الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

فليحلّ وليجعلها عمرة » فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا أم لا بد؟ فشبّك رسول الله أصابعه واحدة في الأخرى ، فقال : « دخلت العمرة في الحج مرتين : لا ، بل لا بد أبد ». (١)

هذا بعض ما رواه مسلم ، وتركنا البعض الآخر وربّما يأتي لمناسبة أخرى.

وإليك ما رواه البخاري في صحيحه.

١. أخرج البخاري عن عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالت : خرجنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع فأهللنا بعمرة ، قال النبي : من كان معه هدي فليهل بالحجّ مع العمرة ، ثمّ لا يحلّ حتّى يحلّ منهما جميعا. (٢)

٢. أخرج البخاري عن ابن عباس انّه سئل عن متعة الحجّ ، فقال : أحلّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي في حجّة الوداع وأهللنا فلمّا قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلاّ من قلّد الهدي ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب. (٣)

هذا بعض ما رواه البخاري ويأتي بعضه الآخر ، وما رواه الشيخان يدلّ على أمور :

١. انّ حجّ التمتع فريضة من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

٢. انّ التمتّع بين العمرة والحجّ سنّة فيها وليس لأحد أن يعترض على التمتع بين الأمرين.

٣. انّ العرب في الجاهلية والإسلام كانوا يحرمون بالحجّ في أشهر الحجّ

__________________

١. صحيح مسلم : ٤ / ٤٠ ، باب حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢. صحيح البخاري : ٢ / ١٤٠ ، باب كيف تحل الحائض والنفساء.

٣. صحيح البخاري : ٢ / ١٤٤ ، باب قول الله ( لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ).

٤٤١

لا للعمرة ، ولذلك أحرم أصحاب النبي وأزواجه للحجّ تبعا للسيرة السائدة بين العرب من اختصاص أشهر الحجّ بالحجّ فلمّا دنوا من مكة (١) أو قضوا أعمال العمرة أمرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجعل الإحرام عمرة والعدول إليها ، وقد كان ثقيلا عليهم ، كما ستوافيك الروايات في هذا الباب.

٤. انّ التمتع بين العمرة والحجّ سنّة أبدية لا تختص بعام دون عام ولا بقوم دون قوم.

٥. انّ من ساق الهدي معه ليس له أن يتحلّل ولا يخرج من الإحرام إلاّ إذا بلغ الهدي محلّه وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن ساق الهدي ، ولذلك لم يخرج حتّى أبلغ هديه محله ، وقد كان عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مظنة سؤال للصحابة حيث أمرهم بالتحلّل وبقي نفسه على إحرامه ، فنبّههم النبي بأنّه ساق الهدي ولكنّه لو وفّق للحجّ في المستقبل لما ساق الهدي ، وإلى ذلك يشير قوله : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ».

إنّ في هذا الموضوع روايات في السنن الأربع اقتصرنا بما ذكرنا ، وللقارئ أن يرجع إلى السنن والمسانيد فإنّه يجد أمثال ما ذكرناه بوفرة.

__________________

١. الترديد لأجل اختلاف الروايات في ذلك ، فلاحظ.

٤٤٢

الثالث :

سيرة العرب قبل الإسلام في الحجّ

يظهر ممّا سردناه من الروايات وما سيوافيك انّ العرب لم تكن تعرف العمرة في أشهر الحجّ وإنّما تأتي بها في غيرها ، ولذلك تعاظم عليهم إدخال العمرة في الحجّ ، ولأجل إيقاف القارئ على تلك الحقيقة عن كثب ، نذكر بعض ما ورد :

١. أخرج البخاري عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور ، ويجعلون محرم صفرا ويقولون : إذا برأ الدّبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر حلّت العمرة لمن اعتمر. قدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحجّ ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحلّ؟ قال : الحلّ كلّه. (١)

والحديث يدلّ بوضوح على أنّ إفراز العمرة عن الحجّ كان سنّة جاهلية سادت على الحج لأسباب غير معلومة وكانوا يصرون على أنّ العمرة بعد انقضاء صفر وفي الحقيقة بعد انقضاء محرّم ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام بوجه هذه البدعة مدة إقامته في المدينة ، فقد اعتمر ثلاث عمر في ذي القعدة الحرام كما أتى بعمرة رابعة في حجّه في شهر ذي الحجّة في حجة الوداع ، وإليك العمر التي أحرم لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته :

__________________

١. صحيح البخاري : ٢ / ١٤٢ ، باب التمتع والإقران والإفراد بالحجّ.

