جواهر الكلام - ج ٣٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب اللعان

مصدر « لاعن » وربما استعمل جمعا ، وهو لغة الطرد والإبعاد ، وشرعا مباهلة بين الزوجين على وجه مخصوص ، ولعل الملاعنة هنا لإرادة طرد كل منهما صاحبه وإبعاده عنه ، أو تشبيها للعن كل منهما نفسه إن كان كاذبا بلعن كل منهما صاحبه.

والأصل فيه قوله تعالى (١) ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ ).

والسبب فيها ـ مضافا إلى ما يدركه العقل من المصالح في ذلك ـ ما عن ابن‌

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٦ الى ٩.

٢

عباس (١) من أنه لما نزلت ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) (٢) إلى آخرها قال سعد بن معاذ : يا رسول الله إني لأعلم أنها حق من عند الله تعالى شأنه ، ولكن تعجبت أن لو وجدت لكاعا يفخذها لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتى بأربعة شهداء ، فو الله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته ، فما لبثوا حتى جاء هلال بن أمية فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا يقال له : شريك بن سمحاء فرأيت بعيني وسمعت باذني ، فكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ، فقال سعد : الان يضرب النبي هلال بن أمية ، وتبطل شهادته في المسلمين ، فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي مخرجا فبينما هم كذلك إذ نزل :( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ) إلى آخرها (٣) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أبشر يا هلال ، فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا ».

وروي أن المعرض هو عاصم بن عدي الأنصاري (٤) قال : « جعلني الله فداك إن وجد رجل مع امرأته فأخبر جلد ثمانين جلدة وردت شهادته أبدا وفسق ، وإن ضربه بالسيف قتل به ، وإن سكت على غيظ إلى أن يجي‌ء بأربعة شهداء فقد قضيت حاجته ومضى ، اللهم افتح وفرج واستقبله هلال بن أمية ، فأتيا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر عاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكلم خوله زوجة هلال ، فقالت : لا أدري الغيرة أدركته أم بخل بالطعام؟ وكان الرجل نزيلهم ، فقال هلال : لقد رأيته على بطنها ، فنزلت الآية ، فلاعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهما. وقال لها : إن‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٩٤ ، وتفسير الطبري ج ١٨ ص ٨٢ ، وتفسير الرازي ج ٦ ص ٣٤٢ ـ ط عام ١٣٠٧ ، ومجمع البيان ج ٤ ص ١٢٨ ط صيدا مع الاختلاف في الألفاظ في الجميع.

(٢) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٤.

(٣) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٦.

(٤) تفسير الرازي ج ٦ ص ٣٤٢ ط عام ١٣٠٧ ومجمع البيان ج ٤ ص ١٢٨ ط صيدا.

٣

كنت ألممت بذنب فاعترفي به فالرجم أهون عليك من غضب الله ، فان غضبه هو النار ».

وروي (١) « إن عويمر العجلاني رمى زوجته ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البينة وإلا حد في ظهرك ، فنزلت ».

وفي طرقنا (٢) « إن عباد البصري سأل أبا عبد الله وأنا حاضر كيف يلاعن الرجل المرأة؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن رجلا من المسلمين أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت لو أن رجلا دخل منزله فوجد مع امرأته رجلا يجامعها ما كان يصنع؟ قال : فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانصرف الرجل ، وكان ذلك الرجل هو الذي ابتلى بذلك من امرأته ، قال : فنزل الوحي من عند الله تعالى بالحكم فيهما ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك الرجل فدعاه ، فقال له : أنت الذي رأيت مع امرأتك رجلا ، فقال : نعم فقال له : انطلق فأتني بامرأتك ، فإن الله أنزل الحكم فيك وفيها ، فأحضرها زوجها فأوقفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال للزوج : اشهد أربع شهادات بالله أنك لمن الصادقين فيما رميتها به ، قال : فشهد ، ثم قال : اتق الله فإن لعنة الله شديدة ، ثم قال : اشهد الخامسة أن لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين ، قال : فشهد ، ثم أمر به فنحي ، ثم قال للمرأة : اشهدي أربع شهادات بالله أن زوجك لمن الكاذبين فيما رماك به فشهدت ، ثم قال لها : أمسكي ، فوعظها وقال : اتقي الله فان غضب الله شديد ، ثم قال : واشهدي الخامسة أن غضب الله عليك إن كان زوجك من الصادقين فيما رماك به ، فشهدت ، قال : ففرق بينهما ، وقال لهما : لا تجتمعان بنكاح أبدا بعد ما تلاعنتما » إلى غير ذلك مما ورد فيها.

وكيف كان ف النظر في أركانه وأحكامه ، وأركانه أربعة.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٩٣ وفيه‌ « ان هلال بن أمية قذف امرأته ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب اللعان الحديث ١.

٤

الأول في السبب :

وهو شيئان :

الأول :

القذف كتابا (١) وسنة (٢) بل وإجماعا وإن حكي عن الصدوق في الفقيه والهداية وظاهر المقنع أنه قال : « لا لعان إلا بنفي الولد ، وإذا قذفها ولم ينتف جلد ثمانين جلدة » لقول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير (٣) : « لا يكون اللعان إلا بنفي الولد » لكن في‌ خبر محمد بن مسلم (٤) عن أحدهما عليهما‌السلام « لا يكون لعان إلا بنفي ولد ، وقال : إذا قذف الرجل امرأته لاعنها » ومن هنا حملهما الشيخ على أنه لا لعان بدون دعوى المشاهدة إلا بالنفي ، ولا بأس به بعد معلومية قصورهما عن المعارضة ، خصوصا بعد احتمال اضافية الحصر بالنسبة إلى مقتضى المقام ، ويكون المراد أنه لا لعان بمجرد الشبهة.

