جواهر الكلام - ج ٣٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

فما حد العجز؟ قال : إن قضاتنا يقولون : إن عجز المكاتب أن يؤخر النجم إلى النجم الآخر حتى يحول عليه الحول ، قلت : فما تقول أنت؟ قال : لا ولا كرامة ، ليس له أن يؤخر نجما عن أجله إذا كان في شرطه » إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة في كون بناء الكتابة على ذلك.

ولعله إليه يرجع الاستدلال على ذلك بإيقاع السلف من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ، فإنهم لا يعقدون الكتابة إلا على عوض مؤجل على وجه يقتضي عدم جواز غيره ، فكان إجماعا ، فلا يرد حينئذ عدم عدم اقتضاء ذلك بطلان الحال ، إذ عدم استعمالهم له أعم من البطلان.

كما أن ما ذكر أيضا من الاستدلال بأنه على تقدير الحلول يتوجه المطالبة في الحال وهو عاجز عن الأداء حينئذ ، فيكون كالسلم في شي‌ء لا يوجد عند الحلول ، فلا بد من ضرب أجل له يوجد فيه لئلا يطرق إليه الجهالة الداخلة في الغرر المنهي عنه (١) فيرجع إلى إرادة عدم ثبوت شرعية الحال الذي لا يتمكن منه العبد غالبا ، واحتماله في بعض الأفراد على بعض الأحوال خصوصا إذا كان مبعضا وكوتب على الجزء الآخر لا ينافي حكمه شرعية الأجل الذي تخرج به المعاملة عن كونها سفهية وعن غير المقدور عليها ونحو ذلك.

فما عن الشيخ في الخلاف وابن إدريس ويحيى بن سعيد من عدم اعتبار الأجل للإطلاق لا يخلو من نظر وإن اختاره الفاضل في القواعد وثاني الشهيدين في المسالك ، بل الأولى اعتبار أجل يتمكن فيه من أداء المال عادة ، فلا يكفي غيره على الأحوط ، والله العالم.

ولا خلاف في أنه يفتقر ثبوت حكمها إلى الإيجاب والقبول ولو على جهة المعاطاة كغيرها من العقود بناء على عموم شرعيتها ، وإن كان لا يخلو جريان المعاطاة هنا من إشكال لعدم ثبوت سيرة عليها ، نعم أقواه الثبوت عند بعض ، للصدق عرفا وإن كان فيه ما فيه ، كما تقدم في نظائره.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٥ ص ٣٣٨.

٢٦١

وكيف كان ف يكفي في عقد المكاتبة أن يقول كاتبتك مع تعيين الأجل والعوض ويقول العبد : « قبلت » وهل يفتقر إلى قوله فإذا أديت فأنت حر مع نية ذلك في إيجاب المكاتبة؟ قيل والقائل الشيخ في محكي الخلاف : نعم بل هو الظاهر من كلام ابن إدريس ، لاشتراك لفظ المكاتبة بين المراسلة والمخارجة وبين المكاتبة الشرعية ، فلا بد من مائز باللفظ يخرجها عن الاشتراك إلى الصريح.

وقيل والقائل هو في المبسوط والأكثر بل جعله في الأول هو مقتضي مذهبنا بل تكفي النية مع العقد ، فإذا أدى عتق سواء نطق بالضميمة أو أغفلها وهو أشبه بأصول المذهب وقواعده ، لأصالة عدم الاشتراط بعد دلالة إنشاء عقد المكاتبة الذي غايته ذلك عليه ، بل هو كغيره من الغايات المترتبة على العقود التي من المعلوم عدم وجوب ذكرها ، بل المتجه عدم الاحتياج إلى نية ذلك وإخطاره في البال ، للاكتفاء بالإنشاء المزبور ، لكونه صريحا في ذلك ، وإلا لم يجز حتى مع النية ، بناء على عدم جواز الكناية في العقد وإن كان قد تكرر منا ذكر الاشكال فيه باقتضاء إطلاق الأدلة جواز العقد باللفظ الحقيقي والمجازي ، إذ ليس هو إلا كغيره من المقاصد التي تبرز بهما ، كما تقدم ذلك منا غير مرة.

وأصل الخلاف في هذه المسألة إنما هو من الشافعي وأبي حنيفة ، وأوجب الأول التصريح باللفظ المزبور ، ولم يكتف بنيته ، كما لا تكفي نية الإيجاب عن التصريح بما يدل عليه ، واكتفى الثاني بلفظ « كاتبتك » عن غيره ، لأنه صريح في ذلك : ضرورة كون المراد من اللفظ المستعمل في إيجاب العقد ما يقتضي الحرية بعد الأداء ، كما أن المراد منه على فرض كونها بيعا معنى « بعتك » وعلى فرض كونها عتقا بصفة أنت حر بعد أدائك ، واستعمال المكاتبة بمعنى المراسلة والمخارجة غير قادح في الصراحة عند إرادة إنشاء عقد المكاتبة بها ، بل لعل ألفاظ العقود والإيقاعات جميعها كذلك ، إذ مع قطع النظر عن الإتيان بها حال إرادة‌

٢٦٢

الإنشاء لا تدل على العقد المخصوص ولا الإيقاع كذلك ، لأنها مشتركة بين الإخبار والإنشاء مثلا إلا أنها صريحة في معناها في مقام الإنشاء.