٤٤٣

الأولى : عمرة الحديبية ، وهي أوّلهنّ سنّة ست ، فصدّه المشركون عن البيت ، فنحر البدن وحلق هو وأصحابه رءوسهم وحلّوا من إحرامهم ورجعوا إلى المدينة.

الثانية : عمرة القضاء في العام المقبل في نفس ذلك الشهر.

الثالثة : عمرته من الجعرّانة لما خرج إلى حنين ثمّ رجع إلى مكة فاعتمر من الجعرانة داخلا إليها.

الرابعة : عمرته التي قرنها مع حجته.

٤٤٤

الرابع :

احتدام النزاع بين الصحابة

في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قد عرفت أنّ العرب في العصر الجاهلي يفرزون العمرة عن الحجّ ويأتون بها في غير أشهر الحجّ ، وقد كان الجمع بينهما من أفجر الفجور ، وقد ترسخت تلك الفكرة عند العرب في العصر الجاهلي حتّى أضحت جزءا من كيانهم ، فالدعوة إلى إدخال العمرة في الحج كانت دعوة على خلاف ما شبّوا وشاخوا عليه ، ولذلك لمّا أمرهم النبي بإدخال العمرة إلى الحجّ وجعل الإهلال للحجّ عمرة ، تعاظم أمرهم وثارت ثورتهم ، وقاموا بوجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نحو أثاروا غضبه ، وإليك بعض ما روي في المقام :

١. أخرج مسلم عن عطاء قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه في ناس معي قال : أهللنا أصحاب محمد بالحجّ خالصا وحده ، قال عطاء : قال جابر : فقدم النبي صبح رابعة مضت من ذي الحجّة فأمرنا أن نحل ، قال عطاء : قال : حلّوا وأصيبوا النساء ، قال عطاء : ولم يعزم عليهم ولكن أحلهنّ لهم ، فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلاّ خمس ، أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكرنا المني.

٤٤٥

قال : يقول جابر بيده كأنّي أنظر إلى قوله « بيده » يحركها ، قال : فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينا فقال : قد علمتم أنّي أتقاكم لله وأصدقكم وأبرّكم ولو لا هديي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلّوا ، فحللنا وسمعنا وأطعنا.

قال عطاء : قال جابر : فقدم عليّ من سعايته فقال : بم أهللت؟ قال : بما أهلّ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول الله : فأهد ، وامكث حراما ، قال : وأهدى له علي هديا ، فقال سراقة بن مالك بن جُعشم : يا رسول الله : ألعامنا هذا أم لا بد ، فقال : لا بد. (١)

٢. روى مسلم عن جابر بن عبد الله ( رض ) قال : أهللنا مع رسول الله بالحجّ ، فلمّا قدمنا مكة أمرنا أن نحلّ ونجعلها عمرة ، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء من قبل الناس ، فقال : أيّها الناس أحلّوا فلو لا الهدي الذي معي ، فعلت كما فعلتم ، قال : فأحللنا حتّى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال حتّى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر ، أهللنا بالحج. (٢)

٣. أخرج مسلم عن عائشة انّها قالت : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأربع مضين من ذي الحجّة أو خمس فدخل عليّ وهو غضبان ، فقلت : من أغضبك يا رسول الله ، أدخله الله النار؟ قال : أو ما شعرت إنّي أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ، ولو اني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتّى أشتريه ثمّ أحلّ كما حلّوا. (٣)

__________________

١. صحيح مسلم : ٣ / ٣٦ ، باب بيان وجوه الإحرام وانّه يجوز إفراد الحجّ والتمتع والقران.

٢. صحيح مسلم : ٣ / ٣٧ ، باب بيان وجوه الإحرام وانّه يجوز إفراد الحجّ والتمتع والقران.

٣. صحيح مسلم : ٣ / ٣٣ ، باب بيان وجوه الإحرام.