وفي وافي الكاشاني في خبر أبي بصير « لعل المراد أنه إذا كانت المرأة حاملا فأقر الزوج بأن الولد منه ومع هذا قذفها بالزنا فلا لعان ، وأما إذا لم يكن حمل وإنما قذفها بالزنا مع الدخول والمعاينة فيثبت اللعان ، كما دلت عليه الأخبار ، ويدل على هذا صريحا حديث محمد عن أحدهما عليهما‌السلام فإنه قد أثبت اللعان بالأمرين » وفيه أنه وغيره مضافا إلى الكتاب يدل على إثباته بالقذف على الإطلاق من دون إشارة إلى ما ذكره من التفصيل الذي يمكن دعوى الإجماع على خلافه.

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب اللعان.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من كتاب اللعان الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من كتاب اللعان الحديث ١.

٥

وكيف كان ف لا يترتب اللعان به أي القذف إلا على رمي الزوجة المحصنة غير المشهورة بالزنا المدخول بها بالزنا قبلا بل أو دبرا عندنا ، بل عن الخلاف الإجماع عليه ، خلافا لأبي حنيفة فنفاه فيه مع دعوى المشاهدة وعدم البينة.

فلو رمى الأجنبية تعين الحد ولا لعان بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى إطلاق ما دل على الحد بالقذف كتابا (١) وسنة (٢) المقتصر في تقييده باللعان على قذف الزوجة كتابا (٣) وسنة (٤) وإجماعا بقسميه ، مؤيدا ذلك بظهور الحكمة في الفرق بين الزوج والأجنبي الذي لا داعي له إلى القذف من غيره ونحوها.

وكذا لو قذف الزوجة ولم يدع المشاهدة لقول الصادق عليه‌السلام في الصحيح (٥) « إذا قذف الرجل امرأته فإنه لا يلاعنها حتى يقول رأيت بين رجليها رجلا يزني بها ». وفي مرسل أبان (٦) عنه عليه‌السلام أيضا « لا يكون لعان حتى يزعم أن قد عاين » وفي صحيح ابن مسلم (٧) « سألته عن الرجل يفتري على امرأته ، قال : يجلد ثم يخلى بينهما ، ولا يلاعنها حتى يقول : أشهد أني رأيتك تفعلين كذا وكذا » وفي رواية (٨) « إذا قال : إنه لم يره قيل له أقم البينة وإلا كان بمنزلة غيره جلد الحد ».

بل في كشف اللثام لعله لا خلاف في اشتراط مشاهده أنها تزني ، ويتفرع على ذلك سقوط اللعان بقذف الأعمى زوجته ، لانتفائها في حقه ، وينحصر لعانه حينئذ بنفي الولد ، لكن أشكله في المسالك ـ بعد اعترافه مكررا باشتراط الأصحاب المعاينة ـ بإمكان علمه بدون المشاهدة ، واشتراطها لو سلم يمكن حمله على من‌

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب حد القذف من كتاب الحدود.

(٣) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ وغيره ـ من كتاب اللعان.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب اللعان الحديث ٤.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب اللعان الحديث ٣.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب اللعان الحديث ٢.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب اللعان الحديث ٥.

٦

تمكن في حقه ، أو على جعله كناية عن العلم بذلك ، وأنه لا يكفي الظن المستند إلى القرائن أو الشياع منفردا ـ إلى أن قال ـ : ويؤيده عموم قوله تعالى (١) ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ) ثم أطنب بعد ذلك بما لا حاصل له ، بل كأنه اجتهاد في مقابلة النص الذي به يقيد إطلاق الأدلة ، لا استبعاد في اعتبار ذلك في خصوص اللعان الذي هو وظيفة شرعية منافية لإطلاق أدلة القذف وإن لم نشرطه في أصل الشهادة واكتفينا فيها بالعلم ، كما لا استبعاد في سقوط اللعان بذلك حينئذ للأعمى بعد إطلاق أدلة الاشتراط.

ولو كان له بينة على ما قذفها به فلا لعان ولا حد كما تسمع تحقيق الحال فيه.

وكذا لو كانت المقذوفة مشهورة بالزنا لأن اللعان إنما شرع صونا لعرضها من الانتهاك ، وعرض المشهورة بالزنا منتهك ، لكن في كشف اللثام « لم أر من اشترطه من الأصحاب غير المصنف والمحقق » وظاهره التأمل فيه ، ولعله لإطلاق الأدلة ، وفيه أنه مبني على اعتبار الإحصان بمعنى العفة في حد القذف الذي شرع لسقوطه اللعان في الزوجين ، كما تسمع تحقيقه إنشاء الله في الحدود.

هذا وقد عرفت أنه مما يتفرع على اشتراط المشاهدة سقوط اللعان في حق الأعمى بالقذف إذا قذفها حال عماه لتعذر المشاهدة منه حينئذ وإنما يثبت في حقه اللعان بنفي الولد وعرفت إشكال ثاني الشهيدين فيه والجواب عنه.

