في نفسه صحيح ، ولكن مطلوب المشركين أن تصدر هذه الاشياء ولو من أسبابها العادية ، لانهم استبعدوا أن يكون الرسول الالهي فقيرا لا يملك شيئا.

« وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ٤٣ : ٣١ ».

فطلبوا من النبي (ص) أن يكون ذا مال كثير. ويدلنا على ذلك أنهم قيدوا طلبهم بأن تكون الجنة والبيت من الزخرف للنبي دون غيره ، ولو أرادوا صدور هذه الامور على وجه الاعجاز لم يكن لهذا التقييد وجه صحيح ، بل ولا وجه لطلب الجنة أو البيت ، فإنه يكفي إيجاد حبة من عنب أو مثقال من ذهب.

وأما قولهم : حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا فلا يدل على أنهم يطلبون الينبوع لهم لا للنبي وإنما يدل على أنهم يطلبون منه فجر الينبوع لاجلهم ، وبين المعنيين فرق واضح. ولم يظهر النبي لهم عجزه عن الاتيان بالمعجزة كما توهمه هؤلاء القائلون. وإنما أظهر بقوله : سبحان ربي أن الله تعالى منزه عن العجز ، وأنه قادر على كل أمر ممكن ، وأنه منزه عن الرؤية والمقابلة. وعن أن يحكم عليه بشئ من اقتراح المقترحين وأن النبي بشر محكوم بأمر الله تعالى ، والامر كله لله وحده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

ومن الآيات التي استدل بها القائلون بنفي المعجزات للنبي عدا القرآن قوله تعالى :

١١٤

« وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ١٠ : ٢٠ ».

ووجه الاستدلال : أن المشركين طالبوا النبي بآية من ربه ، فلم يذكر لنفسه معجزة. وأجابهم بأن الغيب لله ، وهذا يدل على أنه لم يكن له معجزة غير ما أتى به من القرآن.

وبسياق هذه الآية آيات اخرى تقاربها في المعنى ، كقوله تعالى :

« وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ١٣ : ٧. وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٦ : ٣٧ ».

الجواب :

أولا : هو ما تقدم. فإن هؤلاء المشركين وغيرهم لم يطلبوا من النبي إقامة آية ما من الآيات التي تدل على صدقه ، وإنما اقترحوا عليه إقامة آيات خاصة. وقد صرح القرآن بها في مواضع كثيره ، منها ما تقدم.

ومنها قوله تعالى :

« وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ٦ : ٨. وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ١٥ : ٦. لَّوْ مَا تَأْتِينَا

١١٥

بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ: ٧. وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ٢٥ : ٧. أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا : ٨ ».

وقد علمنا أن الآيات المقترحة لا تجب الاجابة إليها ، ويدلنا على أن المشركين إنما يريدون الاتيان بما اقترحوه من الآيات : أنهم لو أرادوا من النبي أن يأتي بآية ما ، تدل على صدقه لاجابهم على الاقل بالاتيان بالقرآن الذي تحدى به في كثير من مواضعه. نعم يظهر من الآيات المتقدمة التي استدل بها الخصم ، ومما يشبهها من الآيات أمران :

١ ـ إن تحدي النبي (ص) لعامة البشر إنما كان بالقرآن خاصة من بين سائر معجزاته. وقد أوضحنا فيما سبق أن الامر لا بد وأن يكون كذلك ، لان النبوة الابدية العامة تستدعي معجزة خالدة عامة ، وهي منحصرة بالقرآن ، وليس في سائر معجزاته (ص) ما يتصور له البقاء والاستمرار.

٢ ـ إن الاتيان بالمعجزة ليس اختياريا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما هو رسول يتبع في ذلك اذن الله تعالى ، ولا دخل لاقتراح المقترحين في شيء من ذلك. وهذا المعنى ثابت لجميع الانبياء. ويدل عليه قوله تعالى :

« وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ١٣ : ٣٨. وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا

١١٦

بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ٤٠ : ٧٨ ».