٤٤٦

هذا غيض من فيض ممّا يحكي عن حالة عصيان بين الصحابة في ذلك الموضوع وانّهم لم يستجيبوا بادئ بدء لأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أغضبوه ، فأين عملهم هذا من قوله سبحانه ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (١) وقوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (٢)

أي لا تتقدّموا على الله ورسوله ، ولا تقدّموا قولكم على قولهما.

__________________

١. الأحزاب : ٣٦.

٢. الحجرات : ١.

٤٤٧

الخامس :

عودة التقاليد الجاهلية

حجّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه وعلّمهم مناسك الحجّ ومواقفه وسننه وطقوسه فأعاد كلّ ما حرّف إلى محله ، ولكن للأسف انّ عمر بن الخطاب ، قدم الاجتهاد على النص ومنع من متعة الحج وشدد النكير عليه وتبعه عثمان ودام الأمر عليه إلى العهود التالية ، وكفى في ذلك ما رواه الشيخان وغيره.

١. روى مسلم عن أبي موسى قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو منيخ بالبطحاء ، فقال لي : أحججت؟ فقلت : نعم ، فقال : بم أهللت؟ قال : قلت : لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فقد أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحلّ (١) قال : فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثمّ أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي ثمّ أهللت بالحج ، قال : فكنت أفتي به الناس حتّى كان في خلافة عمر.

فقال له رجل : يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ، رويدك بعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النّسك بعدك ، فقال : يا أيّها النّاس ما كنّا أفتيناه فتيا فليتّئد (٢) فإنّ أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتمّوا.

__________________

١. مع أنّ أبا موسى علّق إحرامه بإحرام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك أمر النبي بإحلاله بعد العمرة ، وستوافيك الإجابة عنه في آخر الرسالة في خاتمة المطاف ص ٤٦٧ فانتظر.

٢. فليتأنّ.

٤٤٨

قال : فقدم عمر فذكرت ذلك له ، فقال : إن نأخذ بكتاب الله فان كتاب الله يأمر بالتمام ، وإن نأخذ بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحلّ حتّى بلغ الهدي محله. (١)

والعجب من أبي موسى مع أنّه كان يفتي الناس بما جرت عليه سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنّه في خلافة عمر عدل عن هدي الرسول وأمر الناس بالتأنّي مع أنّه سمع من السائل بأنّه حدث جديد في النسك.

نعم استدلّ عمر على إخراج العمرة عن الحجّ بأمرين :

الأوّل : ما في كتاب الله حيث أمر سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ).

الثاني : سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لم يحل حتّى بلغ الهدي محله.

وكلا الاستدلالين من الوهن بمكان.

أمّا الاستدلال بالكتاب فقد عرفت أنّ معنى إتمام الحجّ والعمرة إكمالهما في مقابل المحصر الذي لا يستطيع الإكمال ، وأين هو من إخراج العمرة عن الحجّ بإنشاء السفر المستقل لكلّ منهما؟!

وأمّا سيرة النبي فقد كشف قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النقاب عن عدم إحلاله ، لأنّه ساق الهدي وكلّ من ساق الهدي لا يحلّ إلاّ أن يبلغ الهدي محله.

٢. أخرج مسلم عن أبي نضرة ، قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها ، قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله ، فقال : على يدي دار الحديث ، تمتعنا مع رسول الله ، فلمّا قام عمر قال : إنّ الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء ، وانّ القرآن قد نزل منازله فأتمّوا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله وابتّوا نكاح هذه النساء. (٢)

__________________

١. صحيح مسلم : ٤ / ٤٤ ، باب في نسخ التحلّل من الإحرام.

٢. صحيح مسلم : ٤ / ٤٨ ، باب في المتعة الحجّ والعمرة.

٤٤٩

٣. وروى أيضا بالإسناد السابق انّ عمر قال : فافصلوا حجّكم من عمرتكم فإنّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم. (١)

ويدلّ الحديث على أنّ فصل الحج عن العمرة ظهر في عصر عمر ، وقد عرفت أنّ استدلاله بقوله سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) لا يمتّ إلى هذا الباب بصلة ، وقوله في ذيل الحديث الثاني ( فافصلوا حجكم من عمرتكم ) صريح في فصل الحجّ من العمرة والإتيان بها في غير أشهر الحجّ ، وقد مرّ انّ العرب في العصر الجاهلي ترى الجمع بينهما من أفجر الفجور فكأنّ الرجل تأثر مما رسب في ذهنه فحرّم متعة الحج.