وربما يؤيد ما ذكرنا التأمل فيما تسمعه من النصوص (١) الكثيرة المشتملة على اشتراط الرد في الرق مع العجز الظاهرة في اقتضاء المكاتبة الحرية بقدر ما أدى مع عدم الشرط المزبور ، بل كاد يكون صريح بعضها الاجتزاء بقول : « كاتبتك » مع ذكر الأجل والعوض ، بل هي ظاهرة في كون ذلك من مفهوم المكاتب والمكاتبة ، بل من مفهوم كاتبتك المستعملة في إنشاء العقد إن لم يرد منها التحرير بعد الأداء ، فلا ريب في إرادة جعلتك مكاتبا فيها ، والنصوص المزبورة ظاهرة في أن المكاتب إن لم يشترط عليه الرد في الرق مع العجز تحرر منه بقدر ما أدى ، ودعوى اعتبار قول : « فإذا أديت فأنت حر » مع قول : « كاتبتك » وذكر الأجل والعوض في لحوق وصف المكاتب له ظاهرة الفساد ، ضرورة صراحة كل صيغة مشتقة من اسم المعاملة الخاصة في تمام معناها ، كما في « بعت » و « صالحت » و « أنكحت » وغيرها.

فمن الغريب ميل الفخر وتلميذه الشهيد في نكت الإرشاد إلى اعتبار اللفظ المخصوص. مضافا إلى الصيغة المشتملة على ذكر الأجل والعوض ، بل ظاهر الثاني منهما أن ذلك من تتمة الإيجاب ، والله العالم.

وكيف كان فلا خلاف بيننا في أن الكتابة قسمان : مشروطة ومطلقة وفي أن المطلقة أن يقتصر على العقد وذكر الأجل والعوض والنية بالمعنى الذي تقدم والمشروطة أن يقول مع ذلك : « فان عجزت فأنت رد في الرق » وحينئذ فمتى عجز كان للمولى رده رقا ، ولا يعيد عليه ما أخذ‌ قال أبو جعفر عليه‌السلام في صحيح ابن مسلم (٢) : « إن المكاتب إذا أدى شيئا أعتق بقدر ما أدى إلا أن يشترط مواليه إن عجز فهو مردود ، فلهم شرطهم » وفي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ـ ٢.

٢٦٣

صحيحه الآخر (١) عنه عليه‌السلام أيضا « في مكاتب شرط عليه إن عجز أن يرد في الرق ، قال : المسلمون عند شروطهم » وقال الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (٢) « في المكاتب إذ أدى بعض مكاتبته إن الناس كانوا لا يشترطون وهم اليوم يشترطون ، والمسلمون عند شروطهم ، فان كان شرط عليه إن عجز رجع ، وإن لم يشترط عليه لم يرجع » ونحوه صحيحه الآخر (٣) عنه عليه‌السلام أيضا‌ وفي خبره الآخر (٤) عنه عليه‌السلام أيضا في « المكاتب يكاتب ويشترط عليه مواليه أنه إن عجز فهو مملوك ، ولهم ما أخذوا منه ، قال : يأخذه مواليه بشرطهم » وفي خبر القاسم بن سليمان (٥) عنه عليه‌السلام أيضا « أن عليا عليه‌السلام كان يستسعى المكاتب ، إنهم لم يكونوا يشترطون إن عجز فهو رقيق ، قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لهم شروطهم » إلى غير ذلك من النصوص التي يمر عليك بعضها.

خلافا للعامة ، فليست عندهم إلا قسما واحدا ، وهو المشروط عندنا ، فلا يعتق إلا بأداء جميع المال ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٦) « المكاتب عبد ما بقي عليه درهم » المحمول على صورة الشرط ، وإليه أومئ في النصوص السابقة التي منها يعلم أيضا طرح‌ خبر جابر (٧) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن المكاتب يشترط عليه إن عجز فهو رد في الرق ، فعجز قبل أن يؤدى شيئا فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لا يرد في الرق حتى بمضي ثلاث سنين ، ويعتق منه بمقدار ما أدى ، فإذا أدى ضربا فليس لهم أن يردوه في الرق » أو حمله على ما لا ينافيها ، وكذا غيره.

وعلى كل حال فقد ظهر لك الفرق نصا وفتوى بين المطلقة والمشروطة بانعتاق قدر ما يؤدي في الاولى وعدمه في الثانية. وأما اشتراكهما ففي أكثر الأحكام.

بل في المسالك وغيرها ممن تأخر عنها اشتراكهما في الفسخ بالعجز أيضا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٩.

(٦) سنن البيهقي ج ١٠ ص ٣٢٤.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١٤.

٢٦٤

قال : « إذا عجز المكاتب عن مال الكتابة أو بعضه جاز للمولى الفسخ في الجملة ، لكن إن كانت مشروطة رجع رقا بالعجز ولو عن درهم من آخر المال ، وإن كانت مطلقة وكان عجزه عن النجم الأول فكذلك ، وإن كان عن غيره أو عن بعضه بعد أن أدى شيئا أفاد الفسخ عود ما بقي منه واستقر عتق مقدار ما أدي ، فاحتيج إلى معرفة العجز المسوغ للفسخ في القسمين ، وإن كان مقتضى عبارة المصنف والأكثر أن البحث عن عجز المشروطة خاصة ».

قلت : لعل وجهه عدم دليل على اقتضائه الفسخ في المطلقة التي لا يكفي في ثبوت ذلك فيها بمجرد تخلف الأداء عن النجم مطلقا أو إلى نجم آخر ، وإلا لاقتضى ذلك في النسيئة في البيع مثلا ، ضرورة عدم صدق الشرط على مثله كي يتسلط على الخيار بعدم الوفاء نحو غيره من الشرائط ، بل هو من توابع الثمن الذي هو ركن المعاملة المقتضية لتسليمه لا أنه مستحق بالشرط ، وإلا لاقتضى الفسخ فيها على وجه يعود جميعه رقا ، كما في غيره من الشرائط الموجبة للفسخ بعدم الوفاء بها ، وكان العامة توهموا ذلك فجعلوا القسمين قسما واحدا ، لكنه كما ترى لا شرطية في المطلقة بخلافه في المقيدة ، فتأمل جيدا فإنه ربما يأتي لذلك مزيد تحقيق.