ولو كان للقاذف بينة وعدل إلى اللعان قال في الخلاف وتبعه الفاضل في المختلف يصح لإطلاق النصوص (٢) الذي لا يقيده مفهوم الحال في‌

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ وغيره ـ من كتاب اللعان.

٧

الآية (١) الخارج مخرج الغالب ، مؤيدا بما وقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) من الملاعنة من دون أن يسأل عن البينة.

ومنع في المبسوط وتبعه يحيى بن سعيد في المحكي من جامعه والفاضل في قواعده التفاتا إلى اشتراط عدم البينة في الآية وهو الأشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها الاقتصار فيما خالف إطلاق أدلة القذف على المتيقن ، على أن اللعان حجة ضعيفة والبينة حجة قوية ، فلا يعدل إلى الضعيف مع وجود القوي ، بل ظاهر النصوص (٣) أن أصل مشروعية اللعان لعدم تيسر البينة ، وإطلاق النصوص لا وثوق به بعد أن كان محتملا لإرادة ما في الآية خارجا مخرج الغالب ، كما اعترف به الخصم في رفع دلالة القيد ، وعدم سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعله لعلمه بالحال ، بل في الخبر قرائن دالة على عدم البينة ، على أنه من قضايا الأحوال ، لا من ترك الاستفصال عقيب السؤال.

ولو قذفها بزنا إضافة إلى ما قبل النكاح فقد وجب الحد ، وهل له إسقاطه باللعان كما لو أطلق أو إضافة إلى زمان الزوجية؟ قال في الخلاف : ليس له اللعان اعتبارا بحالة الزنا الذي رماها به في حال لم يشرع له اللعان فيه ، فيبقى عموم ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) (٤) شاملا له سالما عن معارضة دليل اللعان ، لأنه لا يقال : قذف زوجته ، كما أن من قذف مسلما بالزنا حال كفره لا يقال : إنه قذف مسلما.

وقال في المبسوط : له ذلك اعتبارا بحالة القذف الذي لا ريب في صدوره منه في حال الزوجية وهو أشبه بأصول المذهب وقواعده ، لإطلاق أدلة اللعان كتابا وسنة الذي لا يقيده سبب النزول ، بل هو كذلك ، سواء قلنا باعتبار بقاء مبدأ الاشتقاق في صدق المشتق وعدمه ، فإنه إنما اعتبر فيها بعد تسليم اعتبار البقاء‌

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب اللعان الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب اللعان.

(٤) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٤.

٨

كون الرمي حين الزوجية لا الرمي بما وقع حينها ، وكأن التعليل أولا باعتبار حالة الزنا نشأ من توهم ذلك ، فحكم بنفي صدق أنه قذف زوجته ، فأخرجه من آية اللعان وأدخله في آية القذف ، لكنه كما ترى ، ضرورة صدق رمي الزوجة وقذفها ، فيدخل في آية اللعان حينئذ.

ولا يجوز للزوج فضلا عن الأجنبي عندنا قذفها مع الشبهة ولا مع غلبة الظن أو أخبره الثقة أو شاع إن فلانا زنى بها ولا غير ذلك من صفات الولد ونحوه ، لأن عرض المؤمن كدمه ، بل في كشف اللثام في‌ حسن الحلبي (١) عن الصادق عليه‌السلام « أنه نهى عن قذف من كان على غير الإسلام إلا أن يكون اطلعت على ذلك منه » وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان (٢) « أنه نهى عن قذف من ليس على الإسلام إلا أن يطلع على ذلك منهم ، وقال : أيسر ما يكون أن يكون قد كذب » إلا أنهما كما ترى ظاهران في جواز قذف غير المسلم مع الصدق ، وربما يؤيده ما وقع من الأئمة عليهم‌السلام في قذف بعض الناس (٣) خصوصا في مشاجرة الحسن عليه‌السلام مع معاوية لعنه الله وأصحابه بناء على أنهم غير مسلمين أو بحكم غير المسلمين.

وعلى كل حال فلا يجوز قذف الزوجة بالأمور المزبورة خلافا لبعض العامة ، فجوز للزوج قذفها للأجنبي بجميع ذلك ، لكنه كما ترى ، بل لا يجوز قذفها للأجنبي مع اليقين إذا لم تكن بينة ، نعم جاز له ذلك للزوج خاصة وشرع له الشارع التخلص عن الحد باللعان ، ولا يجب عليه مع عدم الولد ، للأصل ، بل لعل الستر عليها ومفارقتها بغير اللعان أولى ، بل لا يحرم عليه إمساكها أيضا ، للأصل وللمرسل (٤) « إن رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : إن له‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب حد القذف الحديث ٢ من كتاب الحدود.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب حد القذف الحديث ١ من كتاب الحدود.

(٣) البحار ج ٤٤ ص ٨٠ و ٨٢ و ٨٣.

(٤) المستدرك الباب ـ ١٢ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ٢ و ٧.

٩

امرأة لا ترد يد لامس فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : طلقها ، قال : إني أحبها ، قال : فأمسكها ».

نعم إذا كان هناك ولد يتيقن أنه ليس منه يجب عليه نفيه منه ، لأن ترك النفي يتضمن الاستلحاق ، ولا يجوز له استلحاق من ليس منه ، كما لا يجوز نفي من هو منه ،

وفي النبوي (١) « أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شي‌ء » ومن المعلوم أن الرجل بمعناها.