٤. أخرج مسلم عن أبي موسى انّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النّسك بعد حتى لقيه بعد فسأله ، فقال عمر : قد علمت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك (٢) ، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم. (٣)

الحديث يكشف عن أنّه اجتهد أمام النص ، لأنّه يكره أن يذهب الحاج إلى عرفة ورأسه يقطر ماء. وصار ذلك سببا للمنع عن السنّة القطعية. (٤)

وقد استنكر الخليفة متعة الحجّ إلى حدّ كان الأعاظم من الصحابة على خوف من أن يتفوّهوا بجوازه وكانوا يوصون أن لا ينقل عنهم ما داموا على قيد الحياة ، وهذا هو عمران بن حصين يوصي بعدم إفشاء كلامه ما دام حيّا.

__________________

١. صحيح مسلم : ٤ / ٤٨ ، باب في متعة الحجّ والعمرة.

٢. الأراك موضع بعرفة قرب نمرة.

٣. صحيح مسلم : ٤ / ٤٥.

٤. سيوافيك البحث عن سبب استنكاره ص ٤٥٢.

٤٥٠

أخرج مسلم عن قتادة ، عن مطرّف قال : بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفّى فيه ، فقال : إنّي محدّثك بأحاديث لعل الله ينفعك بها بعدي ، فإن عشت فأكتم عني وإن مُتُّ فحدّث بها إن شئت ، انّه قد سُلّم عليّ وأعلم انّ نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جمع بين حج وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبيّ الله قال رجل فيها برأيه ما شاء. (١)

صورة ثانية

وأخرج أيضا عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير ، عن عمران بن حصين قال : اعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب ولم ينهنا عنهما رسول الله ، قال فيها رجل برأيه ما شاء. (٢)

صورة ثالثة

وأخرج أيضا عن مطرّف ، قال : قال لي عمران بن حصين انّي لأُحدّثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم ، وأعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتّى مضى لوجهه ، ارتأى كلّ امرئ بعد ما شاء أن يرتئي. (٣)

صورة رابعة

وأخرج البخاري عن قتادة ، قال : حدّثني مطرف عن عمران قال : تمتّعنا على عهد رسول الله فنزل القرآن ، قال رجل برأيه ما شاء. (٤) فان قول عمران بن

__________________

١ و ٢. صحيح مسلم : ٤ / ٤٨ ، باب جواز التمتع.

٣. صحيح مسلم : ٤ / ٤٧ ، باب جواز التمتع.

٤. صحيح البخاري : ٢ / ١٤٤ باب التمتع.

٤٥١

حصين فإن عشت فاكتم عنّي وإن مت فحدث بها إن شئت ، أو قوله : « قال رجل فيها برأيه ما شاء » يعرب عن وجود ضغط وكبت من جانب الخليفة في المسألة.

ثمّ إنّ السبب لنهي الخليفة عن متعة الحجّ أحد أمرين :

الأوّل : كراهته أن يكون الحجّاج معرسين بهن في الأراك ثمّ يروحون إلى الحج ورءوسهم تقطر ماء.

قال أبو حنيفة عن حمّاد ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسواد بن يزيد قال : بينما أنا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشية عرفة ، فإذا هو برجل مرجّل شعره ، يفوح منه ريح الطيب ، فقال له عمر : أمحرم أنت؟ قال : نعم ، فقال عمر : ما هيأتك بهيئة محرم ، إنّما المحرم ، الأشعث ، الأغبر ، الأذفر ، قال : إنّي قدمت متمتّعا وكان معي أهلي وإنّما أحرمت اليوم ، فقال عمر عند ذلك : لا تتمتعوا في هذه الأيام ، فإنّي لو رخصت في المتعة لعرسوا بهنّ في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجاجا. (١)

روى سعيد بن المسيب : انّ عمر بن الخطاب نهى أنّ المتعة في أشهر الحجّ ، وقال : فعلتها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنها ، وذلك أنّ أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلّ ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلبّي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوما ، والحجّ أفضل من العمرة ، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهنّ تحت الأراك مع أنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع ، وإنّما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم. (٢)

__________________

١. زاد المعاد : ١ / ٢١٤ ، ط مصر ، المطبعة المصرية.