وكيف كان ف حد العجز وعلامته في المشروطة كما في النهاية أن يؤخر نجما إلى نجم ويجتمع مالان على المملوك ، أو يعلم من حاله العجز عن فك نفسه وإن لم يؤخر نجما إلى آخر ، وتبعه ابن البراج ، بل في المسالك نسبته إلى أتباعه أيضا ، بل قال : سواء كان ذلك التأخير بسبب العجز عنه أو بالمطل أو بالغيبة بغير إذن المولى ، وإطلاق اسم العجز على هذا الشق مجاز باعتبار قسيمه ولمشاركته العجز في المعنى.

وقيل والقائل المفيد والشيخ في الاستبصار وابن إدريس ، بل نسب إلى كثير من المتأخرين : هو أن يؤخر نجما عن محله بل في المسالك « سواء‌

٢٦٥

بلغ التأخير نجما آخر أم لا ، وسواء علم من حاله العجز أم لا ، حتى لو كان قادرا على الأداء فمطل به جاز الفسخ إذا أخره عن وقت حلوله ولو قليلا » وإن كان فيه بل وفي السابق أيضا عدم صدق العجز في صورة المماطلة.

وعبارة المفيد لا تقتضي ذلك ، قال : « إن اشترط في الكتاب أنك إن عجزت عن الأداء أو أبطأت به رجعت عبدا فعجز عن الأداء بعد حلول الأجل أو أبطأ بالأداء وقد حل الأجل كان عبدا على حاله قبل المكاتبة » وهي كالصريحة في اشتراط البطء كالعجز ، لأنه مع الاقتصار على الآخر يحصل الحكم بالبطء ، فتأمل.

وعن الصدوق ره « إن كاتب رجل عبدا وشرط عليه إن عجز فهو رد في الرق فله شرطه ، فينتظر المكاتب ثلاثة أنجم ، فإن هو عجز رد رقا » وقال ابن إدريس على ما حكي عنه : « وحد العجز هو أن يؤخر نجما إلى نجم ، والأولى أن نقول : يؤخر النجم بعد محله ، فأما تأخير النجم إلى نجم آخر فعلى جهة الاستحباب الصبر عليه إلى ذلك الوقت » وهو موافق لما سمعته من المفيد ، فتكون الأقوال حينئذ في المسألة ثلاثة. وأما كلام ابن الجنيد فمرجعه إلى أن المدار على ما يتحقق به شرطه ، كما لا يخفى على من لاحظه ، فهو ليس قولا في المسألة.

وعلى كل حال ففي المتن وهو أي القول الثاني مروي مشيرا بذلك إلى‌ صحيح معاوية بن وهب (١) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن مكاتبة أدت ثلثي مكاتبتها وقد شرط عليها إن عجزت فهي رد إلى الرق ونحن في حل مما أخذنا منها وقد اجتمع عليها نجمان ، قال : ترد ويطيب لهم ما أخذوا ، وقال : ليس لها أن تؤخر النجم بعد حله شهرا واحدا إلا بإذنهم ».

وصحيحه الآخر (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « قلت له : إني كاتبت جارية لأيتام لنا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٢.

(٢) ذكر صدره في الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١ وذيله في الباب ـ ٥ ـ منها الحديث ١.

٢٦٦

واشترطت عليها إن هي عجزت فهي رد في الرق وأنا في حل مما أخذت منك ، قال : فقال لي : لك شرطك ، وسيقال لك إن عليا عليه‌السلام كان يقول يعتق من المكاتب بقدر ما أدى من مكاتبته ، فقل : إنما كان ذلك من قول علي عليه‌السلام قبل الشرط ، فلما اشترط الناس كان لهم شرطهم ، فقلت له : وما حد العجز؟ فقال : إن قضاتنا يقولون : إن عجز المكاتب أن يؤخر النجم إلى النجم الآخر حتى يحول عليه الحول ، قال : قلت : فما تقول أنت؟ فقال : لا ولا كرامة ، ليس له أن يؤخر نجما عن أجله إذا كان ذلك في شرطه » بناء على رجوع لفظ « ذلك » للعجز الذي هو البعيد لا التعجيز بالتأخير عن المحل حتى يكون خارجا عن محل النزاع ، إذ هو كما ترى مناف للظاهر ، بل وللإنكار على ما حكاه عن القضاة ، بل ولغير ذلك.

ثم إن ظاهر المصنف عدم رواية تدل على القول الأول ، لكن قيل يدل عليه‌ المرسل (١) عن بعض الكتب عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « لا يرد في الرق حتى يتوالى نجمان » وموثق إسحاق بن عمار (٢) عن الصادق عليه‌السلام « إن عليا عليه‌السلام كان يقول : إذا عجز المكاتب لم ترد مكاتبته في الرق ، ولكن ينتظر عاما أو عامين ، فان قام بمكاتبته وإلا رد مملوكا » بناء على أن المراد من النجم العام ، كما يومئ إليه الصحيح (٣) السابق بعد حمل قوله عليه‌السلام : « أو عامين » على الندب. وأما الفسخ في صورة العلم بالعجز وإن لم يحصل التأخير إلى النجم الآخر فلأن التأخير حينئذ عبث ، ضرورة كونه لرجاء القدرة المفروض العلم بعدمها.

لكن في الأول أنه مرسل ووجادة ولا جابر ، وفي الثاني أعمية النجم من الحول ، فلا بأس بحمله على ضرب من الندب ، لذلك وللتخيير فيها ، وأما ما ذكره‌

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ٥ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٢.

٢٦٧

من عدم الفائدة مع العلم بالعجز ففيه منع ظاهر وذلك لأن المراد بالعلم هنا أيضا الظن الغالب ، لتعذر العلم حقيقة ، ويمكن تخلفه ولو ببذله من أحد مثلا قبل حلول النجم الثاني.

هذا وفي المسالك « يمكن الاستدلال له بصحيح معاوية بن وهب الأول حيث دل صريحا على جواز الفسخ بتأخير نجم إلى نجم لقوله : « وقد اجتمع عليه نجمان » إلى آخره ، ولا دليل صريحا على جواز الفسخ قبل ذلك ، بل على تحريم تأخير الأداء ، ولا كلام فيه ، لأن ذلك مقتضي الدين بعد حلوله ـ قال ـ : ولعل نسبة المصنف القول الثاني إلى الرواية وإشعار تصديره الحكم بالقول الأول ناش عن ذلك ، وإلا لم يكن للعدول عن الرواية الصحيحة وجه ».