وإذا قذف في العدة الرجعية إضافة إلى زمان الزوجية أو زمان العدة كان له اللعان كما له الإيلاء والظهار ، لأنها بحكم الزوجة ، بل لا يتوقف على رجوعه ، بل يصح في الحال ، ويترتب عليه أحكامه بخلافهما ، لأن مدار اللعان على الفراش ولحوق النسب ، والرجعية في ذلك كالمنكوحة وفي التأخير خطر بالموت.

نعم ليس له ذلك في البائن ولا في الرجعية بعد العدة بل يثبت بالقذف الحد ولو أضافه إلى زمان الزوجية لأنها أجنبية حينئذ وقد عرفت أن العبرة بزمان القذف ، خلافا لبعض العامة ، فأثبته مع الإضافة إلى زمانها ، أما نفي الولد فله اللعان له ولو في حال الطلاق البائن ، كما ستعرف. ولو قذف ثم أبانها كان له اللعان ، لصدق رمي الزوجة.

ولو قالت : « رميتني قبل أن تتزوجني فعليك الحد » فقال : « بل بعده فلي اللعان » أو قالت : « قذفتني بعد أن بنت منك » فقال : « بل قبله » فالقول قوله ، لأن القذف فعله ، ولأن القول قوله في أصله فكذا في وقته ، مضافا إلى درء الحد بالشبهة ، نعم لو قالت الأجنبية : « قذفتني » فقال : « كانت زوجتي » فأنكرت الزوجية أصلا قدم قولها ، للأصل.

ولو قذفها بالسحق لم يثبت اللعان بلا خلاف ولا إشكال ، لظهور أدلته في كونه بالزنا ونفي الولد وحينئذ فلا لعان فيه ولو ادعى المشاهدة ولكن‌

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ٩ ـ من كتاب اللعان الحديث ٥ وسنن البيهقي ج ٧ ص ٤٠٣.

١٠

يثبت الحد به في أحد القولين ، لأنه قذف بفاحشة ، وقد يشكل بأن دليل القذف ظاهر في الزنا واللواط أيضا ، والأصل البراءة ، فهو حينئذ كالقذف بإتيان البهائم إنما فيه التعزير ، ومن هنا كان المحكي عن أبي الصلاح والفاضل في المختلف التعزير خاصة ، بل لعله مقتضى حصر المصنف موجب الحد به في الحدود بالرمي بالزنا واللواط ، كما ستسمع تحقيق الحال فيه إنشاء الله.

ولو قذف زوجته المجنونة في حال إفاقتها ثبت الحد لإطلاق الأدلة ولكن لا يقام عليه إلا بعد المطالبة منها في حال صحتها فإن أفاقت وطالبت به صح اللعان منه لإسقاطه وليس لوليها المطالبة بالحد ما دامت حية لأن طريق إسقاطه من جانب الزوج بالملاعنة التي لا تصح من الولي ، نعم لو كانت مجنونة ولم تستوف الحد كان لوارثها المطالبة به ، لأنه من حقوق الآدميين ، كذا ذكروا ذلك ، وهو إن كان إجماعا فذاك وإلا أشكل ذلك بعموم ولاية الولي ، وبأنه لا دليل على اعتبار الملاعنة ، بل مقتضى الآية (١) أنه لا مدخلية للعان الرجل في نفي حد القذف عنه بلعان المرأة الذي هو لسقوط العذاب عنها ، وحينئذ يتجه اللعان منه لإسقاط الحد عنه وإن تعذر اللعان منها بجنون أو موت أو نحو ذلك ، فتأمل جيدا ، فاني لم أجده محررا وإن ترتب عليه أحكام كثيرة.

ولو أضافه إلى حال جنونها فلا حد لعدم القذف بالزنا المحرم ، وكذا لو كانت المقذوفة عاقلة حال القذف ولكن أضافه إلى حال جنونها وكان لها حالة جنون معلومة ، بل في المسالك أو محتملة ، إلا أنه يعزر للإيذاء ، أما إذا علم استقامة عقلها وليس لها حالة جنون فعن ظاهر الأكثر ثبوت الحد ، لإطلاق الأدلة.

لكن في المسالك تبعا للفاضل في القواعد « يحتمل العدم ، لأنه نسبها إلى الزنا في تلك الحال ، وإذا علم انتفاؤها لم تكن زانية ، فيكون ما أتى به لغوا من‌

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٦ و ٧.

١١

الكلام ومحالا ، فأشبه ما إذا قال : زنيت وأنت رتقاء » وفيه أن العلم بالانتفاء لا يقتضي انتفاء ما رماها به من الزنا ، بل أقصاه الكذب في وصفها بالحال المزبور ، ولعل من ذلك ما لو قال : « زنيت وأنت مشركة » ولم يعهد منها حالة إشراك ، وحينئذ فلو قالت : « ما كنت مشركة ولا مجنونة » كان القول قولها ، لأصالة الإسلام والعقل ، ويحتمل قوله ، لأصل البراءة ، والله العالم.

وكذا ليس للمولى مطالبة زوج أمته ولا الأجنبي بالتعزير في قذفها ما دامت حية ، لأن الحق لها ، وللزوج طريق لإسقاطه باللعان الذي لا يحصل من الولي فإن ماتت قال الشيخ : له المطالبة ، وهو حسن وإن كان المملوك لا يورث ، لكن ذلك مبني على عدم ملكه ، أما ما كان له فأدلة الإرث تشمله ، على أن من المعلوم أحقية السيد بذلك بعد استصحاب عدم سقوطه.