ثانيا : ان في القرآن أيضا آيات دالة على صدور الآيات من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

منها قوله تعالى :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ٥٤ : ١. وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ: ٢. وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ٦ : ١٢٤).

ويدلنا على أن المراد من الآية هنا هي المعجزة : أنه عبر برؤية الآية ، ولو كان المراد هو آيات القرآن لكان الصحيح أن يعبر بالسماع دون الرؤية وأنه ضم إلى ذلك انشقاق القمر. وأنه نسب إلى الآية المجئ دون الانزال وما يشبهه. بل وفي قولهم : سحر مستمر دلالة على تكرر صدور المعجزة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا : فلو سلمنا دلالة الآيات السابقة على نفي صدور المعجزة عنه ، فلا بد وأن يراد من ذلك نفيه في زمان نزول هذه الآيات الكريمة ، وما بمعناها ، ولا يمكن أن يراد منه نفي الآية حتى بعد ذلك.

وحاصل جميع ما ذكرناه في هذا المبحث امور :

١ ـ إنه لا دلالة لشئ من آيات القرآن على نفي المعجزات الاخرى سوى القرآن ، بل وفي جملة من الآيات دلالة على وجود هذه المعجزات التي يدعي الخصم نفيها.

١١٧

٢ ـ إن إقامة المعجزة ليست أمرا اختياريا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن ذلك بيد الله سبحانه.

٣ ـ إن اللازم في دعوى النبوة هو إقامة المعجزة التي تتم بها الحجة ويتوقف عليها التصديق. وأما الزائدة على ذلك ، فلا يجب على الله إظهارها ولا تجب على النبي الاجابة إليها.

٤ ـ إن كل معجزة يكون فيها هلاك الامة وتعذيبها ، فهي ممنوعة في هذه الامة. ولا تسوغ إقامتها باقتراح الامة ، سواء أكان الاقتراح من الجميع أم كان من البعض.

٥ ـ إن المعجزة الخالدة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي تحدى بها جميع الامم إلى يوم القيامة ، إنما هي كتاب الله المنزل إليه ، وأما غيره من المعجزات ، فهي وإن كثرت إلا أنها ليست معجزة باقية ، وهي في هذه الناحية تشارك معجزات الانبياء السابقين.

بشارة التوراة والانجيل بنبوة محمد :

صرح القرآن المجيد في جملة من آياته الكريمة أن موسى وعيسى عليهما‌السلام قد بشرا برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن هذه البشارة مذكورة في التوراة والانجيل. فقد قال تعالى :

« الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ٧ : ١٥٧. وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ

١١٨

التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ٦١ : ٦ ».

وقد آمن كثير من اليهود والنصارى بنبوته في زمن حياته وبعد مماته. وهذا يدلنا دلالة قطعية على وجود هذه البشارة في الكتابين المذكورين في زمان دعوته. ولو لم تكن هذه البشارة مذكورة فيهما ، لكان ذلك دليلا كافيا لليهود والنصارى على تكذيب القرآن في دعواه ، وتكذيب النبي في دعوته ، ولانكروا عليه أشد الانكار. فيكون إسلام الكثير منهم في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد مماته ، وتصديقهم دعوته دليلا قطعيا على وجود هذه البشارة في ذلك العصر. وعلى هذا فإن الايمان بموسى وعيسى عليهما‌السلام يستلزم الايمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير حاجة إلى وجود معجزة تدل على صدقه.

نعم يحتاج إلى ذلك بالنسبة إلى الامم الاخرى التي لم تؤمن بموسى وعيسى عليهما‌السلام وبكتابيهما. وقد عرفت بالادلة المتقدمة أن القرآن المجيد هو المعجزة الباقية والحجة الالهية على صدق النبي الاكرم ، وصحة دعواه ، وأن غير القرآن ـ من معجزاته الكثيرة المنقولة بالتواتر الاجمالي ـ أولى بالتصديق من معجزات سائر الانبياء المتقدمين.

١١٩
١٢٠