قلت : لا يخفى عليك ظهور بيان حرمة تأخير الأداء هنا في إرادة الفسخ ، كما يشهد له سياق الصحيح (١) المزبور ، على أن الظاهر كون المسألة لفظية لا مدخلية للتعبد بالنص فيها ، ضرورة كون المدار على ما يشترطه المولى من التأخير عن المحل أو إلى حلول النجم الآخر أو إلى جميع النجوم أو غير ذلك ، ومن التعليق على العجز أو المطل أو الأعم منهما الشامل لحال الغيبة أو غيرها ، وإلى ذلك أومأ ابن الجنيد وغيره ، ومع إطلاق العجز لا يدخل فيه المطل والغيبة قطعا ، وإطلاق الصحيح (٢) المزبور محمول على التأخير عن المحل بالعجز لا بهما ، كما هو واضح.

ويتحقق بصدق اسمه بالتأخير عن المحل ولو لحظة مع فرض كون المراد من الشرط تحقق أصل ماهيته ، ولو فرض إجمال المراد به عرفا فالأصل اللزوم ، واحتمال الرجوع إلى النصوص تعبدا فيه واضح الضعف ، للعلم بكون المدار على ما يفهم عرفا وأنه لا يعتد بخلافه. وبذلك يظهر أن المراد من النصوص المفهوم عرفا دون التعبد وإن نافي العرف ولم يفهم منه فيه وحينئذ فصحة الرواية وعدمها لا مدخلية لها في المقام.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٢.

٢٦٨

ثم لا يخفى عليك أن ظاهر ما سمعته من عبارة الشيخ الاكتفاء في ثبوت الخيار بالعلم بالعجز ولو قبل حلول النجم الأول كما اعترف به في كشف اللثام ، وحينئذ فيصح مقابلته للعجز على القولين ، لا أنه يختص مقابلته للعجز على القول الأول ، ولعله على ذلك تحمل عبارة الإرشاد ، قال : « وحده تأخير النجم عن محله على رأى أو يعلم من حاله العجز » وإن كنا لم نجده قولا لأحد ، بل في المسالك دعوى الإجماع على عدم جواز الفسخ قبل حلول نجم وإن علم العجز ، وحينئذ فيختص صحة مقابلته للعجز بالمعنى الأول كما في المتن ، لتحقق المغايرة بينهما دون الثاني الذي مقتضاه ثبوت الخيار بالتأخير عن النجم لحظة ، علم العجز أو لم يعلم ، بل وإن علم عدمه ، وقبله لا يجوز ، وحينئذ فتكون عبارة الإرشاد غير سليمة كما جزم بذلك فيها تبعا للشهيد في غاية المراد ، خصوصا بعد أن جعله فيها قسيما للعجز بالمعني الثاني المقرون بالرأي ، ومقتضاه عدم الخلاف في ثبوت الفسخ به وإن لم يحل نجم ، وقد عرفت أنا لم نعرفه قولا لأحد ، ولكن الأمر سهل.

ثم إن ظاهر ما سمعته من النهاية والمتن اعتبار العجز عن فك نفسه ، لا العلم بالعجز عن أداء النجم الذي قد حل ، ولعله لأنهم قد فرضوا المسألة في المشروطة التي بعجزه عن قليل من المال لا ينفك شي‌ء من رقبته ، وإنما يختلف الحكم في المطلقة التي قد عرفت كون المفروض في كلام الأصحاب خلافها ، وكلام ابن الجنيد الذي قد استحسنه في المسالك وغيرها مرجعه إلى ما ذكرناه من أن المدار على شرطه ، كما لا يخفى على من لاحظه.

والمراد بالنجم هنا المال المشترط أداؤه في وقت خاص وإن كان المتعارف من النجم الوقت ، قيل ومنه‌ ما في الحديث (١) « هذا إبان نجومه » يعني البني ، أي وقت ظهوره ، ويقال : كان العرب لا يعرفون الحساب ويبنون أمورهم على طلوع النجوم والمنازل ، فيقول أحدهم : إذا طلع نجم الثريا أديت حقك ، فسميت‌

__________________

(١) نهاية ابن الأثير ـ مادة : « ابن ».

٢٦٩

الأوقات نجوما ، إلا أنه يطلق على المال المجعول عليه في ذلك الأجل ، وهو المراد هنا ، والله العالم.

ويستحب للمولى مع العجز الصبر عليه عاما أو عامين أو ثلاثة ، لما سمعته من الموثق (١) وخبر الحسين بن علوان (٢) المروي عن قرب الاسناد عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « إن عليا عليه‌السلام كان يؤجل المكاتب بعد ما يعجز عامين يتلومه ، فإن أقام بحريته وإلا رده رقيقا » ولقول الصادق عليه‌السلام (٣) « ينتظر بالمكاتب ثلاثة أنجم ، فإن هو عجز رد رقيقا » وقول الباقر عليه‌السلام في خبر جابر (٤) السابق المحمولة أجمع على الندب ، لقصورها عن الحكم بالوجوب.

بل للتسامح في أدلة السنن أطلق المصنف استحباب الصبر عليه من غير تقييد له بمدة ، لإمكان القول بإفادتها ذلك وإن اختلفت شدة وضعفا بطول المدة وقصرها ، مضافا إلى ما في الصبر عليه من الإحسان ورجاء حصول الحرية ، وعلى كل حال فما سمعته من الصدوق من تحديد العجز بالثلاثة لهذه النصوص واضح الضعف ، ويمكن إرادته الندب.