ولو نسبها إلى زنا مستكرهة عليه أو مشتبه عليها أو نائمة فليس قذفا وإن استشكل فيه الفاضل في القواعد لأنه إنما نسبها لأمر لا لوم عليه ولا إثم فيه ، بل ليس زنا في عرف الشرع ، بل عن الشيخ التردد في أصل التعزير وإن كان الأظهر ذلك ، للعار والإيذاء. وعلى كل حال فلا لعان إلا لنفي الولد ، بل جزم به الفاضل وإن استشكل في كونه قذفا ، ولعله مما قيل من كون اللعان على خلاف الأصل ، والمتبادر من الرمي بالزنا الرمي بما لم يكن عن إكراه ، فيقتصر عليه ، ولأنه الذي يوجب الانتقام منها ، وإن كان هو كما ترى.

ولو قذف نسوة بلفظ واحد تعدد اللعان ، لأنه يمين واليمين لا تتداخل في حق الجماعة ولو مع رضاهن بلا خلاف ، فان تراضين بمن يبدأ بلعانها وإلا أقرع أو بدأ الحاكم بمن شاء.

١٢

السبب الثاني :

إنكار الولد بلا خلاف أجده فيه نصا (١) وفتوى ، بل قد عرفت حصر اللعان به في النصوص (٢) السابقة ولكن لا يثبت اللعان بإنكار الولد حتى تضعه تاما لستة أشهر فصاعدا من حين احتمال وطئها ما لم يتجاوز حملها أقصى مدة الحمل وتكون مع ذلك موطوءة بالعقد الدائم ، وحينئذ ف لو علم أنه ولدته تاما لأقل من ستة أشهر لم يلحق به قطعا وانتفى بغير لعان نعم لو ولدته ناقصا اعتبر إمكان لحوقه به عادة ، ويختلف ذلك باختلاف حالاته.

وتظهر الفائدة في انقضاء عدتها بوضعه لو كان قد طلقها ثم أتت به في العدة ولم يلاعن فيها ، فإنه يثبت نسبه مع إمكانه ، وتبين بوضعه ، وقد تقدم في الطلاق ما يدل على معرفة وقت الإمكان ، ولعله لذا قيد المصنف وغيره بالتمام ، فإنه الذي يعلم نفيه عنه ، وكذا لو علم أنه قد جاءت به بعد مضى أقصى الحمل من الوطء المحتمل لذي الفراش وكان المصنف ترك التصريح به اتكالا على ما ذكره أولا وعلى ذكر الأقل ، ضرورة معلومية كونه لغيره شرعا فيهما معا ، فلا يحتاج نفيه إلى لعان ، بل لو أريد إلحاقه به لم يتمكن من ذلك مع فرض العلم بعدم مقاربته لها قبل النكاح شبهة ، وقد أطنب في المسالك في الفرق بين صورة الوضع للأقل والأقصى ، بل ادعي أن في عبارات الأصحاب قصورا في تأدية الحكم المزبور ، لكنه عند التأمل لا حاصل له ، ولا قصور في عبارات الأصحاب بعد معلومية كون المراد لهم أنه علم وضعها للولد للأقل أو بعد الأقصى ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فلو تزوج الشرقي بغربية وأتت بولد لستة أشهر من العقد لم يلحق به ، لعدم الإمكان عادة ، ولا لعان لنفيه ، خلافا لبعض العامة حيث اكتفى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من كتاب اللعان.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من كتاب اللعان.

١٣

في الإلحاق بالعقد وقدرته على الوطء وإن لم يكن عادة ، وفرع عليه مسائل ( منها ) هذه المسألة ، و ( منها ) أنه إذ تزوج بامرأة بحضرة القاضي وطلقها في الحال ثم أتت بولد لستة أشهر من العقد لحق به ، ولم ينتف إلا باللعان ، و ( منها ) أنه إذا غاب عنها زوجها وانقطع خبره ، فقيل لها : إنه مات فاعتدت ثم تزوجت فأولدها الزوج الثاني أولادا ثم عاد الأول ، فالأولاد لاحقون به ، ولا شي‌ء للثاني ، بل عن بعض العامة الذين وافقونا في اعتبار إمكان الوطء أنه قال : « إذا مضى زمان يمكن فيه قطع ما بين الزوجين من المسافة ثم مضى أقل زمان الحمل فإنه يلحق به وإن علم أن أحدا من الزوجين لم يبرح إلى الآخر ».

ولا يخفى عليك وضوح فساد ذلك كله ، بل منه فشا الزنا في نسائهم ولحوق أولاد غير الأزواج بهم ، وازدادت ولادتهم خبثا إلى خبث.

وكيف كان فقد ظهر لك أن موضوع اللعان إمكان لحوق الولد به في الظاهر لولا اللعان وإن علم هو انتفاءه عنه ، وإلا فمع فرض الإمكان عنده ولو بعد لا يجوز له نفيه ، لأن الولد للفراش شرعا مع إمكانه ، وفي‌ النبوي (١) « أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه ، وفضحه على رؤوس الخلائق » نعم يجب عليه نفيه مع علمه بعدم تكونه منه ولو باللعان إذا كان الظاهر لحوقه به ، هذا كله مع العلم بالحال.