٢. كنز العمال : ٥ / ١٦٤ رقم ١٢٤٧٧.

٤٥٢

الثاني : خوف تسرب الفقر إلى سكان البيت حيث ليس لهم ضرع ولا زرع فمنع عن الجمع بين العمرة والحجّ حتّى يتقاطر الحاج في عامة الشهور إلى البلد الأمين ، ولأجل هذه الغاية منع عن الجمع حتّى يكون الحجّ في عام والعمرة في عام آخر بإنشاء سفر مستقل لكلّ واحد.

روى أبو نعيم في « حلية الأولياء » : انّ عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحجّ ، وقال : فعلتها مع رسول الله وأنا أنهى عنها وذلك : انّ أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا أشهر الحجّ وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجّة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوما ، والحجّ أفضل من العمرة ، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك وإنّ أهل هذا البيت ( أي أهل مكة ) ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم. (١) وقد مرّ ما يؤيّده من رواية سعيد بن المسيب.

هذا وانّه سبحانه نقل دعاء الخليل حيث سأله سبحانه أن يرزق سكنة مكة من الثمرات وقال ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ). (٢)

وقد استجاب سبحانه لدعاء أبيهم إبراهيم ، يقول سبحانه : ( وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ

__________________

١. حلية الأولياء : ٥ / ٢٠٥.

٢. إبراهيم : ٣٧.

٤٥٣

شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ). (١) وعندئذ فلا حاجة للمنع عن السنّة النبوية بغية توفير أرزاقهم.

ولعمر الحقّ انّ هذه الأعذار لا تبرّر تغيّر الشريعة وتبديلها والمنع من المناسك التي شرعها سبحانه وبلغها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصاحب الشريعة أعرف بمصالح المسلمين ومصالح سدنة مكة وسكنتها.

وقد بلغ منع الخليفة عن متعة الحجّ حتّى قال في بعض خطبه : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة الحجّ ومتعة النساء » وفي لفظ الجصاص : لو تقدمت فيها لرجمت. وفي رواية أخرى : أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحجّ. (٢)

حجّ التمتع على عهد عثمان

وقد اتّبع عثمان سلفه فيما أبدع وأحدث في المناسك فقد منع من الجمع بين العمرة والحجّ.

روى ابن حزم انّ عثمان بن عفان سمع رجلا يحلّ بعمرة وحجّ فقال : عليّ بالمهلّ ، فضربه وحلقه. (٣)

__________________

١. القصص : ٥٧.

٢. البيان والتبيين : ٢ / ١٩٣ ، أحكام القرآن : ١ / ٢٩٠ ـ ٢٩٣ ، الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٢٦١ ، زاد المعاد : ٢ / ١٨٤ ، ط مصر.

٣. المحلى : ٧ / ١٠٧ ، ط منشورات دار الآفاق الجديدة ، بيروت.

٤٥٤

السادس :

الصحابة وتحريم متعة الحج

قد استنكر لفيف من الصحابة عمل الخليفة وتحريمه متعة الحج بحماس نذكر منهم بعضهم :

١. الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام

قد كان الإمام أمير المؤمنين يكافح البدع والمحدثات الطارئة على الشريعة بحماس ولا يعير أهمية لنهي الناهي مهما كان له السطوة والشوكة.

١. روى البخاري عن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعليا ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلمّا رأى علي ، أهلّ بهما ، لبّيك بعمرة وحجة ، قال : ما كنت لأدع سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول أحد. (١)

٢. أخرج البخاري عن سعيد بن المسيب قال : اختلف عليّ وعثمان وهما بعُسفان ، في المتعة ، فقال علي : ما تريد إلاّ أن تنهى عن أمر فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعا. (٢)

٣. روى مالك في « الموطأ » : انّ المقداد بن الأسود دخل على عليّ عليه‌السلام

__________________

١. صحيح البخاري : ٢ / ١٤٢ ، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج.

٢. صحيح البخاري : ٢ / ١٤٣ ، باب التمتع.

