البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٨
الصفحات: ٥٥٧

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوعِظَةٌ لِلمُتَّقِينَ

٥
٦

المَدخَل

٧

بحوث تحليلية في معارف القرآن وعظمته ، وأسراره الكونية والتشريعية ، ومناهجه ، واصول تفسيره ، ونواحي إعجازه وميزاته ، ومختلف قراءاته ، وصيانته عن النقص والتحريف ، وسموه عن الاوهام والتخرصات والطعون.

٨

خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين. ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون.

٩

« وأفضل صلوات الله وأكمل تسليماته على رسوله الذي أرسله » بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .. النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

« وعلى آله » المصطفين الاخيار. الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم. رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون.

« واللعنة الدائمة على أعدائهم » الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون. يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.

١٠

مقدمة الطبعة الاولى

لماذا وضعت هذا التفسير؟

كنت ولعا منذ أيام الصبا بتلاوة كتاب الله الاعظم ، واستكشاف غوامضه واستجلاء معانيه. وجدير بالمسلم الصحيح ، بل بكل مفكر من البشر أن يصرف عنايته إلى فهم القرآن ، واستيضاح أسراره ، واقتباس أنواره ، لانه الكتاب الذي يضمن إصلاح البشر ، ويتكفل بسعادتهم وإسعادهم. والقرآن مرجع اللغوي ، ودليل النحوي ، وحجة الفقيه ، ومثل الاديب ، وضالة الحكيم ، ومرشد الواعظ ، وهدف الخلقي ، وعنه تؤخذ علوم الاجتماع والسياسة المدنية ، وعليه تؤسس علوم الدين ، ومن إرشاداته تكتشف أسرار الكون ، ونواميس التكوين. والقرآن هو المعجزة الخالدة للدين الخالد ، والنظام السامي الرفيع للشريعة السامية الرفيعة.

أولعت منذ صباي بتلاوته ، واستيضاح معانيه ، واستظهار مراميه ، فكان هذا الولع يشتد بي كلما استوضحت ناحية من نواحيه ، واكتشفت سرا من أسراره ، وكان هذا الولع الشديد باعثا قويا يضطرني إلى مراجعة كتب التفسير ، وإلى سبر أغوارها. وهنا رأيت ما أدهشني وحيرني :

رأيت صغارة الانسان في تفسيره وتفكيره أمام عظمة الله في قرآنه.

رأيت نقص المخلوق في تناهيه وخضوعه أمام كمال الخالق في وجوبه وكبريائه.

١١

رأيت القرآن يترفع ويرتفع ، ورأيت هذه الكتب تصغر وتتصاغر.

رأيت الانسان يجهد نفسه ليكتشف ناحية خاصة أوناحيتين ، فيحرر ما اكتشفه في كتاب ، ثم يسمي ذلك الكتاب تفسيرا يجلو غوامض القرآن ، ويكشف أسراره ، وكيف يصح في العقول أن يحيط الناقص بالكامل.

على أن هؤلاء العلماء مشكورون في سعيهم ، مبرورون في جهادهم. فإن كتاب الله ألقى على نفوسهم شعاعا من نوره ، ووضحا من هداه ، وليس من الانصاف أن نكلف أحدا ـ وإن بلغ ما بلغ من العلم والتبحر ـ أن يحيط بمعاني كتاب الله الاعظم ، ولكن الشئ الذي يؤخذ على المفسرين أن يقتصروا على بعض النواحي الممكنة ، ويتركوا نواحي عظمة القرآن الاخرى ، فيفسره بعضهم من ناحية الادب أو الاعراب ، ويفسره الآخر من ناحية الفلسفة ، وثالث من ناحية العلوم الحديثة أو نحو ذلك ، كأن القرآن لم ينزل إلا لهذه الناحية التي يختارها ذلك المفسر ، وتلك الوجهة التي يتوجه إليها.

وهناك قوم كتبوا في التفسير غير أنه لا يوجد في كتبهم من التفسير إلا الشئ اليسير ، وقوم آخرون فسروه بآرائهم ، أو اتبعوا فيه قول من لم يجعله الله حجة بينه وبين عباده.

على المفسر : أن يجري مع الآية حيث تجري ، ويكشف معناها حيث تشير ، ويوضح دلالتها حيث تدل. عليه أن يكون حكيما حين تشتمل الآية على الحكمة ، وخلقيا حين ترشد الآية إلى الاخلاق ، وفقيها حين تتعرص للفقه ، واجتماعيا حين تبحث في الاجتماع ، وشيئا آخر حين تنظر في أشياء أخر.