أما لو اختلفا بعد الدخول في زمان الحمل تلاعنا إذا كان مقتضى قول الزوج نفي الولد لوضعها له تاما دون الستة أشهر على دعواه أو بعد أقصى الحمل لاشتباه حال الصادق منهما ، فكان الانتساب إليه ممكنا ، وقد ولد على فراشه ، فلا ينتفي إلا باللعان ، وأصالة تأخر الحادث ونحوها لا تنقح خروجه عن الولادة على الفراش ، ومن هنا أثبت من تعرض لذلك اللعان في الفرض ، ولم يلحظ شيئا مما تقتضيه الأصول في هذه الدعوى.

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ٩ ـ من كتاب اللعان الحديث ٥ وسنن البيهقي ج ٧ ص ٤٠٣.

١٤

ومما تقدم ظهر لك أنه لا يلحق الولد ظاهرا حتى يكون الوطء الذي يحصل التولد منه ممكنا في العادة والزوج قادرا عليه فيها فلو دخل الصبي لدون تسع فولدت لم يلحق به لعدم وقوع مثله في العادة ، كالموضوع تاما لدون الستة أشهر وإن كانا داخلين تحت قدرة الله تعالى شأنه نعم لو كان له عشر سنين كاملة لحق به الولد لإمكان البلوغ في حقه ولو نادرا ، بل ربما قيل بالاكتفاء بالطعن فيها ولو ساعة واحدة ، بل في كشف اللثام نسبته إلى ظاهر المتن والمبسوط والتحرير وإن كان هو كما ترى.

وعلى كل حال ف لو أنكر الولد لم يلاعن إذ لا حكم للعانه لأن الفرض كونه صبيا غير بالغ ، وإلحاق الولد به لاحتمال بلوغه لا يقتضي ثبوت بلوغه ، نعم لو قال : أنا بالغ بالاحتلام فله اللعان بناء على أن ذلك مما يرجع فيه إليه ، لأنه لا يعلم إلا من قبله ، والفرض إمكان الزمان ، أما مع عدم قوله فالأصل عدم بلوغه وإن حكمنا ظاهرا بلحوق الولد به للاحتمال.

ولا استبعاد في الحكم بلحوق الولد به دون الحكم بالبلوغ وإن كان اللعان إنما هو لنفي هذا الولد ، وإذا لم يكن بالغا لم يحتج إلى اللعان في نفيه وإلا صح ، لأن لزوم البلوغ لتكون الولد منه في الواقع لا يقتضي الحكم به ، كما أن كون اللعان لنفيه لا يقتضي التساوي بينه وبين إلحاق الولد ، لأن اللعان مشروط بالبلوغ اتفاقا وإلحاق الولد يكفي فيه أدنى إمكان البلوغ ، فيعطي كل منهما حكمه في الحكم الظاهري وإن تنافيا في اللوازم التي هي للواقع دون الحكم في الظاهر الذي هو ليس إثبات الموضوع واقعا على وجه يتحقق لازمه معه ، ومثل هذا كثير في الفقه ، خصوصا في العمل بالأصول ، وبالاحتياط الذي منه ما سمعته في زوجة المفقود التي يطلقها الحاكم بعد طلبه لاحتمال حياته وتعتد عدة الوفاة لاحتمال موته.

وحينئذ يؤخر اللعان حتى يبلغ ويرشد بأن يوثق بعقله وتمييزه‌

١٥

كما ستعرف من اشتراطهما في الملاعن.

ولو مات قبل البلوغ أو بعده ولم ينكره الحق به وورثته الزوجة والولد ولا عبرة بالإنكار المتقدم قبل البلوغ ، ولو أنكره بعد البلوغ لم ينتف عنه إلا باللعان كغيره ممن حكم بلحوقه لولا اللعان ، كما هو واضح.

ولو وطأ الزوج دبرا فحملت الحق به بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في كشف اللثام ، بل في المسالك ظاهرهم الاتفاق على ذلك ، ولعله لإمكان استرسال المني في الفرج من غير شعور به وإن كان الوطء في غيره بل عن بعضهم التصريح بأنه كذلك وإن عزل كما لو وطأ في الفرج ، خلافا لبعض فاشترط عدم العزل ، لكون العلوق مع ذلك في غاية البعد ، لأن الذي يحتمل معه سبقه من المني في غاية القلة ، وفيه أن الإمكان حاصل وإن كان مع العزل أبعد ، وتعليل المصنف وغيره بذلك لا يقتضي اعتبار عدم العزل ، لما عرفت من أن الإمكان المزبور حاصل على التقديرين ، فلا فرق حينئذ بين الوطء في الفرج أو في الدبر مع العزل وبدونه في الحكم باللحوق مع احتمال سبق المني من غير شعور. وبذلك يظهر لك النظر فيما أطنب به في المسالك ، فلاحظ وتأمل.

ولا يلحق ولد الخصي الذي لا ينزل في الظاهر المجبوب الذي قطع ذكره وأنثياه ، للعادة في عدم التولد من مثله لعدم الإيلاج والانزال ، لكن على تردد من ذلك ومن عدم العلم لنا بما يكون التكون منه في الواقع ، فيمكن حصوله من المساحقة ، ولا عادة مستقرة في ذلك ، فإنه لو فرض خصي مجبوب كانت له زوجة فساحقها فحملت لا يمكن القطع عادة بكونه من غيره ، لعدم انكشاف أمر التكون لنا.