٤٥٥

بالسهيا وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا ، فقال : هذا عثمان بن عفان ينهى أن يقرن بين الحج والعمرة ، فخرج علي عليه‌السلام وعلى يديه أثر الدقيق والخبط فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه ، حتّى دخل على عثمان فقال : أنت تنهى عن أن يقرن بين الحجّ والعمرة ، فقال عثمان : ذلك رأيي ، فخرج علي عليه‌السلام مغضبا وهو يقول : لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا. (١)

٤. عن سعيد بن المسيب قال : حجّ علي وعثمان فلمّا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع ، فقال علي : إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا ، فلبّى علي وأصحابه بالعمرة ، فلم ينههم عثمان ». (٢)

٥. روى عبد الله بن الزبير ، قال : أنا والله لمع عثمان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام وفيهم حبيب بن مسلمة الفهري ، إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحجّ : أن أتمّوا الحجّ وخلّصوه في أشهر الحجّ ، فلو أخّرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل ، فإنّ الله قد وسع في الخير.

فقال له علي : « عمدت إلى سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورخصة رخّص للعباد بها في كتابه ، تضيق عليهم فيها وتنهى عنها ، وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار » ، ثمّ أهلّ بعمرة وحجّة معا ، فأقبل عثمان على الناس.

فقال : وهل نهيت عنها؟ إنّي لم أنه عنها إنّما كان رأيا أشرت به ، فمن شاء أخذ به ، ومن شاء تركه.

قال : فما أنسى قول رجل من أهل الشام مع حبيب بن مسلمة : انظر إلى هذا كيف يخالف أمير المؤمنين؟ والله لو أمرني لضربت عنقه ، قال : فرفع « حبيب »

__________________

١. موطإ مالك : ٣٣٦ ، باب القران في الحج ، الحديث ٤٠.

٢. سنن النسائي : ٥ / ١٥٢ ، كتاب الحجّ باب حج التمتع ، مستدرك الصحيحين : ١ / ٤٧٢.

٤٥٦

يده فضرب بها في صدره وقال : اسكت فإنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم بما يختلفون فيه. (١)

٢. عبد الله بن عمر

ولم يكن عليّ عليه‌السلام هو الوحيد بين الصحابة في الاستنكار ـ وإن كان وحيدا في شدة استنكاره ـ بل كان هناك من يستنكر التحريم بين الفينة والأخرى ، روى القرطبي في تفسيره عن سالم قال : إنّي لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، فقال ابن عمر : حسن جميل ، قال : فإنّ أباك كان ينهى عنها ، فقال : ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر به أفبقول أبي آخذ أم بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! قم عنّي. (٢)

وسئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج؟ قال : هي حلال ، فقال له السائل : إنّ أباك قد نهى عنها ، فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أأمر أبي يتبع أم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فقال الرجل : بل أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : لقد صنعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٣)

صورة ثانية

قال سالم : سئل ابن عمر عن متعة الحجّ فأمر بها فقيل له : إنّك تخالف أباك؟ قال : إنّ أبي لم يقل الذي تقولون إنّما قال : أفردوا العمرة من الحجّ ، أي انّ العمرة لا تتم في شهور الحجّ إلاّ بهدي وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحجّ ، فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها ، وقد أحلّها الله عزّ وجلّ وعمل بها

__________________

١. جامع العلم : ٢٧٠ ، طبع دار الكتب الحديثة ، مصر.

٢. تفسير القرطبي : ٢ / ٣٨٨.

٣. سنن الترمذي : ٣ / ١٨٦ برقم ٨٢٤.

٤٥٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فإذا أكثروا عليه. قال : أفكتاب الله عزّ وجلّ أحقّ أن يتبع أم عمر؟! (١)

صورة ثالثة

قال سالم : كان عبد الله بن عمر يفتي بالذي أنزل الله عزّ وجلّ من الرخصة في التمتع وسنّ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول ناس لعبد الله بن عمر : كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟!