على المفسر : أن يوضح الفن الذي يظهر في الآية ، والادب الذي يتجلى بلفظها ، عليه أن يحرر دائرة لمعارف القرآن إذا أراد أن يكون مفسرا. والحق أني لم أجد من تكفل بجميع ذلك من المفسرين.

من أجل ذلك صمت على وضع هذا الكتاب في التفسير ، آملا من الحق تعالى أن يسعفني بما أملت ، ويعفو عني فيما قصرت. وقد التزمت في كتابي هذا أن أجمع فيه ما يسعني فهمه من علوم القرآن التي تعود إلى المعنى. أما علوم

١٢

أدب القرآن فلست أتعرض لها غالبا لكثرة من كتب فيها من علماء التفسير ، كالشيخ الطوسي في ( التبيان ) والطبرسي في ( مجمع البيان ) والزمخشري في ( الكشاف ). نعم قد أتعرض لهذه الجهات إذا أوجب البحث علي أن أتعرض لها أو رأيت جهة مهمة أغفلها علماء التفسير وقد أتعرض لبعض الجهات المهمة وإن لم يغفلها العلماء.

وسيجد القارئ أني لا أحيد في تفسيري هذا عن ظواهر الكتاب ومحكماته وما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة ، من ذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما استقل به العقل الفطري الصحيح الذي جعله الله حجة باطنة كما جعل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام حجة ظاهرة (١).

وسيجد القارئ أيضا أني كثيرا ما أستعين بالآية على فهم اختها ، واسترشد القرآن إلى إدراك معاني القرآن ، ثم أجعل الاثر المروي مرشدا إلى هذه الاستفادة.

وهنا مباحث مهمة لها صلة وثقى بالمقصود تلقي أضواء على نواح شتى قدمتها لتكون :

مدخل التفسير :

وهو يشتمل على موضوعات علمية تتصل بالقرآن من حيث عظمته وإعجازه ومن حيث صيانته عن التحريف ، وسلامته من التناقض ، والنسخ في تشريعاته ، وما إلى ذلك من مسائل علمية ينبغي تصفيتها كمدخل لفهم القرآن ومعرفته ، والبدء بتفسيره على أساس علمي سليم.

واليه جل شأنه ابتهل أن يمدني بالتوفيق ، ويلحظ عملي بعين القبول. انه حميد مجيد.

المؤلف

__________________

١ ـ اصول الكافي كتاب العقل والجهل الرواية ١٢.

١٣
١٤

فضل القرآن

١٥

عجز الانسان عن وصف القرآن. من هم أعرف الناس بمنزلته. حديث الرسول في فضل القرآن. صيانة القرآن من التلاعب. عاصميته للامة من الاختلاف. خلوده وشموله. فضل قراءة القرآن. الاحاديث الموضوعة في قراءته. التدبر في القرآن. معرفة تفسيره. حث الكتاب ، والسنة ، وحكم العقل على التدبر في القرآن.

١٦

من الخير أن يقف الانسان دون ولوج هذا الباب ، وأن يتصاغر أمام هذه لعظمة ، وقد يكون الاعتراف بالعجز خيرا من المضي في البيان. ماذا يقول الواصف في عظمة القرآن ، وعلو كعبه؟ وماذا يقول في بيان فضله ، وسمو مقامه؟ وكيف يستطيع الممكن أن يدرك مدى كلام الواجب؟ وماذا يكتب لكاتب في هذا الباب؟ وماذا يتفؤه به الخطيب؟ وهل يصف المحدود إلا محدودا؟.

وحسب القرآن عظمة ، وكفاه منزلة وفخرا أنه كلام الله العظيم ، ومعجزة نبيه الكريم ، وأن آياته هي المتكفلة بهداية البشر في جميع شؤونهم وأطوارهم في أجيالهم وأدوارهم ، وهي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل :

« إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ١٧ : ٩. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ١٤ : ١. هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ٣ : ١٣٨ ».

( البيان ـ ٢ )

١٧

وقد ورد في الاثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه (١).

نعم من الخير أن يقف الانسان دون ولوج هذا الباب ، وأن يكل بيان فضل القرآن إلى نظراء القرآن ، فإنهم أعرف الناس بمنزلته ، وأدلهم على سمو قدره ، وهم قرناؤه في الفضل ، وشركاؤه في الهداية ، أما جدهم الاعظم فهو الصادع بالقرآن ، والهادي إلى أحكامه ، والناشر لتعاليمه.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » (٢).