ومن هنا قال المصنف وغيره : إنه يلحق ولد الخصي الذي هو يلج ولا ينزل أو المجبوب الذي قطع ذكره وأنثياه ولكن ينزل بهما ولا ينتفى ولد أحدهما إلا باللعان تنزيلا على الاحتمال وإن بعد إذ لا يخفى عليك‌

١٦

حصول الاحتمال أيضا في الخصي المجبوب وإن كان هو أبعد من كل واحد منهما ، بل لعل التأمل في ذلك وغيره يقتضي الاكتفاء بالاحتمال وإن لم يتحقق الإمكان ، فهو أزيد من قاعدة ما أمكن في الحيض ، بناء على اعتبار تحقق الإمكان فيها ، ولعله لظاهر‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « الولد للفراش » الشامل للمفروض وغيره ، بل قد سمعت توسع العامة فيه ، فألحقوا به الولد وإن علم عدم مباشرة منه للزوجة اتكالا على قدرته تعالى شأنه ، وإن كان هو واضح الفساد ، ضرورة ظهوره في كونه له مع احتمال أنه منه وإن كان بعيدا.

وإذا كان الزوج حاضرا وقت الولادة ولم ينكر الولد مع ارتفاع الأعذار فعن المبسوط بل المشهور كما في المسالك أنه لم يكن له إنكاره بعد ذلك إلا أن يؤخر بما جرت العادة به كالسعي إلى الحاكم لأن الحق له على الفور ، إذ هو كخيار الرد بالعيب والغبن مثلا في الثبوت لدفع الضرر المقتصر فيه على مقدار ما يرتفع به الضرر وهو الفور ، مؤيدا ذلك بأن الولد إذا كان منفيا عنه وجب الفور بإظهار نفيه حذرا من لحوق من ليس منه به ، وعوارض التأخير من الموت فجأة ونحوه كثيرة ، فتختلط الأنساب ، وبأنه لولا اعتبار الفور لأدى إلى عدم استقرار الأنساب ، وذلك ضرر يجب التحرز عنه.

والجميع كما ترى ، ضرورة عدم صلاحية شي‌ء من ذلك لتقييد إطلاق ما دل (٢) على ثبوت حق النفي له المستصحب ذلك له مع التراخي ، والرد بالعيب والغبن مع تسليم الفورية فيه إنما هو لقاعدة الاقتصار على المتيقن في تخصيص اللزوم المستفاد من ( أَوْفُوا ) (٣) ونحوه مما لا يجري في المقام ، مؤيدا ذلك بأن أمر النسب خطير ، وقد ورد النهي (٤) عن استلحاق من ليس منه ، وربما احتاج‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من كتاب اللعان الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من كتاب اللعان.

(٣) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

(٤) سنن البيهقي ج ٧ ص ٤٠٣ وكنز العمال ج ٣ ص ٢٢٥ و ٢٢٦.

١٧

ذلك إلى نظر ومهلة.

نعم لو أقر بالولد لزمه الولد للنصوص (١) ولقاعدة إقرار العقلاء ، بل لم ينتف عنه بعد بنفيه بلا خلاف أجده فيه ، بل في القواعد الإجماع عليه ، لعدم سماع الإنكار بعد الإقرار حتى لو لاعن ، لما سمعت من النصوص (٢) وقاعدة إقرار العقلاء التي لا يعارضها دليل اللعان الوارد على قاعدة الفراش ، نعم إن لم يكن إجماعا أمكن المناقشة ـ فيما لو علم أن منشأ إقراره الأخذ بظاهر قاعدة الفراش ـ بأنه لا يزيد حينئذ حكم قاعدة الإقرار على قاعدة الفراش التي ثبت اللعان لنفي مقتضاها ، فتأمل جيدا.

ولعله لذلك كله وغيره قال المصنف ولو قيل له إنكاره ما لم يعترف به كان حسنا وتبعه عليه الفاضل ، بل ينبغي الجزم بذلك في نحو مفروض المسألة الذي يمكن عدم منافاة الفورية فيه بفرض عدم حصول ما يقتضي نفيه له حال الولادة ، إذ المراد بالفور عند من اعتبره هو سقوط حقه مع التراخي إذا كان سبب النفي حاصلا له ومع ذلك تراخى في نفيه.

على أنه لم يظهر لنا مراد القائل بالفورية هل هو وجوب إنشاء النفي عند حصول مقتضية له أو وجوب إظهاره عند الحاكم؟ وإن كان ظاهر ما ذكروه من الفروع الثاني ، لكن هو كما ترى.

بل ملاحظة ما ذكره في المسالك وغيره منها يقتضي كونها من فروع العامة المبتنية على القياس والاستحسان ، قال فيها : « وإن كان معذورا بأن لم يجد الحاكم ، أو تعذر الوصول إليه ، أو بلغه الخبر ليلا فأخر حتى يصبح ، أو حضرته الصلاة فقدمها ، أو أحرز مالا له أولا أو كان جائعا أو عاريا فأكل أو لبس أولا ، أو كان مريضا أو محبوسا أو ممرضا لم يبطل حقه ، وهل يجب عليه الاشهاد على النفي؟ وجهان ، وقد سبق له نظائر كثيرة ، ولو أمكن المريض أو الممرض أن يرسل إلى الحاكم ويعلمه بالحال أو يستدعي منه أن يبعث إليه نائبا من عنده فلم يفعل بطل حقه ، لأن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب ميراث ولد الملاعنة من كتاب المواريث.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب ميراث ولد الملاعنة من كتاب المواريث.