فيقول لهم عبد الله : ويلكم ، ألا تتقون الله؟ أرأيتم إن كان عمر نهى عن ذلك يبتغي فيه الخير ويلتمس فيه تمام العمرة فلم تحرّمون وقد أحلّه الله وعمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أفرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحقّ أن تتّبعوا سنّته أو عمر؟! إنّ عمر لم يقل لك : إنّ العمرة في أشهر الحجّ حرام ولكنّه قال : إن أتمّ العمرة أن تفردوها من أشهر الحجّ. (٢)

٣. استنكار ابن عباس

وممّن استنكر عمل الخليفة ومن لفّ لفّه ، حبر الأمّة عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنه. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : تمتّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : ما يقول عريّة؟! (٣) قال : نقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ، أقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : قال أبو بكر وعمر. (٤)

__________________

١. السنن الكبرى : ٥ / ٢١.

٢. السنن الكبرى : ٥ / ٢١.

٣. مصغّر عروة.

٤. مسند أحمد : ١ / ٣٣٧.

٤٥٨

٤. استنكار أبي بن كعب

وممّن استنكر تحريم المتعة ولم ير نهي الخليفة صالحا للأخذ هو الصحابي العظيم : أبي بن كعب أخرج السيوطي عن مسند ابن راهويه وأحمد انّ عمر بن الخطاب همّ أن ينهى عن متعة الحجّ فقام إليه أبي بن كعب فقال : ليس ذلك لك ، قد نزل بها كتاب الله واعتمرناها مع رسول الله ، فنزل عمر. (١)

٥. استنكار سعد بن أبي وقاص

إنّ سعد بن أبي وقاص كان ممّن يعظّمه عمر بن الخطاب ويحترمه وكان يأمر ابنه عبد الله باتّباعه ، وقد أنكر تحريم متعة الحجّ. أخرج الإمام مالك عن محمد بن عبد الله بن حارث ، أنّه حدّثه : أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وممّا يذكر انّ التمتع بالعمرة أي الحج ، فقال الضحاك بن قيس : لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزّ وجلّ ، فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي ، فقال الضحاك : فان عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول الله وصنعناها معه. (٢)

عن محمد بن عبد الله بن نوفل قال : سمعت عام حجّ معاوية يسأل سعد بن مالك كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ؟ قال : حسنة جميلة ، قال : قد كان عمر ينهى عنها فأنت خير من عمر؟! قال : عمر خير مني وقد فعل ذلك النبي وهو خير من عمر. (٣)

__________________

١. الدر المنثور : ١ / ٥٢٠ ، ط دار الفكر.

٢. الموطأ : ٢٩٤ ، برقم ٦٣ ، باب ما جاء في التمتع ؛ زاد المعاد : ١ / ١٧٩ ط مصر.

٣. سنن الدارمي : ٢ / ٣٦ ، ط دار الفكر.

٤٥٩

٦. عمران بن حصين

قد استنكر عمران بن حصين تحريم متعة الحج وأوصى في أخريات عمره وفي المرض الذي توفّى فيه أن يُحدّث عنه : انّ نبي الله جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله وإنّما نهى عنها رجل برأيه ، دون دليل في كتاب الله وسنّة رسوله. (١)

وقد توالى الاستنكار في العهود اللاحقة وإن كان المرتقون على صهوات الحكم مصرّين على اتّباع السلف إلى أن زالت الحكومة الأموية وأخذ بنو عباس بزمام الحكم ، فانتشر القول بجواز التمتع بالعمرة إلى الحجّ ، وذلك لأنّ الجواز موقف جد العباسيّين فرفعوا الحرج عن المسلمين ، وتبنّى أحمد بن حنبل في عهدهم دخولها في الحج ، وذاع القول به إلى يومنا هذا بين المذاهب خصوصا بين الحنابلة.

التمتّع بالعمرة إلى الحج وشروطه

قد عرفت أنّ حجّ التمتّع عبارة عن الإهلال بالعمرة ثمّ الإهلال بعد الإتيان بها ثمّ الإحرام إلى الحجّ ، وإليه يشير قوله سبحانه ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ).

قال القرطبي : التمتّع بالعمرة إلى الحجّ عند العلماء على أربعة أوجه منها وجه واحد مجتمع عليه ، والثلاثة مختلف فيها.

فأمّا الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله جلّ وعز : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ

__________________

١. صحيح مسلم : ٤ / ٤٨ ، باب جواز التمتع.

٤٦٠