فالعترة هم الادلاء على القرآن ، والعالمون بفضله. فمن الواجب أن نقتصر على أقوالهم ، ونستضئ بإرشاداتهم. ولهم في فضل القرآن أحاديث كثيرة جمعها شيخنا المجلسي في ( البحار ) الجزء التاسع عشر منه. ونحن نكتفي بذكر بعض ما ورد :

روى الحارث الهمداني (٣) قال :

« دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي فقلت : ألا ترى أن أناسا يخوضون في الاحاديث في المسجد؟ فقال : قد فعلوها؟ قلت : نعم ، قال : أما إني قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

__________________

١ ـ بحار الانوار ج ١٩ ص ٦ ، صحيح الترمذي بشرح ابن العربي ج ١١ ص ٤٧ ، أبواب فضائل القرآن.

٢ ـ رواه الترمذي ج ١٣ ص ٢٠٠ ، ٢٠١ مناقب أهل البيت. راجع بقية المصادر في قسم التعليقات رقم (١).

٣ ـ انظر ترجمة الحارث وافتراء الشعبي عليه في قسم التعليقات رقم (٢).

١٨

ستكون فتن ، قلت : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله ، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل ، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، فهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الاهواء ، ولا تلتبس به الالسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا ، هو الذي من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به اجر ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ، خذها اليك يا أعور » (١).

وفي الحديث مغاز جليلة يحسن أن نتعرض لبيان أهمها. يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فيه نبأ ما كان قبلكم. وخبر ما بعدكم والذي يحتمل في هذه الجملة وجوه :

الاول : أن تكون إشارة إلى اخبار النشأة الاخرى من عالمي البرزخ والحساب والجزاء على الاعمال. ولعل هذا الاحتمال هو الاقرب ، ويدل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته : فيه نبأ من كان قبلكم والحكم فيما بينكم وخبر معادكم (٢).

الثاني : أن تكون إشارة إلى المغيبات التي أنبأ عنها القرآن ، مما يقع في الاجيال المقبلة.

__________________

١ ـ هكذا في سنن الدارمي ج ٢ ص ٤٣٥ ، كتاب فضائل القرآن ومع اختلاف يسير في ألفاظه في صحيح الترمذي ج ١١ ص ٣٠ أبواب فضائل القرآن. وفي بحار الانوار ج ٩ ص ٧ عن تفسير العياشي.

٢ ـ بحار الانوار ج ١٩ ص ٦.

١٩

الثالث : أن يكون معناها أن حوادث الامم السابقة تجري بعينها في هذه الامة ، فهي بمعنى قوله تعالى : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ) ٨٤ : ١٩ ، وبمعنى الحديث المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لتركبن سنن من قبلكم (١).

أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تركه من جبار قصمه الله فلعل فيه ضمانا بحفظ القرآن عن تلاعب الجبارين ، بحيث يؤدي ذلك إلى ترك تلاوته وترك العمل به ، والى جمعه من أيدي الناس كما صنع بالكتب الالهية السابقة (٢) فتكون إشارة إلى حفظ القرآن من التحريف. وسنبحث عنه مفصلا. وهذا أيضا هو معنى قوله في الحديث : لا تزيغ به الاهواء بمعنى لا تغيره عما هو عليه ، لان معاني القرآن قد زاغت بها الاهواء فغيرتها. وسنبين ذلك مفصلا عند تفسير الآيات إن شاء الله تعالى.

وأشار الحديث إلى أن الامة لو رجعوا إلى القرآن في خصوماتهم ، وما يلتبس عليهم في عقائدهم وأعمالهم لاوضح لهم السبيل. ولوجدوه الحكم العدل ، والفاصل بين الحق والباطل.

نعم ، لو أقامت الامة حدود القرآن ، واتبعت مواقع إشاراته وإرشاداته ، لعرفت لحق وأهله ، وعرفت حق العترة الطاهرة الذين جعلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرناء الكتاب ، وأنهم الخليفة الثانية على الامة من بعده (٣) ولو استضاءت الامة بأنوار معارف القرآن ، لامنت العذاب الواصب ، ولما تردت في العمى ، ولا غشيتهم حنادس الضلال ، ولا عال سهم من فرائض الله ، ولا زلت قدم عن الصراط السوي ، ولكنها أبت إلا الانقلاب على الاعقاب ، واتباع الاهواء ، والانضواء

__________________

١ ـ ورد هذا اللفظ في كنز العمال ج ٦ ص ٤٠ ، من حديث سهل بن سعد. انظر بقية المصادر في قسم التعليقات رقم (٣).

٢ ـ راجع الهدى إلى دين المصطفى ج ١ ص ٣٤ ، لآية الله الحجة الشيخ محمد جواد البلاغي.

٣ ـ تقدم مصادر حديث الثقلين في ص ٢٦ رقم (٢) ، وفي بعض نصوصه تصريح بأن القرآن والعترة خليفتا الرسول ص.

٢٠