وكيف كان ف الكتابة عقد لازم من الطرفين مطلقة كانت كما هو المشهور ، بل عن التحرير الإجماع عليه أو مشروطة لأصالة اللزوم المستفادة من الآية (٥) والاستصحاب وغيرهما مما ذكرناه في محله ، ولا ينافي ذلك جواز الفسخ إذا كانت مشروطة وعجز العبد ، لما سمعته من الأدلة ، كما لا ينافي لزوم البيع ثبوت الخيار فيه في الجملة ، وحينئذ فما في القواعد ـ من أن الكتابة عقد لازم من الطرفين إلا إذا كانت مشروطة وعجز العبد ـ لا يخلو من شي‌ء إلا أن الأمر سهل بعد وضوح المراد.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١٤.

(٥) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

٢٧٠

وقيل : إنها مطلقا لازمة من طرف المولى جائزة من طرف العبد مطلقا ، لأن الحظ في الكتابة له دون السيد ، فله إسقاط حقه دونه ، ولأن الكتابة يتضمن تعليق العتق بصفة في العبد ، والتعليق يلزم من جهة المعلق دون العبد الذي لا يلزمه الإتيان بالصفة.

إلا أنه لم نتحقق القول المزبور وإن حكي عن الخلاف إلا أن المحكي عنه الاستدلال على ذلك بإجماع الفرقة وأخبارهم على أن المكاتب متى عجز كان لمولاه رده في الرق إذا كانت الكتابة مشروطة ، وهو كالصريح في اختصاص الحكم بها دون المطلقة التي قد سمعت دعوى الإجماع على لزومها من الفاضل.

وعلى كل حال لا ريب في ضعفه ، وكون الحظ له فيها لا يقتضي عدم وجوب وفاء الدين الذي هو حق المولى أيضا ولا تعليق فيها ، بل مقتضاها أداء المال في نجومه ، فيجب عليه الوفاء به للاية (١) كما هو واضح.

وقيل والقائل الشيخ في المحكي من مبسوطة إن كانت مشروطة فهي جائزة من جهة العبد ، لأن له أن يعجز نفسه قال : « الذي يقتضيه مذهبنا أن الكتابة إن كانت مطلقة فهي لازمة من الطرفين ، وليس لأحدهما فسخ ، وإن كانت مقيدة فهي لازمة من جهة السيد وجائزة من جهة العبد ، فان عجز لم يجبر على الاكتساب » ووافقه عليه ابن إدريس على ما حكي عنه ، وكان وجهه ما سمعته من الخلاف من جواز رده في الرق مع عجزه ، فدل على أن له تعجيز نفسه ، وإلا لوجب التكسب ولم يجز رده.

ولا يخفى ضعفه ، فان جواز رده في الرق مع عجزه لا يدل على جواز تعجيز نفسه اختيارا ، وإنما يدل على جواز الفسخ مع العجز عن أداء ما عليه. وإلى ذلك كله أشار المصنف بقوله والأول أشبه بأصول المذهب وقواعده.

ولا نسلم أن للعبد أن يعجز نفسه ، بل يجب عليه السعي ، ولو امتنع يجبر ، وقال الشيخ : لا يجبر ، وفيه إشكال من حيث اقتضاء عقد الكتابة وجوب‌

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

٢٧١

السعي ، فكان الأشبه الإجبار ، لكن لو عجز كان للمولى الفسخ وكأنه أشار بذلك إلى الفرق بين المقام وبين بيع النسيئة الذي لا يجب فيه على المشتري السعي في وفاء الثمن مع فرض إعساره ، لأن ذلك ليس مقتضى البيع الذي يجب الوفاء به بخلاف المقام الذي مقتضي العقد فيه وجوب السعي ، بل قد سمعت ما دل على المراد بالخير في الآية (١) من النصوص (٢) لا أن مقتضاه إثبات مال في ذمته يجب عليه أداؤه مع حصوله له ولا يجب عليه تحصيله.

بل به ظهر الفرق بين المقام وبين الدين الذي لا نوجب التكسب على المديون في وفائه ، بل منه يعلم أيضا ما في كلام ثاني الشهيدين في المسالك ، فلاحظ وتأمل.

كما أن مما ذكرنا يظهر ضعف المحكي عن ابن حمزة من جواز المشروطة من الطرفين والمطلقة من طرف المكاتب خاصة بل هو من الغريب ، ضرورة مخالفته الأصول ، خصوصا في المولى الذي لاحظ له في العتق ، على أن الجواز في حقه آت بمعنى أن له فسخ العقد وإن لم يعجز العبد ، وهو مناف لما هو كالمجمع عليه بينهم من عدم جواز ذلك ، خصوصا بعد أن ذكر غير واحد هنا أن المراد بالجواز من طرف المكاتب أنه لا يجب عليه السعي في مال الكتابة ولا أداؤه على تقدير وجوده معه ، بل له أن يعجز نفسه ويمتنع من تحصيل صفة العتق ، فللمولى حينئذ أن يفسخ العقد ، وله أن يصبر ، وليس المراد بجوازه ما هو المعهود في غيره من العقود من أن له فسخ العقد.

نعم عن الشيخ في المبسوط قول آخر في تفسير الجواز ، وهو أنه لا يلزمه التكسب له وإن قدر عليه ، لكن إن كان عنده مال وجب عليه دفعه ، واجبر على أدائه مع الامتناع ، كمن عليه دين وهو موسر.

وقد يقال : إن معني جوازها من طرف المولى بمعنى أن له تعجيز العبد‌

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المكاتبة.

٢٧٢

ومنعه من التكسب حتى يحصل العجز الموجب للخيار ، وعلى كل حال فمعنى لزومها من الطرفين أنه ليس لأحد منهما فسخها بنفسه كغيرها من العقود اللازمة ومع ذلك قد يجوز فسخها للمولى في حال مخصوص ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

ولو اتفقا على التقايل صح بلا خلاف ولا إشكال لما عرفت في الإقالة من تناول دليلها لسائر المعاوضات التي منها عقد الكتابة التي هي كالبيع وإن كان فيها شائبة العبادة بالعتق الذي لا يقبل التقايل ، بل الظاهر صحته في المطلقة مع أداء البعض أيضا لكن بالنسبة إلى ما بقي ، لما عرفت في محله من جريان الإقالة في البعض ، نعم الظاهر عدم جريان الإقالة في الجزء الحر أو الكل بعد الأداء ، لأن الحر لا يعود رقا ، والله العالم.