١٨

مثل هذا متيسر له ، ومثله ملازمة غريمه ومن يلازمه غريمه ، وأما الغائب فإن كان في الموضع الذي غاب إليه قاض ونفى الولد عند وصول خبره إليه عنده فذاك ، وإن أراد التأخير إلى أن يرجع إلى بلده ففي جوازه وجهان ، من منافاة الفورية اختيارا ، ومن أن للتأخير غرضا ظاهرا ، وهو الانتقام منها باشتهار خبرها في بلدها وقومها ، وحينئذ فان لم يمكنه المسير في الحال لخوف الطريق ونحوه فينبغي له أن يشهد ، وإن أمكن فليأخذ في السير ، فإن أخر بطل حقه ، وإن لم يكن هناك قاض فالحكم كما لو كان وأراد التأخير إلى بلده وجوزناه » إذ ذلك كله كما ترى لا يوافق أصولنا خصوصا بعد أن لم يكن في شي‌ء مما وصل إلينا من الأدلة جعل العذر والغرض عنوانا للحكم حتى يرجع إلى مصداقهما عرفا.

وكيف كان ف لو أمسك عن نفي الحمل حتى وضعت جاز له نفيه بعد الوضع على القولين ، لاحتمال أن يكون التوقف لتردده بين أن يكون حملا أو ريحا فلا يكون سكوته منافيا للفور ، ولو قال : عرفت أنه حمل ( ولد خ ل ) ولكن أخرت طمعا في أن تجهض فلا احتاج إلى كشف الأمر ورفع الستر ففي المسالك « فيه وجهان : أحدهما أنه يبطل حقه ، لتأخير النفي مع القدرة عليه ومعرفة الولد ، فصار كما لو سكت عن نفيه بعد انفصاله طمعا أن يموت ، والثاني أن له النفي ، لأن مثل هذا عذر واضح في العرف ، ولأن الحمل لا يتيقن صرفا ، فلا أثر لقوله : عرفت أنه ولد » بل فيها « أن هذا لا يخلو من قوة » مع أنه كما ترى.

ثم قال : « ومن الأعذار ما لو أخر وقال : إنى لم أعلم أنها ولدت وكان غائبا أو حاضرا بحيث يمكن ذلك في حقه ، ويختلف ذلك بكونه في محلة أخرى أو في محلتها أو في دارها أو في دارين ، ولو قال : أخبرت بالولادة ولكن لم اصدق الخبر نظر ، إن أخبره فاسق أو صبي صدق بيمينه وعذر ، وإن أخبره عدلان لم يعذر ، لأنهما مصدقان شرعا ، وإن أخبره عدل حر أو عبد ذكر أو أنثى ففيه‌

١٩

وجهان : أحدهما أنه يصدق ويعذر ، ولأنه أخبره (١) من لا يثبت بشهادته الحق ، والثاني أنه لا يصدق ويسقط حقه ، لأن روايته مقبولة ، وهذا سبيله سبيل الاخبار ، ولو قال : عرفت الولادة ولم أكن أعلم أن لي حق النفي فإن كان ممن لا يخفى عليه ذلك عادة لم يقبل ، وإن أمكن بأن كان حديث العهد بالإسلام أو ناشئا في بادية بعيدة عن أهل الشرع قبل ، وإن كان من العوام الناشئين في بلاد الإسلام فوجهان : أجودهما القبول بيمينه مع إمكان صدقه » ولكن لا يخفى عليك ما في الجميع بعد الإحاطة بما ذكرناه.

ولو أقر بالولد صريحا أو فحوى لم يكن له إنكاره بعد ذلك لما عرفت من قاعدة عدم سماع الإنكار بعد الإقرار الصادق عرفا على الصريح وغيره مثل أن يبشر به فيجيب بما يقتضي الرضا ، كأن يقال : بارك الله لك في مولودك فيقول : آمين أو إنشاء الله تعالى ، أما لو أجاب بما لا يتضمن الإقرار بأن قال مجيبا : بارك الله لك أو أحسن الله إليك أو رزقك مثله لم يكن إقرارا ولم يبطل حقه من النفي ، خلافا لبعض العامة ، فجعله إقرارا ، وضعفه واضح.

وإذا طلق الرجل وأنكر الدخول فادعته وادعت أنها حامل منه ف عن الشيخ في النهاية إن أقامت بينة أنه أرخى سترا عليها لاعنها وحرمت عليه ، وعليه المهر كملا وإن لم تقم بينة كان عليه نصف المهر ولا لعان ، وعليها مأة سوط لصحيح على بن جعفر (٢) « سألته عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها فادعت أنها حامل ، قال : إن أقامت البينة على أنه أرخى سترا ثم أنكر الولد لاعنها ، ثم بانت منه ، وعليه المهر كملا » مؤيدا بالظاهر.

لكنه كما ترى لا دلالة فيه على ذكر المأة سوط ، بل لا وجه له ، ضرورة عدم ثبوت حد عليها ، فإن إنكار الولد منه وإن انتفى عنه بدون لعان لا يقتضي زناها واعترافها بالوطء والحمل منه الذي كان القول قوله في نفيهما للأصل لا يوجب حدا‌

__________________

(١) في المسالك « أحدهما أنه يصدق ويعذر لأنه أخبره » بدون « و».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من كتاب اللعان الحديث ١.

٢٠