وكذا يصح لو أبرأه من مال الكتابة لإطلاق أدلة الإبراء الشامل للمقام ، فان المال في ذمة العبد المكاتب لمولاه. وحينئذ ف ينعتق بالإبراء لأنه بحكم الوصول ، وأولى منه الاحتساب عليه من الحقوق ، كما هو واضح. ولو أبرأ من بعض صح وانعتق بحسابه لو كانت مطلقة.

ولا تبطل بموت المولى كغيرها من العقود اللازمة ، للأصل وغيره. وحينئذ ف للوارث المطالبة بالمال الذي انتقل إليه من مورثه كانتقال باقي حقوق الكتابة التي منها الفسخ لو عجز. وحينئذ ف ينعتق بالأداء إلى الوارث كما هو واضح. وأما حكمها لو مات المكاتب فستعرف الكلام فيه ، والله العالم.

وكيف كان فلا خلاف‌ ولا إشكال في أنه يعتبر في الموجب الذي هو المولى البلوغ وكمال العقل والاختيار وجواز التصرف فلا يكفى العشر وإن اكتفينا بها في العتق سواء أذن المولى أولا ، ولا يصح من المجنون المطبق ولا الأدواري إلا أن يكون حال الإفاقة المعلومة.

وبالجملة حال هذا العقد كغيره من العقود التي قد تكرر ذكر وجه اعتبار ذلك فيها ، خصوصا العقود المتضمنة للتصرف في المال المعلوم حجر الصبي والمجنون‌

٢٧٣

عن التصرف فيه ، كمعلومية عدم نفوذ تصرف المكره إلا أن يرضى بعد زوال الإكراه على ما عرفته في محله ، والمحجور عليه لفلس وسفه ونحوهما إلا مع إذن الغرماء أو الولي.

ولو كاتب المريض ففي الدروس وكذا القواعد « يصح إن خرج من الثلث أو أجاز الوارث ، لأنه معاملة على ماله بماله » قلت : قد يقال إن ذلك لا يكفي في كونه تبرعا فالمتجه الصحة من الأصل مع فرض عدم المحاباة كغيرها من المعاوضات.

وهل يعتبر فيه الإسلام؟ فيه تردد ينشأ من كون الكتابة عتقا بعوض ، وهو لا يصح من الكافر مطلقا مقرا بالله تعالى شأنه أو جاحدا له على ما عرفت ، لكونه عبادة لا تصح منه على حال ، ومن منع كونها عتقا وإن ترتب عليها التحرير الذي هو أعم من العتق الذي قد عرفت ظهور الأدلة في اعتبار النية فيه ، هذا إن قلنا بعدم صحة العتق من الكافر مطلقا أو من خصوص الجاحد وإلا فلا إشكال أصلا لإطلاق الأدلة بلا معارض.

هذا ولكن في الرياض مال إلى عدم الجواز إن لم يكن إجماعا وإن قلنا بالصحة من الكافر ، لأصالة الفساد بعد اختصاص أدلة المشروعية كتابا (١) وسنة (٢) بالمسلم الذي هو المخاطب بالاية بقرينة التعليق بعلم الخير المراد به الإيمان الذي بزعمه الكافر شرا ، ولا عموم في السنة ولا إطلاق سوى الموثقة (٣) المتقدمة المتبادر منها كون المولى مؤمنا لا مطلقا ، مضافا إلى ظهور‌ قوله عليه‌السلام « والمؤمن معان » في كون العبد مؤمنا ولا يكون عبدا للكافر غالبا ، فلا تحمل الرواية على ما هو فرد نادر جدا ، مع أنه لا يصلح مكاتبة الكافر له عند جماعة لوجوب إخراج المسلم عن ملك الكافر فورا ، والمكاتبة لا تقتضي الإخراج خروجا تاما ،

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المكاتبة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١.

٢٧٤

ولا ترفع السلطنة خصوصا في المشروطة ، فلا يمكن أن يحمل عليه إطلاق الرواية من هذه الجهة أيضا.

وكذا الكلام في عموم ( أَوْفُوا ) (١) أما على القول بكون الكتابة عقدا جائزا مطلقا أو في الجملة فظاهر ، لعدم دخولها من أصلها حينئذ فيه أصلا وكذا على المختار من كونه لازما لما مضى من عموم الآية (٢) السابقة من اختصاص الخطاب بالمسلم وعدم موجب للتعدية لا من سنة ولا من إجماع ، وثبوتها إلى الكافر في كثير من المعاملات بأحد الأمرين لا يوجب ثبوتها مع انتفائهما في المسألة ، والقياس حرام بالشريعة ، فالقول بالاعتبار لو لم يكن على عدمه إجماع لعله لا يخلو من قوة ، ولو قلنا بأن الكتابة معاملة مستقلة لعدم المقتضي لصحتها كلية حتى في المسألة ، لما عرفت من ضعف المقتضيات المزبورة ، ولم أقف من دونها على دلالة فتأمل ، مع أن الأصل على الفساد أقوى حجة سيما إذا كان العبد مسلما ، لما مضى ، وكذا إذا كان كافرا على القول بعدم صحة مكاتبة العبد الكافر ، كما هو الأقوى. وسيأتي أن المرتضى ادعى عليه إجماعنا مطلقا من دون تقييد بكون المولى مسلما

ومن هنا ينقدح وجه آخر في الجواب عن العموم لو سلم ، فإن الإجماع المزبور بنفي جواز مكاتبة الكافر وآية نفي السبيل (٣) تنفي جواز مكاتبة المسلم ، وبهما تخصص العمومات المزبورة ، فلا فرد للمسألة تشمله فيكون ثمرة للنزاع والمشاجرة ، وهو كما ترى. وقد نقلناه بطوله لكثرة محال النظر فيه ، ضرورة استفاضة السنة بذكر المكاتب وأقسامه وأحكامه وهو شامل لهما ، وليس ذلك منحصرا في‌ الموثقة (٤) المزبورة التي في بعض طرقها « المحسن معان » بدل‌

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

(٢) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٣.

(٣) سورة النساء : ٤ ـ الآية ١٤١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١.

٢٧٥

« المؤمن » وهو شامل للكافر ، بل الآية شاملة أيضا ، ضرورة استفادة مشروعية المكاتبة المتعارفة منها ، والتقييد بعلم الخير للأمر بها لا لأصل المشروعية.

وكذا عموم ( أَوْفُوا ) (١) فإن الخطاب وإن كان للمؤمنين لكن المراد بيان الشرعية لهم لا اختصاصها بهم ، فإن أحكام الوضع لا اختصاص لها بمكلف ، بل التحقيق مشاركة الكافر للمؤمن في الفروع التي هي من العبادات المنحصرة صحتها في المؤمن ، كما بين في محله ، وحينئذ فيكفي في التعدية الإجماع على قاعدة الاشتراك ، ولا يحتاج إلى إجماع بخصوصه.

وستعرف البحث في صحة كتابة الكافر عبده الكافر والاكتفاء بها عن بيعه لأنها قاطعة للسلطنة ، والبحث في كتابة عبده المسلم وأن التحقيق الصحة في الثاني ، فيكون حينئذ موردا للنزاع.

ومن هنا بان لك أن الوجه عدم الاشتراط كما هو المشهور إن لم يكن إجماعا ، بل عن بعضهم الاعتراف بمجهولية القائل بالاشتراط.

وحينئذ فلو كاتب الذمي مثلا مملوكه على خمر أو خنزير أو نحوهما مما كان حلالا في مذهبهما وتقابضا وهما ذميان وترافعا إلينا حكم عليهما بالتزام ذلك لأنهم ألزموا أنفسهم به ولو أسلما لم يبطل ذلك كما في غيره من عقودهم.

وإن لم يتقابضا وأسلما كان عليه القيمة التي هي أقرب شي‌ء إليه بعد تعذر دفعه بالإسلام ، كما تقدم نظيره في المهر وغيره ، بل في المسالك هنا احتمال جريان القول بالسقوط باعتبار أنه رضي بالعوض المحرم فيدام عليه حكم رضاه ، وقد تعذر قبضه بالإسلام بالنسبة إلى المستحق عليه وإن لم ينقلوه هنا.

قلت : أولى من ذلك احتمال البطلان لتعذر ملك العوض ، ولو أسلما بعد‌

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

٢٧٦

تقابض البعض مضى في المقبوض ، ولزمه القيمة للباقي ، ويأتي فيه الاحتمالان وكذا لو أسلم المولى خاصة أو المملوك ، والله العالم.

ويجوز لولي اليتيم أن يكاتب مملوكه مع اعتبار الغبطة للمولى عليه في ذلك بأن كان بيعه جائزا لحاجة اليتيم ، لإطلاق ما دل على ذلك من قوله تعالى (١) ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ : إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ) وغيره مضافا إلى صحيح معاوية بن وهب (٢) السابق ، بل قد يقال بالجواز للولي الإجباري مع عدم المفسدة وإن لم تكن غبطة.

ولكن مع ذلك فيه قول محكي عن الشيخ في المبسوط بالمنع لأن الكتابة شبيهة بالتبرع من حيث إنها معاملة على ماله بماله ، إذ المال المكتسب تابع للمملوك ، وفيه أنه قد لا يحصل المال بدون المكاتبة ، بل هو الغالب ، وكسبه بعد العقد ليس مالا محضا للمولى ، وقبله ليس بموجود حتى تكون المعاملة عليه ، والله العالم.

ولو ارتد ثم كاتب عبده المسلم لم يصح إما لزوال ملكه عنه كما إذا كان عن فطرة ، بل لا يصح كتابته لعبده الكافر فضلا عن المسلم أو لأنه لا يقر المسلم في ملكه إذا كان عن ملة ، نعم لو كان كافرا صح لبقاء ملكه له ، لكن في الدروس يصح من المرتد عن ملة بإذن الحاكم لا بدونه في الأصح ، قال : « ويحتمل المراعاة بإسلامه ».

وفي القواعد « ولو ارتد المولى لم تصح كتابته إن كان عن فطرة ، لزوال ملكه عنه ، وإن كان عن غيرها فكذلك إن كان العبد مسلما ، لوجوب بيعه عليه ، ويحتمل وقوعها موقوفة ، فإن أسلم تبينا الصحة وإن قتل أو مات بطلت ، وإن أدي حال الردة لم يحكم بعتقه ، بل يكون موقوفا ، فإن أسلم ظهر صحة الدفع والعتق ، ولو ارتد بعد الكتابة أدى العبد إلى الحاكم لا إليه ، ويعتق بالأداء ، فإن دفع إليه‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١.

٢٧٧

كان موقوفا أو باطلا على التردد ، وفي اشتراط الحاكم في الحجر وفي تعجيزه بالدفع إلى المرتد مع التلف إشكال ، ولو أسلم حسب عليه مما أخذه في الردة » إلى غير ذلك من كلماتهم التي مقتضاها الحجر على المرتد مطلقا أو مع حكم الحاكم على وجه يبطل تصرفه أو يبقى موقوفا وقد تقدم بعض الكلام سابقا في ذلك ولكن إلى الان لم نتحقق الدليل المقتضي للحجر عليه المنافي لقاعدة تسلط الناس على أموالهم وغيرها.

وكيف كان فلا يخفي عليك بناء التعليل في المتن على عدم صحة كتابة الكافر للعبد المسلم ، كما هو أحد القولين في المسألة ، لأنه يجبر على نقله عن ملكه ، والكتابة لا توجب الانتقال التام عن الملك ، لأنها مترددة بين الخروج عنه والبقاء ، وتمام الخروج موقوف على أداء المال.

والقول الآخر الصحة ، ولا يجبر معها ، لأنها مستلزمة لرفع اليد في الجملة ، وتشبث المكاتب بالحرية ، وبرفع الحجر عنه في كثير من الأعمال ، خصوصا إذا جعلناها بيعا ولازمة من جهة المولى.

وربما فرق بين المطلقة والمشروطة ، فاكتفى بالأولى دون الثانية ، لأنه لا يخرج في المشروطة عن الرقية إلا بأداء جميع المال ، وهو معرض العجز اختيارا أو اضطرارا.

قلت : قد يقال بصحة مكاتبته وترتب أحكامها لو فرض عدم بيعه وتعذر قهره أو لم يعلم الحاكم به ، لأنها ليست من السبيل المنفي ، واحتمال عدم صحتها لمنافاتها للبيع المأمور به (١) يدفعه إمكان التزام بيعه بعد وقوعها مكاتبا ، كما تسمعه من ابن الجنيد في صورة ما إذا كان كافرا فأسلم ، أو يلتزم ببطلان المكاتبة ترجيحا لما دل (٢) على وجوب إخراجه عن الملك ولو لسبق تعلقه على الكتابة ، خصوصا مع ملاحظة بيع أم الولد والمكاتب الجاني ، وربما يأتي الكلام في صحة كتابته‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من كتاب العتق الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من كتاب العتق الحديث ١.

٢٧٨

جانيا ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فيتفرع على هذه الأقوال ما إذا كاتبه كافرا فأسلم قبل الأداء وفيه أنه يمكن القول بالجواز هنا وإن قلنا بالمنع ، للفرق بين الابتداء والاستدامة كما جزم به الفاضل وغيره ، لأصالة اللزوم المانعة من البيع مع حصول الغرض ، وهو ارتفاع السلطان ، وقيل : لا يلزم لئلا يكون له عليه سبيل ، وعن أبي على يباع مكاتبا ويؤدى إلى المشتري ثمنه لا أزيد ، لأنه ربا.

ثم على تقدير الاكتفاء بالكتابة لو عجز يتخير المولى للإطلاق ، فيباع عليه حينئذ ، وربما احتمل عدم الخيار له هنا ، لاستلزامه تملك المسلم اختيارا ، وفيه أنه ليس تملكا ، والله العالم.

ويعتبر في المملوك البلوغ وكمال العقل بلا خلاف أجده فيه ، بل نسبه في غاية المرام إلى القطع به في كلام الأصحاب ، بل في كشف اللثام الاتفاق عليه ، بل عن بعضهم الإجماع عليه.

ولعله لأنه ليس لأحدهما أهلية القبول ولا دليل على قيام السيد والأب والجد مقامهما في هذه المعاملة المخالفة للأصل المنساق من موارد أدلتها كتابا (١) وسنة (٢) العبد المكلف ، لا أقل من الشك ولو بملاحظة ما سمعته من الإجماع المزبور. ومن الغريب دعوى عدم الفرق بين المقام وبين اعتبار الإسلام في المولى.

وأغرب منه دعوى تناول قوله تعالى (٣) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لمثل المقام المتوقف على صحة قيام السيد والأب والجد مقامهما لتتم أركان العقد التي منها القبول ، كما هو واضح. ومنه يعلم ما في المناقشة التي في المسالك وغيرها في الحكم المزبور ، فلاحظ وتأمل ، والله العالم.

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ٢ ـ من أبواب المكاتبة.

(٣) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

٢٧٩

وفي كتابة الكافر تردد ينشأ من إطلاق الأمر بالوفاء بالعقد (١) وإطلاق دليل الكتابة ، وأنها معاملة كالبيع ونحوه ، ومن اشتراط الخير المفسر بالدين (٢) في الآية (٣) أظهره المنع عند المصنف وفاقا للأكثر على ما قيل ، بل عن الانتصار والغنية الإجماع عليه معتضدا بعدم نقل خلاف فيه من أحد من القدماء ، وإنما ابتدء الخلاف فيه من الفاضل في المختلف ، وتبعه بعض من تأخر عنه كالشهيدين ، مع أن الأول منهم قد وافق المشهور في غير واحد من كتبه كالقواعد وغيرها.

لكن الانصاف عدم خلو المسألة بعد من الاشكال لأن العمدة عندهم في ذلك قوله تعالى (٤) ( فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) مؤيدا بالأمر بالإيتاء من الزكاة (٥) الممنوع فيه ، وبالنهي عن الموادة له (٦) وهو إنما يدل على اشتراط الأمر بها لا مطلق الاذن فيها ويتبعه الأمر بالإيتاء ، ولا يلزم من توقف الأمر بها على شرط توقف إباحتها عليه ، وقد عرفت أن الدليل على تسويغ الكتابة غير منحصر في الآية المزبورة.

على أنه بعد التسليم إنما يدل على اعتبار ذلك في المولى المسلم لا مطلقا ، وليس في الانتصار سوى أنه مما انفردت به الإمامية ، وليس ذلك إجماعا ، وعدم نقل الخلاف لا يقتضي عدمه ، بل لعله ظاهر كل من لم يتعرض لاشتراطه في صحة الكتابة من القدماء ، بل المحكي عن الشيخ في موضع من المبسوط والقاضي الصحة في المولى المسلم فضلا عن الكافر الذي لا تلازم بينه وبين المسلم بناء على ظهور‌

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ١.

(٣) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٣.

(٤) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب المكاتبة.

(٦) سورة المجادلة : ٥٨ ـ الآية ٢٢. راجع البحار ج ٧٥ ص ٣٨٥.

٢٨٠